عرض مشاركة واحدة
  #17  
قديم 03-06-2016, 09:49 PM
 

الملجأ ليس في حالة جيدة وليس سيئا أيضا ، فالأرضية والسلالم من الخشبْ ، كان خاليا بطريقة غريبة ، لا لوحات ولا زهريات ولا حتى سجاداتٍ تمنع برودة الأرضْ ، قادتنا تلك السيدة إلى باب منفرد كانَ على اليمين ، فتحتهْ ولمْ يكنْ سوى المكتبْ الخاصِ بها ، إنه بسيطْ جدا ، مجردُ طاولة أمام النافذة خلفه كرسيْ حيث تجلسً هيَّ وأمام مكان جلوسها كرسيين آخرين ، وقريبا من مكتبها تقبع منضدة على الجدار ، هتفت بنبرة صوتِ غريبة : لكنك تتأخر دائما بخطوة سيد " ويلبرت " ! ..
كانت تقصدُ ذلك الشخص الذي يقفُ قريبا من النافذة ينظر إلى الخارج إلا أنه قد استدار نحونا عند دخولنا ، أيُّ كلمة قد تصفه ! ، أيٌ انطباع قد تكونَ عنديْ لدى رؤيته ! ، ملابسه فاخرة وذلك واضحْ فهيَّ تبدو وكأنها من علامة معروفة عدا عنْ ملامح وجهه المائلة للحدة قليلا ، خصلاتُ شعره ماثلت لون العسلْ وذلكَ غريبْ ، من يكونُ هذا الشابْ يا ترى ؟! ، رغمَ أنه يبدو ارستقراطيَّا إلا أنه يتحدث مع عمي بكل بساطة حتى أنه صافحه ببشاشة ، ألقى التحية على " إيرما " ثم عاد ينخرط في الحديثِ مع عميْ والسيَّدة ، هل أنا خفيَّة ، لماذا لم يلقيْ التحيَّة عليْ ، عديم تهذيب ، أخبرت نفسيْ بأن فكرة المجيء إلى هنا خاطئة ، أتمنى أن ينتهيَّ هذا بسرعة ! ..

ما قطعَ هذه اللحظاتِ المليئة بالحفاوة والعبارات المنمَّقة أصواتُ خطواتِ غريبة كنتُ قد شعرت بها لقليل من الوقتْ إلا أن صوتها بدأ يتعالى بل يقتربْ نحوَ الغرفة ، التفتُ أرقبُ تلكَ الأجساد الصغيرة التي اقتحمت الغرفة بلا استئذان ، أحاط أولئك الصغار بعمي " ويلبرت " و " إيرما " ، بل إنهم تشبثوا بثياب الأول وطلبوا منه حملهم ، أما عن " إيرما " فقد بدأت تتبادل معهم أطراف حديث وتسألهم عن أحوالهم ،تبين لي بأنهم على علاقة مع هذا الملجأ ومع الصغار منذ زمن ، أعمار الأطفال متوسطة ما بين الخامسة والثانية عشرة ، ولكم شعرتُ بالسوء لرؤيتي لحال ثيابهم ، صحيح بأنها تبدو عادية إلا أنها مستعملة كثيرا ، ذلك واضح ! ..

أرغمت السيدة " ليونيل " عمي " ويلبرت " على الجلوسْ واحتساء الشايْ لبعضٍ من الوقت رغم تذرعه بمشاغل أخرى ، تبرعت " إيرما" لتحضيره ثم أشارت إلي لأتبعها بهدوء ، نظرت إلى عمي الذي جلس أمام ذلك الشاب يتشارك الحديث مع السيدة التي جلست لتوها على كرسيها ،فكرت بأنه لا معنى لوجودي هنا ، ضغطت على شفتي وقصدت الخروج من الغرفة ، ربما سأشعر بالقليل من المتعة لو قضيت هذا الوقت برفقة والدي ، توجهت حيث ينبعث النور من غرفة قريبة من المكتب دلفت إليها بتعجل فرأيتُ " إيرما " تقف أمام طاولة توسطت المطبخ تقوم بترتيب الفناجين على صينية عادية ، حولت بصري إلى الفرن حيث يوجد عليه إبريق الماء يغلي ، لم يكن المطبخ واسعا وهو يحتوي على القليل من الأرفف بالإضافة إلى براد صغير ، لا أعتقد بأن هذا المكان يمكنه تحمل ذلك العدد من الأطفال ، تساءلت باستغراب واضح : ألا يزال هذا الملجأ يستقبل أطفالا ؟ ..
أخرجت " إيرما " أوراق الشاي من علبة ما لتحشرها داخل إبريق التقديم ، أجابت قائلة : لا ، فكما ترين هذا الملجأ لا يستطيع تحمل أكثر من عشرة أطفال .. صمتت لثوان معدودة لتضيف بعدها : السيدة " ليونيل " رقيقة القلب وحنونة كثيرا ،وهي تبذل جهدها في مساعدة الآخرين ، إلا أنها تقابل بالصَّد فلا أحد يتبرع للملجأ بل إنهم يطالبونَ بهدمه لإقامة أحد المنتجعاتِ بدلا منه ! ..

يالهمْ من قساة ! ، لماذا يقومون بطلبِّ شيءِ كهذا ! ، أعني لو أغلق هذا الملجأ إلى أين ستذهب السيدة مع الأطفالْ ؟ ، لقد اعتاد أولئك المساكين على العيشِ في هذا المكانِ حتى ، أخيرا أَصبح الشايُّ معدَّا حملت " إيرما " الإبريق والفناجين متوجهة رأسا إلى المكتبْ ، تبعتها بينما أفكر بأن السيدة قويَّة فعلا فبالرغم من أن ذلك الرجلَ يستطيع وبفرقعة إصبع واحدة أنْ يخفي هذا الملجأ إلا أنها لا تزال صامدة في وجهه دون مساعدة من أحد ! ..


عدت أدخل الغرفة أستمع إلى الحديث ِ الدائر بينهم هم الثلاثة حيثَ زاد الشحوبُ على وجه السيدة التيْ أردفت ببؤس واضح : بعد ذلك أخبرته بأننيْ لا أستطيع مقابلته بسبب انشغاليْ ببعض الأمور الطارئة ! ..
عقَّب عميْ على قولها سريعا وباهتمام : ولكنك لا تستطيعين الاستمرار في الهربِ منه ، لابد أن يكونَ هنالك حلُ لهذه المشكلة سيدة " ليونيل " !
نقلت بصرها نحوه ثمَّ استطردت بقليل من الحسرة : لا أستطيع الوقوف في وجهه أكثر من ذلك ، إنه يستخدم الكثير من الحيَّل حتى أنه حاولَ رشوتيْ بالمالْ لأعدل عن رأيي ، ذلك الرجلُ سيء الطباع ولا يفكر سوى في مصلحته .. أضافت : هنالك الكثير ممن يحتاجون يد المساعدة وأنا لا أستطيع التخلي عنهم ! ..

زفرتْ بعمق قبلَ أنْ تتناول فنجانَ الشايْ الساخنْ لتبلل ريقها ببعض قطرات يسيرة منه ، شعرت بأن الوضع بدأ يزداد توترا للحظة رغم أنني لست طرفا مشاركا في الحديث ، جعل الصمت الجميع في حالة من الذهولِ المريب ، بدأت أشعر وكأن تلك السيدة ستنهار في أية لحظة ! ، يجبُ أن يكون هذا حالها وهي تشعر بأنها ستفقد الشيءَ الوحيد الذيْ يُمكنها من العيشْ ، قطع ذلك الصمت المزعج صوت عمي الذي بدى وكأنه قد سئم التفكير بذلك الموضوع أكثر ، إذ أنه هتف معارضا : يجب أن يكون هناك شخص واحد على الأقل يخبره بضرورة العدول عن رأيه .. نقل بصره إلى الشابِ الجالس أمامه وتساءل : ألا تعرفُ ذلك الرجلْ ؟! ..

رفعت بصريْ إليْه أرمقُه يجلسُ في هدوءْ بينما يرتشفُ القليل من الشايِّ ، لستُ أدريْ لم بدأت أشعر بالقليل من الانزعاجِ منه ، فهو يتصرف أكبر من عمره حتى أنه لا يوليْ للأشخاص الجالسين حوله اهتماما ولكن الغريبَ في الأمر بأن عمي والسيدة يعاملانه بكل طيبة متجاهلينَ تصرفاته المتعجرفة ، مالمشكلة مع هذا الثريْ المغرور يا ترى ! ، ترك فنجانه جانبا على سطح الطاولة قبلَ أن يجيبَ بلا مبالاة فيمَ ينظر مباشرة صوبَ عمي : لست أحضر المناسباتِ مؤخرا ، لكننيْ أعرفُ بأن " كلارك ما كبريد " استطاع الحصولَ على منصبه الرفيع هذا بطرائق ملتوية غير شرعيَّة .. أردفَ بشيءِّ من الضجر : لمْ أقم بالتعاملِ معه قبل ذلكْ أعني تعلمُ بأن السيدة ترفضُ أنْ أتصرفُ بدونِ إذنها ! ..
لا أدريْ إن صدَّق عمِّيْ قوله السابق أمْ لا ولكنه ظلَّ يحدق فيه لفترة جعلتني أنظر إليه بشيءٍ من الغرابة ، أظن بأن الشابَ سينزعج فهو يبدو وكأنَّه يُكذبه إنما بطريقة غير مباشرة ، إن كلامه مثير للريبة فعلا ، حتى أنه ختمَّ إجابته بطريقة سريعة وكأنه لا يرغبُ منهما الإكثار في طرح الأسئلة ، أعني من سيصدق شابا مثله ! ، لم أفكر بالأمر أكثر من ذلك إذ أن هنالك أمر آخر يشغل تفكيريِ ، أشعر بالجوعِ ، أنقذنيْ يا والديْ ، ظللتْ أرمقُ الجميع حيثُ عاد الصمت يفرضُ سيطرته عليهم مرة أخرى ، هذا غير مجديْ ، سيطولُ الأمر بلا فائدة ، زفرتُ بتضجر قبلَ أن ينتبه جميعنا إلى تلك الخطواتِ الراكضة القادمة نحوَ الغرفة ، استقامتْ تلك الصغيرة حال دخولها للغرفة لتهتفَ بصوتِ عال من بين نفسها المتقطِّع : ماما "ليونيل " ، " كلينت " سقط في البركة ! ..

هبَّت تلك السيدة واقفة من مكانها وقد غادرت الراحة ملامح وجهها ، تركت مكانها سريعا ثمَّ سارعت باللحاق بتلك الطفلة ليتبعها عمي و "إيرما " ، الرحمَّة .. كنتُ أعلمُ بأن اليومَ سيكونُ سيئا ، حدسيْ لا يخيبُ على الإطلاقْ ، ارتددت على عقبي أقصد اللحاق بهم لولا رؤيتي لذلك الشاب الذي ظل جالسا في مكانه والغريب في الأمر بأنه يحتسي الشاي في هدوء ظاهر ، أظن بأن مرض جنون العظمة لديه قد فاق تصوراتي ، ابتلعت ريقي بصعوبة عندما أدار عنقه صوبي مستفسرًا عن سبب تحديقي الطويل ، تركت المكان بسرعة وفضلت الهروب من أمامه ، لستُ أرغبُ في خوضِ جدال عقيمِ مع أمثاله ! ..
بمسافة تبعد حواليْ مترين عن الملجأ قطعناها جريًا إلى حيثُ يتجمع أولئك الأطفال الذين بدأوا يستنجدونَ بأصواتهم المرتفعة علَّ أحدًا يسمعهم ، في منتصف البركة يُصارع ذلك الصغير الماءْ بذراعيه ، ينثرهُ هنا وهناك فيغيبُ صوته عن الحضور فور أن يغمر الماء رأسه ، بقيَّ الجميع مذهولا لوهلة حتى أن السيدة بقيت واقفة في مكانها تناديْ باسمه وتخبره بأن ينتظر لا أكثر ، الأطفال حولَ البركة معظمهم كان مشغول بالنظر إلى زميلهم المسكين بينما ترسم ملامحهم ذعرا لا حدَّ له ، لم يدمْ ذلكَ الوضعُ طويلا فسرعانَ ما تناثرت المياه بقوَّة إثر عمي " ويلبرت " حيث قفز بسرعة إلى هناكْ لينقذ ذلك الطفلَ المدعوَّ ب " كلينت " ، ليست سوى دقائق قليلة حتى ظهر من تحتَ الماءْ محيطا ذلك الطفلْ بذراعيهْ جاذبا إيَّاه إلى الضفَّة ، ظهرت الراحة جليَّا على ملامح السيدة حيثُ التقطت ذلك الصغير بين ذراعيها وقد بدأ يسعل بطريقة خشنة ، بعد ذلك استقامَ عميْ واقفا بعد أن خرجْ لتسارع إليه " إيرما " ممسكة بذراعه وتسأله إن كان بخيْر ! ..
__________________
سبحان الله وبحمده
سبحان الله العظيم

Sleeping Beauty | Ghasag

التعديل الأخير تم بواسطة غسَقْ | ; 03-06-2016 الساعة 10:21 PM
رد مع اقتباس