" إيرل " ! ، إنه هو فعلا ، نبرة صوته مماثلة حتى أن عينيه تحملان ذات اللون الغريبْ ، فكرت بالمفارقة العجيبة في شخصيته ! ، بالأمسِ كانَ شابا طيبا إلا أنه في صباح هذا اليومْ تحوَّل إلى ثريِّ متعجرفْ ثمّ عاد مرة أخرى كما التقيته البارحة ! ،لقد أًصبتُ بالارتباك للحظة ! ، كنت أعلم بأني أمتلك انطباعات أولية خاطئة عن الأشخاص ، ولكن ما أستغرب منه فعلا هو أن " إيرما " لم تقم بمحادثته أو حتى بمناداته باسمه رغم أنه كان من ضمن رفاقها ، ذلك مريب ، أوَليس واحدًا من أصدقائها ؟ .. صدقا ! .. ما هذا اليومْ الحافل .. بداية بالمشكلة في الملجأ مرورا بتلك السيدة المتسلطة نهاية ب " إيرل " المريض النفسي ، هل هنالك ما يدعو للراحة في مزرعة عمي " ويلبرت " ! ، لا أعتقد ذلك ، شعرت برجفة غريبة تسري في جسدي حينما التقطت مسامعي صوته المتسائل :
آنسة " راسل " هل أنت بخير ؟ ..
رفعت بصري أخيرا لأرمق ملامحه التيْ بدى عليها الانزعاج ، إلا أنه سرعان ما رسمَ ملامحا غريبة على وجهه ثم قال بفلسفة أزعجتني :
الشرود تصرف غير مقبول خاصة حينما تحادثين أحدا سوف يفسر ذلك بأنك لا تهتمين لأمره ! ..
انزعاج طفيف تصيد مشاعري لوهلة لأنظر إليه بشك ، بتُ موقنةً بأنه مجرد مريض نفسي و ما مشكلته مع آنسة " راسل " ! تلكْ ، هل يجبُ عليه مناداتي بلقبيْ أيضا ، عاد يضيفُ بتململ وقد أزعجه صمتيْ المفاجئْ :
توقعت بأن لا تتعرفِ علي ولكن أن لا تكترثِ لأمري أيضا ، ذلك محبط تماما ! ..
اعتذرت أخيرا وبررت ذلك بكونيْ أملك مشكلة تشغل تفكيري ، كذبتُ ببساطة لكنه يضعنيْ في موقف محرج ، هذا المزعج ، يبدو فطنا بشكل لا يصدق خاصة بأننيْ واجهت مشكلة فيْ الحديثِ أمامَ نظراته الحادة المضجرة بالنسبة ليْ ، رسم بسمة مجاملة ليستدير قاصدا الدخولَ إلى المنزلْ وقبلَ أن يخطوَ خطوةْ قمت بالنداءِ عليه ، التفت لي مستفسرا لأشعر بارتباك غريبْ ، كنت أريد سؤاله عن ما حدث ليلة البارحة بمَ أنه كان برفقتي ولا أظن بأن هذا اللسان الثقيل سيساعدنيْ على ذلك ، حاولت التبسم قليلا إلا أننيْ كنت أحاول ترتيب الكلمات فيْ عقليْ لا أكثر ، رفعت بصريْ أخيرا نحوه لأسأله بتردد :
البارحة ! ، أعنيْ في الحفل الخيريْ ، هل يمكنك أن ..
ضغطت على أصابعيْ بقوة عندما لم أجد جملة مناسبة أستطيع بها سؤاله ، مالذي يمكنني قوله ؟ ، مالذيْ حدث ليلة البارحة ؟ هل كنت برفقتيْ عندما قابلت ذلك الشابْ ؟ هل تعرف مالذيْ حصل ليْ بعدها ! ، مالذي يمكننيْ قوله بالضبطِ ! ، شعرت به يستدير نحويْ ليهتف قائلا في هدوءْ :
أخبرتنيْ بأنك ستلحقين بنا فيم بعد ولكنكِ لمْ تأتِ .. رفعتُ بصريْ إليه أخيرا منتظرة منه أن يكملْ ، أنا بحاجة فعلا إلى سماع هذه الإجابة ، أضاف على كلامه قائلا :
لمْ تأتِ لذا طلبَ منيْ العم " ويلبرت " الذهابَ لأتحقق منكِ وعندما ذهبتْ وجدتكِ فاقدة للوعيْ ! ..
فاقدة للوعيْ ! ، بدأتُ أحدقُ فيه لقليل من الوقتْ أحاول استيعاب ما قال ، ألهذا لم أستطع تذكر شيءْ فورا ! أ لأننيْ كنت فاقدة للوعيْ ! ، هل كنتُ خائفة إلى تلك الدرجة ، لا أفهمْ ، لماذا أشعر بأنه يكذبُ بطريقة ما ! ، ثمَّ لماذا قد يأتِ هوَ ليطمئن عليْ ؟ وَ لماذا يطلبُ عمي " ويلبرت " منه ذلك رغم أنه لمْ يلتقِ بي سوى البارحة ! ، أليس من المفترضِ أن يطلبَ من " إيرما " ؟ آوه ، يا إلهيْ إننيْ أفكر كثيرا هذه الأيام ، اهدئيْ " لوسيانا " ستصابين بالشيخوخة مبكرًا ، جذبت نفسا عميقا علنيْ أستعيد تركيزيْ وقصدت منزلَ عميْ أخيرا ، لم أحاول النظر خلفيْ لأني قد أرى ذلك الشاب المخيف مجددا ، وأنا لا أريد ذلك ، أتمنى أن يبقى مختفيا لمدة من الوقت حتى أعود إلى العاصمة على الأٌقل !
عندما دخلت إلى المنزلْ وجدت " إيرل " قد انضم إليهمْ مشاركا الحديث مع تلك السيدة ووالدي ، وقد بدى لي بأنه على معرفة بالسيدة إذ أنه اتخذ المكان القريب منها مقعدا ، لم يكن عميْ موجودا برفقتهمْ فخمنت بأنه إما في الطابق العلويْ يتفقد " إيرما " أو أنه في المطبخ ، تخميني الصائب كان الثانيْ وذلك عندما سمعت صوت جلبة صادرة منه ، استدرت نحوه وقد عزمت أخيرا على إخباره بكل ما يقلقني حول ذلك الشاب المخيف إن استطعت ذلك ولم أتردد كعادتي ، عمي يقفُ أمام إبريقُ الماء ينتظر منه أن يغليْ وقد جهز مسبقا على الطاولة الخشبية خلفه الفناجين وبعضٍ من كعك التوت المغريْ بالنسبة إليْ بالإضافة إلى إبريقِ التقديم بالطبع ، يبدو و بأنه قد عدل عن فكرة خروجه بسبب وجود بعض الضيوف هنا حتى أنه قد غير ملابسه المبتلة لأخرى جديدة ، قصدت الطاولة لألتقط واحدة من الكعكْ لأسمع صوته يخبرنيْ بعدم أكل المزيد لأنها ليست من شأني ، عبست في وجهه أخيرا لأتمتم بانزعاج :
بخيلٌ كابنتك ! ..
ضحكَ قليلا ثم استدار ليملأ إبريق التقديم بالماءِ الساخنْ سألنيْ مستفسرا :
ما رأيكِ بالسيدة " لورينز " ؟! أراهن بأنها لم تعجبكْ فتصرفاتكِ تشبه تصرفاتِ والدتك كثيرا .. أضاف مازحا قصد إغاظتي :
إننيْ أشفق على أخيْ الذي اُبتليْ بفتاة مثلكْ ! ..
أنهيت قطعة الكعك أخيرا لأنظر إليه بلؤم ، رددت عليه أخيرا بقليل من الانزعاج :
هنالك إهانة واضحة في كلامك ، لكن اعلمْ بأننيْ أًصبحت راشدة لذا لن أرد عليكَ عمي الكبير المحترم ! ..
حملَ الإبريقَ والفناجين ليخرج من المطبخ هاتفا :
حسنا أيتها الراشدة من فضلكِ اجلبيْ طبق الكعكِ معكِ ولكن حذاريْ من أن تنهيه وأنتِ في طريقكِ ! ..
إنه يحاول إثارة سخطيْ ، هل اتفق مع ابنته على ذلك ! ، إنني أشك فعلا ، جذبت الكثير من الأنفاس إلى داخلي وضربت خدي برفق ، أحاول التركيز قليلا ، أعلم بأنني سأعيش اضطرابا لا يوصف عندما أقابل تلك السيدة مرة أخرى ، كوني هادئة " لوسيانا " ، لم يتسنى ليْ سؤال عميْ إن كان قد لمح أحدا يتجول في الجوار ؟ هل من الممكن أن يكون قد تعامل مسبقا مع هذا الشخصْ لذا هو هنا ليطالبه بالمال وإن لم يكن المال قد يكونُ هنا للاستيلاء على المزرعة ! ، تبسمت بسخف بت أشاهد الكثير من الأفلام مؤخرا ! ..
وضعتُ طبق الكعكِ على الطاولة قريبا من الإبريق و الفناجين لأجلسَ بالقربِ من والديْ ، لاحظت أصابعه المتشابكة وظهره الذيْ كان منحنيا للأمام قليلا غير مستند على الأريكة ، هو لا يجلسُ بهذه الطريقة إلا إذا كان متوترا أو منزعجا ، رفعت بصري نحو ملامحه ليصدق إحساسي فعلا إنه مضطربُ فعلا أو لربما منزعج قليلا بسبب تلك العقدة بين حاجبيه ، لا أدريْ ما هو الموضوع الذي كان يناقشه معهما لكننيْ أعلمُ بأن لتلك السيدة المتسلطة يدٌ فيه ، حوَّلتُ بصري إليها حيث كانت تجلسُ بأريحية تحتضن طبق فنجانها بين أصابعها وتمتع نفسها برائحة الشاي المحملة بالنعناع ، أخيرا تحدثت هيَّ متسائلة وبسمة غريبة تجولُ على وجهها ذو الملامح الحادة :
إذا أنت تقولُ بأنك لن تتزوج مرة أخرى ؟! ..
أعلمُ بأن ذلك السؤال يندرج تحتَ عنوان أسئلة شخصية ولا يحق لتلك السيدة أن تتدخل فيه ، إنها مزعجة كثيرا ، أدرت عنقي أخيرا صوب عمي " ويلبرت " ذاك الذي تحدث في هدوء بعد أن تنعم برشفة يسيرة من الفنجان :
يمكنك أن تتحدث معها براحة " هارولد " في الواقع هي تعرف كل شيء عن عائلتنا ! ..
ظهرت بسمة مجاملة على شفتيها لتعقب سريعا بعد حديث عمي :
آوه ، أنا أعتذر فعلا إن كنت قد شعرت بالانزعاج ! ..
سرعان ما تحدث والدي ليطرد أي توتر أو حرج قد يتسلل إلى المكان ، إذ أنه تبسم بتوتر ليتحدث قائلا :
الأمر ليس كذلك فعلا وأنا لم أشعر بالانزعاج حقا .. نظرت إليه أنتظر منه أن يكمل فحتى أنا أنتظر سماع هذه الإجابة منه ، تمتم هاتفا :
لست أدري ، في الحقيقة انفصالنا ليس رسميا كل ما في الأمر بأننا لا نرغب في العيش في ذات المكان ، نحتاج إلى القليل من الوقت فقط ! ..
القليل من الوقت تعنيْ تقنيا الكثير من السنواتْ ، أعلم بأنهما يصرفان النظر بشأن الموضوع ، رغم أنني أتساءل مادام الأمر قد طال بهذه الطريقة لماذا لم ينفصلا رسميا وينتهي الأمر ، أدار وجهه نحويْ ليرفع كفه مبعثرا خصلات شعريْ فجأة ، ظللت أنظر إليه بتعجبْ لألمح ذات النظرة الكسيرة في عينيه ، إنه لا يزال يعتقد تحسسي بشأن هذا الموضوع ! ، ليته يعلمُ بأنني تغلبت على ذلك منذ زمن ، منذ أن توقفت عن البكاء وحدي ليلا في سنتيْ الأخيرة في الإعدادية ، تبسمت مجاملة له بعد أن أبعدت كفه عنيْ وقد تحاشيت النظر إلى الآخرين ، أصبح الوضع دراميَّا فجأة ، أشعر بالحرج ! ..