إنه اليومُ أخيرا ، اليوم الذي ستقيمُ فيه السيدة " لورينز " أمسيتها الغريبة ، استطعتُ ملاحظة الكثير من الأشياء التيْ طرأت على والديْ وعميْ حينها ، كلاهما قاما بالاستعداد والتحضير لها جيدا ، مظهر عميْ كان مبتذلا قليلا فلمْ يسبقْ ليْ رؤيته بدونِ ثيابه المليئة بالترابْ والطين ! ، الساعةُ الآن الحادية عشرة وهاهما الآنَ يستعدانِ لركوبِ السيارة انطلاقا إلى العاصمة ، على ذكر ذلك لقد رفض والديْ عودتنا إلى هناك مبكرا قائلا بأنه يجبُ علينا البقاء يومين إضافيين ، أخفيتُ انزعاجيْ قليلا فبالرغمِ من أن العطلة توشكُ على الانتهاء إلا أنه لا يزال يصر على قضائها هنا ، ماذا عن أميْ ؟ أشكُ بأنها ستنفجر غضبا بيْ لأننيْ لم أقم بزيارتها ! ، بقيتُ مصرة على موقفيْ بأنه لا داعيْ لذهابه إلى هناك فلو لمْ يكن هنا لما أصرت تلك العجوزُ على دعوته أصلا ، لم يجدر به الذهابْ إلى الأمسية ! ، لا زلتُ أّذكر كلماته المطمئنة التيْ أخبرنيْ فيها عن حقيقة العجوزِ " جريجر " ، حيثُ قال وعينيه تحملان قلقا من نوعِ غريب ..
[
خشيتُ بأنه قدْ قامَّ بإيذائكِ أو شيئا من هذا القبيل ، ليس عليكِ أن تقلقيْ عزيزتي و يجدرُ بكِ أن تعرفي أنه رجلٌ مخادع ومنافقْ وكرهتُ حقيقة مقابلتك له ، ذلك الأمر لا تذكريه لعمك ولا حتى ل " إيرما " أنا سأتكفل به ، فبالرغم من أنني كنتُ أتحاشاه في صغريْ إلا أن علاقته جيدَّة فعلا بعمكِ " ويلبرت " ]
زفرتُ بضجر حينما رأيت كفه الملوحة ليْ من بعيد بينما توشك السيارة على الاختفاءِ من أمام ناظريْ ، أخبرتنيْ " إيرما " بضرورة العودة إلى الداخل امتثالا لأمر عميْ الذيْ طلبَ منا عدمَ الخروجِ من المنزلِ أبدا رغمَ أنه لا يوجد أحدٌ في الجوار أو كما اعتقدتُ أنا ، أغلقت الباب بتضجر فيمَ تمنيتُ أن ينتهيَ اليومين القادمين سريعا ! ..
دوار غبيْ ، لماذا أصيبَ به الآن ! ، لم يعد قادرا على القراءة بشكلِ جيد فحتى عينيه راحتْ توهمانه بوجود كتابين على الطاولة رغم وجودِ واحد فقط ! ، زفر بقليل من الانزعاجْ قبلَ أن ينهضَ من على الكرسيْ فيتوجه حيثُ يركنُ إبريقُ الشاي قريبا من سريره ، كم كوبا استنفد ؟ ، يظنُ بأنه الرابع ربما ، لمْ يكنْ يجبُ عليه الإسراف فيْ وقته ليلة البارحة ، فهو لمْ يعد إلى المنزلْ إلا قبيل منتصفِ الليل ولمْ يستطع النوم قبلَ الثانية رغم أنه قد قرر مسبقا استغلال هذا الوقت الفائض في الاستعداد للصف القادم ، دراسة الطبِ صعبة فعلا وقد انعكسَ ذلك على شخصيته المنضبطة ، عاد يجذبُ الكثير من الأنفاس قبلَ أن يضع الكوبَ جانبًا ويستدير بقصد استكمال قراءة ذلك الكتابْ ، جلسَ على كرسيه لولا أنه تذكر شيئا ، لم يقم بملء مسدسه ، ذلك سيءْ ! ، فتح أول درج في المكتبْ ليلتقطه سريعا ويباشر بتعبئته ، تمتم بحنقْ حينما أحسَ بملمسِ الترابِ بين أصابعه لابد وبأنه علقَ فيه منذ آخر مرة ، عندما وقع على الأرضِ فجأة ، تحسس ملمسله بين أصابعه فيمَ راح عقله يذكره بمَ حصل تلك الليلة ..
قبل أيَّام قليلة ..
[ .. يودُّ لو يهتف بها بقليل من التهذيب ويطلبَّ منها أن تكفَّ عن التحديقِ به كما لو كان مجرد مجرمٍ هاربْ محتميَّا بهذه القطعة المعدنية بين يديه ، لهذا السبب هو يكره القدوم إلى هذه المزرعة لأن الأشخاص هنا عديموا الفائدة حتى أن أفكارهم محدودة يعيشون على الفلاحة وشربِ جوزِ الهند بعد قطفه مباشرة من النخيل ، صدقًا ، مالذي يرجوه من أشخاصٍ لا يعرفون معنى للترتيبِ أو النظام ، بروتوكول حياتهم قطعيا يختلف مائة بالمائة عن نمط الحياة المرفهة التي اعتاد العيشَ فيها ! ، فليتجاهلها رغم أنه يشعر بعينيها اللتين تكاد تخترقُ جسده من شدة تحديقها به ، حاولَ ضبطَ أعصابه عندما قطع الاتصال عن هاتفه ، لقد طلبت منه المجيء إلى هذا المكان المقيت بدون أن تعرف ما هي مناسبة اليوم ! ، كيف سيستطيع الوصول إليه وهو محاطٌ بكلِ أولئك الأشخاصِ ، قطعا لن ينجح في ذلك ، ضغطَ على شفتيه واستعدَ ليعودَ رغمَ المسافة التيْ سيضطر إلى قطعها مجبورًا ، لمْ يكنْ يقصد ذلك إلا أنه أراد فقط أن يلتفت نحوَ من ظلَّت تحدقُ به كالبومِ قبلَ قليل ، أدار عنقه للخلفْ إلا أنه لمْ يرمق أحدًا ، هل خافت معتقدة بأنه مجرد ..
مجرم ! ، خط بسمة ساخر ظهر على شفتيه قبلَ أن يستعد للذهابْ أخيرًا .. ]
لعلمه التامْ بأنيْ سأظل جائعة طوال اليومْ قامَ بإعداد إفطار سريع ليْ قبل أنْ يرحلْ ، كان ذلك بمثابة الإنقاذ بالنسبة إليْ ! ، لمْ أحبَّ الوضع الغريب للمنزلْ ، إنه يبدو خاليا وكأنَّ لا أحدَّ يعيشُ فيه ، هدوءٌ غريبْ ، استشعرتُ برودة الكأسِ بين أصابعيْ بسبب مكعباتِ الثلجِ المتراقصة فيه ، فكرتُ بأنََّ لذهابه فائدة واحدة فقط وهو كونيْ أستطيع شربَ العصير باردا كما أريد بدونِ سماع تحذيراته التيْ يخبرنيْ فيها بإصابتيْ بنزلة برد أو ما شابه ، استجبت ل " إيرما " التي اختارت ذات الأريكة لتجلس عليها فيم تمسك بين ذراعيها كتابا كبيرا ، ليس كتابا بقدر ما يبدو ألبوما ، وضعته على الطاولة الصغيرة أمامنا وباشرت بفتحه هاتفة :
توجد الكثير من الصور هنا لك وأنت بعمر الثالثة ! ..
كدتُ أبتلع قطعة الثلجِ الصغيرة تلك لولا أننيْ لمْ أفعل فيْ آخر لحظة ، نظرتُ إلى الألبومِ مستفسرة حيث بدأتْ تقلبُ صفحاته سريعا ، استطعتُ ملاحظة الكثير من الصور لها وللسيدة " فيوليت " بالإضافة إلى عميْ بالطبع ، مرورًا بصورٍ التقطتها برفقة أصدقائها ، توقفت أخيرا لتظهر صورة منفردة لوالدي علمت حينها بأنني قد أظهر في أية لحظة ! ، في المنزلْ لمْ نكن نملك ألبوما من الصور كهذا لذا لمْ أكنْ أعلمُ كيف أبدو عندما كنتُ صغيرة ، تلك الصور كانتْ تحملُ طابعا مختلفا ، طابعا غريبا عشته فقط للحظاتٍ قليلة ، ذلك الوقت عندما كنا عائلة ، كانت أيَّاما جميلة رغمَ كونها روتينية قليلا ، تبسمت مجاملة عند رؤيتيْ لوالديْ يحملنيْ على كتفيه بصعوبة إذ أنه من الواضح بأنيْ كنت كثيرة الحركة ، غريبْ .. إنه ذات المعطفِ الذي في خزانته ! ، لماذا لا يزال يحتفظُ به إلى الآن ، حتى أنه كان يقومُ بغسله خلسة وتخبئته بين ثيابه رغم أنه لا يرتديه ، هل هو بتلك القيمة يا ترى ؟ ، تفطنتُ ل " إيرما " التيْ أخرجت صورة ليْ حيثُ كنتُ بالفعل صغيرة ، ضحكت بقوة بينما ترينيْ إياها قائلة :
تبدين كصبيْ " لوسيانا " ، خفتُ بأننيْ أضعتها إذ أنني ْكنتُ أضحك عليها سابقا ! ..
التقطت الصورة من بين أًصابعها فيم ضربت كتفها برفقْ ، تمتمت لها بكونها مزعجة ، صحيح بأن ملامحيْ لمْ تكن واضحة حينها لكننيْ لا زلت لطيفة ، ذلك واضح ، ضحكتُ بصمتْ قبلَ أن ألتقط الألبومْ وأبدا بتصفحه بسرعة ، ذلكَ رائع ، إنه يحتويْ على الكثير من الصور لنا ، صورٌ لذكريات نسيتها أو ربما لا أستطيع تذكرها لكونيْ صغيرة حينها ، بدونا فعلا كعائلة ، ولا أّذكر بأنيْ رأيت والديْ مبتهجين كما في هذه الصور ، توقفتُ عندما رأيتُ صورة منفردة ل " إيرل " حيثُ بدت الرسمية عنوانا لها ، يبدو غامضا قليلا وأجزمُ بأننيْ لن أستطيع فهمه مطلقًا ، حتى أن كلامه ذاك لا يزال عالقا في ذهني ، لمْ أستطع كبت فضوليْ أكثر لذا أدرتُ عنقيْ صوب " إيرما " أسألها بتعجبْ :
هل تعرفانِ " إيرل " منذ زمن ! ..
أماءت بأجل قبل أن تنظر إلى صورته هاتفة :
والديْ يعرفُ السيدة منذ زمنِّ طويلِّ حتى أنها هيَّ من ساعدتنا على العيشِ في هذا المنزلْ عندما فكر والديْ بالانتقال من العاصمة .. صمتت لثوان إلا أنها أردفت :
لمْ يمضِ على معرفتيْ بذلك الكثير ولكننيْ سأبوح لك بسر ، لا تخبريْه لأحد ، " إيرل " متبنى ! ..
لم أستطع مداراة ملامح وجهيْ التيْ كشفتْ استغرابيْ من الأمر حينها ، حيثُ أكملت " إيرما " كلامها قائلة :
أخبرنيْ والديْ بأن السيدة وجدته مشرَّدا في الحيِّ الذي تعيشُ فيه سابقا ، كان بلا مأوى مشردا ، وكما تعرفين بأنَّ السيدة " لورينز " لا تملكُ عائلة لذا قررت الاعتناءَ به وقد أخبرت الجميع بكونه قريبٌ لها وقد جاء للعيشِ معها ! ..
غير معقولْ ، لا يبدو ليْ ضعيفا بل على العكس ، إنه قويْ و ذكيْ ، ومليءٌ بالأمور الغامضة ، ربما أصبح مريضا نفسيا لأنه عانى منذ صغره ، أعنيْ ربما يكونُ فعلا مريضا نفسيا ، تصرفاته غريبة وتدعو للريبة فعلا ، يبدو وبأن تلك السيدة لطيفة فعلا رغم أنها لا تبدو كذلك على الإطلاق ، أتساءل ألم يشعر بالخوفِ عند لقائها لأول مرة ! ..
ثوانِّ قليلة فقط استنزفتها لأعلمَ بأننا لسنا الوحيدتين في المنزلْ ، إذ أنني استطعت سماع من يحاول فتح الباب عبر إدخال شيء في ثقبه ، شعرت بالخوف والقلق حينها لولا " إيرما " التي نهضت من مكانها متوجهة صوب الباب قاصدة فتحه ، لحظة .. مالذي تحاولُ فعله تلك المجنونة ! ، ربما يكونُ لصا ! ..