سيدُّنا عليٍ عليهِ السَّلام -11
سيرة
سيدّنا عليٍّ بن أبي طالبٍ عليهِ السَّلام
مِنْ دروسٍ
لفضيلةِ الدكتور : محمد راتب النابلسي
حفظه الله تعالى وبارك فيه وبارك في علمه وعمره آمين.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ , والصَّلاة والسَّلام على سيدِّنا مُحمَّدٍ الصَّادقِ الوعدِ الأمينِ , اللهمَّ لا علمَ لنا ، إلا ما علمتنا ، إنكَ أنتَ العليم الحكيم , اللهمَّ علمنا ما ينفعنا , وانفعنا بما علمتنا , وزدنا علماً , وأرنا الحقّ حقّاً , وارزقنا اتباعه , وأرنا الباطل باطلاً , وارزقنا اجتنابه , واجعلنا مِمَنْ يستمعونَ القول فيتبعونَ أحسنهُ , وأدخلنا برحمتكَ في عبادكَ الصَّالحينَ .
سيدّنا عليّ يقتدي بالقرآن :
" وفي أثناءِ قتاله ، مع بعض خصومه يومًا ، قام أحد من رجاله ، فشتم خصمه ، فنهاه سيدّنا عليّ ، نهياً شديداً ، وقال :
" يا أمير المؤمنين : ألسنا على حقٍّ وهم على باطل ؟
فقال الإمام عليّ : بلى ورب الكعبة ، قال : فلمَ تمنعنا ، من شتمهم ولعنهم ؟ قال الإمام عليّ : كرهتُ لكم أنْ تكونوا شتَّامين لعاَّنين ، ولكنْ قولوا : اللهمَّ احقن دماءنا ودماءهم ، وأصلح ذات بيننا وبينهم ، و اهدهم من ضلالتهم ، حتى يعرِفَ الحقَّ مَنْ جهله ، ويرعوي عنْ الغي مَنْ لجَّ به " .
والقرآن الكريم هكذا يقول :
﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾ ( سورة فصلت الآية : 34 ).
أحياناً بعض الناس ، قد يقرأ القرآن ، منْ غير تدقيق ، يقول الله عزّ وجلَّ :
﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾( سورة فصلت الآية : 34 ).
كلمة (أحسن) ، ما وزنها الصرفي؟ أفْعَل ، ما نوع اشتقاقها ؟ اسم تفضيل ، معنى (أحسن) : أي في تعاملك ، مع خصمك : ألف سلوك حسن ، فيجب أنْ تختار الأحسن , قال تعالى :
﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾( سورة فصلت الآية : 34 - 35 ).
ذكرهم بأيّامِ اللهِ :
حياة الإنسان ، هي مجموعة مواقف ، قد تقول : أنا ، في حياتي عملتُ كذا ، وتعففتُ عنْ كذا ، وعاونتُ فلانًا ، وبذلتُ ، وضحيتُ ، معنى ذلك أنَّ الإنسانَ ، حجمه عند الله ، منْ حجم مواقفه ، والإنسان له مع الله أيام ، ولله معه أيام ، وأيام الله عزّ وجلَّ ، هي الأيام المُباركة ، التي أكرم الله بها عباده ، أو أكرم بها عبداً مُعيناً ، فربّما وقعتَ مرَّة في ضائقة شديدة , فقلتَ : يا ربّ ، فرأيت : أنَّ الأمور انفرجت ، هذا يومٌ منْ أيـام الله ، أو عانيتَ منْ مرض عُضال ، فدعوتَ الله مُخلصاً ــ فشفاك الله بقدرةٍ منه ، فهذا يومٌ منْ أيام الله ، أو وقعتَ في أشدِّ حالات الفقر ، فسألت الله عزّ وجلَّ بإخلاصٍ وصدق ــ فأغناك الله ، فهذا يومٌ ، منْ أيام الله ، ربّنا عزّ وجلَّ , قال :
﴿وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ﴾( سورة إبراهيم الآية : 5 ).
فالإنسان عندما تفتر نفسه ، وعندما يشعر ، أنَّ في طاعته لربه تقصيرًا ، فأصبحت صلاتُه جوفاء ، فماذا يفعل ؟
يتذكر أيام الله , اليوم الفلاني : أكرمه الله عزّ وجلَّ ، واليوم الفلاني : أنقذه الله عزّ وجلَّ ، واليوم الفلاني : حفظه الله عزَّ وجلَّ ، واليوم الفلاني : أعانه عزَّ وجلَّ , قال تعالى :
﴿وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ﴾( سورة إبراهيم الآية : 5 ).
حدثني : [ رجل مُتقدم في السّن ، وهو والد صديق ، منْ أصدقائي ، عمره ستة وتسعون عاماً ، فزرته مرَّة ، وقال لي : الحمد لله ، أجرينا تحليلاً , وكانت النتيجة ، سليمة ، في كلّ مراحل التحليل , ثم قال لي : واللهِ ، ما عرفتُ الحرام في حياتي ، وكان تاجرًا ، منْ تجَّار الغنم ، وقال أيضًا : مرَّة ، كنَّا في الصَّحراء ، وضللنا الطريق ، وأشرفنا على الموت عطشاً ، صلَّى وسجد ، وقال : يا ربّ : أنا قبل عامين ، عَرَضتْ لي امرأةٌ ، في البادية ذات جمال , فقلتُ : إني أخافكَ يا ربّ ، فإنْ كنتَ تعلمُ : أنني تعففت عنها ، خوفاً منك ، فأنقِذْنا الآن ، فلم نلبث ، أنْ أدركَتنا رحمةُ الله عن قريب ، فنجونا ].
وهذا توجيه لطيف جداً ، أنت عليك : أنْ تذكر أيام الله ، وعليك : أنْ تُذَكِّر نفسك بمواقفك مع الله ، كي ترتفع معنوياتك ، وقد ورد في السُّنن وفي الأحاديث الصِّحاح : أنَّ الإنسانَ ، إذا وقع ، في ضائقة ، فليسأل الله عزَّ وجلَّ ، بصالح عمله ، كيف أنَّ اللهَ سُبحانه وتعالى : أسمعك الحقّ ؟ كيف أنَّ اللهَ سُبحانه وتعالى أكرمك ؟ فيسَّر لك ، مأوى تأوي إليه ، ويسّر لك ، امرأةً تحصنك ، ووهبك أولاداً صُلحاء ، فذكِّرْ نفسك بهذه النعم ، التي أكرمك الله بها ، حتى تعرف فضلَه عليك ـ فتشكره ، فإنَّ النعم : تدوم بالشُّكر , وسيدّنا موسى عليه السَّلام ، حينما سقى للمرأتين , قال :
﴿فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ﴾( سورة القصص الآية : 24 ) .
فهذه أيامه مع الله ، مواقفه المُشرّفة ، وإذا كان للمُسلم مواقف مع الله كثيرة ، وله خبرات إيمانية , فهذه الخبرات ، وهذه المواقف المُشرّفة ، تعينه كلما فترت نفسه ، على أنْ يتصل باللهِ عزَّ وجلَّ .
لديك مُوقف أخطر منْ هذا المُوقف , ماذا تستنتج ؟
حينما : أقرَّ النَّبيُّ عليهِ الصَّلاة والسَّلام ، أنْ يهاجر، كان كفَّار قريش يتربصون به ، ويتحلّقون حول بيته ، وكان ، ينبغي له أنْ يغادر ، كان سيدّنا عليّ : الفتى الفدائي ، وقد ورد ، في السّيرة ، أنَّ النَّبيّ ، ألقى كَفًّا منْ تُراب ، وقال : شاهتْ الوُجوه ، فلمْ يره أحدٌ ، حينما خرج ، لكنَّ النَّبيَّ عليه الصَّلاة والسَّلام : أمر سيدّنا عليّاً ، أنْ يستلقي على سريره , وأنْ يتغطى ببردته ، فكلما نظروا إلى بيت النَّبيّ : يطمئنون ، أنَّه في سريره وفي بيته ، لكنَّ النَّبيّ كان قد خرج منْ مكة ، وصار في أطراف مكة ، وقريش ، قد عُرفت ببأسها وجبروتها وقسوتها وحقدها وكرهها ، وحينما دخلت ، إلى بيت النَّبيّ عليه الصَّلاة والسَّلام ، فوجِئَت : أنَّ النَّبيّ ، قد خرج ، وأنَّ سيدّنا عليٌّ ، في الفراش ، أليسَ هناك احتمالٌ كبير ، أنْ يُقتَل هذا الإمام العظيم ؟؟؟
فالاحتمال كبير جداً .
فالإنسان ، حينما يمتلئ حقداً وغيظًا ، وحينما يُسقط في يده ، وحينما يحبط عمله , وحينما يخيب أمله , قد يفعل فعلاً ارتجاليًّا عشوائيًّا ، فهذا مُوقف منْ مواقف سيدّنا عليّ ، لكنَّ النَّبيّ عليهِ الصَّلاة والسَّلام ، قال له مُطمئناً :
لنْ يخلص إليك شيء تكرهه منهم .
فاعتبروا يا رعاكم الله .
لِيسألْ كلُّ واحدٍ منا نفسه هذا السؤال, في حياتي كلّها ماذا فعلت للإسلام ؟ ما الموقف الذي فعلته ، وترك في نفسي أثراً ؟ فالإنسان حينما يحيا حياةً رتيبةً ، ليس فيها بطولةً ، ليس فيها عطاء ، ليس فيها مؤاثرة ، هذه الحياة لا قيمة لها ، وكما تعلمون ، أنَّ أتفه عمر للإنسان ، هو عمره الزّمني ، وقيمة العمر بأعماله الصَّالحة ، والغنى الحقيقي ، هو غنى الأعمال الصَّالحة
ماذا استنبط العلماء منْ هذه الآيات ؟
يروي التاريخ : أنَّ سيدّنا صلاح الدين رحمه الله تعالى ، أيضاً حينما التقت امرأةٌ مع زوجها الأسير ، فتعانقا ، فهذا السُّلطان الرَّحيم العادل ، يروي التاريخ : أنه غضَّ بصره ، ولم ينظر إليهما ، أي أنه أكبرَ هذا الود الذي بينهما ، فعفته وشرفُه ، أبيا أنْ ينظر إليهما ، فغض بصره عنها ، وهذا المُوقف يشبه موقف سيدّنا موسى ، حينما جاءته إحدى المرأتين ، قال تعالى
: ﴿فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا ﴾( سورة القصص الآية : 25 ).
واستنبط العلماء : أنَّ منْ أدب المرأة ، في حوارها ، مع الرَّجل ، أنْ تختصر، وأنْ تلقي كلاماً ، لا جواب له ، فلا تقل : إننا ندعوك ، فيقول : إلى أين ؟ إلى بيت أبي ، لماذا ؟ صار بينهما حوار , بل قالت :
﴿فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا ﴾ ( سورة القصص الآية : 25 ).
وسيدّنا موسى عليه السلام : تكلم معها ، كلاماً مُختصراً جادًّا مانعاً جامعاً ، قال :
﴿ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا﴾( سورة القصص الآية : 23 ).
ليس في اللغة العربية : كلمة أشدّ إيجازاً واختصاراً ودلالةً ، منْ هذه الكلمة , قال :
﴿قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ * فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾( سورة القصص الآية : 23 - 25 ).
ويروي التاريخ : أنه ، حينما أرادت ، أنْ تَدُلَّه على البيت ، سار أمامها , وأمرها ، أنْ تدله على البيت ، وهي خلفه ، ما الذي يلفت نظر المرأة ، في الرَّجل ؟ عفته وقوّته وأمانته ، القوَّة : أي أنه يحميها ، أمَّا أمانته :أي أمينٌ عليها ولا ينظر إلى غيرها ، وما الذي يلفت نظر الرَّجل ، في المرأة ؟ حياؤها , قال تعالى :
﴿قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ ﴾( سورة القصص الآية : 26).
يتبع رجاءاً
جمعها مع التنسيق
عبد الله الراجي لعفوه ورضاه تعالى