تنفسَ " إيرل " بعمقْ قبلَ أن يرسم بسمة مصفرة على ملامحه ، انهمك فيْ تعديل شعره بينما ينظر نحو " ويلبرت " هاتفا : بربٍِّك .. أنتَ تعلمُ بأنه لا يمكن التنبؤُ بتصرفاتها على الإطلاق ، قد تقومُ بتحضير مفاجأة من العيار الثقيل في يوم ميلاديْ بعد شهرينْ ! ..
علَّق " ويلبرت " متباسطا : كأن تقومَ باختيار خطيبة ربما ! ..
عقَّب " إيرل " على ذلك هاتفا : لمْ تحزر ! ..
تشارك الاثنان الضحك لبعض من الوقت فيم ظل " هارولد " ينظر إليهما باسما ، يبدو وبأن شقيقه لم يواجه صعوبة مع الجميع هنا فهو قد احتك بالجميع منذ دخوله صحيح بأنهم لم يكونوا ليولوه ذلك الاهتمام لو لم تكن السيدة " لورينز " من أكبر الداعمين له إلا أنه كان فخورا ، لا يستطيع الوصول إلى مثل مكانته وذلك يزيد من حمله الكثير ، مقارنته بشقيقه لم تكن في صالحه وقد بات يندم على فكرة قدومه إلى هنا .. مؤخرًا ! ..
مقارنة بليلة البارحة فلا أحد ينكر بأنها كانت قاسية عليَّ فعلا ، اصطحبَ عمي ابنته إلى المشفى فيْ صباح اليومِ التاليْ ولمْ يسأم والديْ من إلقاء اللومِ عليْ وعلى عدم مسؤوليتيْ ، لمْ أتحملْ تأنيبه أكثر لذلك أخبرته بمَ فعله مشيب الشعر ذاكْ بعد أن ذرفت دموعا ، استسلم أخيرا وقام بتفهمي بعد أن قام بطمأنتي ، لم أنسى كفيه اللتين راحتا تمسحان على شعري محاولا تهدئتي ، أخبرني حينها بأنه لا يدري إن كان سيكون قادرا على إخبار شقيقه بكل ذلك فلا يبدو وبأن العم " ويلبرت " سيكون قادرا على تحمل صدمة كهذه ! ، خصوصا بأنه قد منحه ثقته الكاملة ، قرر فيم بعد أنه هو الذي سيتكفل في الأمر بعد أن يحل القليل من المسائل المتعلقة به ! .. بعدَ يومينْ ..
انقضى اليومين السابقين بدون أي أحداث تذكر ، لم أرى ذلك العجوز يحوم في الجوار أبدا وعلى ذكر ذلك لم ألمح الشاب منذ مدة أيضا ، إلا أنني عشت أسوأ اللحظات فيهما ، لا أزال أشعر بالخوف و القلق فما فعله " جريجُر " سبب لي روعا وهلعا غريبا حتى أنني كنت لا أكاد أنام ليلا إلا عندما يكون والدي جالسا بجواري ، رغم أن عمي كان يسأل عن سبب ذلك مرارا كنت أكتفي بالصمت بينما يتكفل أبي بالإجابة بكوني قد أصبحت أكثر تدللا ، هل يلقي بإلقاء اللوم علي الآن ! لماذا لا يقومُ بإخباره ويُنهيَّ الأمر ! ، في بعض الأحيان أفكر بأن لوالديْ يميل إلى أخذ قرارات عجيبة لا تمتُ للمشكلة بصلة ولو كانت أمي مكانه لفكرت بالمواجهة قبل كل شيءْ ، على ذكر ذلك أنا أفتقد أميْ .. بشدَّة ! ..
فيْ صباح اليومِ الثالث أخبرنيْ والديْ بضرورة العودة إلى العاصمة لأن عمله قد يبدأ قريبا ، لمْ أستطع نسيان ملامح وجهه على الإطلاق ، إنه يبدو متكدرا هذه الأيام أتساءل إن كان لذلك علاقة بعمله ! ، لمْ أشأ أن أخبره بقراريْ الذي اتخذته ليلة البارحة ، كنتُ سأخبره بأنيْ أرغبُ بالعيشِ لدى والدتيْ إلى حين انقضاء صفوفيْ ، الجامعة ستكونُ أقرب وقد أستفيد من ملاحظات أميْ حتما ، عضضت على شفتي مجبرة ونهضت للململة حاجياتيْ سريعا ، نزلتُ أخيرا إلى الطابقِ السفليْ بعد أن وضعت حقيبة ملابسيْ جانبا ، استطعتُ رؤية والديْ في الخارج يتحدثُ رفقة عميْ بالقربِ من السيارة إلا أن تلك المشاكسة لمْ تكن برفقتهما ، توجهتُ نحو المطبخِ حيث تقومُ " إيرما " بإعداد الإفطار ، استطعتُ ملاحظة ملامحها المنزعجة ، هيَّ حتما ليست ترغبُ بعودتنا إلى العاصمة لكونها ستبقى وحيدة مجددا ، لكن ما باليد حيلة ، رغمَ أننيْ كنت معارضة بشدة لفكرة قدوميْ إلى هنا – وقد كنت محقة على ذلك – إلا أننيْ بت أشعر بالانزعاج نحوها نوعا ما ، قمت بإلقاء التحيَّة لتجيبَ هيَّ بذات الصوت الهادئ ، ماذا هل تكره الوداع أيضا ! ، بقيتُ أرمقها قليلا ولمْ أجرؤ على الحديثِ حينها ، إنها تعملُ بصمتْ متجاهلة وجوديْ كليا وقد بتُ أشعر بالضجر من تصرفاتها ، إلا أننيْ لمْ أتحدثْ ، دسستُ كلتا كفيْ بجيبْي معطفيْ حينما تناهى إليَّ صوت والديْ من الخارج يستعجلنيْ ، ألقيت عليها نظرة هادئة قبلَ أن أخرج من المطبخ متوجهة نحو حقيبتيْ لأخرج بعدها تبعتنيْ هيَّ ، زفرت القليل من الأنفاسْ بعد أن ابتعد عميْ عنيْ مودعا قبَّل جبينيْ هاتفا ببسمة لطيفة رسَمها مؤخرا : كونيْ مطيعة ولا تدلليْ كثيرًا ! .. فيْ موقف عير هذا كنتُ سأجيبُ بنبرة منزعجة بأننيْ لست بمتطلبة إلا أننيْ فوجئت بثقل في لسانيْ فجأة ، لا أحبُ البكاءَ ، عدتُ أجذبُ الكثير من الأنفاس بعد أن اقتربت من " إيرما " أخيرًا لأودعها ، عانقتها لتفعل هيَّ ذلك أيضا ، أكره الاعتراف بذلك ولكننيْ سأفتقد هذه الشقيَّة كثيرًا ، لو أنهما لا يعيشان في مثل هذا المكانِ البعيد ، التفتُ سريعا نحو السيارة لنركبَ فيها كلانا متعجلين ، إذ يبدو بأن والديْ لم يحبَّ البقاءَ متحملا تلك المشاعر الغريبة التيْ اجتاحت الجوَّ فجأة ، وأخيرا نحنُ نبتعد عن مزرعة عمي " ويلبرت " عائدين إلى العاصمة ، إلى حيثُ أرغبُ أن أكونْ ! .. بعد ساعة ..
فتحتُ عيني لتباغتنيْ الشمسُ بسطوعها فجأة تأوهتُ بانزعاج بينما ضغطت على صدغيَّ برفقْ ، تسللت إلى مسامعيْ عبارة والديْ الذي يخبرنيْ فيها بأننيْ لمْ أنمْ كفاية ، أجبته بأننيْ لمْ أستطع بسبب الطريق الوعر هنا ، علمتُ حينها بأننا لمْ نقطع مسافة كبيرة فلا تزال تلك الأشجار موجودة على حافة الطريقْ ، آوه .. نحنُ لم نتجاوزها بعد ذلك مزعج ، عدتُ للجلوسِ في مكاني بتململ فطنت لوالدي الذي أخبرني عن وجود سلة خشبية في المقعد الخلفي حيث تحويْ على إفطار أعده عميْ لنا مسبقا فهو يعلمُ بأمر رحيلنا المبكر ، التقطتها بصعوبة لأفتحها سريعا سأكذب لو قلتُ بأنيْ لا شعر بالجوع ، أنا أتضور فعلا ، وَ بالفعل لقد كانت تحتويْ على عصيرين وقنينة مياه بالإضافة إلى بعضّ من الشطائر ! ..
بعد خمسة عشرة دقيقة ..
لم يزلْ الوقتُ مبكرًا على الوصول إلى العاصمة ومع ذلك بدأت أشعر بالملل الشديد ، ألقيت نظرة على المجلتين اللتين رميتهما جانبًا فلم يعد لي منها حاجة فحتى تلك المواضيع التي تشعرني بالملل و الصداع قمت بقراءتها علنيْ أستطيع التخفيف من حدة ذلك الشعور الذي بدأ يتفاقم في داخليْ ، لا أستطيع أن أجزمَ إن كان والديْ بالفعل يشعر بذات شعوري ولكنه لا يزال صامتًا يلقيْ ببصره إلى الطريقْ ويطبق شفتيه عن الكلام حتى أنني ويا للغرابة بتُّ أشتاق مزحاته المضجرة حقا ، بقيتُ أنقل بصريْ بين الأشجار المزحومة بجانب الطريقِ حيثُ تسمح لأغصانها باحتضان تلك الخيوط الصغيرة من القشِ لأعشاش احتوت على بعضِ من تلك العصافير المغرِّدَّة ، أدرت رأسيْ صوبَ والدي الذي سألني بشكلٍ مفاجئ : هل تنوين قضاءَ الأيام المتبقيَّة مع أمك ! ..
ابتلعت ريقيْ ووجدت صعوبة في الردِّ عليه ، لقد اتخذت قراري مسبقا ولكنني أواجه مشكلة في إخباره الآن ، أكره لساني عندما يخذلني في مثل هذه المواقف ، حقيقة أنا مترددة ، صحيح بأنني كنت أرغب في ذلك ولكنه لا يبدو لي بمزاج جيد ، إنه هادئ ولا يبدو على طبيعته ، مالذي جرى له ! ، إنها أول مرة أشعر بالقلق عليه ، أجبته بأننيْ لا أعرفْ سأفكر في ذلك عندما نصلْ ، أماء بأجل ولم يضف كلمة أخرى و كذلك أنا ! ..
أستطيع القول بأننا قطعنا مسافة لا بأس بها وهانحن في منتصف الطريق ، تقلصت الأشجار ولم يعد للصخور المتعرجة وجود إلا القليل منها ، اكتسى ذلك المنحدر البسيط بأعشاب كثيفة تكفلت بتغطية أرضيته المتربة ، أبعد ذلك الملل عني إذ أنني أحببت المنظر كثيرا ، لم أكد أعتدل فيْ جلستيْ طامعة ببعضِ النومْ أكثر علَّ هذه الساعات القليلة تنقضيْ إلا أننيْ ألقيت نظرة على تلك السيارة السوداء خلفنا والتي ظهرت من العدمِ فجأة ، ظننت الأمر مستغربا فمالذيْ سيفعله شخصٌ مثلُ هذا في مكان بعيدٍ عن العاصمة حيثُ لا يوجد في تلك المناطق غير المزارع والملاجئ ، ظهرت تلك العقدة في حاجبيْ حينما لاحظتُ بأن سرعة عجلاتها تزداد رويدًا ، ما بالُ هذه القيادة الغريبة ، مالذيْ يجريْ له ! ، رغمَ أننا نسير قبله إلا أنه لا يزالُ يسير بذات السرعة وكأنه الوحيدُ في هذا الطريقْ ، لحظة إن لمْ تكن هذه آثار النومْ وإن لم يكن هذا من صنع مخيلتيْ لماذا إذًا أعتقد بأن تلك السيارة تتقدم عمدًا .. نحونا ! ..
شعرتُ بضغطِّ كبيرْ يدفعني بقوة صوبَ النافذة المغلقة ليرتطمَّ جبيني بها مخلفا ألما ووجعا في رأسيْ ، تحسست مكان الألم بأطراف أصابعي لأديرَ بصري نحوَّ والديْ عندما أحسستُ بحركة السيارة الغير متزنة فتارة تتوجه صوب اليمين وأخرى تميل نحو اليسار ، ظهرت ملامح الانزعاج على والدي فيم لاحظت تقطيبة جبينه الواضحة بالإضافة إلى توتره الواضح ، اختلس النظر نحوي ليبتسم حينها محاولا طمأنتي ، بقيت أنظر إليه بقلق يزداد ، أيظنُ بأنني بعمر الخامسة حتى لا أشعر بوجودِ خطبٍ ما ، لمحتُ قدمه التي باتت تتحرك سريعا إثر ضغطها المتكرر على مكابح السيارة ..
ابتلعتُ ريقيْ بشيءٍ من الصعوبة وشددت بأصابعيْ حولَ ذراعيْ فرفعت بصريْ ببطء صوب والدي الذي ما زال صامتا ينظر للأمام وينقلُ بصره صوبَ تلك السيارة التيْ زادت من سرعتها نحونا حتى غطت الزجاج الخلفيْ للسيارة ، لم أستطع رؤية من يقودها وذلك لدكنة زجاجها ، رفعتُ كفيْ المرتجفة برفق وأطبقت بأصابعي وبقوة على ذراع والديْ الذي رمقني بدون أن ينطقْ ، عدتُ أنظر صوبه بخوفْ .. أسأله قلقة .. هل هو قادر على تخليصنا من هذا الموقف ؟ .. تلك المكابح ليست معطلة ، صحيح ؟ .. لن يحصل شيءْ سوف نصل إلى العاصمة بسلام ! ، بعد دقائق فقط سنكون في الشقَّة نستمتع بتنظيفها معًا !..
انهالت عيني ذيْ النظرتين المختنقتين عليه بالأسئلة فيمَ لاحظت خاصته تسبح فيْ ملامحيْ لوهلة قبلَ أن ترتفع زاويتيْ فمه بابتسامة خانقة ثمَّ يرمقنيْ بذات النظراتِ الحانيَّة تلك التيْ لطالما جعلتني أتدلل كالأطفال عليه ، حينها اهتزت شفتي بشيءٍ من القوة قبل أن تحتشدَ الدموع فيْ عيني وأمتنع عن رؤيته لفترة طويلًة ! ، إذ ، أننيْ بعدها استجبتُ لأمر عقليْ الذي جعلني أنكمشُ حول نفسيْ فيمَ أرفع يديْ وأحيط رأسيْ بكفيْ مانعة قطع الزجاج الجارحة والتي اندفعت بشكل مفاجئ صوبنا من أذيتيْ ، في ذات الوقت الذي شعرت بوالديْ يُبعد ذراعيه عنيْ حيثُ بلغنيْ صوتُ صراخه المتألمْ ، حينها فقط أحسست بضغط أكبر وأقوى من ذيْ قبل دفعني وبشكلٍ كبير إلى خارج السيارة حيث استقبلتني الأرضْ بذراعين مفتوحتينْ ! ..