الموضوع
:
الأمل الأخير ؛ المصير
عرض مشاركة واحدة
#
53
04-11-2016, 03:45 PM
غسَقْ |
مُجردُ عجُوزيْن لا أكثر ، أكلت السنونُ والأيامُ عليهما وجعلتهما غير قادرين على الاحتفَاظِ بنزعةِ الشبابْ التيْ كانت طاغية عليهما ، بالرغمِ من أنَّ كليْهما لم يصلا بعدُ للستين لكنْ من ينظر إليهما يعتقدُ بأنهما أكبر عمرا ، لا يستطيعُ ذلكَ الرجلْ إخفاء التجاعيْد التيْ استفحلَّت وجهه ويديه كما أن التعبْ وكثرة التفكيرْ استنزفت من وقته الكثير لتجعلَ منه غير قادر على فعلِ أيِّ شيءْ سوى الانتظار وحسْبْ ، وبالرغمْ من أنه يحاولُ الصمُود وإبعاد شبحِ اليأسِ عنه بصعوبة إلا أنه يشعر بقلبه يتمزق بخشيَّة من الداخلْ ، يشعُر بتلك القبضة الباردة التيْ تحيطُ به بقسوة وتمنعه من التنفسْ كأنها تخبرُه بأنه لا سبيل ولا مفر من حياته المضنيَّة هذه سوى الموتْ .. الموتُ وحده ..
تركَ قدح الشايْ على الطاولةْ المركونةِ أمامه فيم رفع بصره الذيْ ضعُفَ بقوَّة صوب المرأة القابعة أمامه ، حيث أهلكت خصلات شعرها المشدودةِ للخلف بروِّية فيم بذلتْ كل جهدِها لتمنع خصلةً بيضاء واحدة من الظهور عدا ذلك فهي بقيت مكتوفة اليدين أمام الهالاتِ السوداءْ أسفل عينيها بالإضافة لعظام وجهها البارزة إلا أن ذوقها الرفيعْ في اختيار قطع الملابس الفاخرة لا يزال .. أنيقًا .. رسميَا .. كذلك أكثر هدوءًا و تحفظَّا ، لم تملك ردَّا لفعلته تلكْ سوى أن ترفع عينيها له وتستشفي من نظراته الذابلة تلك أسئلته ومقدار الألمْ الذي يعصفُ بداخل جسده المنهكْ ، لقد اعتادتْ رجاءه الصامتْ لها لكن عزاؤها الوحيدُ له هو أن تقومَ بتخصيص وقت لمقابلته برغم جدول أعمالها المكتظ بالأعمال المفروضة الروتينيَّة لتواسيَه وتخبره بأن لا يفقد الأمل ..
هتفت بشيءِّ من الجمود الواضحْ وظهرت زفراتها البائسَّة بين كلماتها :
الراحة قد غادرتكَ تماما ، أخبرنيْ بصدق هل وضعتَ في فمك لقمة واحدة بعد دعوتي لك لتناول العشاءِ " ويلبرت " ؟! ..
لم يجب وهي لم تتوقع خلاف ذلك إذ أنها عادت تزفر بضيق قبل أن تواصل الحدِيثْ وتقطعَ آخر أمل كان لديْه :
توقف عن النظر إليَّ بهذه الطريقَّة ولا تتوقعْ إجابة مختلفَّة عن المرات السابقة ..
بقيت عينيه معلقتين بها لبرهة من الزمن قبل أن يُغمضَ عينيهِ بيأسْ ويعُضَّ على شفتيهِ بقوَّة ، للحظةِ فقط توقعَ أن تطرق مسامعه جملة مختلفة ، جملة تحملُ معنى [
نعمْ ، لقد استطعت فعل ذلك
] ولكنْ يبدو وبأنه لن يكونَ قادرَّا على سماعها سوى في الأحلامِ التيْ تزوره كل ليلة ، لمْ ينتظر حصولِ شيءِّ بهذه اللهفة التي يزداد لهيبها تعمقا في قلبه كما الآنْ ، لهفته التيْ يشعر بها الآن هيَّ ذاتها التي زارته لحظة إحاطة مولوده بين ذراعيه إلا أنها خبت سريعا ، رفعتْ كفها برفقْ وربتت بها على كفه بمواساة قبل أن تهتفَ بصبر :
ما باليدِ حيلة " ويلبرت " ، أعلمُ أنك خائبُ الأمل الآن ..
كل ما احتاجه فقطْ هو ثانيَّة واحدةْ حتى يستطيع بها تجميع الكلمات في عقله ويدفع بها إلى لسانه ، حركَ رأسه يمنة ويسرة مومئَّا بلا فيم عاد ينظر إليها بشيء من الامتنان وقد تعانقت أصابع كفيه بقوَّة مفرِّغا الإحساس الذي تفجَّر في داخله للتوْ :
لا بأسَ سيدة " لورينز " لقد بذلتِ من الجهدِ ما يكفيْ لمساعدتيْ لكن الأيَّام ليست في صالحنا هذه المرَّة ..
أخفَض بصره قليلا قبل أن يزفر بضيق :
أشعر بأنني أعاقب الآن ، أنا يائسٌ فعلا ..
احتجز رأسه بين ذراعيه وشعر بألمِّ كبير فيه وكأنه سينفجر بعد لحظاتْ ، لوهلة فقط شعر بتلك المقتطفات المغبرَّة المؤلمة تعودُ لإيلام رأسه من جديد .. مقتطفات من ماضِّ بعيد ..يعودُ عمره إلى ما قبلَ أربعة سنوات ، أنفاسه المختنقة ولهفته الضائعة يذكر حينها نبضات قلبه التي تعالت فجأة داخل صدره تسبقه للتقدمِ أكثر فيمَ ترن كلمات ذلك الشرطيُ في أذنيه [
لقد حصل الحادث قبل ساعتين تقريبا ، لم نجدْ أيَّ أثر للركابْ ولكن فرق البحثْ منتشرة الآن ، من فضلك التقط أنفاسكْ
] ، ما يؤلمُ صدره بأنه لم تمر أكثر من أربع ساعات على توديعه لهم فكيف حصل ذلك بكل هذه السرعة بالرغمِّ من أنَّ هذا الطريقْ سالكٌ فعلا ! ..
ترتفع عجلات السيارة عاليا فيمَّ يستويْ جزؤها العلويْ مع الأرض ، آثار الاسوداد واضحٌة جدَّا على حديدها أثر البنزين المشتعلْ ، يتناثر الزجاج المتهشِّمُ حولها كأشواك تمنع من التقدمْ أكثر ، تذكر انحناءه لالتقاط سلة الطعام التي قامْ بإعطائها ل " هارولد " قبل أن يفارقه ، الأمر أشبه بكابوسِّ رفض مغادرته بل بقيَّ يعيشُّ بين دواخله إلى أنْ استطاعَ الأمل مغادرة قلبه كليَّا وكأنه يخبره بأن لا فائدة من الهربْ أبدَّا ، شعر بملوحة شديدة في عينيه لذلك رفع كفه بهدوءْ ومسح بأطراف أصابعه عليها قبلَ أن يلتقط نفسا آخر وبذات الاقتضابَ عاد يُسهبْ :
لمْ أصدِّقْ ما سمعته في بادئِّ الأمر حتى أنني بقيت أستفسر من المحقق أكثر من ذلك لكنه لم يقم بإعطائي الكثير من الإيضاحات ، لقد قال بأن الحادث الحاصل قد يكون نتيجة إهمال السائق مم أدى إلى اصطدامه بجذع الشجرة نفيت ذلك بقوة فكيف لشقيقي أن يكون غير منتبه أثناء القيادة وهو يحمل معه ابنته التي يعدها أغلى ما يملك ، سرعانَ ما تداركَ المحقق ذلك ليخبرنيْ بالسبب الحقيقيْ قائلا بأنه ربما يكونُ تعرضَ لضغط شديد من الخارجْ إذ أن هنالك آثار سيارات أخرى واضحة خلفَ سيارة " هارولد " ،من يكون يا ترى ؟ و لمَ بحمل الحقد ل " هارولد " ، إنه لا يستطيع إيذاء أحد ..
لا تستطيع السيدة " لورينز " التخفيف عنه أكثر من ذلك ، فطوال الأربع سنوات الماضيَّة حاول الجميعُ إخباره بأن لا يد له فيمَّ حصل وهذا ليسَ عقابَّا له كما يدَّعيْ هو إلا أنه لا يزل مصرا على إقحام تلك الوساوس في رأسه متجاهلا كلمات الآخرين المتوددة له ، ما هي إلا بضع ثوان صامتة ثقيلة مرت على الاثنين وكأنها دهر ، انتبه كليهما إلى كبير الخدم حيث ينحني باحترام بالقرب من الباب ولم يسمح لنفسه بالدخول إلا عندما أمرته السيدة وباقتضاب أن يفعل ، حوصر كوب الشاي بين أصابعها فيم متعت أنفاسها بالتقاط القليل رائحته العطرة بينما هتف " بيل " وعلى ملامحه طيف ابتسامة عابر :
سيدتي ، لقد وردني للتو اتصال من باريس ، شركة " غارسيا " للقبض وقد وافقت أن تكون حليفة للشركة في مخطط بناء الهيكل في بوسطن ..
ليس من عادة السيدة " لورينز " أن تسعد بشكلِّ واضح لكن ما عساها تفعل ومسامعها تلتقط هذه الأنباء المفرحة ، التف عنقها صوبه لتنظر صوب " بيل " تطلبُ منه تأكيدَّا على كلماته إذ أنه أماء بأجل فيمَّ عاد يُكمل :
ليس هذا فقط حتى أن مندوبها أخبرنيْ بأن المدير ذاته قد يأتيْ للزيارة فيْ وقتِ قريبْ لإلقاء التحية على أمل أن تتعاون الشركتين فيْ مشاريع أخرى في المستقبلْ ، حتى أنه أشاد بذكاء وحنكة " إيرل " كثيرَّا ! ..
استطاع " ويلبرت " ملاحظة ملامحها التي لانت فجأة حال سماعها بخبر مثل هذا فهو يعلم تماما بأن أمرا خاصا بالعمل كان يؤرقها تماما طوال تلك الأيام بالرغم من أنها كانت تحاول قضاء بعض الوقت للتخفيف عنه ، تبسم بشيء من الهدوء قبل أن يزفر بعمق هاتفا :
تهانينا سيدة " لورينز " ، لقد استطاع ذلك المشاغبُ فعلها حقا ..
باريس
بالرغمِّ من أنه يتمتع بالرفاهية والحياة الرغيدة ، بالرغم من أنه كبر أربعة سنوات أكثر إلا أن هذا الكابوس لا يزال يلاحقه رافضَّا أن يتركه وشأنه ، سماعُ صوتُ المنبِّه هو بمثابة الكابوسِ بالنسبة إليه يُخيَّلُ إليْهِ بأنه ينظر إليه ضاحكا مكشِّرا عن صفِّ من أسنان متآكلة وَ ينطقَ ساخرَّا بعد أن يتأكد من أذيَّة طبلة أذنيه لا تحلمْ كثيراَّ فالأمر لن يطولَ أكثر من ذلك ..
أسند الفنجان على سطح الطاولة و ماهيَّ إلا ثوان حتى امتلأ الفنجان بالشايِّ الساخن من جديد ، تلونت عيناه بشيءِّ من الشرود فليس وكأنه لم يواجه مشكلة أصعبَ من هذه في حياته ولكنه هوَّ منْ أوقع نفسه بها والآن هو مجبرٌ على اتخاذ القرار المناسبْ وبالطبع الجانبَ الذي ستكونُ خسائره أقلَّ ، لقد بدأ شعوره بالقلق ينتقلُ إلى الشخصِ الواقف بقربه حتى أنه تراجع عدَّة خطوات تحسبَّا من أيَّة حركة مفاجئة ، قبضَ ذلك الخادمْ على إبريق الشايِّ بين أصابعه فيمَ ابتلع ريقه بشيءٍ من الهدوءْ فيبدو وبأن سيده لن يحتمل أكثر منْ هذا .. وبالفعلْ ، القليل من الثوان الصامتة جعلت من الأمر الذيْ يخشاه يتحول إلى حقيقة فبمجرد أن رفع ذلك الشابُ كفه ودفع بأصابعه الطاولة أمامه بشيءٍ من العنفْ حتى وقعت الرقعة وحظيتْ قطع الشطرنج المتباينة برقصة ما قبل الموت ، قبل أن تستكين بلا حراك على السجاد الفاخر ..
عاد ذلك الشاب يستوي جالسا على الكرسيْ بينما ترك الخادم إبريق الشاي جانبا وسارع في رفع كوب الشاي المسكوبْ إنها عادته الجديدة ، فبالرغم من أنه يلعب لوحده ويرفض مشاركة أحدهم فيها إلا أنه ينفعل كثيرا حينما يعرف بأنه لا يوجد سبيل للفوز ، انهمكت أصابعه المكتسحة بالقفاز الأبيض في ترتيب المكان رفع الطاولة بخفة ومن ثم سارع بجعل الرقعة عليها وترتيب قطع الشطرنج من جديد فلا شك وبأن السيد سيرغب في لعب جولة أخرى وقد يرأف بحاله هذه المرة ، عاد يقف مستويا في ذات مكانه بعد أن قام بملأ الكوب من جديد بالشاي الساخن إلا أنه هذه المرة انتظره ليلتقطه لا أن يضعه على الطاولة ، تراقصت خصل ذلك الشاب المبتلة بعد أن قام بتحريك كتفيه رغبة في إبعاد شبح السوء والكسل عنه بعدها استقبلت كفه الكوب وبدأ بارتشاف ما فيه ببطء ، وكعادته هو لن يفكر في تنظيف السجاد فهنالك من يقومُ بكل هذه الأمور عوضا عنه ، أرجع الكوبَ مكانه بجانب رقعة الشطرنج أمامه وبدى مستعدَّا للعبِ جولة أخرى ،أحاطت أصابعه إحدى القطع البيضاء ثمَّ انسابَ صوته المتسائلْ بشيءٍ من الهدوءْ والملل :
" جونز " .. هل من شيءِّ مدبر ليْ اليومْ ؟ ..
استطاع " جونز " أن يضبط أعصابه فهو لا يحب أن يكون مكلفا بخدمة هذا السيد تحديدا عندما يكون لتوه قد استيقظ من النوم فعادة يكون مزاجه عكرا ولا يأبه إن قام برمي أحدهم بإحدى كلماته اللاذعة ، اعتدل واقفا مستقيما بظهره وبطريقة ما خرج صوته هادئا ، استطرد بالإيجاب :
أجل سيدي ، في حلول الساعة الثالثة مساء سيكون عليك زيارة المتحف برفقة ابن عائلة " آوستن " ! ..
تقارب حاجبيْه في انزعاج واضحْ ، للحظة شعر بالسعادة لرغبته في زيارة هذا المتحف فهو أراد ذلك منذ زمن بعيد وأراد لقاء صانع الخزفيات الفرنسيِّ الشهير السيد " ألبرتين " وربما قد يحظى بفرصة للحديثِ معه ولكن بمجرد أن يتذكر بأنه سيكون مجبرَّا على مرافقة " بريسول " المزعج ذاك بدأ يشعر بإلإحباط لاسيما وبأنه لا يملك خيار الرفضْ فوالدهُ قد أصبح من الداعمين الأساسيين للشركة ، لذا وبدون أن يخوض فيْ نقاش مطولْ مع السيدة " لورينز " سيُضطَّرُ إلى الذهابْ ، حاول جزافا ألا تتضح زفراته المنزعجة لخادمه فمن يدري قد ينقل كل تصرفاته كانت كبيرة أو صغيرة للسيدة " لورينز " ، تركَ ما بيده ثمَّ نقل بصره إلى حيثُ يقف خادمه بالقرب منه وحرص على إظهار انزعاجه له إذ أنه استطرد فيم يبتسم له متهكما :
بإمكانك أن تذهبَ لصيد السمكْ إن أردتْ !
تلونت ملامح " جونز " بالقليل من القلق ألم يكن في مزاج أقلَّ سوءًا قبل برهة ؟! ، كيف له أن يتعكر بهذه السرعة ، فهمَّ " جونز " بأنه يطلبُ منه الرحيلْ فوجوده بات مصدر إزعاجٍ له ، رمقه بشيءٍ من الضجر المبكوت فيم انحنى بخفة بعدها التقط صينية الشايْ وقصد المغادرة ، تصرفاته تكون مختلفة تماما عندما يكون تحت ناظري السيدة " لورينز " في البلدة ولكنه حالما يكون مسافرًا ينقلبُ كثيرا ، الآن فقط علِمَ لمَ معظم الخدمْ أظهروا له بعضَ المحبة والشفقة قبيل سفره فهمْ يعلمون بمعاملة هذا المزعجْ وتكبره لهمْ ، تنهد " إيرل " بتضجر قبل أن يهمَّ بالنهوضْ متوجها إلى خزانة ملابسه عليه أن يتعجل بتبديل ملابسه وتناول الغداء فهو لن يقبل تملق دعوة " بريسول " المعتادة ، ليكن صريحا لقد فكر بالفعل فيْ تناول الغداء خارجا لكن ليس مع الأشخاص المملين أمثاله ..
__________________
سبحان الله وبحمده
سبحان الله العظيم
Sleeping
Beauty
|
Ghasag
http://3rbseyes.com/t519692-p4.html
غسَقْ |
مشاهدة ملفه الشخصي
إرسال رسالة خاصة إلى غسَقْ |
البحث عن المشاركات التي كتبها غسَقْ |