لُندن
الظلام ! ، ليسَ كذلك ، الغرفة تبدو معتمة إلا من ضوءِ الشمسِ المنبعثِ من خلف ستائر أسدلت نفسها خشية ، الصمتُ يعمُ المكانْ ، صوتُ الأنفاسِ المنتظمة ونبضات قلبه المعتلَّة فقط ما كان يشغل تفكيره ، لمْ يفكر فيْ كيفية الخروج من هنا ، أو حتى بتلك الطريقة الغريبة التيْ يحدقٌ بها ذلك الرجل خلفه ، لقد علم منذ البداية بأن هناك خطبٌ ما به ، ولموافقته على المجيء إلى هنا بدأ يشعر بالذنبْ ، جذب نفسا عميقا لينتصبَ واقفا بعد أنْ أراح أذنيه من سماع تلك الضرباتِ المتواصلة لجسدِ العجوزِ المستلق أمامه بلا حول أو قوَّة ، من ينظر إليه سيُصاب بالدهشة لكونه يستطيعُ تحريكَ ذراعيه حتى الآن ! ، لقد تحملَه جسده إلى أن وصل إلى مرحلة جعلته يعجز فيها عن الحديثُ بشكل متواصلْ ، تطلع ذلك الشابُ إليه بخفوت ولمْ ينطق بحرفٍ واحدْ ، لانت ملامح العجوزِ قليلا قبلَ أنْ يجذبَ نفسا عميقا ثمَّ يستطردَ بخفوتْ : أعلمَ مالذيْ ستقوله بمجرد النظر إلى وجهكْ ! .. صمتَ لثوانْ فأضافَ مخاطبا ذلك الرجل الواقف بعيدا قريب الباب : لا داعيْ لذلك " كارمل " لقد انتهى الأمر ! ..
لا يستطيع أن يفعل شيئا ، إنه يقف عاجزًا أمام هذا الأمر الجلل ، معالجة هذا الرجل ليست من اختصاصه ! ، إنه حتى لا يستطيع أن يفعل أيِّ شيءِّ له ، إلا أنه لن يخيبَ أمل ذلك الرجل الذيْ تكبد عناء انتظاره وجلبه إلى هنا ، لا بأسَ بالقليل من الأملْ ، استدار نحوَ حقيبته على المنضدة قرب السرير ليجمع حاجياته فيها في ذات الوقت الذي هتف فيه بشيءِّ من الهدوءْ : ربما يجبُ عليك الخروج واستنشاق بعض الهواء بدلا من استلقائك بهذه الطريقة ! الهواء والطبيعة ستساعدانكَ بفعالية أكثر فلا دواءَ سيخلصكَ من الوهن الذي تمكن منكْ ! ..
هل انقطع الهواء فجأة ! ، لا ، إنه لا يزال يتنفسْ ، مالأمر إذَا ؟ ، تخشبت ساقيه عن الحراك حتى أن ذراعيه بقيتْ ملتصقتين في مكانها خشية من طرف شيءِّ حاد كان قد أحسَّ به يداعبُ أسفل رقبته ، حتما ليست بفوهة مسدس ، إنه شيءِّ حاد ولا يفصله عنْ بشرته سوى عدة سنتيمتراتٍ فقط ، راقبَ أنفاسه وحاول الحفاظَ على أعصابه ، التصرفٌ بتهور لن يعود عليه بالنفع أبدًا ، قبضَ على أصابعه في الوقت الذي التقطت فيه مسامعه صوتُ أثقله التعبْ والغضبْ في آن وحد : إنك عديمُ النفع ، لمْ أجلبكَ إلى هنا لتسمعنيْ مثل هذه الكلمات ، إنكَ طبيبْ قمْ بعملك وعالجه ! ..
بقيَّ على ذات حالته بينما تعالى صوتُ ذلك العجوز محذرا : " كارمل " هذا يكفيْ ! ..
شعرَ بذلك الطرف الحاد يقتربٌ أكثر إذ أنه بدأ يشعر بطرفه يلتحمُ ببشرته أكثر ، هذا خطير ، يبدو وبأن ذلك الرجل بدأ يفقد صوابه إذّ أنه بات يستمع إلى أصوات أنفاسه المتهدجَّة بوضوح ، جزَّ على أسنانه قبلَ أنْ يتحرك من مكانه ملتفتا نحوه بسُرعَة ، مبعدَّا بذلك طرف تلك السكينة الحادة عنه ، لتفاجؤ ذلك الرجل منه قامَ بإسقاطِها فوجد الشابُ هذه فرصة جيدة للكمه ، ارتدَّ على عقبيه سريعا مصطدما الجدار خلفه ، تلك اللكمة لمْ تكن قويَّة أكثر ، آلمته ولكنها ليست بتلك القوة لجعله ينهار ، لمْ يتحرك من مكانه بل بقيَّ جالسا رغم أنه يستطيع ردَّ اللكمة إليه بسهولة كبيرَة ، ظلَّ الصمت يطبقُ بأسنانه على الجميع لا أحد تملكته الجرأة ليتحرك أو يتحدثْ ، ما حصل قبل قليل صار بسرعة حتى أن ذلك الشابْ عجز عن إدراك نفسه ، منظر ذلك الرجل أثار في نفسه الريبة فعلا ، تنفس بعمقْ واعتدل فيْ وقفته أخيرا بذات الوقت الذيْ تحدثَ فيه العجوز هاتفًا : دعه وشأنه ، إنه مجرد طائشْ ، إنه يتصرفُ هكذا لأنه لا يستطيع تقبل الأمر فقط ، هوَّ لا يقصد ذلك ! ..
أماءَ ذلك الشابْ بنعمْ ولمْ يعقبْ كلمة أخرى ، إنه يبدو غير مصدقًا للأمر فقط هذا المزعج ، لقد أثار انزعاجه لا أكثر ! ، ماهيَّ إلا ثوان بسيطة حتى ارتفع صوتُ رنين الهاتفْ ، إذ بممرضة تخبره عن وصول مريض جديد ! .. باريس
غُلفت الأرضية البرَّاقة بنوع من السجاد الأحمر المزخرفِ باللونِ الذهبيْ فيمَّ تلونت الجدران المائلة للون البنيِّ المحروقِ بالعديد من الزخارف العتيقَّة القديمة لتعطيَّ للمكان انطباعَّا من نوعِّ خاصْ ، تُعامل تلك القطعْ على أنها شيءٌ ثمين لا يفرَّطُ به بسهولة ، فكل قطعة تُحتَجزُ داخل صندوقِ زجاجيْ مرفوع بواسطة طاولة أُعدَّت لأجل ذلك ، تنتشر الطاولات المشابهة في أرجاء القاعة بخجل شديد وبمسافة متساوية بين كل واحدة وأُخرى ، لمْ تكتظَّ القاعة بمثل هذا الشكلَ من قبلْ فحتى الأشخاصُ الذين لا يهتمون بالقطعْ الخزفية موجودون في هذا المكان ، السيد " ألبرتين " ليسَ مجرد صانعِ خزفيِّ فقط بل إنَّ سمعته اكتسحتْ العالمَ اكتساحا فعوضا من أن المواد التيْ يستخدمها لصنع القطع نادرة ولا يمكن لأيِّ صانعِ آخر أنْ يفكر في استخدامها إلا أنَّ مخيلته واسعة بشكل مذهل فلا أحد يستطيع تخمين الشكل النهائيْ الذيْ سيخرجُ به ، من الغباء ألا يفكر رجل ثريْ فرنسيْ في وضع خزفية من مجموعته في قصره فبالرغمِ من أنها باهظة الثمن وتباع بملايين الدولارات ولكنْ أنْ يقتنيَّ قطعة بسيطة خرجت من بين يديْ هذا الرجلْ لهوَّ شرفٌ له يتباهى به أمام الآخرينْ ! ..
الكثير من الصحافيين موجودون في هذا المكان لتغطيَّة مثل هذا الحدثِ المهمْ كما أنهمْ يعتقدون بظهور السيد " ألبرتين " بشكلِّ مفاجئ وفيْ أيَّة لحظة ، لم يستطع " إيرل " إلقاء نظرة على جميع التحف فعدد الأجساد في هذا المكان تجعل من الصعبِ عليه التنقلْ إضافة إلى أنه يتحاشى الظهور أمام الصحافة خشية أن يُفاجأ بظهور مقال في الجريدة يحملُ اسمه ويجُّر معه الكثير من الشائعاتِ التيْ لن تعود عليه بالنفع ، ارتشف القليل من العصير في كأسه بينما يختلس النظر إلى كل شيء وهو يقف في مكانه متجاهلا تماما بأنه قد حضر إلى هنا برفقة شخص آخر ، استطاع سماع همهمات " بريسول " الضجرة خلفه عن كثرة وجود الأشخاص هنا وعوضا من ذلك أبدى انزعاجه الشديد من الصحافة التي استطاعت وبنجاح أخذ معلومات جيدة عن حالة والده التي تدهورت في الآونة الأخيرة ، أدار " إيرل " عنقه صوب شاب يتدثر بملابس غالية الثمن تتناسب ألوانها تماما مع بشرته القمحيَّة فيم تهطل خصلات شعره المائلة للاحمرار على ملامح وجهه الحادة بكياسة شديدة ، تبسم " إيرل " في وجهه بشيء من السخرية قبل أن يحادث " بريسول " بلغته الفرنسية السليمة : توقف عن تمتمتك المزعجة هذه وإلا فإنك ستجد مقالا يتحدث عنك بالسوء صباح الغد ! ..
تقدم " بريسول " منه مبديَّا استياءه الشديد منه إذ أنه هتف بقليل من الانزعاج فيمَ يدسُ كفيه بجيبي بنطاله : حقَّا ، آملُ أنْ أرى كيف ستتصرفُ لاحقا حينما تقع في مثل هذه الورطة " براسيت " ! ..
تجاهله " إيرل " تماما حينما أدار له ظهره ممَ جعل الآخر يشعر بالضيق فهو ليس الوحيد المجبر على الخروج برفقته فبسبب هذا الموعد المرَّتب اضطُر إلى إلغاءِ فكرة الخروج مع أصدقائه ، لاشك بأنهم يستمتعون دونه الآن ، رمق " إيرل " بقليل من الإحباط حينما وجده منشغلا بتأمل أحد القطع المحتجزة خلف الزجاج ، إنه ممل ، يهتم بأشياء غريبة ، أقل ما يقال عنها بأنها اهتماماتٌ شخص فيْ أواخر الخمسين ! ، قرر بدء شجار بسيط معه حينما تقدم منه مبديَّا تململه ، لا بأس بإزعاجه قليلا : أنتَ تهتم بمثل هذه القطعْ أكثر منْ كسبِ الأصدقاء ، أعلمُ بأنه من الصعبِ أن تكون من عائلة نبيلة فيصعبُ وجود من تثقُ بهمْ بسهولة ولكن هذا لا يعنيْ بأن تنزوي بنفسكَ بعيدا ، تبدو ليْ وحيدَّا " براسيت " !
لم يبدو " إيرل " مهتما له إذ أنه بلل ريقه بالقليل من العصير فيْ كأسه قبل أن يهتف به بقليل من التهكم ذلك الذي جعل " بريسول " يشعرُ بالغيظِ أكثر : الفرنسيون يحشرون أنوفهم في أِشياء لا تعنيهم ، دائمًا ! ..
أدار جسده إليه لينظر إليه حيث بقيَّ يتطلع إليه بانزعاجِّ واضحْ فيمَ يفشل فيْ ضبطِ أعصابه عن الإفلات،تبسم بوجهه قبل أن يلاحظ " بريسول " بريق عينيه المرعبْ وحينها فقط استطاع أن يعرف متأخرَّا بأن هذا الشابْ يختلف عنه كثيرَّا ، لا ، بل هوَّ لم يقابل مثله في حياته كلِّها ، قبضَّ على أصابعه بقوة قبل أن يهتفْ به وهو ينظر إليه من خلفِ قناع البرودة الذيْ حاول التدثر به : أنتَ تستخفُ بيْ !
لم يبقى " إيرل ليخوضَ جدالا ، فهو حتى لا يرغبُ في أن يكون علكة بألسن الجميع هنا ، فهو وقبل كل شيءْ قريب لتلك السيدة ، مدَّ بالكأس ل "بريسول " ذاك الذي ظلَّ ينظر إليه باستغراب كبير ، مالذي يفعله ؟ ، قرر مجاراته فتناوله من بين أصابعه في ذات الوثت الذي هتف فيه "إيرل " : أنت لا تعرفنيْ سيد " آوستن " ، لا أحد يستطيع العبثَ معيْ .. تجاوزه قليلا فيمَ عاد يهتف : لن أخبر أحدا بأنك غادرت المكان قبل الخامسة لذا فاللقاء ينتهيْ هنا ! ..
ضغط " بريسول " على الكأسِ بقوة ، كيف يجرؤ على الحديث معه بتلك الطريقة ، استدار نحوه سريعا ليهتف ساخرا : ولكنه استطاع ذلك ، أنت لا تستطيع التغلب عليه على الإطلاقْ ألا تظن ،! ..
بقي " بريسول " يحدق في " إيرل " الذي توقف عن المشي فور أن التقطت مسامعه عبارته ، لقد أصاب عين الهدف تماما ، لقد بدأ يفقد أعصابه ، لا بد وبأنه يغلي بشدة الآن ، بدأت بسمته تضمحل قليلا في الوقت الذي استدار فيه " إيرل " إليه ، لا يحمل وجهه أي ملامح محددة ، يرقبه بجمود واضح ، وكأنه ينوي قتله بدم بارد ، لم تفارق عيني " بريسول " تلك الملامح الغريبة ، وكأنه ندم على تلك الفكرة الغريبة ! ، ليته لم يتلكم ! ، لقد نطق بشيءِّ محظور فعلا ، ماهيَّ إلا ثوان فقد حتى سار " إيرل " بعيدا بعد أن سيطر على أعصابه بسهولة ، زفر " بريسول " بعمقْ ، لقد كان على وشك الدخولِ في شجار معه إلا أن ذلك لم يحدثْ ، لم يكن يجدر به إزعاجه ! ..
__________________ سبحان الله وبحمده
سبحان الله العظيم Sleeping Beauty | Ghasag |