يُحتجز بين أربعة جدران مظلمة خاوية من أي قطعة أثَاثْ حتى السجَّاد الذيْ حمد الله على كونه موجودَّا لمْ يساعد فيْ تدفئة جسده المرتجف من بين أسنان اللياليْ الباردة ، يتقلبُ يمينا وشمالا يشعر بأن أجزاءه تتقطعْ من الداخل ، يضربُ ظهره فيْ الحائط خلفه بينما يضيقُ الخناقَ على قدميه بذراعيه علَّها تخترقُ معدته الفارغة وتمنعها عن إيلامه ، من سيُصدقْ بأنه بقيَّ بلا طعامْ لأربعة وثمانين ساعة ، يُخرسُ عطشه بعدة قطراتِّ من الماء عدا ذلك لم يستشعر جوفُه شيئا ، التقط العديد من الأنفاسْ الضائعة وأغلقَ عينيه لثوانِ صامتة ، يستطيعُ سماع صوتِ العصافير في الخارجْ فيعلمُ بأن الشمسَ لم تغادر السماءَ بعد ، لقد كابد ضوءها كثيرا للوصول إلى مكان عزلته لكن لا وجود لأيَّ فتحة أو حتى نافذة على الأقل ، هل لهذا معنى ؟! حتى المساجين يحظون بفرصة للخروج لبعضِ الوقتْ ، خففَّ من ثقل جفنيه قليلا ليفتح عينيه على صوتِ خطواتِ بدت خلفَ باب هذه الغرفة ، هل سيستطيع الخروج اليومْ أم أنه سيظل حبيس هذه الزنزانة إلى يومه المشؤوم !
هكذا راح يسأل نفسه عندما لم يعد يسمع صوتَّا ، شعر برعشة خفيفة تسيطر على جسده تساءل إن كان من البرد أم بسبب حالة القيء التي تهاجمه على حين بغتة ، لقد فقد حتى الإحساس بجسده المرتجف ، ارتفعت زاوية فمه لأعلى قليلا بعدها نالت حالة غريبة منه جعلته يبدأ بالضحك بشكل غريبْ ، يتعالى صوته تارة ويختنق تارة أخرى فهكذا وكأنه بذلك يحاولُ التخفيف عن دماغه الذيْ عمِلَ طوال تلك الساعاتْ بدون توقف يسترجع ذكرياتَ الإحدى وعشرين سنة التيْ مرَّ بها حتى استطاع أن يصل بتفوق إلى مرحلة استطاع بها حماية نفسه مَن أن يُصابَ بالجنونْ ، لكنه أعلن استسلامه فيْ هذه اللحظة ، لا بأسَ إن أًصبح مجنونا أو مُختلَّا فلا أحد سيقوم بالسؤال عنه على أيَّة حال ، تهادى صوتُ ضحكاته قليلا حتى استحال إلى عدة شهقات صامتة ، استقبلها جسده بحفاوة فلمْ يكن منه إلا أنْ شعر بعدة نغزات من الألم ، لمْ تعدْ رؤية الظلامْ واضحة بالنسبة له ، فالماءُ الذي احتشد في عينيه جعله غير قادرِّ على فتح عينيه أصلا ، لقد كابد كثيرَّا حتى لا تنزل هذه القطرات المالحة من عينيه حتى فيْ أشدِّ مواقفه الحاسمة لمْ تنزل هذه الدموع حينَما قرر إنهاء حياته ، يرتجفُ كتفيه بخفة فيمَ يُطبق على شفتيه بقوةْ محيلا تلك الصرخاتِ المتألمة إلى أنينِّ متوجعْ ، هوَّ يعلمُ بأنه لمْ يخدع نفسه بادعائه القوة لكل هذا الوقتْ .. من الطبيعي أن يبكي الإنسان عندما يشعر بالخوفِ ، بالألمْ ، بالضيقِ والانزعاج ..
استحالت تلك الشهقاتِ إلى أنفاسِّ متخبطة متهدجة فور ما التقطت أذنيه صوتِ خربشة بالقربِ من الباب ، ليست خطواتِّ هوَّ متأكدُّ من هذا يبدو وكأنه صوتُ القفلْ .. قفلُ الباب لزنزانته المعتمة والباردة ، قبَّلت ركبته الأرضَ فرحا بينما لم يستطع جسده مفارقه الجدار فهو لا يستطيع الجلوسَ باعتدال حتى ..
ضوءٌ خافت .. بسيط .. لكن ذلك يم يدم طويلَّا سرعانَ ما فُتح البابَ أخيرا وبدت الرؤية أكثر تشوشا لديه الآن ، عينيه قد اعتادتا على الظلامِ طوال هذه المدة فكان استقباله للضوء مؤلما لحد إغلاقهما دقائقْ ، عاد يفتحهما ببطءِ هذه المرة فيمَ بدت له هيئة رجلِّ يقفُ بالقربِ من الباب وسطَ الضوءِ .. هزيلُ البنيَّة .. أصلع .. هذا كل ما استطاع أن يراه ، ابتعدت قدمي ذلك الرجلِ عن البابْ واقتربت من " جوليان " خائر القوى ، اقتحمَ صوته المكان مهددا الصمت بالرحيل وهتفَ ب ذلك الشابِ المسكين أمامه :
خلتُ بأنيْ سأرى جسدكَ معلقا بالسقف أو رؤيَّتكِ مضطرجا بالدماءِ في دورة المياه ، أنتَ مثيرٌ للإعجابْ لبقائكَ متحملا طوال تلك المدة ! ..
انفلتت عدة شهقاتِ أخيرا من بين شفتيْه أخيرا واستطاع ن يستجمع قليلا من القوة التيْ جعله يرفع كفيه ببطءْ يُحيطَ بأصابعه ساق هذا الرجل فيمَ يتوسله بقليل من الألمْ ، ذلك الثقل فيْ لسانه جعله عاجزَّا على النطقْ بالرغم من أنه لم يجدْ مشكلة فيْ توسله بعض الطعام ، لماذا لا يستطيعُ النطقْ ؟! هل غادرت الكلمات لسانه بلا رجعة .. لن يكون ذلك مستغربا إن لم يحدث إنسيا طوال تلك المدة ، أغمض عينيه بقوة وضيق جبينه بعجز فور أن التقطت أذنيه ضحكات الرجل الذي تنهد بشيء من القوة ، تراجع للخلف بشيء من القوة بينما سقطت ذراعي " جوليان " للأسفل بذات العجز والذل ، مثير للشفقة ، أين كبرياؤه الذي اعتاد على إظهاره دائما ؟ كلماته السليطة التي اعتاد قذفها للأشخاص من حوله نسيها كلها .. مالذي يفترض به أن يفعل الآن ؟ ما كان على ذلك الشاب المزعج ردعه لو أنه تركه يلقى حتفه لما شعر بهذا الخزي ولا مر بكل هذا الألم ؟ إن كان ينوي حقا تركه هنا وإذلاله فلماذا قام بعرض مساعدته له ؟! ، عادت تلك الغصة تهاجمُ حلقه مرة أخرى إلا أنها لم تدمْ طويلا ، تابعت أذنيه ذلك الرجلَ الذي حركَ قدميه مبتعدا إلى حيثُ الباب متجاهلا إيَّاه ، بقيَّ " جوليان " غيرَ مصدقِّ لما حصل ، لقد دخل وخرجْ لعدد من الدقائقْ غير مبديا مقدارا بسيطا من الرحمة ، بقيت أنفاس " جوليان " تتجدد وهو ينظر إلى الباب المفتوح ولكم شعر بالتوق لاحتضان الضوء لجسده ، هل سيستطيع الشعور بتلك النعمة مجددا ؟ ..
حاولَ تحريك قدميه المتصلبتين فيمَ تطلبَ الأمر منه قليلا من الوقت ليستطيعَ الوقوف ، لم يستطعْ فعل ذلك فالدوار يعودُ لمهاجمته بقوة أكبر هذه المرة ، التقط " جوليان " أنفاسه ولمْ يجد مشكلة فيْ استخدام ذراعيه بدلا من قدميه ، إن كان سيخرج من هذه العتمة فيْ النهاية فلا بأسَ بأن يُجرح جسده أو أن تعانق قطرات الغبار أنفه ! ..
لمْ يكنْ الأمر مستغربا جدَّا بالنسبة إليه بل كان مفاجئا وللغاية ، لقد سُجنَ بغرفة خانقة ومعدمة أيضا تفوح منها روائح عجز عن تحديد ماهيتها ، لمْ يتوقع بأن تكونَ تلك الغرفة جزءَّا منْ هذا المنزلِ : أرضية المنزلُ خشبية ، هنالكَ مطبخ و ردهة وسلالمْ تؤديْ إلى الطابقِ العلويْ وأخرى إلى الطابقِ السفلي – القبو – حيثُ أمضى ساعاته الخانقة مسجونا هناك .
صحنٌ من الحساءْ و آخرٌ يحتويْ بعضِّ من الخبزِ المحشوِّ وأخيرَّا كوبٌ من الماءْ ، بقيَّ يتطلعُ إلى الطعامِ أمامه على الطاولة بينما يريح جسده على أحد الأرائكِ فيْ الردهة ، جزَّ على أسنانه لوهلة بينما لمْ يستطعْ إبعاد عينيه عن طبقِ الحساءِ أمامه ، لم يقمْ بتناوله منذ وفاة والدته لأنه لايريد أن ينسى طعمه الذيْ بقي عالقا فيْ ذاكرته ، هذا بالفعل لا يطاقْ أبدا ! ..
حاول تجاهل ذلك الأصلع الذيْ جلس بقربه على أحد الأرائك هاتفا بينما لم تفارق عينيه ملامح الشابِ الكسير أمامه :
هيا كلْ ، لا تعتقد بأنك ستأكل طعاما أفضل من هذا مدة إقامتك هنا !..
رفع " جوليان " بصره نحوه يرميه بالقليل من النظراتِ المتسائلة المحتارة ، كيف له أن يصل إلى هذا المكان ؟ ماذا حصل لذلك الشابْ ؟ أين اختفى ؟ هل قامَ بالكذبِ عليه وتخلى عن فكرة مساعدته ؟! لكن لماذا قام بمساعدته ومنعه من أن يقضي على أنفاسه ؟ يحتاج تفسيرا لكل هذا ، تنهد ذلك الأصلع بشيء من العمق قبل أنْ يعودَ يتكلمْ بشيءِّ من الهدوءْ والحذر :
سأجيبك على جميع تساؤلاتك ، ولن أكون نزقا في الحديث إذا لم تقاطعني ! ..
هو لن يجرؤ على الحديثِ حتى ، يجبُ أن يفهمَ كل شيءِ وأيَّ شيء ، لم يُجبْ فشرع ذلك الرجلُ الغريب يشرحُ له كل شيءْ :
اسمع بقلبك لا بأذنك لأني لن أعيد كلامي ثانية فكما تعلم للجدران آذان .. أتبع بشيء من الصرامة هذه المرة :
لقد أحضرك " ويليام " إلى هنا قبل يومين وفي المساء ، لقد قال بأنك كنت ضحية أحد أفراد العصابات ، بعد ذلك كما ترى أمضيت ساعاتك هناك إلى حين نهوضك الآن ، قد تظن بنا أي شيء .. أشرار أو حتى عديموا الرحمة .. لكن لو كنا ننويْ بك الشر لكنا تخلصنا منك ولمْ نقم بالاحتفاظ بكْ حتى الآن ..
لمْ يحرك ساكنا ينظر إلى ذلك الرجلْ بشيءِّ من الهدوءْ ولمْ ينفعل بشأنِ معاملته كإحدى الجثث المرمية بالقربِ من مزبلة ربما ، هذا أول ما خطر فيْ عقله ، بقيت عينيه متعلقتين بذلك الأصلع الذي لم يجد بدا سوى من إكمال حديثه المؤلم بالنسبة إلى " جوليان " :
أنت لا تملك أحدا ولا شخصا يهتم أو يأبه لغيابك .. طُردت من منزل عمتك وتوفيت والدتكَ قبل عدة سنوات أما عن والدكْ فقد تخلى عنكَ منذ مدة طويلة .. استطعت الحصول على هذه المعلومات بسهولة لذلك لا تسأل ، أنت يا سيد سوف تكون مفيدا لنا بل وكثيرا ، أنت وحدك تستطيع القيام بالكثير من الأمور التي قد يعجز عن فعلها الآخرون ! ..
استطرد بشيء من الحرص والانفعال هذه المرة ينظر إلى الشاب أمامه غير آبه بأثر كلماته على مسامعه :
اسمعني جيدا ، نحن بحاجة إليك بحاجة إلى شخص مثلك يتصرف دون التفكير بالعواقب ، نحتاج لشخص فقد أحباءه وأصدقاءه و لن يهمه إلحاق الأذى بالآخرين ، أن يفعل أي شيء حتى ولو كان بتلك الفظاعة ، نريد شخصا لن يهمه إراقة الدماء أو الرصاصات ، لن يقرع قلبه بمجرد سماع صوت سيارات الشرطة ، يختفي كالشبح دون أن يخلف أثرا خلفه ، فكر جيدا ! ، ببساطة نحن نفعل ما يطلب منا وذلك لغرض واحد فقط وهو المال ، نفعل ما يطلب حتى وإن كان في ذلك خطورة ! ..
شعر بالدماء تغلي في عروقه لذلك فضل أنْ يهدأ قليلا ، لقد فوجئَ حقا بنظراتِ هذا الشابِ الذي لم تتغير منذ جلوسه و حتى الآن ، لا يبدو منفعلا لما قاله ولمْ يقاطعه للاستفسار عن أيَّة نقطة ، هل صدَّقت مسامعه ما قال بهذه البساطة ؟ ، هل تبدو كلماته سهلة فعلا ليبقى هادئا غير مهتم بمَ قال ، أم أنه لا يستطيع التعبير فقط ، نهض ذلك الرجل من مكانه ورمى بآخر كلماته له عندما هتف به قائلا :
تلك الغرفة احتضنت الكثير من الأشخاص أمثالك .. أشخاص فقدوا الحب والرغبة في الحياة ، كلُ ما أرادوه الموتْ فقط ، لذا فكرة شنقِ أعناقهمْ أو قطعِ معاصمهمْ لم تكن خطوة صعبة للقيامِ بها بالنسبة إليهمْ ، أعتقد بأن مقصدنا قد توضح بالنسبة إليك ولو قليلا لذا فأنا في انتظار إجابتكْ ! ..
عوضا من أن يجيبْ ويقطع الصمتَ الذي غرق فيه هذين الاثنين شرع فيْ التقاطِ بعضِّ من الخبز وتناوله بشيءِّ من الهدوءْ ،عاد يلتقط كأس الماء ليشرب ما فيه ، سرعان ما تحولت طريقته في الأكل إلى نهمِّ شديد متناسيا ذلك الرجل الذي ظلَّ يرقبه بصمتْ قبل أن يبستم بشيءِّ من الخفوتْ ويردف :
أحسنت الاختيار ! ..