عرض مشاركة واحدة
  #69  
قديم 04-25-2016, 07:44 PM
 



إنها نغماتٌ متتاليَّة ، واحدة تتبعها الأخرى ، لربما هيَّ مجرد أصواتٌ يسمعها البعضْ للتسلية فقط لكنه يجدُ نفسه يغوصُ بعيدا ، إنه يتناسى الكثير من الأشياء غالبَّا ، لقد كان كل شيء مثاليا ، العبقريُ الوحيدْ ، صبيُ العاشرة الذيْ يحرز المراكز الأولى دائما ، يحصل على الكثير من الجوائز ، الأصابع تشير إليه في غيرة واهتمام ، أحسَّ بأنه يملك الكثير حينها إلى أنْ بدأ يشعر بأنه لاشيءَ أمامَ ذلك الظل الذي بدأ يقتحمْ عالمه ليخبو نوره رويدا ، ما كان عليه أن يظهر ويسرق الأضواء منه ، بالرغم من أنه ما زال يحرز الكثير إلا أن ذلك الشخص يسبقه بخطوة دائما ! ، هو يعلمُ بأن اللقب الذي يحمله يساعده كثيرا إلا أنه ما زال يشعر بأنه لا شيء بدونه ، لو لم يكن من " براسيت " هل سوف يكون كذلك الشخصِ الذي صنع اسمه بنفسه دون الالتفات إلى اللقبِ الذي يحملُه ، أفرغ كومة المشاعر المضطربة في صدره حالما ضغط بأصابعه على كوبِ الشايْ بقوة ، منذ سنوات حتى الآن هو مريض بالغيرة منه ، في الوقت الذي توقفت فيه آلة التسجيل عن الدورانِ حتى بُتر صوتُ الموسيقى فجأة ، لمْ يكنْ ليشعر بكل هذا الضجر غالبا لو لم تظهر صورة ذلك الشابْ في ذهنه فجأة ، تمتم بشيءِّ من الغضبْ قبلَ أن يستدير سريعا ويرميَّ بكوبه " جونز " الذي استطاع النفاد بجسده من حرقِّ كاد يتوسمه ، ابتعدتْ أصابعه خلسة منْ على المسجلْ فيمَ سارع في الوقوف والتقاطِ أنفاسه علَّه بذلك يستطيعُ ترتيبَ بعض من الكلماتْ لتنقذه من سيده الساخط ، لا تزال ملامح " إيرل " منقبضة على نحو عجيبْ وكأنه تلقى قرارا بإقصائه قبل لحظاتْ ، وقبلَ أنْ ينفجر بالخادم المرتجف أمامه فوجئَ به يستطردُ بلا إذن وبقليل من الخوفِ ، قال : معذرة منكَ سيدي لكنْ .. هنالك شخصٌ يطلبُ رؤيتكَ !..


بطبيعة الحال لمْ يكن ليتكلمَ بشكلِ سوي والرغبة في قتله واضحة في تلك الأعين الحاقدة عليه ، استطاع " إيرل " السيطرة على أعصابه في الوقت الذي طرقت فيه كلمات السيدة " لورينز مسامعه ، تحفزه وتخبره بأنه الوحيد الذي استطاع قلب الموازينْ منذ أن أصبح جزءَّا من العائلة ، ينظر إلى الحالة الغريبة التيْ أصابت سيده فَ قبل ثوانِّ فقط كان يوشك على حفر قبره بيديه لكنه الآن يُظهر ملامحا هادئَّة أُنهكت من كثرة العملْ ، مازال يحتفظُ بانطباعه الأول عنه مجردُ شيطان بشري ، يستمتع في ممارسة تسلطه على الغير و برؤية الآخرين يعانون ، تنفس " إيرل " بعمق ليجلسَّ على أحد الأرائك محررَّا أزرار قميصه بأصابعه ، لمْ يكن يرغبُ برؤية أحدِ الآن خاصة في هذه اللحظة بالذات ، لا بد وبأنه شخص متملق لا أكثر ، وقبل أن يخبر " جونز " برغبته في صرف ذلك الزائر بعيدا حتى وجد نفسه ينظر إلى رجل خبَّ بريق عينيه واختفيْ حيثُ أبدت ملامحه تعبيرَّا بائسَّا جعلته يبدو كمن يحملُ همَّوم الدنيا كلها فوق رأسه ، ملابسه غير مهندمة رغمَ أنه يرتديْ بذلة عمل عادية ، استطاع " جونز " أنْ يعرفَ من النظرة الأولى أنَّه يوشكُ على الانهيار لولا تمسكه بخيطِّ من الأمل لاح على ملامحه اليائسة ، وبقليلِّ من الشجاعة استطاع ذلك الرجلْ أن يرفع بصره صوبَ من يجلسُ على الأريكة مقابلا له ، لا مباليَّا ، متململا في جلسته ، حيثُ بدى مغايرا لحالته قبل ثوانْ ، لم تبدو على تعابيره الاهتمام بهذا الضيف صاحبُ الزيارة المفاجئة ، بدت عروقه تنضح بالنبضِ باندفاع ولاحتْ عظامُ صدره بالعلو والهبوطْ في عملية تنفسِ سريعة ، بعض من الأنين الضعيف قبل أن يستطيع الهتاف بقليل من الكلماتِ التي سببت له ألما وُسم في صدرِهْ : لمْ أتخيل بأننيْ سأوضع في مثل هذا الموقفِ ، اعتدتُ دائما على العمل لوحديْ بدون تدخل من أحد ، أجل .. أنا ذلك النوع من الأشخاص الذيْ يفضل السير وحيدا وسط غابة معتمة ، اعتقدتُ بأننيْ وصلتُ إلى درجة احترامِ الجميع ليْ ، قمتُ بتكوين عملِ ، أصبح لي أبناء وعائلة ، منزلٌ خاصْ ، حياةٌ كاملة ، اعتقدتُ بأنني امتلكتُ كلَّ شيءْ إلى أنْ ..


اجتمعتْ الكلماتُ في حنجرته وظنَّ بأنه أخرسَ كليا لولا أنه أصبح قادرا على التنفسِ بصوتِّ مسموع ، قبضَ على أصابعه بقسوة حال تذكره لبسمة طفلته الصغيرة قبلَ خروجه من المنزلْ وحين يفكر بأنه قادمٌ لرؤية هذا الشابْ يشعر وكأن غمامة سوداء تحل عليه لتصرع أحلامه أمام عينيه ، مالذي توقعه من حفيد السيدة الأولى ؟ .. لا شيء لم يكن يجدر به أن يتخيل كفيه تمتدان إليه لتنتشلاه من حالة البؤس التي يعيشها ، هل بالغ في تخيلاته يا ترى ؟ ، انتفضت حواسه في الوقت الذي التقطت فيه مسامعه عبارة الشاب القابع أمامه : إنَّكّ وقحٌ فعلا سيد " مانويل " ! ، ألا تعتقدُ ذلك ؟! ..
ارتفع بصره صوب " إيرل " الذي احتوت القسوة تعابير وجهه إلا أنه بدى هادئا في جلوسه ، الحقد ربما يكون هو سبب لمعان عينيه ، وبجبين يلمع ابتلع السيد " مانويل " ريقه بصعوبة واضحة فيم ارتجفت مقلتيه في قلق واضح وكأنه على شفا حفرة الجنون ، هتف بصوت تجلى فيه البؤسُ الشديْد : لمْ أكنْ لأجرؤ على ذلك لو لمْ أعلمْ بأننيْ على وشك الإفلاس ، كل أموالي ضاعت مني ، أنا هالك لا محالة ، لذا .. لذا .. هرع يجثو على الأرض بلا حول أو قوة بينما يمسك رأسه بكفيه هاتفا : لم أعد أستطيع الاحتمال ، الكوابيس تراودني كل ليلة ، من فضلك فكر في الأمر مليا ، تعلم بأنني أملك عائلة لأعيلها ، طفلتي .. طفلتي ..


ظهرت عقدة منزعجة في حاجبي " جونز " حال رؤيته ل " إيرل " مفتقر الأخلاق ، ألا يجدر به أن يهرع مجيبا له ، مهما فعل هو لن يستطيع فهمه أبدا ، وجب على السيد " مانويل " التفكير ألف مرة قبل أن يطلبَ المساعدة من هذا الشخصْ ، تلك البرودة حول قلبه تمتنع حتى عن لهيبِ مشاعره ، يا لقسوته ، تنفس " إيرل " بشيء من القوة وبدى الانزعاجُ واضحا على قسماتِ وجهه هذا المرة إذ أنه وبدون أن يعطي الفرصة للرجل أمامه هتفَ بنبرته المتعاليَّة : أمثالكَ من الأشخاصْ لا يصمدون طويلا ، يُفترضُ أن تتعلمْ من الدرسِ الذي أعطيتكَ إيَّاه ، اُغربْ من هنا فحاجتك ليستْ عنديْ ولا تفكر بالقدومِ مرة أخرى لأننيْ حينها لنْ أجعلكَ تحملُ قرشًا واحدَّا في جيبكْ .. أتبع بأسلوب تعمَّد الوقاحة فيه : أملاكك وثرواتك التي كنت تتباهى بها سابقا ستصبح جميعها من ضمنِ ممتلكاتيْ ، الأثاث والقطع النفيسة باهظة الثمن إلا الخدم أخبرهم بأن سيدهم الجديد يرفض رؤيتهم فلست أرغب بتدنيس أموالي في النفقة عليهم بعد أن كانوا يعملون تحت إمرتك ..
تبسم بشيءِّ من السخرية قبل أن يردف بذات القسوة متجاهلا وطأة كلماته الموجعة : أنتَ بالفعل عديمُ الأخلاقْ ، بعد أن شعرت بأنك على وشكِ الانهيار بدأت تبحثُ عن من يمدُّ لك يد المساعدة لدرجة أنَّكَ توسَّلت من بصَّقت في وجهه يوما ، لن أنسى ذلك ما حييتْ بل وسأجعلك تدفع الثمن غاليا ، هيا اُخرج من منزليْ ! ..


هل كان زلزالا ؟ ، استغرق " جونز " القليل من الوقت قبل أن يعرفَ بأن من ينتفضَ هو جسد هذا الرجلْ ، لابد وبأنه تحامل على نفسه كثيرا قبلَ أنْ يفكر بالمجيء ، قشعريرة غريبة استولت على " مانويل " جعلته ينتفض من مكانه سريعا وكأن تلك الكلماتِ كانت بمثابة طعنات تصيبُ تطلعاته التيْ أفنى عمره من أجل الوصول إليها ، قوة غريبة جعلته يقفز واقفا وقبل أن يستدير " إيرل " له حتى شعر بأصابع غليظة تُحكم على عنقه بقسوة مانعة إيَّاه من التقاطِ أنفاسه ، خُيِّلَ إلى " إيرل " بأن هذه الأصواتْ هيْ أنفاس الرجل المتهدجة وتلك النغزاتِ الحادة ما هيَّ إلا منْ عينيه اللتين كادتا تدميانه ، راح ذلك الرجل يهتفُ بعدة كلماتِ متوعدة لم يستطع " إيرل " فهمها بسبب انفعاله الشديد ، صرخَ جانبُ وجهه مستنجدا في اللحظة التيْ رحبَّ بها بقبضة ذلك الرجل بحفاوةْ ، إلا أن أمنيَّة " مانويل " في إيساع " إيرل " ضربا لم تتحقق بسبب ذراعيْ " جونز " اللتين راحتا تمسكانِ بجسد الرجل جاذبة إيَّاه للخروج و ليمنعه منْ ارتكابِ جريمة في حق سيده بالصغير ، بالرغم من أنه سيكون سعيدا لو رأى لصاقات الجروح على ملامحه المغترَّة المزعجة ، تنفس " إيرل " بعمقْ قبلَ أن يرميْ بجسده على الأريكة خلفه محاولا التقاط أنفاسه ، ضغط على شفتيه بقوة قبلَ أن ترتفع كفيه ممسكة برأسه في الوقت الذي أحسَّ فيه وكأن وخزاتِ من الإبر تغرس في رأسه حتى أنه بدأ يشعر ببصره يضعف قليلا ، مموها ، من غير المعقول أن تعود حالته السابقة ، فهو قد استطاع النجاة بأعجوبة ، عليه أن يحارب ليبقى واعيا ، لا ، لن يسمح لنفسه بأن يعود للعيشِ كما السابق ، لا مزيد من الدموع والصراخ لقد تخلص منهما بعد جهد جهيد ، كل ما عليه الآن ألا يجعل عينيه تغمضانْ ، إلا أنَّ لحظاتُ الألم تلك لم تمنعه من سماع هاتفه الذي اهتز بجانبه .. فجأة !..





لُندُنْ


صحيحٌ بأن الأيام الأولى كانت بمثابة العلقمِ على " جوليان " إلا أنه و بالتدريج أصبح معتادا على ما يجري هنا ، اكتشف بأن هذه الحياة ليست كما تمناها أو كما اعتقد في البداية أنها سهلة و سيستطيع التأقلم معها بكل سهولة ، بل على العكسْ هي تحتاج إلى كثير من الجَلَد والصبر ، لو فكر فيْ الأمر فسيجد بأنها ليست كحياته مع عمته فتلك الأيام كانت جحيما عليه ! ..
تحكم هذا المكان قوانين عدة ويتوجب عليه الالتزام بها إن كان يريد الحفاظ على ذلك الشيء أعلى رقبته بحسب تحذيرات السيد الأصلع " دوين " ذاك المزعج ، لم يستلطفه " جوليان " مطلقا أو بالأحرى لا يستطيع فهمه فبالرغم من أنه مرَّ أسبوع على مكوثه معه في ذات المنزلْ إلا أنَّه لا يعرفُ لمَ تقلبات مزاجه سريعة هكذا ، فأحيانا يكونُ كأيِّ أصلعِ عاديْ و نادرا ما يكون شخصا لطيفا وغالبا يًصبح ذلك الرجلَ الغامضْ ، آوه ، ذلك مرهق فعلا ، عليه أن يراقب علائم وجهه قبل التحدثِ معه ليعرفَ بأيِّ حالة هو !
القوانين المرهقة كالتالي : يجبُ عليه النهوض في الساعة الثامنة تماما ، أطباقُ الإفطار تكون فارغة ولامعة عندما ترسم عقارب الساعة الثامنة وخمس وثلاثين دقيقة ، بعد ذلك يقوم ببعض الأعمال الشاقة التي لا يعرف إن كان هنالك نفع منها ، يتوجب عليه إحضار ماء من بئر يبعد مسافة لا بأس بها عن المنزل ولذلك يتوجب عليه إهدار سبعة وعشرين دقيقة في الذهاب و أخرى في الإيَّاب ، ثم يتسلق بعضا من الأشجار القريبة ولكم يكون القفز من واحدة لأخرى عملا مرهقا بالنسبة إليه ، فعضلاته ليست بتلك المرونة فعلا ! ..
الأهمُ من هذا و ذاكْ هوَّ لمْ يمسك أو يلمح آلة للقتل في المكان ، بدأ يفكر منذ مدة أنهم ربما ينتظرون حتى يشتد قوامه ويصل إلى نصف ما يتحلون به من قوة ، ولكنه يرى بأنه قطع شوطا لا بأس به فالألم الذي يشعر به في جسده يعتبر إشارة و علامة جيدة ، حتى أنه بات يشعر باختلاف كبير ، تنفسَّ بشيءِّ من العمقْ قبلَ أن يرميَّ بجسده جالسا على الأرضية الصلبة ، هذا غير معقول ، تدريبات متواصلة ولا وقتَ مستقطع للراحة ، أفرج " جوليان " عن العديد من الأنفاسِ المتقطعة سريعا خشية أن يراه " دوين " لتؤلمه حرارة كلماته اللاذعة قبلَ أن يُتوسم ظهره من ذلك السوطِ الذي لا يغادر أصابعه !..


لمْ يكد يرفعُ كفيه نحو رأسه حتى تجمد في مكانه ولم يعد قادر على الحراك ، لماذا ؟ ، لماذا تسري تلك البرودة العجيبة في أطرافه ؟! بلْ لَِم سُلبَ القدرة على التفكير ؟! ، لقد تدربَ أيَّاما عديدة وساعات متواصلة فقط حتى يستطيع إمساكه بين أصابعه فلماذا يخافُ من صوته الآن ؟ ، صوته بدى أكثر قربا منه ، أدار رقبته يسارا وبتوجس أنزل بصره إلى حيث تستقر الرصاصة قرب ساقه اليسرى حيثُ تبعد مسافة إنشات بسيطة عنها ، ابتلع ريقه بصعوبة ، حالما التقطت أذنيه صوت الزناد خلفه ، كمن لم يجرب الحياة كمن يتشبث في آخر أمل له ، ارتجف " جوليان " وبدأ يتخبط يمينا وشمالا بمحاولات بائسة في التخلص من سيل الرصاصات التي صُوبت نحوه من مجهولْ ، مالأمر ؟ مالذي يجري معه ؟! ألمْ تجدي تدريباته السابقة نفعا ، ألا يُفترضً به الآن أن يهبَ واقفا ويتفادى تلك الرصاصات بمهارة بدلا من أن يتلوى على الأرض كسلحفاة أضاعت طريقها ، غير معقول ، لا يستطيع أن يصدق ، بعد أسبوع مضنِّ من التدريب والعمل الشاقْ لم تثمر جهوده بل وكأنه لمْ يتعلم القفز بمرونة من مكانِّ لآخر ، هذا مرعبْ ، الخوفْ ياله من شعُور ، من شأنِه أن يجعل قلبه يرتعد وكأن تنفسه على وشك الانقطاع ، تصلب في مكانه منبطحا على الأرض يحتضن قدميه إليه بينما يرفع ذراعيه ليحيطها برأسه ، فلا فائدة ترجى من لوم نفسه الآن ، إن كانت تدريباته لم تثمر فليستسلم وحسبْ ! ..
شيء غريب ، في الوقت الذي توقف فيه عن الحركة حتى توقفت معه أيضا تلك الرصاصات الطائشة ، يغمض عينيه بقوة خشية أن تخترق رصاصة غادرة ظهره ولكن لم يحصل شيء بعد مرور أكثر من ثوان ، التقط العديد من الأنفاس الضائعة قبل أن يرفع جسده ببطء ويزحف عدة خطوات للأمام إلا أنه وفور أن فعل حتى أطلقت رصاصة قريبة منه ، أطلق العديد من الشهقات الفزعة قبل أن يعود إلى حالته السابقة ، فزعا و خائفا مترقب لما قد يحصل لاحقا ، أفلتت تلك الضحكات المستمتعة من خلفه وقد بدت أكثر قربا كذلك خطوات شقت طريقها نحوه ، توقف عن تلك الأنفاس اللاهثة في الوقت الذي شعر بقدم أحدهم تضرب ظهره برفق فيم هتف صوت رجولي من خلفه بشيء من السخرية : لا أستطيع التصديق ! ، هل أنت المتدرب الجديد ؟ أنت حتى فقدت قدرتك على الوقوف قبل لحظات ! ..


انتصب " جوليان " من مكانه جالسا قاصدًا بذلك إبعاد قدم الأحمق من على ظهره ، أغمض عينيه ببطء قبل أن يرفع كفَّه ويتحسس قلبه ، ذلك جيد ، لا يزال ينبض ولم يسقطْ من مكانه ! ..
عادتْ أذنيه تلتقط تلك الضحكات الساخرة من خلفه ليدير جسده صوب الشخصِ الثانيْ والذي تطاول عليه بإهانته بهذه الطريقة ، رفع رقبته وهوَ ينظر لشخصِ طويل القامة تظهر عروق رقبته بارزة أسفل قميص صيفي أسود غير مزرر ، كما لو أن لون العسل و سواد الليل اتحدَّا بانسجام لتظهر مقلتيه الماكرتين بهذه القتامة والخبث ، يتناثر شعره متفاوت الطول حول ملامحه الإنجليزية شديدة الحدة ، تنفس بعمق قبل أن ينزل بصره إلى حيث تستكين تلك الآلة المريعة بين أصابع كفه بسهولة وكأن تلك الذراع اعتادت ثقله ليصبح جزءا منها ، تراجع ذلك الشاب – المريب – للخلف عدة خطوات قبل أن يرمي بالمسدس جانبا ويدخل كفه في جيب سرواله البلاتيني الطويل ، حدق " جوليان " فيه ببلاهة ولم يخطر له أن ينهض وينفد بجسده فقد يفكر هذا الشاب بترويعه مرة أخرى ، لكن ذلك لم يحصل ، قبض " جوليان " على ذرات التراب أسفل كفه بقوة عندما سمعه يهتف بنبرة خلت من الرفق واللطف ، نبرة لا تحمل للإنسانية معنى ، ربما يكون فحيح الأفعى هو الأقرب لها ، عاد ذلك الشعور المرعب يخط طريقه صوب قلب " جوليان " معلنا بذلك بدء سيمفونية أرهقته ، بدأت أنفاسه تعلو مع ارتجاف شفتيه أسفل مقلتيه التي راحت ترتعد خوفا من الشيء الواقف أمامه ، لقد تجاوز لقب " القاتل " بمراحل ، إنه .. إنه " وحش بشري " ، فلا أحد يملك هذه الملامح سوى شيطان لا تعرف الرحمة طريقها إليه ، انتفض جسد الشاب الواقف أمامه فور أن أشهر بوجهه خنجرا التمع إثر سقوط أشعة الشمس عليه ، تبعه صوته الذي بدى كهدير مخيف على مسامعه : دائما هناك حل بديل لفشل التصويبْ ، أستطيع انتزاع ما أريد بهذا النصل الحاد ! ..


لقد ظن بأن نهايته عند هذا الحد و توقع بأن الوقت لن يكفي ليستذكر جميع الأشخاص الذين التقاهم بحياته حتى ولو كانوا يعاملونه بسوء ، عمته .. " إيرما " .. زملاءه في الجامعة كذلك معلميه وأيضا والدته ، ضغط على شفتيه بقوة في الوقت الذي أدار عنقه صوب اليمين ينظر إلى " دوين " الذي صاح بالشاب أمامه بأن يتوقف عن المزاح ! ..
ما حصل قبل قليل كان مجرد .. مزحة ! ، إنها مزحة قاتلة ، استدار الشاب الذي دعاه " دوين " قبل قليل ب " سكُوت " ليدخل النصل إلى جيبه مرة أخرى فيم انحنى ليلتقط المسدس الذي ألقاه جانبا وابتسامته الساخرة لم تغادر شفتيه ، بقيت عيني " جوليان " معلقتين على قدمي الشاب أمامه متجاهلا اقتراب " دوين " له ، فما حصل قبل لحظات أكبر من أن يتحمله ، ما هي إلا ثوان صامتة حتى أحس بصاعقة تضرب وجنته ، اعتدل " دوين " في وقفته وأعاد كفه إلى حيث كانت من قبل في جيبي سرواله ، هتف بصوت لا يقل شراسة وغضبا : كيف لأحمق مثلك أن يظل واقفا في مكانه بلا حراك ؟ أي جنون تلبسك ؟ ما فائدة تدريباتك المتواصلة طوال الأسبوع الفائت ؟ أخبرني ، لقد بقيت ترتجف كالطفل الخائف ؟ ، لا تنتظر المساعدة من أحد فأنت وحدك قررت أن تسلك هذا الطريق ويجب عليك أن تتحمل تبعات قرارك ، لا مكان للجبناء في منزلي ، إن كنت غير قادر على التحمل فعد لتعيشَ حياتك التافهة كما اعتدتها ، جبان لا نفع منك ! ..





مع هبوط وارتفاع صدر الأصلع " دوين " اتضح بأنه بذل مجهودا لا بأس به ، لكنه لا يزال مستغربا من طريقة تدبُّر" جوليان " للأمور فما يحصل الآن يذكره بلقائه الأول معه ، فبالرغم من أنه حدَّثه عن أمر جماعتهم السريَّة وعن أهدافها ومهماتهم التي تنتهي بالقتل غالبا إلا أنه بقي هادئا بل و تناول الطعام المركون أمامه ، حالته تلك كالآن تماما ، إنه يجلس بانتصاب على الأرض وبلا حراك أيضا ، ترتجف عظام كتفيه خشية فيم احمر باطن كفيه من كثرة الضغط عليهما ، الإهانات هنا تقدم إليه على طبق من ذهب وكالأبله عليه أن يستمر في تقبلها ، بلا دفاع أو هجوم ، عليه أن يبقى مذلولا مهانا غير قادر على المطالبة بحقوقه المسلوبة ، ابتلع الأصلع " دوين " ريقه سريعا فيم عادت بسمة ماكرة مفاجئة تخط طريقها على ملامح " سكوت " الذي ظل واقفا بصمت ينظر إلى " جوليان " الذي رفع بصره صوب من أسمعه كلمات لاذعة قبل قليل ، الرغبة في القتل واضحة ، لقد اختفى بريق عينيه وحلت القتامة مكانها ، لاشيء غير الغضب والحقد ، الرغبة في إبادة أي شيء قد يقف أمامه ، هذا ما خالج " دوين " المذهولْ من التغير الذي طرأ على هذا الصبيْ ، كل شيء واضح في عينيه اللتين تكلمتا بدلا من أن يُتعب لسانه في التفوه بكلمات لنْ تنفع ، وبصمت سلبي نهض " جوليان " من مكانه ورسمت خطواته المتثاقلة طريقا صوب المنزل راغبا بذلك الاختلاء في نفسه وربما عاودت تلك الفكرة السوداوية استحلال عقله مرة أخرى !


راقب " سكوت " ذلك الشاب الغريب وهو يغلق الباب خلفه بقوة لينتقل بناظريه صوب " دوين " الذي كان موليَّا إياه ظهره ، تنفس بعمق قبل أن يدس كلتا كفيه بجيبي سرواله ويهتف بلا مبالاة : لقد تساءلت عن السبب الذي جعل " ويليام " يولي اهتماما كبيرا إلى هذا الطفل حتى أنه جَعْلِهٍ ينضم إلينا ، لكنني الآن لم أعد مستغربا ! ..
ارتخت كتفي " دوين " للأسفل وهدأت أعصابه المشدودة فلوهلة اعتقد بأن " جوليان " قد ينقض عليه ، وبظرفِ مفاجئ رسم ملامحَّا سعيدة مطمئنة على وجهه جعلت من تجاعيده المختفية أكثر بروزا ، ليظهر صوته الفخور بكلمات قليلة : كنت أعرف بأن هذا الصبي مختلف فهو وقبل كل شيء يمتلك رغبة ونزعة قوية في داخله ! ..
__________________
سبحان الله وبحمده
سبحان الله العظيم

Sleeping Beauty | Ghasag

التعديل الأخير تم بواسطة غسَقْ | ; 04-25-2016 الساعة 08:00 PM
رد مع اقتباس