ليس كذلك ، لمْ تعتقد بأن الأمر سيُصبح جديَّا إلى هذا ، الأمر الذي هيَّ آسفة بشأنه ، ذاك الذيْ ستبقى نادمة عليه ما دامت على قيد الحياة ، هو بأنها سمحتْ لأولئك الأوغاد بمعاملتها بهذه الطريقة ، لقد أصبحت الآن أشد بؤسا ، أشد حزنا ، تلك الكلمات المؤنبة المزعجة لم تعد تؤثر بها فعليا وإن كانت تستشعر وقعها أحيانا ، كلمات الدلال المفرط التي اعتادت سماعها سابقا تفتقدها بشدة وإن كانت سئمت سماعها ذلك الحين ، الاستمرار بالعيشِ في هذه الطريقة غير مجدِّ ، والموتْ ليسَ السبيل الوحيد للخلاصْ ، الأثر الذيْ خلفته تلك السكين الحادة على معصمها لا يزال واضحا ، لقد ظنتْ بأنها لن تفتح عينيها مجدداولكنْ و ياللأسف ما أبصرته حقا حينها هوَ ضوءُ مصباحِ إحدى الغرفِ فيْ المشفى ، لمْ تجرؤ على الموت ، ولم تجرؤ على الهرولة إليه بنفسها ، إنها حقا فيْ وضعِ ميئوس ولا تُحسد عليه البتَّة ! ..
جذبت الكثير من الأنفاس ثم قبضت على طرف ثوبها المتسخ بينما تنظر إلى مائدة الطعام العامرة في أحد الغرف ، يوجد عليها الكثير من الأصناف الشهية و لربما بعض من قطع الكروسان الساخنة التي تفضلها قد تسكت جوعها لوهلة ، التمني وعيش الأحلام لن يعود إليها بالنفع ، فالواقع يخبرها بأنها لن تكون فردا من هذا المكان على الإطلاق ، تحدق إلى تلك الأفواه الجائعة التي باتت تلتهم الطعام ببطء ، تستمع بمذاق كل شيءْ تأكله حتى الماءْ ، وتتساءل إن كان ذلك من أجل إغاظتها فقطْ ، لوهلة ما انغمس ذانك الاثنان في الحديث ، ومضمونه لم يكن مهما بالنسبة لها ، فكل ما تريده بصدق الآن أن تجلس ، لا تملك الطاقة للوقوف على الإطلاق ، ما حدث بعد ثوانِ قليلة هوَّ ما أخَّر أمر سقوطها مغشيا عليها ، فلو لمْ تسمع صوت الهاتف يصدحُ في الرواقْ لعانقت الأرض بلهفة شديدة ، بتكاسل وخطواتِ ثقيلة راحتْ تتحرك صوب الهاتفِ الأسود على منضدة قرب أحد الأبواب ، استندت على الجدار بكفها وانتشلت الكثير من الأنفاس الضائعة علها تستعيد القليل من رشدها ، أحاطت بأصابعها سماعة الهاتفْ و هتفت فيم تشعر بدوائر ألم أعلى رأسها : صباح الخير ، هنا منزل السيد " أودريك " ! ..
لم تنتظر من الوقت الكثير حتى جاءها صوت منضبط بكلمات مسترسلة : صباح الخير ، معكِ الخادمُ الشخصيْ " جونز " للسيد " براسيت " .. بعد ثوانِ بسيطة من الصمت أتبع : هل يمكنكِ إخبار السيد " أودريك " بأنَ السيد " براسيت " يعرضُ قدومه بنفسه لتناول الإفطار برفقة أفراد العائلة الآن ، سيكونُ موجودا خلال ثلاثين دقيقة على الأغلبْ ! ..
عنْ أيِّ دوار كانت تتحدث ، لا تدريْ لمَ الألم الذي عانت منه قبل لحظاتِ قد غادرها الآن ، ضيفُ البارحة قادمٌ اليوم أيضا ، الفرصة التيْ فقدتها في التحدثُ إليه عادت إليها مرة أخرى وبصورة أسرع مما تتوقع ، لسبب ما ترغب في أن تمضي هذه الدقائق الثلاثون حتى تراه مجددا ، حينها فقط .. فقط ستستطيع التخلص من حياة الذل والخضوع ، ضربات قلبها تشتد وارتعاش ساقيها يتزامن مع عقرب الثوان في الساعة ، تتمنى من كل قلبها ألا تصاب بالخيبة ، تتمنى أن توفق بالفعل هذه المرة ، وقفت بالقرب من غرفة المعيشة حيث يتناول الاثنان إفطارهما في هدوء ، لم تأبه لنعت " بيرناديت " لها بالوقحة إلا أنها أجابت على سؤالها الذي يتعلق بهوية المتصل ، ضغطت على أصابعها بقوة ، فيم تتنفس بعمق وحرصت على أن يظهر صوتها واضحا دون رجفة : السيد .. السيد " براسيت " قادم لتناول الإفطار هنا ..
لوقع المفاجأة عليهما ، المكان حول المائدة أصبح خاليا ، فالسيد " أودريك " عاد نحو غرفته لتبديل ملابسه بينما بقيت " بيرناديت " تتحرك في مكانها كقطة مذعورة تتفقد أواني الطعام بعينيها إذ أنها وحينما سئمت هذا الوضع صاحت بشدة وهيَّ تهرول صوب غرفتها : اسمعي ، اجلبي المزيد من الطعامْ من المطبخ .. أتبعت فيْ ضجر واضح : لو كنتِ تجيدين الطبخْ لأجبرتكِ على صنعِ المزيد أيضا ! ..
بصدق ، لم تسمع ماقالته كليا ، فهما ليسا الوحيدين المتفاجئين ، فحتى هي تكاد تعجز عن وصف الشعور الذي تفجر في داخلها ، رفعت كفها تتلمس أطراف رقبتها بأصابعها ، السعادة التي تشعر بها الآن هل ستنقلب ضدها بعد لحظات ؟ ، ماذا لو جاء لإلقاء التحية فقط ؟ ماذا لو لم تسمح " بيرناديت " لها بالحديث معه وبقيت ملتصقة به طوال الوقت ؟ الأسوأ من هذا وذاك ماذا لو صدَّقَّ بالفعل أنها خادمة ولمْ يُكلف نفسه عناء الحديثِ معه إنْ هيَّ استطاعتْ التكلم معه ؟ ، رباه ، كل ما عليها فقطْ هوَّ أن تضبطَ أعصابها وتبقى مترقبة ، فالفرصة التيْ ضاعتْ منها البارحة ستحرصُ على تعويضها اليوم ! ..
انتفضت من مكانها عندما استدارت سريعا صوبَ " بيرناديت " التيْ اقتحمت الغرفة بسرعة وفور أن رأتها متجمدة فيْ مكانها حتى باشرت العروقُ فيْ رقبتها تظهرْ ، لاشك وبأنها غاضبة الآن ، خاصة عندما نظرت إلى أطباق الطعامِ على حالها ، ولكيْ تنفد بجلدها من تلك المفترسَّة حتى تحركت من مكانها سريعا ، تحمل الأطباق للمطبخ وتعيدُ ملء الجديدة بالطعامِ المتبقى ولحسن الحظِ لم يحتج الكثير من الوقت لتسخينه ، لاشك وبأن تلك السخيفة تعتقد بأنها تحولت إلى سندريلا بهذا الفستانِ البائسْ ، مالذي يميزه عن سابقه عدا اللون الأزرق فقط ؟ حتى خصلات شعرها الملتوية في نهايتها لم تمسها ، أغرقت نفسها بزجاجة عطر فرنسيْ وحرصت على أحمر شفاهها كثيرا ، بقيت شفتي " أوديت " ملتوية في انزعاج ، لقد بقيَّ القليل فقط وهذه المزعجة لن تسمح لها بالصعود لتبديل ملابسها الرَّثة هذه ، إن علم بأن ثوب البارحة هو ذاته ثوب اليوم هو بالفعل سيصدق بأنها خادمة ! ، تنهدت بحسرة وعادت تتمنى الخيرَ في دواخلها ، ماهيَّ إلا ثوانِ معدوداتْ حتى صدحَ صوتُ جرسِ الباب يعلو المنزلْ ، تحركت سريعا صوبَ الباب رغمَ مناداة " بيرناديت " لها فيبدو وبأنها هيَّ من كانت ترغبُ بفتح البابْ ، تجذبُ الكثير من الأنفاسَ وأصابعها تعانقُ المقبضَ فيْ هدوءْ تنتظر أنْ يُقرع الجرسْ للمرة لثانية ، وذلك ما حصل فعلا ، بسرعة أدارت المقبضَ وفتحت البابْ لتُحجَب أشعة الشمسِ عنها برؤية ذلك الجسد الطويل يقف أمامها ، تراجعتْ للخلفِ تسمح لأولئك الاثنان بالدخولْ ، لماذا لا تستطيع أن ترفع بصرها لا تدري ، كل ما تعرفه بأنها خائفة وتشعر بالذهول ، فلو أن تخميناتها السابقة كلها كانت في مكانها وتحولت الأيام القادمة إلى جحيم أشد وطأة ، لو أنها بقيت تعيش في علِية باردة ولا تتناول إلا بقايا الطعام قد تفكر بالموت فعلا ، ولن تخاف شيئا هذه المرة ! ..
أفلتت شهقاتها بغتة فور أن شعرت بضربة خفيفة أسفل كتفها ، تنبهت ل " بيرناديت " التي التقطت المعطف من بين أصابع " إيرل " وناولته إياها سريعا ، حاولت ألا تشعر بالحرج ، لاشك وبأنه ارتاب في أمر من تحدق بالأرض تاركة كفه معلقة ، تنفست في عمق فيم استدارت بسرعة وقامت بوضع المعطف على الجدار قريبا من الباب ، تحركت بسرعة صوب غرفة المعيشة فيم تتلمس أصابعها مكان قلبها ، وتتمنى لو أفلحت أصابعها في ترتيب خصلات شعرها المبعثرة المتفاوتة ، وقفت قريبا من الباب تنظر إلى الثلاثة الذي جلسوا قريبا من بعضهم فيم وقف شاب ما خلف أريكة " إيرل " وبدى بأنه خادم فعلا ، بدأ الأخير الحديث في بسمة متملقة وعبارات منمقة كعادته : لكوني عديم الذوق وجئت بدون موعد مسبق أتمنى منك أن تغفر لي وقاحتي سيد " أودريك " ، آنسة " بيرناديت " ..
لم تترك الأخيرة المجال لوالدها بالحديث إذ أنه اندفعت وبشكل سريع نافية : مالذي تعنيه " إيرل " ، إنه بالفعل لشرف لنا أن نستقبلك في منزلنا ثانية ..
وافقها السيد " أودريك " بإيماءة بسيطة فيم هتف بشيء من السرور : ما قالته " بيرناديت " صحيح ، كما أنني أتمنى أن نتعرف على بعضنا أكثر من ذلك ، أصدقك بأن أحاديثك المرة الماضية نالت على استمتاعي ، إنكَ بالفعل فريدٌ من نوعكْ ! ..
تبسم " إيرل " بشيء من الهدوء كعادته قبل أن يجيب وينظر مباشرة إلى الفنجان أمامه : سأعتبرها مجاملة منك ، فهذه ليست المرة الأولى التيْ أسمعها ! ..
لإزالة الرسمية التيْ اتخذها " إيرل " طريقا فيْ حديثه طلب منهما السيد " أودريك " البدء بشربِ الشايْ ، ولكم كانت نظرته صارمة إليها حينما أشار لها بطرف رأسه لتملأ لهم أكواب الشايِّ خاصتهم ، إذا لقد حان دورها ، تنفستْ بعمقْ قبل أن تقترب من مكانِ جلوسهم ثمَّ تنحنيْ لالتقاطِ إبريق الشايِّ الساخن ، ارتعاشات أصابعها لم تعد قادرة على التحكمِ فيها ، إلا أن الأمر مرَّ بسلامْ ولم تسقط قطرة واحدة خارج الفنجان ، عندما انتهت من ملءِ الفنجان الخاصِّ بالضيفِ حتى سأل في استغرابْ : ألا تأكل الآنسة ؟
راحتُ تتطلع إليه باستغرابْ إن كان يقصدها أمْ لا ، وبالفعل كان ، إذ أنه يرمقها بعينيه متسائلا ، لم تعرفْ ماذا تفعلْ إذ أنها بقيت تحملُ إبريقَ الشايَّ فيْ اضطراب و تنظر إليه بريبة كبيرة ، مالذي يعنيه بذلك ؟ ، لمْ تكن قادرة على الرد بسبب " بيرناديت " التيْ تدخلت في الحديث هاتفة : إنها خادمة ، لا يستطيع الخدمُ الجلوسَ مع أسيادهمْ على المائدة ! ..
فور انتهاء جملتها حتى شعرت بألم فظيع داخل صدرها ، ليس الأمر وكأنها لم تستمع إلى عبارات أشد وقاحة من هذه ، لكنها لمْ تفضل أنْ تُنادى بهذه الطريقة أمامه ، أعاد فنجانه على الطاولة أمامه إذ أنه رفع بصره صوب " بيرناديت " وهتفَ بشيءِّ من الهدوء : هل هي كذلك فعلا ؟ ، أعني لو أنها ارتدتْ ثيابا غير هذه الثياب ما كنت لتدعينها بذلك ، ثمَّ ذلك لا يعطيك الحق في معاملتها كعبدة لا خادمة ..
مالذيْ يحاول الوصول إليه لبدءِ هذا الوضع الغير مريح ، إنه لا يبدو كضيف راغب في تناول الطعام والرحيل بصمت ، استطاعت ملاحظة ملامح " بيرناديت " التي بهتت فجأة ، فيم بقي السيد " أودريك " جالسا في مكانه يرتشف فنجانه في صمت وكأنه بذلك يحاول ضبط أعصابه لا أكثر ، رطبت ريقها قبل أن تهم بوضع الإبريق على الطاولة وتستقيم هاتفة في هدوء مباغت : ليس الأمر كذلك على الإطلاق ، على كلِّ تمتع بطعامكْ سيديْ !
لمْ تكن لديها الرغبة في الدفاع عنهما ، هي لن تكذب وتقولَ بأنهما أحسنا إليها يتوفير هذا المكان بخسا ، عادت إلى مكانها تقف بالقرب من الباب مستندة على الجدار ، فيم تحاول أن تهدئ من ضربات قلبها ، إنها خائفة ولن تنكر ذلك فساقيها اللتين لم تعد قادرتان على الوقوف أكبر دليل على ذلك ، رويدا بدأ الجو بين الثلاثة بالاعتدال ، ولسبب ما أصبحوا قادرين على إطلاق المزحات بينهم ، تكره الوقوف كتمثال دون حراك ، لا شك وبأن ذلك الشاب سيوافقها الرأي أيضا ، فكلاهما يقفان بصمت ، بلا حراك ، ينظران إلى نقطة معينة ولا يحيدان ببصرهما عنها ، هل لذلك المعنى ؟ لماذا يعامل الخدم بهذه الطريقة ، فهم أيضا يمتلكون مشاعرا ، لما لا يسمح لهم بالجلوس ؟ , بدأت تنبذ البقاء هكذا ، تتمنى لو تحدث معجزة الآن تخلصها مما هي فيه ! ..
__________________ سبحان الله وبحمده
سبحان الله العظيم Sleeping Beauty | Ghasag |