عرض مشاركة واحدة
  #78  
قديم 05-02-2016, 10:47 PM
 

لُندن ..



إنها الساعة الثانية عشرة والنصفْ ، لقد أُجبر على الخروج من العملْ ، ليس وكأنه منزعجٌ من الأمر فهو لطالما يتهربُ منه دائما بحثا عن بعضِ الراحة لذهنه المشغولْ ولكنه اليومْ ولأول مرة يجد نفسه متمسكًا بالبقاء ويتمنى منْ كل قلبه ألا تنتهيْ مواعيد مرضاهُ أبدَّا ، إنما ولسوءِ حظه لمْ يكشف سوى على مريضين دائمين له ، آوه إن الحظ لا يقف بجانبه هذه المرة فعلا ، تنفسَّ بشيءِّ من العمق علَّ الفراغ فيْ داخله يمتلئ ، أفرغ كل انزعاجه في قنينة الماء البلاستيكية بين أصابعه ليرميها تالفة جانبا قبل أنْ يشق طريقه لدخولِ مبنى رفيع المستوى ذائع الصيت ، انزعاجه بدأ يتزايد فهو يكره المواعيد المدبرة والتيْ تستلزم حضوره بنفسه وإلا فالآخرين من خلفه سينهشون عظامه ، احتواهُ المصعدُ الذي أصبح فارغا لتوه من امرأة مسنة وعدد من العاملين ، ضغطَ بشيءِّ من اللامبالاة على الطابقِ الخامسِ والثلاثونْ ، أفرجَ عن عدد من الأنفاسَ فور أنْ توقف المصعدْ وانزلقَ البابُ بانسيابية ، أخبره الضوءُ المنبعثُ من الطابقُ بأنه الآن صار بإمكانه أن يتنفسْ ويكف عن الأحلامْ فلم تعد تفصله عنهم سوى بضع خطواتِ قصيرة ، ذلكَ ما حصل فعلا ، بخطواتِ قصيرة مدروسة وجد نفسه يقفُ في آخر الرواق أمام باب بنيِّ عريضُ اللونْ أمامه ينتصبُ رجلين عريضيْ القامة ببدل سوداء رسميَّة كلاً منهما يمتلك من العضلاتِ ما يكفيْ ليكون مصارعا بدلا من حارسِ أمن ! ..



قبلَ أنْ يقومَ أيَّ أحد منهما بلمسه للتفتيش بين ثنايا ملابسه عن مسدس أو أيَّ آلة تعتبر قاتلة وقبلَ أنْ يسألاه عنْ هويته ، دسَّ أصابعه في جيب معطفه وأخرجَ منها بطاقته الشخصية ليضعها بخطِ مساويْ مع أعينهما التيْ راحت تتفقد حروف اسمه بدقَّة ، تبادل الحارسان النظراتْ قبلَ أن ينحنيَّ ظهرهما باحترام ثمَ يشرع الأيمن فيْ فتح البابِ له ، استقبلته رائحة زكيَّة جعلت من نفسه الثائرة تستكين قليلا ، أعادَ كفيه إلى جيبي معطفه قبل أن تطأ قدميه السجادة الفاخرة العتيقة وينشغل عن تأمل لوحات زينت جدرانًا تفوق صانعوها في تشييدها ،تجاوز زهرية ملونة ليقف أمام طاولة طويلة احتوت كراسيها على أربع من الأشخاص وفور أن رأوه حتى باشروا بتحيَّته ودعوتهم لهْ لمشاركتهم المائدة ، ردَّ عليهمْ تحيتهم باقتضاب بارد ، وتوجه للجلوسِ قرب أحدهمْ ، عوضا عنْ بدلهم السوداء المتشابهة راح يذكر نفسه بهمْ قبل أن يقع فيْ خطأ لا يُغتفر ، أول شخصِّ يجلسُ قباله على اليمين هوَّ تاجرٌ معروف السيد " آندرو " ، بجانبه يجلس صاحبُ الصيت الذائع السيد " لويس " مالك وكالة للإعلام ، بينما يترأس المائدة رجل ظهر الشيب في خصلات شعره رئيس شركات " جايسون " للشحن السيد " ستيفان " ، أخيرا ، ذلك الشخص الذي جلس هو قريبا منه السيد " كلايتون " الغني عن التعريف ، أبُوه ، حاول قدر الإمكان أن يضبط تنفسه ويتمالك أعصابه فهو بالفعل ليس معتادا على الجلوس مع أشخاص على شاكلتهم ، رفع بصره صوب من جامله ببسمة واسعة وهتفَ بنبرة مخمليَّة مرتفعة : لم أستطع التعرف عليكْ ، صدقا ، تبدو مختلفَّا عن آخر مرة رأيتك فيها .. لثانية فقط فكر السيد " لويس " قبل أن يردفَ مبتهجا : أجل كان ذلك قبلَ ست أو سبع سنواتْ ، لقد أصبحت مختلفا فعلا ! ..



جامله " إريك " ببسمة منمقة قبل أن يردف بشيءِّ من الاقتضاب : هل هو كذلك فعلا ؟ ، أتطلع لأكون عند حسن ظنكم ! ..
عانقت أصابع السيد " آندرو " الفنجان بين أصابعه ليبلل ريقه بالقليل من الشايْ فيمَ عاد السيد " لويس " يتحدثْ وقد أعجبه سلوك الشاب الجالسِ أمامه ، سأله هاتفا بترحاب : الشباب على شاكلتكَ قليلون فعلا .. راح يتحدث بشكل مبهم بينما لم تفارق عينيه وجهه : اعتمدت على نفسكَ وقمتَ ببناء شخصك بدون اللجوءِ إلى أحد حصدت على لقبِ العبقري بجدارة ، عملكَ كطبيب كانت خطوة مفاجئَة لنا جميعا ! ..
المغزى خلف كلماتِ هذا الرجلْ مبهم فعلا ، لماذا لا يستطيع هؤلاء الأشخاص التحدثُ بشكل مباشر فملامح وجوههم توحيْ بخلاف ما تنطقُ به ألسنتهم ، هل عليه أن يكون حذرا مع هذا الشخصِ يا ترى ؟ ، على كل هو لم يرتح لجميع الموجودين ومن ضمنهم والده با لطبع ،لقد قام بإخباره بنفسه ليلة البارحة بأن يجد لنفسه وقت فراغ هذا اليوم ولم يخبره بالسبب ، لو كان يعلم بأن الموعد المرتقب سيجمعه بهؤلاء الأشخاص لوجد حجة أفضل لغيابه أو على الأقل لارتدى بعض الثياب الملائمة ، أحاط بأصابعه كأس الماء أمامه قبل أن يرفع رأسه صوب السيد " ستيفان " ذاك الذي هتف بتساؤل غريب : ما قاله " لويس " صحيح ، لم نكن نعتقد بأنك ستقدم على تلك الخطوة ، معنى ذلك أنك لا تفكر في كونك خلفا لوالدك في الإدارة ؟ ..


تطلع الأربعة إلى إجابته إلا أنه لم يسرف الكثير من الوقت ، وبحركة مفاجئة أدار عنقه نحو والده وقبل أن يبدي الأخير التفاتة نحوه سأله بشكل مباشر : ما رأيك ؟ هل تريد أن أكون خلفًا لك ؟ ..
انزاحت قزحتي عيني السيد " كلايتون " لليمين يرسل لابنه القليل من الإشارات المحذرة فهو بالفعل لا يرغب في أن يحصل أي شيء أمام هؤلاء الرجال ، لكن " إريْك " لم يكن مهتما فعليا للجو المتوتر في الغرفة ، صحيح بأن سؤاله عفوي فعلا إلا أن ملامحه لا تميل لذلك ، ما هي إلا ثوان صامتة حتى التقطت مسامعه ضحكات الثلاثة حولهم ليرفع بصره تجاههم مبتسما لهم ، ليهتف السيد " لويس " ضاحكا : مالذي تقوله ؟ ، بالطبع هو يرغب بذلك ! ..
صوت طرقاتٍ هادئة على الباب تلاها دخولُ نادلٍ ما ، ينحنيْ برفق أمامهم ويهتفَ باحترام : المعذرة ، الطعام جاهزْ ! ..
تحرك فورُا للخارج فور أن أشار له السيد " ستيفان " بكفه ، دُفعت عربة معدنية مملوءة بالعديد من الأصناف الفاخرة ، انشغل اثنين من النوادل بالعملْ على ترتيب الأطباق فوق المائدة فيمَ التقط أحدهمْ إبريق الماءْ وانشغلَ بتعبئة كؤوسهمْ ، وحالما امتلأ قعر كأسِ " إيرك " بالماء حتى التقطت مسامعه صوتا رجوليًا لا مباليا : عليكَ أن تملأه .. ارتفعت زبرجديته ليرمق من يجلسً قبالته السيد " آندرو " ذاك الذي هتف وقد ارتفعت زاوية فمه اليمنى قليلا : يجبُ أن تكون عطشًا ، أيها الطبيب ! ..


صدقًا ، مالذيْ يتوجبُ عليه فعله فيْ مثل هذه المواقف ، خبرته في التعامل مع هؤلاء الأشخاص قليلة لذا هو يواجه صعوبة في تفسير تصرفاتهم كما أنه منذ البداية مرتابٌ في أمر من ظلَّ طوال الوقت صامتا إلا أنه يختلسُ العديد من النظراتِ إليه بين الحين والآخر ، لقد فطن له ولتصرفاته الغير مريحة ، فضل أنْ يصمت ويبتسم بتكلفْ وألا يشغل باله بأمور كتلك ، لقد انقضى نصف الوقتْ و موعد خروجه بات قريبا ، كل ما عليه أن يقضي على الطبق أمامه ، باشر الجميع بالأكل ، قام بتقطيع قطعة اللحم المشوي أمامه والتهم أول شريحة منها فيم استمع إلى هتاف السيد " لويس " المتعجب : هذا هو المتوقع منك " آندرو " ، اختيارك لكبير الطهاة في محله ، إن الطعم مذهل فعلا ! ..
كادت تتوقف اللقمة في حلقه ، إنه مالك هذا الفندق ، لذا هو يعامله بازدراء وتفاخر ، إن كان الأمر هكذا فعليه ألا ينظر في تصرفاته ويأمل الخروج من تحت سلطته سريعا ، انشغل مرة أخرى بالأكل ، فيم تجاهل العبارات المنمقة من حوله ، إن الحديث حول تلك الأمور تصيبه بالصداع فعلا ، التقط السيد " ستيفان " منديلا ليقوم بإزالة الدهن عن شفتيه قبل أن يهتف وكأنه تذكر أمرا ما : في المرة القادمة أريدكم أن تتعرفوا على ضيف شاب آخر .. أزاح بصره صوب " إريك " وعاد يهتف بتطلب : في المرة القادمة أرغب منك أن تكون موجودا أيضا ! ..
ظهر الاستغراب جليا على ملامح الشاب قبل أن يهتف بتساؤل : من هو ؟ ..
تبسم السيد " ستيفان " بعمق قبل أن يجيب بغموض : من الخطأ أن تنسى منافسك بهذه السهولة .. أردف بتملق : إنه صانع النقود " إيرل براسيت " ! ..






مالأمر مع المفاجآت هذا اليوم ؟ وهل عليه أن يجبر أعصابه على الانضباط مرة أخرى ، يكاد يفقد عقله فعلا ، " إيرل " لقد مر الكثير من الوقت على رؤية ذلك الشاب ، اسمه بقي محفورا في ذاكرته كمنافس قوي له وهو كذلك حتى كبر الاثنان تحت رعاية فائقة ليصلا في النهاية إلى ما يطمحان إليه ، " إيرل " لقد أصبح ذو شأن حقا ، إلا أنه لن يكون قادرا على مجاراته في المرة القادمة ، سيعمل بجد ليكون الفارق بينهما كبيرا ، انقطع حبل أفكاره قبل أن يضيف السيد " ستيفان " على حديثه السابق معلومة مهمة : هاتفني وأخبرني بأنه سيعود إلى البلاد غدا ! ..


فرنسَّا ..



ذلك الاتصال الهاتفيْ قد جاءَ في وقته فعلا ، فهو كان في حاجة ماسة لاستنشاق بعضِ الهواءِ النقيْ خارج جدران ذلك المنزلِ الخانقْ ، وقف بالقربِ من الباب الرئيسي يرفع رأسه عاليا مستقبلا أشعة شمسِ استوطنتْ السماءَ منذ فترة ، ترسل أشعتها بقوة هذا اليومْ ، ترسل إليه الكثير من الطاقة عله ينجز ما جاء إلى هنا لأجله ويعود مرة ثانية إلى أرض وطنه ، الراحةْ ! ، أجل ، ذلك أول شيءُ يفكر فيْه حال عودته ، وسيطلب من السيدة عدم تكليفه بأية أعمال لأسبوع على الأقل ، دس كلتا كفيه بجيبي معطفه بقوة قبل أن يزفر القليل من الهواء ، عليه أن يعود إلى الداخل بسرعة قبل أن تخرج تلك الببغاء باحثة عنه ، لم يكد يخطو خطوة واحدة للخلف قبل أن ينظر إلى من تقف كتمثال بلا حراك ، تحتضن قطع القماش بين أصابعها بقوة فيم يرتكز نظرها على صاحب القوائم الأربع ، الكائن المخيف الذي يرعبها كثيرا شاءت الصدف أن تلتقي به هنا ، ينظر إليها بعينيه الغائرتين فيم بدى لو أنه يجد صعوبة في إغلاق فمه ولسانه بداخله ، لا تدري ماهو الشيء الأكثر قرفا فيه ، لعابُه ، أذنيه الطويلتين المتهدلتين حول وجهه أم هو كله ؟! ..


تنفست بعمق وتمنت لو أن هذا الوضع المريب ينتهي ، تراجعت خطوتين للخلف وفكرت بأنها تستطيع العودة لجمع الغسيل فيم بعد ، النظر إليه عن قرب هكذ جعلت معدتها تتقلب ، بات تنفسها واضحا و إدراكها على وشك الإفلات ، أفلتت شهقات بسيطة حينما خيل إليها بأنه سيقترب منها بخطواته المتهورة ، ضغطت على شفتيها بعمق لقد مرت القليل من الثوان ولم يحصل شيء ، حتى أن أنفاسه الكريهة لم تعد تسمعها ، تملكتها الشجاعة للحظة بعدها فتحت عينيها سريعا ونظرت إلى المكان الذي كان يقف فيه الكلب أمامها ، لا وجود لتلك القوائم الأربع ولا لتلك العينين الغائرتين ولكن يوجد بدلا منها حجر بحجم كف اليدين متوسط الحجم ، غاب ذهنها قليلا ولا تدري لم فكرة غبية راودتها حينما اعتقدت بأن الكلب تحول إلى حجر ، نفت ذلك سريعا بإيماء نفي من رأسها ، تنهدت بعمق وهي تفكر بأن ذهابه الآن هو كل ما يهم ، استدارت عائدة للمنزل إلا أنها فوجئت بمن يقف قرب الباب ينظر إليها ، في محاولة بائسة منه لم يستطع أن يمنع ارتجاف كتفيه من ضحكة تملكته لفترة ، إلا أنه لم يصدر صوتا خوفا على أذية مشاعرها ، فكرت سريعا بأنه هو الشخص الذي رمى الكلب بالحجر ، يا لتفاهتها ، كلب مثل ذاك كان من الممكن أن يغرب عن وجهها إذا رمته بحجر فقط ! ..



قبضت أكثر على قطع القماش بين ذراعيها ولم تمنع تورد وجنتيها فور شعورها بالخجل ، قررت تجاهل الأمر والمضي قدما نحو المنزل متناسية أمره تماما لولا ظهور الكابوس أمام عينيها ، لثانية فقط بقيت " بيرناديت " ترقب ما يجري بشيء من الهدوء إلا أن ثائرتها ثارت بشكل عجيب وبسبب غير مُبَرَرْ ، بخطوات ثقيلة خيل إلى " أوديت " بأنها ستحطم الأرض التي تمشي عليها من شدة غضبها ، ضغطت على شفتيها بقوة ، حالما اقتربت منها والضجر باد على وجهه ، حينها علمت بأنها ستحاول إثارة مشكلة أخرى معها ، لم يخب ظنها حينما أحاطت تلك المزعجة قطعة الملابس النظيفة بين ذراعي " أوديت " لترميها في وجهها بسخط واضح ، وقبل أن تنزاح تلك الثياب من على وجه الأخيرة من تلقاء نفسها حتى صرخت بها " بيرناديت " بقسوة : يالك من مهملة ، لِم المنزل بهذه الحالة المزرية ، لم تقومي بتلميع الأرضية أو أي من زجاج النوافذ ثمَّ .. أشارت على الغسيل المتكوم على الأرض وقد اتسخ : يجدر بك أن تقومي بغسل الثياب مرة أخرى يا مزعجة ، ويدويَّا هذه المرة ! ..
لم تجرؤ على الالتفات عندما لمحت طبقة شفافة تعيق الرؤية لدى من تعتبرها خادمة ، تقبضُ بكلتا أصابعها على المريلة المهترئة فوقَ ثوبِ قصير مهترئ بينما يوضح ميلان شفتيها رغبتها في كبت شهقاتِ متألمة ، هل عليها أن تعاني من مثل هذه المعاملة كل يومْ ؟ ، الأمر بات غير محتمل ويفوق طاقتها فعلا ، الدموع التيْ كانت تكتبها سابقا ليست بحاجة إلى كبتها بعد الآن ، ولن تكترث إن فسرتها المزعجة هذه بأنها خاضعة لها ، ظهرت بسمة مستمتعة على وجه " بيرناديت " قبل أنْ تهمسَ لها من بين أسنانها بتحذير : لم تريْ شيئا بعد ، أقسم بأنك سأجعلك تدفعين ثمن ما فعلته وغاليا ، لن أدعه يمر ! ..


رفعت " أوديت " بصرها نحو الأخيرة وحينها كانت الدموع تهطل على وجنتيها المحمرتين فعلا ، ضغطت على شفتيها بقوة قبل أن تهرول سريعا صوب المنزل ، نحو المكان الذي تحملها طوال تلك السنوات ، العليَّة الباردة ، بقيت " بيرناديت " واقفة في مكانها ذاته إلا أنها سرعان ما جذبت الكثير من الهواء إلى رئتيها لتستدير سريعا نحو من نسيته واقفا هناك ، يا للهول ، إنه لا يزال واقفا ويرمقها بنظرات غريبة هذه المرة ، أول ما فكرت به بأن كل ما بنته سيذهب أدراج الرياح على هذا المعدل ، انتفضت من مكانها سريعا واقتربت منه بخطوات مهرولة قبل أن تتعلق بذراعه مجددا بقوة أربكته جعلته يترنح قليلا ، تبسمت له قبل أن تجذبه نحو المنزل وهي تهتف بشيء من الاضطراب : تعال ، لا بد وبأن والدي يبحث عنا الآن ! ..



قادته قسرا نحو غرفة المعيشة حيثُ كان بالفعل يقف السيد " أودريك " بالقرب من النافذة وبدى ل " إيرل " بأنه رأى كل ما جرى في الخارج ، أجبرته " بيرناديت " على الجلوسْ لتجلسَ قريبا منه في حين عادت تهتف هذه المرة ببهجة : هل تعلمُ يا والدي ، إن " إيرل " يتقن عزف الكمانْ ، أخبرتني " فانتين " بأنه استطاع عزف لحن " ليلة في النعيم " بدون أيَّة أخطاء ، أليس شيئا يدعو إلى الفخر ؟! ..
كان من الواضح أنها تحاول ألا تجعل له فرصة ليسألها عن أيِّ شيء ، لأنها لن تملك إجابة مرضية تطرب بها أذنيه ، استطاع السيد " أودريك " رؤية طلبِ النجدة في عينيها المتوسعتين ليقترب من مكان جلوسهما ويجلسَ قريبا منهما على أريكة أحادية ، حينها قالَ مدعيَّا الإعجاب : إنك بالفعل شابٌ مميز ، استطعت عزفها رغمَّ أنك لست بفرنسيْ ! ..
لم يحاول " إيرل " أن يضغط على نفسه ليبتسم فقد بقي وجهه واجما لوهلة مما أثار تعجب الفتاة بجانبه ، اعتدل في جلسته ليجذب ذراعه نحوه مما أجبر الأخرى على الضغط على أصابعها بترقبْ ، قام " إيرل " بالضغط على ثنايا ملابسه قبل أن يرفع بصره صوب السيد " أودريك " ويهتفَ بقليل من الغرور مع بسمة ظهرت مؤخرا على شفتيه : لم أقم بتعلمها لأتلقى المديح من الجميع ، سأكون شاكرا لو قمت بتوفير مجاملاتك للآخرين ، سيد " أودريك " ! ..



لم يستطع السيد " أودريك " أن يمنع بسمته من التلاشي ، لم تكن عبارة " إيرل " السابقة تحمل معنى للسخرية المباشرة إلا أن شعورا غريبا تملكه جعله يرغب في النهوض وطرد هذا الضيف المتفاخر خارجا ، لولا رؤيته لملامح ابنته المترجية لقام بفعل ذلك حقا ، حاول السيطرة على أعصابه عن طريق إفراغه لاضطرابه بالضغط على قبضتيه بقوة وبصعوبة عاد يرسم بسمته المقيتة تلك بالنسبة ل " إيرل " ذاك الذي لاحظ توتر الجو بسببه ، عاد يظهر تعابير خالية من المشاعر على وجهه إلا أنه تحدث بإسهاب و بطريقة فظة جعلت من غضب السيد أمامه يزداد : سمعت بأنك حاولت تملق السيد " ألبرتين " كثيرا إلا أنه يرفض مساعدة الآخرين له في أعماله فكيف تطلب منه أن تصبح شريكا له سيد " أودريك " ، لم تقم بطلب مساعدته لولا محاولاتك البائسة للدخول لعالم المال والثروة إلا أنك تنتهي دائما بالنواح ، ولرفض السيد الغير متوقع للتعاون معك أصبحت تحاول خلق علاقة طيبة مع ابنته ولو كان يملك ابنا لقمت بخداعه لتزويجه ابنتك وبذلك ستضمن القليل من المال ، المسكينة " فانتين " تظن بأن من تناديه بعمي هو في مقام عمها فعلا إلا أنك لست سوى عجوز متربص ! ، يجب أن تأخذ درسا من فشلك في كل مرة سيد " أودريك" .. أتبع بشيء من التحدي : ذلك لأن العالم الذي أعيش فيه الآن .. ليس لك وليس لأمثالك من الخاسرين ! ..


طفح الكيلُ بالسيد الذيْ بات تنفسه يصبح واضحا مما أثار قلق " بيرناديت " التي أغمضت عينيها بترقبْ ، " إيرل " قال شيئا لمْ يتوجبْ عليه قوله ، لماذا يحاولُ أنْ يزيد من حنق والدها ؟ ، قبضت على ذراعيها سريعا حينما فكرت بأنها خسرت فعلا كلَّ ما تحملته طوال تلك المدة حينما ظهر صوت السيد " أودريك " محذرا كفحيح أفعى جائعة : إنَّك فظُّ ، متواقحٌ ، غبيٌ ومتعجرفْ ولخروجك من منزليْ الآن طواعية بدون أنْ أطردك سيكونُ ذلك أسهل على كلينا !..
تبَّسم الأخير بهدوءِّ قبلَ أنْ يستعد للنهوض ويهتفَ بشيءِّ من اللامبالاة : إننيْ أسمع ذلك كثيرا في الآونة الأخيرة ، سأخرج من هذا المنزلْ ولكن ليسَ لوحديْ ! ..
تجاوز " بيرناديت " سريعا بعدة خطواتِ متفاوتة ، خرج من الغرفة إلا أنه لمْ يتوجه للباب الرئيسي كما اعتقد " جونز " الذي ظل واقفا ينتظره هناك ،راحت عينيه ترقبانِ سيده الذي صعد على درجاتِ السلم بتلقائية غير آبه لمكوثه قرب الباب طوال تلك المدة ، زفر " جونز " بعمقْ وفكرة خنقِ هذا السيد بينما هو نائم تراوده فعلا ! ، راحت قدميه تتقدمان بتلقائية صوب باب خشبي مقفل بعد أن أعيا الدرج مفاصل جسده بقوة ، فكرة طرق الباب لم تكن الخيار الأول بالنسبة إليه فبعد كل شيء الوقت لا يُمكنه التصرف بلباقة ، أدار بأصابعه مقبض الباب بقوة ولدهشته بأنه كان مقفلا ولكن بسبب دفعه القوي له فُتِحَ بكل بساطة ، أي قفل قديم هذا ! ، يسمح للص مبتدئ بالدخول بدون عناء ! ..


عانقت عينيه شباك العنكبوت والجدران المتصدعة ، أغراض لا منفعة منها محشورة في إحدى زوايا الغرفة ، أما المساحة الباقية الصغيرة لم تكن تكفي سوى لسرير وخزانة بأدراج نصفها مكسور ، بينما هنالك بالقرب من النافذة تجلس على الأرض كسيرة بينما تحتضن بين ذراعيها قميصا داكنا ، فور دخوله تطلعت إليه بخوف وقلق فدخوله الأسطوري ذاك أجفلها للحظة ، نهضت من مكانها سريها ووقفت بتردد على أعقاب قدميها المرتجفتين ، لم تقدر على أن تنطق ، ذلك القلق والاضطراب عاد يستولي عليها مجددا ، راحت تحاول تفسير تصرفه الغريب ذاك ، البسمة الغريبة على شفتيه لم تستطع أن تجد لها معنى وكلماته البراقة تلك أثارت مشاعرها لوهلة ، تطلع لمظهرها الرث قليلا قبل أن ينطق بهدوء غريب : أصدقك بأني أود أن أكون شاعريا وأجذبك لخارج هذه الغرفة ولكنني للتو اشتريت هذا الحذاء ، هذا المكان .. قذر !..
ترك الباب و دفعه ليفتحه على مصراعه ليردف بذات النبرة : أسرعي ، أكاد أختنق ! ..
البلاهة ربما ، أي تعبير يجب أن يطلق على الملامح التي اعتلت وجهها ، إنها بلهاء فعلا إن قررت الوقوف هنالك لأكثر من دقيقة ، قبضت بأصابعها بقوة على القميص بينما راحت تشعر بضربات قلبها تدب في جسدها كله ، تتمنى لو أن هذا ليس حلما ؟ لو كان حلما .. فهي لا تريد أن تستيقظ منه ، لو كان مجرد حلم فهي ستعيشه ، سترغب في خوض تفاصيله أكثر فأكثر ، جذبت الكثير من الأنفاس قبل أن تتحرك من مكانها سريعا وتتوجه نحوه بخطوات متعثرة مستقيمة ، أحاط بأصابعه معصمها قبل أن يجذبها خلفه ، خطواته واسعة ولسوء حظها بسبب حذائيها اللذان لم يكونا على مقاس قدميها فقدتهما ، رفعت بصره نحوه ترغب في أن تخبره بأن يتوقف ولكن هذه الملامح على وجهه تخيفها ، فكرت بأنه لا بأس بخروجها حافية لقدمين ، ليس الأمر وكأنها ستضيع فرصة كهذه من أجل حذاء ، قبضت على أصابعها بقوة حينما رأت نور الشمس القادم من الباب ، غير معقول ، إنها تقترب منه بكل سهولة ، بلا خوف ، بلا قلق ، صحيح بأنها لا تفهم شيئا الآن لكنها واثقة بأن كل شيء سيكون على ما يرام ، هل هو كذلك فعلا ؟ ، شعرت بذراع غليظة تجذبها بقوة من ذراعها ليرتطم جذعها بجسد صلب خلفها ، تنفست بصعوبة وتمنت ألا يكون ذلك صحيحا ، كيف تحول الحلم إلى كابوس بهذه السرعة ؟ ، نظرات السيد " أودريك " تقذف الشرر ورغبته في دق عنق هذا الفتى أصبحت أكثر وضوحا ، كادت تصرخ من شدة ضغطه على ذراعيها إلا أنها خافت أن تزيد الأمور سوءا ، لمحت " بيرناديت " ترمق ما يحصل بوجل قريبا من الغرفة التي كانوا بها سابقا ويبدو بأنها تفقد هدوءها عندما يكون والدها بهذا الشكل الثائر ، تنهد " إيرل " بشيء من اللامبالاة وبقي يتطلع إلى السيد " أودريك " بضيق إذ أنه أردف بقصد إغاظته : يا لك من شرير سيد " أودريك " ، لم يتبقى سوى خطوتين فقط ! ..


كاد السيد ينفجر غيظا فاستفزاز هذا الرجل سهل فعلا ، تنفس بعمق قبل أن ينزل بصره إلى " أوديت " التي أخفضت رأسها سريعا خوفا من أن تثقبها نظراته الحادة تلك ، حاول أن يمسك أعصابه من الإفلات قبل أن يدفع بها جانبا متجاهلا الألم المبرح الذي تسبب به الجدار لظهرها ، ضغط السيد على أصابعه قبل أن يهتف وكأنه استنتج شيئا عظيما : لقد شككت بأمرك فعلا ، كنت أعلم بأنك تخفي شيئا فتصرفاتك البارحة أوضحت بأن هنالك شيئا يجمعك بهذه المتشردة ! ..
لا تدري إن كان " إيرل " هادئا فعلا أم أنه يدَّعي ذلك فعلا ، هل هوَّ يغلي من الداخل يا ترى ؟ ، ذلك غير وارد البتَّة ، تبسم الشابُ لوهلة قبل أن يهتفَ بشيءِّ من السخريَّة : لكونك اكتشفت ذلك لماذا لا تتصرفُ كرجلِ نبيل الآن وتمنحنا الإذن بالخروج قبل أنْ تتحول هذه المشكلة لكارثة ! ..
لاحظت ارتجاف جسد السيد وضحكة غريبة استولت عليه لثواني قبل أن يردفَ بخبثْ : لسوء حظك بأني لمْ أولد نبيلا ، فأنا أمتلك من النذَّالة ما يكفيْ لأجرها مرة أخرى إلى العليَّة ، هل تظن بأني سأسمح لها بالخروج بعد أن اكتشفت ذلك ؟! ..
الوضع يزدادُ سوءًا ، ذلك ما فكرت به " أوديتْ " قبلَ أن تستجمع قواها وتحاول النهوض بصعوبة بمساعدة الجدار خلفها ، ارتعاشات جسدها تمنعها من الحراك وكأنها فيْ سباق مع الزمن الآن ، تتمنى من كل هذه اللحظة المقيتة أن تنتهي ، أن ينقضي هذا الوقت السيءْ سريعا ! ..


تمَّ البارت التاسع ..
__________________
سبحان الله وبحمده
سبحان الله العظيم

Sleeping Beauty | Ghasag
رد مع اقتباس