الأمور دائما تسير في الاتجاه المعاكس ، بعكس ما نريد وبعكس ما نرغب ، نلزم أنفسنا في العيش وفق القواعد المرسومة ، لا مجال للحياد منها
فالنهاية أيضا قد خُطط لها منذ البداية ! ، لم تكن ترغب بأن تؤول الأمور إلى هذا المنعطف ، إنه منعطف كبير في حياتها استدركته حالما حطت الطائرة رحالها على أرض واسعة مرصوفة حينها فقط عرفت بأنها قد وصلت إلى بلدها الأم ، لا تستطيع أن تصف كم من مشاعر اختلجت في دواخلها ، كم من مرة عليها تحمل ذلك الاضطراب الذي يجعلها تتشتت ! ..
سقفٌ عالِّ قليلا بلون الشاي بالحليب يحتضن أعلاه مصباحا دائريا مزخرف ومتوسط الحجم رغم أنه المصباح الوحيد في الغرفة إلا أن إضاءته كافية لتنير الأثاث والغرفة بأكملها ، كان ذلك أول ما أبصرته حينما ابتعد جفنيها في حركة بطيئة دلالة على استغراقها في نوم عميق ، انتصبت جالسة على السرير وحاولت تعديل شعرها المتناثر بتكاسل ، أي حالة هذه ؟ تعب فظيع ينهش جسدها ، هل ذلك لأنها نامت لوقت طويل ؟ ، راحت تتساءل باستغراب إلا أن الجواب أتاها سريعا حينما نظرت إلى الساعة المعلقة على الجدار حيث أشارت عقاربها على العاشرة والنصف ليلا ، نامت قرابة الست الساعات ذلك لمرهق فعلا ، وجدت نفسها تتطلع إلى الغرفة بريبة ، أثاث راق مرتبٌ بطريقة جميلة منظمة ، أريكتين صغيرتين على سجاد منقوش دائري بوسطه طاولة مربعة الشكل زجاجيَّة ، في جانب السرير تقبع نافذة طويلة مفتوحة جُذبت ستائرها بعيدا سامحة لها بتأمل أثير جمال النجوم في السماءْ ، يا للروعة ، في الجانبِ الآخر تستكين خزانة ملابس طويلة ناسبت تماما لون الجدرانِ المنقوشة !
قادتها قدميها إلى ذلك الباب الآخر القريب من الخزانة و لم يخبْ ظنها عندما اعتقدت بأنها المغسلة ، خرجتْ من الغرفة أخيرا بعد أنْ قامت بغسل وجهها وتبديل ملابسها بتلك التيْ في الحقيبة ، القليل من ملابسِ فانتين تفيْ بالغرضْ ، على الأقلِ في هذه اللحظة ، استقبلتها أثرية جميلة قريبة من إحدى زوايا الممر حيث تقبع غرفتها ، وعلى الجدار عُلقت لوحة جميلة ، استدارت يمينا حيثُ قابلتها العديد من الأرائك ولم يكن نظامها مختلفا إذ اصطفت قريبا من بعضها ، هنالكِ بيانو في إحدى الزوايا أيضا قريبا من رفوف الكتبِ المليئة بها ، وعلى الجانب ِ الآخر تقبع طاولة كبيرة يحيط بها عشرة كراسيْ وكما بدى لها بأنها طاولة الطعامْ فهيَّ قريبة من المطبخ أيضا ، المنزلُ جميلٌ فعلا ومليءُ بالأثرياتِ الجميلة والغاليَّة ، أدارت بصرها يمينا حيثُ يقبع سُّلم طويل يؤديْ إلى الطابقِ العلويْ حيث لم يكن كبيرا كما السفليْ ، فهي ترى بابا على الجداري اليساريِّ منها وقريبا منه طاولة وأرائكْ ، ولكنْ لحظة ماذلك الشيءْ المستكين على الطاولة ، إنه شيءٌ تألفه ، شيءٌ تكاد تجزمُ بأن عينيها أبصرته سابقا ، تلاحقت خطواتها قريبا من السلالمْ وقررت الصعود إلى هناك لولا أنها توقفت عند الدرجة الخامسة فقد تعرفت على تلك الأثرية ولم تكد تصدق ما تراه حينها ، " أوديت " .. أثرية " أوديت " تلك التي تعبَ السيد " ألبرتين " في صنعها !! ..
لقد أخبرتها " فانتين " بأمر شرائها من شخصِّ ما ولكنها لم تكن تعلمُ بأن " إيرل " هو ذلك الشخصْ ، لقد قامَ بشراء " أوديت " القطعة التيْ سميت نسبة إليها ، بطريقة ما لم تعلمْ بأمر السعادة التيْ تملكت جسدها لوهلة ربما لأنها وأخيرا استطاعت الحصول على شيءِّ يذكرها بذلك الرجل الطيبْ ، السيد " ألبرتين " لن تنسى جميله ما دامت على قيد الحياة ، رعشة بسيطة استولت على قدميها فور أن التقطت مسامعها صوت الباب الرئيسي يُفتح ، أدارت جسدها سريعا لتبصره يعود إلى المنزل وهاهو ذا يغلق الباب خلفه ، توقف قليلا لثوان معدودة عندما رآها تقف في منتصف السلالم بارتباك ، تعقد أصابعها وقد اصطبغت وجنتيها باحمرار طفيف ، لم يحاول إحراجها أكثر إذ أنه تقدم أكثر نحو الآرائك المصطفة أمامه ليخلع معطفه بهدوء ويستطرد :
نمت كثيرا ! ، لم نستغرق الكثير من الوقت للوصول إلى هنا ، يبدو لي وبأنك لست معتادة على السفر ..
توجه نحو البراد بعدها ليستلم قنينة ماء بارد سكب القليل منها في الكأس ليشربه بدفعة واحدة وكم بدى تنفسه واضحا فور انتهائه ، استطرد بعدها وهو يعود إلى مكانه :
لاشيء مثير في الطابق العلوي ، غرفتي فقط ! ..
تنبهت على حالها أخيرا لتهبط مهرولة ، اقتربت من مكان جلوسه لتراه منشغلا بتفحص هاتفه قليلا ، وكم بدت ملامحه جامدة حينها ، لم تعرف ماذا تفعل بوقوفها هكذا ، فهي بالفعل لديها الكثير من الأسئلة لتنهال بها على مسامعه ، مالذي سيحل بها الآن ؟ هل ستعيش في هذا المنزل من الآن وصاعدا ؟ بالطبع لا ، يجب عليها أن تعيد ترتيب حساباتها مجددا ، ماذا عن العم " ويلبرت " هل مازال يعيش في المزرعة ؟ هل يجب عليها لقاءه ؟ ولكن بأي صفة تراه فيها ؟ لقد مرت أربع سنين فعلا ولن يصدق بأن ابنة أخيه عادت بعد كل هذه المدة هذا إن لم يكن يعتقد بأنها ميتة أصلا ، زفرت بخفوت قبل أن تتفطن لحركته البسيطة ، حيث طلب منها أن تجلس مقابلة له ، لم تجد مشكلة في ذلك فهي تحتاج لمناقشته على أية حال ، استطاع أن يبعد الأسئلة التي استكنت ملامحها للحظة فور أن فتح دفة الحديث بقولة مباشرة :
أعلم تماما بصعوبة التأقلم مع الوضع الجديد هنا فحياتك السابقة لن تعود إليك بهذه السهولة ..
آلمها تماما سماع ذلك منه فهو كأنه يخبرها بأن تقطع الأمل من ذلك فعلا ، قبضت على أصابعها في الوقت الذي عاد فيه يتحدث بإسهاب :
لا داعي لإظهار هذه الملامح على وجهك فليس وكأننا لم نلتق من قبل .. أردف :
لقد مرت الأربع سنوات الماضية كالجحيم بالنسبة على السيد " ويلبرت " فهو لم يذق طعم الراحة منذ أن فقدك أنت ووالدك ، إلا أنه بخير وبأفضل صحة لا تقلق ، رغم أن الشرطة فتشت في كل مكان عنكما إلا أن الأمر بدى كما لو أنكما تحولتما فقط إلى سراب وهذا ما جعل الجميع يفقد الأمل في لقائكما مجددا ، على كل حال لقد سمعت بم حصل معك بعد ذلك من " فانتين " لقد أخبرتني بكل شيء لذا إنني بالفعل أقدر ما مررت به كل هذه المدة .. أضاف مبتسما بعد أن صمت لثوان :
كُنْتِ قَوِّيَّة ! ..
شيء ما شعرت به يتفتح في داخلها رويدا ، لم تكن سعيدة وأبدا ليست حزينة ، إنه فقط شعور غريب جعلها تشعر بالضياع قليلا ، أن تعرف كل ما قاساه العم " ويلبرت " في سبيل إيجادها لهو شيء مؤلم فعلا ، لقد عانى الأمرين في غيابها رغم أنه لا يد له في ما حدث ، تنفست بعمق وحاولت التغاضي عن أمر والدها ، ليس الأمر وكأنها نسيته لا بل ذكراه لا تزالُ عالقة في قلبها منذ أربع سنوات إلى هذه اللحظة ، كل شيء سيكون على خير ما يرام ، منت نفسها بذلك بطمأنينة ، عليها فقط الانتظار إلى الصباح ، تردد كثيرا قبل أن يخرج من جيب معطفه أشياء ظلت ترمقها باستغراب ، قدم إليها إياها في الوقت الذي خاطبها فيه : ب
طاقة هويتك ، جواز سفرك و أيضا ..
ظلت ترمق ذلك الشيء الدائري بريبة ، رفعت بصرها نحوه في الوقت الذي تحدث فيه :
ثمن معيشتك هنا لن يكون بخسا ، إنه باهظ قليلا ولكنني أعلم بأنك سُتقدِّرين ذلك على الأقل فأوضاعك غير مستقرة الآن ولن نعرف ما قد يحمله الغد إلينا لذا هذه الفكرة هيَّ الوحيدة للحفاظ على مكانكِ هنا ..
ابتلعت ريقها بصعوبة رغم أن الأمر كان واضحا إلا أنها واجهت صعوبة في تصديقه ، ظلت حدقتيها تتراقصان ريبة بينه وبين ذلك الشيء الذي يلمع على سطح الطاولة ، نهض من مكانه بشيء من الهدوء بعد أن دس كلتي كفيه بجيبي سرواله ، كان يعلم بأنها ستشعر بهذه الطريقة ولكن لا مفر من ذلك ، تنهد بقلة حيلة قبل أن يضيف :
إنه ليس بالأمر الجلل فعلا ، إنه مزيف ، كل شيء سترينه وكل شيء ستعيشينه مزيف عليك فقط التحمل قليلا وأعدك بشرف بأنني سأحرص على أن تعود الأمور إلى نصابها فقط إن قررت التعاون معي ، قومي بهذا الدور واتركي الباقي لي ! ..
لو طرح عليها هذا الموضوع من قبل لرفضت من فورها ولكن الآن إن فكرت بالأمر بمنطقية أكثر فهنالك الكثير من العوائق قد تقف في طريقها ولربما لن تستطيع أن تحقق ما جاءت لأجله ، مادام بأن ذلك ليس حقيقا ومادامَ بأن هذا لمدة وجيزة فقط من الوقتْ ذلك لنْ يضر ، عليها فقطْ أن تضبط تصرفاتها إلى أن يحين ذلك الوقتْ ، ثمَّ إنه الحلُّ الوحيد أمامها ! ، تنفست لقليل من الوقتْ قبلَ أن ترفع بصرها نحوه وتمنحه بسمة غريبة أصابته بالريبة نوعا ما ، استلهمتها شجاعة غريبة لتنطق بعدها :
أعلم بأن الأمر سيكون صعبا على كلينا ولكن لعرضك لي هذا لن يسعني سوى أن أقبل ، شكرا لحرصك وتضحيتك " إيرل " ! ..
ارتفعت كفها نحوه بطريقة مريبة جعلته ينقل بصره نحو كفها وتارة أخرى إلى ملامح وجهها المترددة ، هي أيضا ليست متأكدة بشأن هذا الأمر ، زفر بخفوت قبل أن يبادلها بسمة مبهمة وغامضة المعنى ، صافحها أخيرا بعدها هتف وبطريقة ما استطاعت الشعور بقلبها يرفرف وهي تستمع إلى كلماته :
آنسة " لوسيانا " ، عدت إلى لندن بصفتك " أوديت براسيت " ، خطيبتيْ ! ..
لقد أًتمَّت الأسبوع الآن ، شكلها يبدو رائعا بحقْ ولن تكونَ خسارة إن أًصبحت جزءَّا من صورةِ على حائط غرفة المعيشة ، وردية مصفرة ، خضراء طوِيْلةْ ، لم تندمْ على عنايتها ومتابعتها لحبة البذرَّة الصغيرة التيْ تكللت جهودها معها بالنجاحْ لتزهر بهذا الشكلْ ، تراقصتْ البتلاتُ فيْ زهوْ حال ملامستها لقطراتِ ماءِّ دافئَة ، وضعتْ " إيرما " إبريقَ الماء جانبا قبلَ أن تحملَ الأصَّيْصْ وتعيده إلى مكانه بالقرب من النافذة ، رفعت بصرها عاليَّا قبلَ أن تداهمها أشعة الشمسِ شديدة التوهجْ ، تعجَّلتْ في إغلاقِ النافذة ثمَّ تزفر بحنقِّ واضح ، فلتوها عادتْ من الجامعة وربما أكثر ما تحتاج إليه الآن هو النوم و النوم ثمَّ القليل من النوم ، لكنها بالطبع لن تستطيع ذلك قبل أن ترى وجه والدها ، تورمت قدميها من المسافة التي تقطعها يوميا ، صحيح بأنها تستخدم سيارة الأجرة إلا أنه لا يستطيع إيصالها كل هذه المسافة ، وجدته أخيرا يقفُ بالقربِ من أحد الشجيرات فبمَ يحملُ بين يديه فأسا ، وبسببِ سرواله الطويل اتسخت أطرافه بقليل من الترابْ ، فيمَ تسببت تلك المنشفة المتدلية على كتفيه حول رقبته بارتشاف قطراتِ عرقه مُروِّحة عنه تحتَ شمسِ هذا اليوم ، ومع عمود الخشبِ الأخير التفت للخلف متوجسا نتيجة لصوتها الأنثوي المتضجر :
أبيْ ، إنه وقت الذروة ، لا داعيْ لأن تعملْ ! ..
ظهرت ملامح الانزعاجِ ظاهرة على وجهها المليح فيمَ تندبُ هذه الظروف التيْ تجعل والدها يعمل حتى في هذه الأوقات ، خرجت زفراته المتعبة من بين شفتيه ثمَّ أحاطت أصابعه بإحدى طرفي المنشفة ليمسح عن وجهه وجبينه ، لمْ يجبْ على ابنته فهو يعلمُ أنها تكره رؤيته منشغلا وبمَّ أنها تقضيْ معظم وقتها في الجامعة فلا وقتْ لديهما لقضائه معا ، تاقت نفسه لتلك الأوقاتِ فعلا ، ضحكاتها المفرحة ومزحاتها خاوية المعنى ، لربما عليه أنْ يعيد حساباته مجددا ويخصص وقتا لها ، وقبلَ أن يلاحظ تنبَّه على خفَّة قنينة الماء بين أصابعه ، لقد قضى على آخر قطرة فيه ، هتف برفق لابنته بينما يستعد لقطع الخشبْ :
السيدة " ليونيل " تشكو من برودة الطقسِ ليلا لذا هم سيحتاجون لمزيد من الحطب للمدفأة .. أتبع بتساؤل :
هيا ، هيا أبعدي هذه الملامح عن وجهك واجلبي لي كأسا من الماء ..
لم تكد تستدير للخلف تستعد للذهاب لولا سماعها لصوت غريب ، صوت أنين يخص والدها ، يركعُ على الأرضِّ بلا حراك فيم تحركت حزمة الحطبِ التيْ حملها خلف ظهره قليلا لتتناثر حوله بشكل مؤسفْ ، أمسكت بكلتا كتفيه و تألمت حال رؤية ملامحه المتوجعة بصمت ، مالذي أصابه ؟ لقد كان بخير قبل ثوان فقط ، تمالكت نفسها بقليل منْ الشجاعة وهتفت بتساؤل قلِقْ :
أنتَ بخير ؟! هل يؤلمك شيءٌ فيْ جسدكْ ؟ هل هو الدوَّار مرة أخرى ؟ تحتاجُ إلى دواءْ ، أحضره لكْ ؟! ..
رغم قطرات عرقه التي راحت تزداد على بشرته المسمرة إثر تعرضه الدائم لأشعة الشمس أجبر نفسه على الابتسام ليجعلهاتكف عن طرح أسئلة أخرى فلسبب ما عاد ذلك الدوار إلى رأسه ، أبعد كفيها الصغيرتين ليقبض عليها برفق هاتفا فيم يستعد للوقوف مجددا :
كنتُ شابَّا و لا أزالْ ! ..
خدعة كانتْ كبيرة من أن يصدقها هذين الاثنين لكنْ ما عساهما سوى أن يتغافلاها ، لنْ تجديَّ معها إحدى مزحاته فهو علمُ بأنها ستقع من فرطِ قلقها ، تحامل على نفسه كثيرا ، فبالرغم من أنه حمل رزمة الحطبِ بسلاسة ولكنه فور أن حثَّ خطاه حتى شعر بألم يهتك بقدمه الأيمن ، يعلمُ بأن عظمه ليست بتلك الهشاشة ليقع من فوره فهو لا يزالُ قادرا على الهرولة بعد كل شيء ، انحنى برفق قاصدا جمع الحطب المتناثر لولا أن خانته قدمه ليقع منزويا على الأرض بتألم ، هذه المرة لمْ يتسلل صوتها الرقيقْ لإيقاظه ولم تتدخل أصابعها النحيلة لمساعدتها ، شعر بكفين قويتين تمسكان بذراعهِ وبضغط كبير يجذبه لأعلى فيْ محاولة لجعل جسده الضعيفِ أنْ يقف ، أُسْنِدَ إلى جسد شاب ساعده أخيرا على الوقوف رغم تشبثه به ، لم يستطع الاثنين أن يكفا عن التحديق في وجه هذا الغريب الذي اقتحم المكان فجأة و عيونهما القلقة تضطرم بأسئلة لا حصر لها ، حتى وهو يقدم المساعدة لا بد وأن يحظى بنظرات الآخرين له ، حاول إخفاء انزعاجه الذي ازداد فجأة منهما ومن حرارة الطقس ، أراد تخليصَ نفسه فهتف ب " إيرما " وبلهجة آمرة قال :
أسألكِ تحضير كمادات باردة يا آنسه ! ..
رغم بساطة كلماته إلا أنها وقفت متصلبة قليلا في محاولة منها لاستيعاب حروف كلماته ، أماءت بأجل لتهرول سريعا نحو المنزل ، عاد يقبض بأصابعه على جسد الرجل وتحامل على نفسه كثيرا قبل أن يتحرك عدة خطوات ، لم يكن السيد " ويلبرت " ثقيلا فعليا ولكنه لم يكن متعاونا في المشي ولربما أراد في قرارة نفسه عقاب هذا الشاب على تطفله عليهم طيلة تلك السنوات الماضية ، أراح " إيريك " جسد السيد " ويلبرت " على الأريكة في الردهة ليقف بعدها على عجالة ملبيا نداء ظهره الذي شعر وبأنه قد كسر ، ريثما تقوم " إيرما " بتحضير الكمادات وضع هو حقيبته الجلدية السوداء على الطاولة الصغيرة قربه ، لم يتخيل السيد " ويلبرت " أن يكونَ هذا المتطفل طبيبا فتفاجؤه بدى واضحا فعلا عندما راحت قزحتيه تتأرجحان على الأدوات المصطفة داخل الحقيبة ، منذ متى صار الطبيب يستأذن مرضاه ؟ ، باشر في عمله للاطمئنان على صحة هذا العجوز ، نبضات قلبه سليمة أيضا ، لا خوف عليه ، وبحذر متمرس تحرك " إيريك " إلى حيث تركن قدمه التي رفعت بواسطة وسادة ، شمَّر أطراف السروال لأعلى ليظهر الجزء المتورم من كاحله ، كدمة زرقاء واضحة بدت قريبة من مفصل قدمه و متورمة بعض الشيء ، استقام في وقفته أخيرا ولم تفارق عيناه مكان الإصابة ، رفع " ويلبرت " بصره نحو الشاب الذي تمتم بصوت مسموع :
أرجح بأنه التواء .. أتبع بنبرة أعلى :
عليك مراجعة المشفى ! ..
لم يستطع " ويلبرت " إخفاء ذلك الاضطراب الذي تفجر في داخله فور أن استطاع رؤية هذا الشاب ، لقد كان يحوم حول منزلهم منذ مدة ليست بالقريبة ، لم يكن تواريه جيدا إذ أنه استطاع ملاحظته وكذلك " إيرما " ، ضغط على أصابعه قليلا قبل أن يرفع بصره نحوه ويسأله بجمود :
مالذي تفعله هنا ، اغرب بسرعة .. جز على أسنانه قبل أن يكمل :
ما تفعله من إرسال تلك القطع التي تعدها الثمينة لا أريدها ، توقف عن ذلك ، فأنا لا أعيش على نفقتك يا سيد ! ..
ظهرت تلك الملامح الساخرة على وجه " إيريك " قبل أن يوضب حقيبته قائلا :
على رسلك أيها العجوزْ ! ..
لم يكد السيد " ويلبرت " يفتح فمه ليتحدث لولا أنه لاحظ بأن ذلك الشاب يكابد بقوة حتى يخفي انزعاجه إذ أنه مالبث أن استدار نحوه ليمسك ياقة قميصه بقوة محاولا خنقه ، بقيت عيني السيد " ويلبرت " تتحركان برجفة غريبة على تلك الملامح الشيطانية التي تلبست وجه هذا الشاب فجأة ، مالذي دهاه حقا ؟ ، من جهة أخرى لم يستطع " إيريك " التفريط بذلك الشعور الذي تفجر بداخله حينها ، لقد أراد أن يبعد هذا الرجل عن مرآه سريعا ، لم تسنح له تلك الفرصة ولكن هذه المرة لا شيء يقف أمامه ، ضغط بقوة على عنقه قبل أن يردف بصوت احتشد غضبا :
يجبُ أن تموتْ ! ..
السماءُ تبكيْ ، صوتُ المطر كانَّ أوّل صوت يطرقُ مسامعه فور استيقاظه ، لمْ يكن ينويْ الاستيقاظَ في مثل هذا الوقتِ من الصباحِ لكنْه تذكر بأنَّ عليه إغلاقِ النوافذ وإعداد الفطور لذلك الجائع قبلَ أنْ يستيقظ ويدمر المنزلَ بأكمله ، خرجَ من غرفته بتكاسلْ فيمَ راحتْ أصابعه القصيرة تداعبُ صلعته اللامعة ، ليلة البارحة لمْ تكنْ هادئة فهو لمْ يستطع النومْ بسبب المتدربِ الجديد " ويليام " الذي أصرَّ على تعلمِ المزيد من الحركاتِ القتاليَّة منْ " ويليام " ذاك الذي رفض في بادئِ الأمر إلا أنه رضخ بإصرار الأول عليه ، لقد واصل " جوليان " التدربَّ طوالَّ الليلْ ولمْ يستطيع العجوز " أودين " أنْ ينامَ براحة إثر سقوطه المتكرر على الأرضْ وبسبب صوتِ السوطِ الذيْ تركَ علائمَ على ظهر " جوليان " فلأنه لمْ يتقن تلك الحركاتْ رغم تزمته وإرغامِ " ويليام " على تعليمه إيَّاها وجد الأخير متعة فيْ استردادا ذلك الوقت الضائع بضربه إيَّاه ! ..
توجه العجوزُ " أودين " رأْسَّا إلى غرفة " جوليان " ليوقظه فحتما هوَّ يستغرقُ في النومِ الآن ، فتح الباب سريعا وفيْ جعبته بعضُ الكلماتِ اللاذعة تلكَ التيْ ستجبره على النهوضِ مفزعا من نومه إلا أنه فوجئَ بوجود الغرفة على حالها ، السرير لمُ يُمَّسْ وأثاث الغرفة لمْ يُحرك من مكانه ، استغربَ أيْن يمكن أن يوجد ذلك الصعلوكْ الآن ؟ ، قطع الممر إلى الردهةْ متوقعا رؤيته نائما على أحد الأرائك من شدة التعبْ ، لقد كانَ هنالكَ أحد مستلقِّ على الأرائكِ فعلا ولكنه لمْ يكن من يبحثُ عنه بل و ياللعجبْ إنه " ويليام " ذاكَ الذي لمْ يقضيْ ليلة واحدة في هذا المنزلْ منذ أن أًصبح عضوا من المجموعة ، زفر السيد " أودين " بانزعاجْ وراحت فكرة غريبة تستوليْ على ذهنهْ إلا أنه نفى ذلك حينما فكر بأنَّ " جوليان " قد شعرَ باليأس وهربَ من هذا المكانْ ، لم يدم ذلك طويلا إذ أنه توجه إلى النافذة وأبعد الستائر عنها وحدسه يخبره بصحة ما فكر به ، ذلك صحيح فعلا ، قبض على أصابعه بقوة حينما رأى قطرات المطر المغرقة تداعب ذلك الجسد المستلقي على الأرضية بلا حراك وكأن الروح قد غادرته منذ مدة ، مابه ؟ أمن المعقول بأنه قد فقد وعيه ؟ ربما قد خسر أمام تلك التمارين الصعبة ولم تستطع قدميه حمله ! ، ذلك ممكن ، يجب عليه إدخاله إلى المنزل ، إنه يجعله يتكبد العناء دوما ، ترك مكانه أمام النافذة واستعد للخروج إلا أن صوت " ويليام " التعب منعه من ذلك حين هتف :
دعه وشأنه ، لم يمت بعد ! ..
التفت العجوز " أودين " إلى " ويليام " ذاك الذي اعتدل في جلسته أخيرا على الأريكة بعد أن داعب خصلات شعره بتكاسل ، لم يكن نائما إذا أن هذا ما دار في خلد " أودين " وهو ينتظر من ذلك الشاب أن يكمل ، نهض " ويليام " أخيرا وتقدم بتثاقل نحو النافذة ، نظر إلى ما خلف زجاجها نحو جسد " جوليان " المستلقي بلا حول أو قوة على الأرض ، استطرد بتململ :
لقد تدرب طوال الليل بعدها خارت قواه وسقط مغشيا عليه ، أخبرته بعد استيقاظه بأن ينسى ذلك ويدخل فلا نتيجة من إرهاق ذلك الجسد عديم النفع إلا أنه أصر على ملازمة التدريب وكما ترى عاد يفقد وعيه مرة أخرى .. أضافَ بقليل من التهكم :
بالمناسبة لقد أحسنت في تعليمه الحركاتِ الأساسيَّة ، لقد أذهلني قليلا ! ..
تنهد " أودين " بقليل من الهدوء بعدها رفع بصره صوب " ويليام " وهتف مبررا :
إنه مثابر ، أعلم هذا وأعلم بأنك ترغب منه أن يتحسن ولكن من القسوة أن تتركه خارجا بهذا الشكل ، قد تضيع كفاءته في الانضمام إلينا حينها ! ..
تنبه إلى " ويليام " ذاك الذي لم يلتفت لينظر إليه كعادته ، ضغط " أودين " على أطرافه بقليل من الانزعاج فهو يعلم بأن الشاب الواقف أمامه عبارة عن كتلة من العناد وحتى " سكوت " نفسه لا يقوى على الوقوف أمامه أو الدخول في حديث جدي معه ، رفع بصره نحوه حينما سمع صوت تنفسه الواضح ، اقترب أكثر من مكان وقوفه وكم كانت دهشته كبيرة عندما رأى " جوليان " واقفا على قدميه مستندا على جذع أحد الأشجار بصعوبة ، ارتجافات ساقيه ملحوظة وكتفاه يرتعشان من شدة البرد والتعب ، كل ذلك كان واضحا للعيان ، إنه متعب ومثقل ولكنه لم يتوقف بل وبعد هنيهة من الوقوف عاد يحرك ذراعيه بتثاقل ، تبسم " أودين " بشيء من السخرية وتحدث :
من يراه يعتقد بأنه مخبولٌ لا أكثر ..
قاطعه " ويليام " بقوله :
ليس مخبولا ، لعلك لا تدري ما هو السبب الذي جعلني أرغب في جعله ينضم إلينا ، ذلك الشاب يمتلك رغبة و نزعة قوية ، إنه مليء بالكثير من القوة ، الحركات التي علمته إياها قد تكون قتالية فعلا إلا أنها ليست للمبتدئين أمثاله ، وأنا أنظر إليه الآن .. صمت قليلا إنه أنه تابع بعد أن زفر بقوة :
وأنا أراه بهذا الشكل يجعلني أخشى بأنني قد لا أكون قادرا على الوصول إلى مستواه ذات يوم ، هذا الشعور يجعلنيْ أكره نفسي وألومها كثيرا ! ..
راح " أودين " يتطلع إليه بقليل من الاستغراب إلا أنه وبعد مدة فكر بأمر غريب ، مزاج " ويليام " عكر فعلا هذا اليوم وربما يكون ذلك الشخص هو السبب ، لقد علم بأن عواقب سؤاله القادم ستكون وخيمة إلا أنه أراد التأكد لا أكثر إذ أنه تحدث بعد أن التقط نفسا عميقا :
هل أنت خائف ! خائف من أن يكون مثل ذلك الشخص ؟ أنت تخاف من أن يولد " العقرب " من جديد أليس ..
لم يستطع أن يكمل كلماته بسبب لكمة مُوجعة وُجهت إلى معدته حينها ، راوده شعور فظيع حينها إذ أنه أحس وكأن أحشاءه تمزقت بقسوة وكأنه على وشك تقيؤها من شدة ضربة " ويليام " له ، تقوس ظهر العجوز " أودين " بعد أن أمسك بمعدته وراح يسعل بقوة بعدها جثى على ركبتيه أخيرا محاولا التخلص من نظرات " ويليام " تلك التي ستثقبه من حدتها ، ما هي إلا لحظات قليلة حتى أدار له ظهره وغادر متوجها إلى غرفته ، تنهد " أودين " براحة أخيرا واستند بظهره على الأريكة خلفه بتمهلْ ! ..