عرض مشاركة واحدة
  #166  
قديم 06-10-2016, 04:00 AM
 







19
[ أحلامُ ليلٍ ماطرٍ ]


بعد عامين ..

عدل ياقة قميصه السماوي وهو يسير في السوق فخورًا بنفسه .

أستاجر غرفة صغيرة في ضواحي المملكة وحصل علي عمل في أحد المشافي، لم يكن دخله يكفيه حقًا لكنه لم يتذمر .

شعر براحة كبيرة تغمره بعد استلامه رسالة من جاكي بالأمس تبشره بتحسن صحة آماندا كثيرًا .

تغلغل في الأسواق يبحث عن شيء يسد به جوعه فكان الزحام خانقًا .

كان معظم الناس متجمهرين في حلقة حول شيء ما، منهم من يهلل ومنهم من يطالب بالتوقف ومنهم من كان صامتًا يحدق ببرود كالرجل الذي يقف بجانبه .

نظر له هيرو بطرف عين واغتلس النظر إلى حيث ينظرون .

ووسط تلك الهتافات الغريبة والصرخات وأصوات التصفيق الحارة كانت فتاة نحيلة شقراء مقيدة بالسلاسل ترتدي ثوبًا رثًا سكري اللون قابعةً على الأرض خائرة القوى تتهاوى عليها ضربات السوط محدثةً شقًا في ملابسها وجلدها الذي ينزف بغزارة .

أتسعت عيناه وصرخ في نفسه :
- تـــوقـف !

فكان كغيره من المطالبين بالتوقف لكن أحدًا لن يستمع إليه .

كانت الفتاة شبه ميته بوجه خالي من التعابير ودموعها تنسكب على وجنتيها المصبوغتين بلون التراب بصمت وكأنها فقدت الإحساس .

- إنها أوامر ملكية ألم تسمع بالأمر لقد قتلت هذه الجارية ملكتنا لذلك عليها أن تعاقب .

التفت هيرو إلى الرجل الواقف بجانبه منصدمًا "الملكة" ؟ هل قتلت تلك الفتاه حقًا إيمي ؟! لقد سمع من جاكي موضوع حول ذلك .. إيمي هي المعنية بلا شك !

تابع الرجل :
- إلا إذا أشتراها أحد ولا أظن أن أحدًا سيفعل، نحن حتى لم نرَ ملكتنا لنقرر إن كنا نحبها أو لا ولن يفكر أحد في شراء جارية بهذا الثمن لن تكمل أيام وستموت .

هز رأسه مشككًا فسأل هيرو بانفعال :
- وكم ثمنها ؟

- ثلاثة آلاف قطعة .. لستُ مجنونًا لأضيع هكذا مبلغ رغم بخسه .

ضحك الرجل ضحكة مجلجلة ؛ فشد هيرو على قبضته ليكبح غضبه وعينيه معلقتين بالفتاة .

عاد بخطواته للخلف واستدار ليكمل ركضًا إلى منزله، لم يكن منزل بالمعنى بل غرفة نوم تحتوى دورة مياة صغيرة .

فتح الباب وظل ممسكًا بمقبضه للحظات ليستعيد أنفاسه، وزع نظراته في المكان بعشوائية حتى أستقرت على كيس النقود الذي يعتلي المنضدة، من حسن حظه أنه قد أحصاهم قبل خروجه .

أخرج من جيبه كيس نقود صغير ووضع ماله وأبقى على ثلاثة آلاف قطعة ليدس الأول في جيبه ويبقي الثاني يحمله في يده .

خرج من بين الحشود مندفعًا ورمى كيس النقود أمام الجلاد قائلًا بخشونة :
- سأشتريها !

ابتسم الجلاد ممثلًا الرقة :
- اوه يالقلبك الرقيق أهي قريبتك ؟

رد ببرود :
- ليس لدي أقارب .

أوقف الجلاد الفتاة من شعرها فتأوهت متألمة ورماها نحو هيرو الذي تلقاها ببرود، صفق الجلاد قائلًا :
- لقد أنتهى المرح عودوا لمنازلكم لا تنسوا زيارتنا عمَّا قريب .

بدأ الناس يرحلون متأففين وأصبحت الساحة شبه خالية، أنحنى الجلاد ليلتقط كيس النقود ورمق هيرو بنظرة لم يعلم مغزاها فقابلها بالبرود .

حمل الجارية وسار بها السُبل عائدًا إلى غرفته بملامح جامدة متجاهلًا الناس من حوله وهمهماتهم المتسائلة، وضعها على السرير وأزاح خصلات شعرها عن وجهها ليبدأ عمله كطبيب .

كان وجهها متورمًا يصعب تحديد ملامحه، أحضر وعاء ماء وبدأ بتنظيف جروح وجهها وتضميدها وبعد أن أنهى لف رأسها بشاش أبيض .

عاد إلى الحوض يغسل يديه وباله مشغول بكيفيه الإنتقام ! .. إنتقام ؟! .. هل استطاع الإنتقام لنفسه لينتقم لها .. ؟!

نظر لنفسه بالمرآة وابتسامة استهزاء تعلو محياه تلاشت ابتسامته عندما رأى انعكاس حركتها في المرآة ونظر إليها من فوق كتفه فوجدها مستيقظة، قال آمرًا بصرامة :
- لا تعبثي بالضماضات .

رفعت الجزء العلوي من جسدها محاولةً الجلوس وحركت شفتيها، بدا له أنها تقول شيئًا فأغلق الصنبور متمللًا واتجه نحوها بصبر نافذ :
- ماذا الآن ؟

قالت بصوت ضعيف متقطع من بين أنفاسها المضطربة :
- هيرو ؟

أتسعت عيناه، دهمه سؤالها كيف عساها أن تعرف بالأمر ؟! تابعت وكأنها تسمع فيمَ يفكر :
- لن تمنعني الأصباغ من التعرف عليك .

ظلت الكلمات تردد صداها في أذنيه : إن كانت تعلم بشأن الأصباغ فهي بلا شك ..

أغمضت عينيها وأمسكت برأسها متألمة :
- كفاك غباءًا إنها أنا إيمي .

ابتسم :
- لقد حزرت .

سرعان ما تلاشت ابتسامته وحل محلها نظرات شفقة على حالها المزرية .

**

خلعت حذاءها ودخلت المنزل مرهقة، ألقت حقيبتها بإهمال وارتمت على الأريكة ووضعت ذراعها الأيمن فوق عينيها حاجبةً عنهما الضوء .

- إلى متى ستظلين هكذا ؟
سألها جيف محدقًا في حقيبتها الملقاة على الأرض بقلق .

ابتسمت بوهن من دون النظر إليه :
- الأمر ممتع، أحيانًا تتطلب المتعة بعض الجهد .

جلس على الأرض أمام الأريكة الممددة عليها وأشعل التلفاز :
- هل تناولتِ شيئًا ؟
سأل وعينيه مسمرتان على التلفاز يقلب القنوات بملل، تنفست بانتظام قبل أن تجيب :
- ليس بعد لا أشعر بالجوع .

جلست ومدت يدها نحوه فناولها جهاز التحكم .

- وماذا عنكَ هل تناولت شيئًا ؟

لاحت على ثغره طيف ابتسامة باهتة :
- أصبحك عجوزًا متقاعدًا الآن، لا أجد من يحضر لي الطعام .

ضحكت :
- لو رآك أحدهم لظنك أخي الصغير وليس العكس .
أومأت برأسها باسمة :
- من الجيد أنك لا تخرج من المنزل و إلا ظنوني جدتك .

رفع كتفيه مستسلمًا :
- ليس هناك ما يسلي .

زمت شفتيها وناولته جهاز التحكم بغضب طفيف :
- سأحضر لك شيئًا لتأكله يبدو أن الجوع أثر على عقلك .

ضحك بخفوت عندما تأكد من ابتعادها ورفع يده مطالبًا :
- أصنعي شيئًا يمكن أكله لقد مللت الطعام المحروق، أخبريني إن كنتِ تريدين شيئًا ابتاعه لكِ .

ضحكت على طرفته وارتدت خفًا رقيقًا من البلاستيك وأمسكت مقبض الباب لفتحه، هتفت :
- و منذ متى أصنع شيئًا محروقًا سأريك الآن مواهبــ ..

بترت جملتها عندما خطت قدمها أرضية المطبخ وتوسعت عينيها برعب، وقفت متسمرة ثاغرة الفاه لدقائق .

تسللت إلى أنفها رائحة حريق وبدا المطبخ كأن عاصفةً رعدية عصفت بداخله، الجدران غطتها ألوان الطعام المختلفة و الفرن يتصاعد منه دخان أسود و بقايا الطعام تناثرت في كل أرجاء المطبخ .

أجفلت و تقدمت خطوة أخرى تحسست قدمها شيئًا تحت خُفِها فأنزلت بصرها ببطئ ووضعت كفها الأيمن على قلبها قبل أن يسقط .

أتسعت عينيها عندما رأت شظايا الزجاج تغطي الأرضية، تنفست بعصبية و بدأ صوت أنفاسها يعلو تدريجيًا ، صرخت بأعلى صوتها :
- جيــــف مــاذا فعلــت ؟!

**

"أنا وحيدة" حقيقة كان يصعب عليها البوح بها أمام القابع أمامها يتشوق لسماع نهاية قصتها .

حدث كل شيء بلمح البصر عندما دخل هيتو غرفتها هائجًا ولم تعرف السبب هددها بالقتل وتركت صفعاته أثرًا في جسدها إنما قلبها الذي بات هشًا محطمًا، لمحت من خلفه امرأة تقف عند الباب، كانت ترفع شعرها الحريري لأعلى مُشبكةً ساعديها تنظر لجسد إيمي الملقى على الأرض بطرف عينها وعلى شفتيها ابتسامة خبيثة .

عندما أنتهى هيتو من نوبة غضبه أقتربت منه المرأة بدلال وربتت على رأسه وكأنه جرو لها .

سرت رعشة في جسدها ليهرع هيرو ويحضر سترة يدفئها بها .

سأل بقلق :
- أتشعرين بالبرد ؟

لم يسمع منها استجابة كان وجهها خالٍ من التعابير وهي تراقب اشتعال الحطب في المدفئة بصمت وأضفت ألوان الغرفة الباهتة جوًا كئيبًا على الجلسة .

- فيمَ تفكرين ؟

بدت شاحبة عندما التفتت إليه، نطقت بكلمات متقطعة :
- أعدني إلى الأرض .

تلعثم :
- مهلًا .. مهلًا .. الأمر ليس بهذه السهولة .. علينا العودة أولًا للقصر .

لم يعلم لِمَ قال هذا ، صمت برهة وأردف :
- يمكن لنيكول أن تساعدنا .

كان اعتماده عليها أكبر مما تخيل فأزعجه الأمر، قطب حاجبيه وأغلق عينيه ليتمالك أعصابه .. وزفر .

انسابت الدموع من زاويتيّ عينيها و هي تتشبث بذراعه متوسلة :
- أرجوك أعدني إلى الأرض لم أعد أحتمل .

حرك رأسه بانفعال :
- لا يمكنني .

أرخت يديها من على كتفه وحدقت به محبطة لقد كان أملها الأخير .. ظنته سيساعدها .

تدارك الأمر فقال بصوت هادئ :
- ليس لأنني لا أريد بل لأنني لا أستطيع حقًا، لا أعرف كيف أفتح البوابة حاولت كثيرًا و فشلت لقد أضعت رمزها وعجزت عن تذكره .

- وماذا سنفعل هل سأظل محتجزة هنا للأبد .

كست وجهه ملامح الجدية وهو يقول :
- قفي سنذهب إلى القصر يمكن لأحد أن يساعدنا .

ضحكت بمرارة :
- ألم أخبرك بعد ؟ لقد تركا القصر منذ زمن .

لم يفاجأه الأمر كثيرًا فقد توقع ذلك من قبل .

ضمت قدميها إلى صدرها ودفنت وجهها بينهما باكية :
- أتسائل ماذا كنت ستفعل لو كنت مكاني ؟ تخلى عني الجميع ولم يعد لي مكان يؤويني في هذا العالم .

ضحك بانفعال وظهرت على تقاسيم وجهه إمارات الإنزعاج :
- وكأنهم لم يفعلوا !

كانت الغرفة بجدران رمادية باهتة، يتوسطها سرير صغير لشخص واحد بشراشف بيضاء وعلى يمينه باب صغير لدورة المياه وفي زاوية الغرفة مدفئة مُرَص بجانبها رُزمة من الحطب .

قلب عينيه بانزعاج ووقف قائلًا :
- خذي قسطًا من الراحة سنسافر بعد أيام سأكون في الخارج إن احتجتِ لشيء .. لا تطيلي السهر .

وعندما لم يلقى إجابة تنهد وخرج .

**

وقفت تدندن في المطبخ بكلام غير مفهوم ويديها مشغولتان بتقطيع الخضراوات بمهارة .

رن جرس الباب فقالت بصوت عالٍ :
- جيف هلا سمحت وفتحت الباب .

لم يكن ينتظر منها أمرًا فقد كان واقفًا عند الباب يهم بفتحه بالفعل .

أدار المقبض ونظر للشاب الواقف أمامه يتفحص ملامحه : شعر أسود وعينين بسواد الفحم وتلك النظارة مستطيلة العدسات التي يرتديها فوقهما، لا يذكر أنه قابل أحدًا بتلك الصفات .

حول نظره للفتاه التي كان يمسك بها وهي تحيط عنقه بذراعها بدت كأنها فاقدة الوعي لم يتعرف على ملامحها لأن شعرها الذهبي كان يغطي وجهها بالكامل وهي مخفضةٌ الرأس .

رأى عيني الشاب تدور متوترتين وجبهته المتعرقة زادت الشك في نفسه .

التوت شفتاه في سخرية وهو يشير للفتاه بعينيه قائلًا :
- هل قتلتها وتريد مني المساعدة ؟

وقبل أن يتمكن الشاب من الرد ظهرت نيكول من خلف جيف سائلة :
- ما الأمر ؟

تقابلت عينيها بعيني الشاب القلقتين فأخفضت نظرها للفتاه، أخافها منظرها فهرعت إليها، حذرها جيف واضعًا ذراعه ليسد الطريق :
- أنتظري لا نعلم من يكونان .

تجاهلت تحذيره وانحنت بحركة رشيقة لتمر من تحت ذراعه، تناولت الفتاة وابعدت شعرها عن وجهها لتقيس حرارتها .

اتسعت عيناها في ذهول :
- إيمي ؟!

نظر لها جيف متفاجأ من سماع الأسم وهيرو أيضًا لم يستطع إخفاء دهشته من سرعة تعرفها عليها .

حول جيف نظره للشاب :
- من تكون ؟

- أرجوكم ساعدوها .

ساعد جيف في إيصالها إلى غرفة نيكول ومددها على السرير، أثار الشاب حفيظته ولم يغب ثانية عن ناظريه، سأل بعد أن بدأ الوضع يستقر :
- أخبرني الآن بالقصة .

ألقى نظره خاطفه على نيكول التي سرعان ما انضمت لهم بعد أن غطت إيمي بنوم عميق .

أغمض هيرو عينيه محاولًا ترتيب أفكاره وقرر أن يبدأ القصة بكذبة :
- أنا مارتن، الطبيب مارتن ألفن من مملكة شارك ...

وشرع يسرد قصة التقاءه بإيمي مخفيًا بعض الحقائق التي قد تكشف هويته الحقيقية حتى لو لم يلقى تصديقًا من جيف بدت نيكول مهتمة بمعرفة التفاصيل .

أنقضى نصف النهار .

جلس هيرو وجيف على الأريكة أمام التلفاز و لم يتجرأ أحدهم على تشغيله بينما بقيت نيكول مع إيمي في الغرفة .

حاول هيرو الحفاظ على هدوءه تحت ضغط نظرات جيف المتفحصه والتفت له باسمًا :
- لديكم منزل جميل .

فأشاح جيف بنظره بعيدًا وتنفس هيرو الصعداء فهذا جُل ما أراده .

نزلت نيكول من الطابق العلوي ودخلت المطبخ لتعد بعض الحساء لإيمي، همست لهم بحزن :
- إنها نائمة .

مضت ساعات ولايزال الشابان يحافظان على المسافة الكبيرة بينهما وكل منهما ينظر في اتجاه مختلف .

- هيرو .

أتي صوتها ضعيفًا أقرب إلى الهمس تجمدت أوصال هيرو والتفت لها ببطئ .

كانت تقف أعلى السلم وثوبها الطويل تلامس أطرافه الأرض .

كان جيف شاردًا، لمح وجه هيرو المتوتر فنظر حيث ينظر ورأها واقفة، بدت خائرة القوى وهي تستند على حواف السلم خوفًا من السقوط .

وقف قلقًا وقبل أن يتمكن من تحذيرها خطت أولى خطواتها نزولًا فتعثرة وسقطت على رأسها .

لم يستغرق الأمر أكثر من ثانية حتى امتلأت الأرض بالدماء !

هرع كل من هيرو وجيف يناديان بأسمها، قال هيرو فزعًا :
- لا جدوى من الأمر علينا نقلها لأقرب مشفى في الحال .

كان الصوت صاخبًا فأطلت نيكول برأسها من داخل المطبخ لتستطلع الأمر .

لم تستطع أن ترى سوى ساقيها المددتان على الأرض وثوبها الذي صبغ بالأحمر القاتم توقف قلبها لحظة وسقط الوعاء من يدها فتحول إلى شظايا وانسكب محتواه على الأرض .

هرعت نحوها صائحة :
- إيمـــي !

بدت الصورة مشوشة في عينيها الشبه مغمضتين وتداخلت الأصوات فلم تتعرف على إحداها حتى حل السكون فجأة وبدت الصورة واضحة أمام عينيها : حائط أسود يسد مجال رؤيتها وشعرت بخدر يشل حركتها .. أطبقت جفنيها مستسلمةً للموت !

**

فتحت عينيها فرأت آخر شيء أمكنها تذكره جدار أسود يعيق مجال رؤيتها عدا أنه لم يبدُ كجدار بل ساحة واسعة في جوف العتمة، ولولا ضوء القمر الخافت لظنت أنها عمياء .

سُكون الجو كان مرعبًا وكانت الأرض رطبة باردة تحت قدميها الحافيتين .

تفاجأت أنها كانت واقفة فانكمشت على نفسها وواصلت الخُطي المرتجفة وعينيها مصوبتان إلى بقعة النور التي خلفها القمر على الأرض وكأنها انعكاسه على مرآه .

كان عقلها خاويًا وملامحها غير مفهومة . شيء ما يحثها على التقدم .. دافعٌ تجهل مصدره .

عصفت الرياح فجأة وصفعت وجهها وراقصت أطراف ثوبها فتطايرت خصلات شعرها إلى مدى بعيد وهدأت ليستقر خلفها على الأرض تجره معها في سيرها فتتلطخ أطرافه بالثرا .

خطوة واحدة تفصلها عن بقعة الضوء ما إن خطتها حتى تبدل الجو من حولها إلى ربيعي دافئ وتبدل لون ثوبها الداكن إلى لون أصفر أكثر بهجة وراحة، تفحصت المكان من حولها .. كانت تقف في وسط بستان من الزهور الصفراء تحيطه خضرة الأعشاب الساحرة .

أغمضت عينيها وأرخت يديها لتلامس أناملها أوراق الزهور كان ملمسًا رقيقًا ناعمًا سرعان ما تلاشى عندما تذكرت معناه ففتحت عينيها بفزع .

الأصفر لون الفراق !

رأت مجموعة من الناس حولها، يجرونها معهم في سيرهم على ذلك الدرب الصخري الطويل، انتابها الفزع عندما لمحت أكمام ثوبها وقد تبدلت للون الأسود وانتبهت أن الكل من حولها يرتدي نفس اللون .

خرجت من المجموعة بصعوبة ووقفت بخوف تراقب ما يفعلون ولم تهدأ يديها عن الإرتجاف عندما رأتهم يدخلون المقبرة .

- هل أنتِ سعيدة ؟

صرخت إيمي وانتفضت من مكانها عندما سمعت ذلك الصوت فاقتربت منها الطفلة تسأل بإلحاح طفولي :
- أجيبيني هل أنتِ سعيدة ؟

شعرت إيمي برغبة في الصراخ فقد كان شكل الطفلة الملائكي يتنافى مع جو الرعب الذي كانت تعيش فيه .

كان شعرها البني ينسال على كتفيها بنعومة وعينيها الزمرديتين تشع بريقًا طفوليًا آسر، وترتدي فستان أبيض يصل إلى أسفل ركبتيها بقليل .

مدت كفها الصغير إلى إيمي بابتسامة هادئة فتراجعت مرتعبة، لتحدق بها الطفلة بدهشة :
- ما بك وكأنك رأيت شبحًا ؟

هزت رأسها وقالت بصعوبة :
- إينو ؟

تهلل وجهها فرحًا وردت بسعادة :
- من الجميل أن تتذكريني بعد هذه السنوات .

مدت لها إينو يدها من جديد فترددت إيمي قبل أن تمسكلها .

سحبتها الطفلة إلى حيث يقف الناس فكان صوت الأنين يعلو كلما قصرت المسافة بينهما .

لم يظهر على الناس أي دليل يشير أنهم أنتبهوا لها وإلى الطفلة ذات الفستان الأبيض التي تجرها .

أبطأت إينو من سيرها عندما وصلت إلى القبر وأفلتت يد إيمي مبتعدة عنها لتفسح لها المجال للرؤية .

ألقت نظرة خاطفة على صخرة القبر غير مستوعبة ما الذي يجري فلمحت أسمها وكنية عائلتها نُقِشا بخط واضح .

أتسعت عينيها ونظرت إلى إينو المبتسمة وجسدها يتمايل في الهواء إلى الأمام و الخلف برشاقة، بالكاد أستطاعت السؤال :
- من هؤلاء ؟!

- إنهم عائلتك ألا تذكرين ؟

حولت نظرها من جديد إلى جماعة الناس الواقفون بجانبها فلم تتعرف إلى وجوههم وشد انتباهها مظهر المرأة الشقراء التي في المقدمة كانت تستند إلى كتف شاب ذو شعر بني مائل إلى الأشقر بدت منهارة شبه واعية وكأنها فقدت الوعي بالفعل .

نظرت إلى عيني الفتى فكانتا مصوبتان إلى الأمام، لمحت فيهما زرقة المحيط وقد عكر الحزن صفائهما .

- أخبريني الآن هل أنتِ سعيدة ؟

- من هؤلاء ؟
كررت عليها السؤال بغضب هستيري فزمت الفتاة شفتيها مصطنعة الحزن :
- لقد أخبرتك توًا .

- أتمزحين ؟! .. لا أتذكر أني قابلتهم قبلًا !

هزت إينو رأسها بيأس :
- إيمي .. إيمي .. إيمي .. بالطبع لا تذكرين .. أنظري إلى نفسك أنتِ ميتة !

وأشارت إلى أسمها المحفور على القبر مُذكرة .

تهاوت قدماها وسقطت على الأرض جاثية تحدق بها منصدمة، تابعت الصغيرة بمرح :
- مثلي !

حملت الرياح كلمتها ورددت صداها من حولهما، شعرت إيمي بثقل في رأسها فأسندته بين كفيها غير مصدقة، تمتمت :
- يجب أن أستيقظ !

عبست إينو وعقدت حاجبيها تسأل :
- ألست سعيدة بالبقاء معي ؟

وقبل أن تتمكن من الرد أنتابها الرعب عندما سمعت صوتًا يناديها، كان صوتًا بعيدًا غير معروف المصدر .

كرر الصوت بنبرة قلقة :
- إيمي أين أنتِ ؟ .. أجيبيني إن كنتِ تسمعين .

رفعت رأسها إلى إينو فرأتها تنظر لها متوسلة ألا تجيب .

- يمكنك البقاء معي .. الوضع ليس سيئًا لهذه الدرجة .. أنتِ حتى لا تذكرينهم .. فكيف ستتألمين ؟

- إيمي ؟ .. أجيبيني .

كان الصوت أكثر إلحاحًا ووضوحًا من ذي قبل وكما حدث مع بقعة النور شعرت بشيء يدفعها .. وهذه المرة للصياح : أنا هنا ! متناسية ما حولها من توتر .

شعرت بصفاء ذهنها وخلا وجهها من أي تعبير وهي تتجه إلى مصدر الصوت متناسية وجود إينو تمامًا بل أنها لم ترها فعلًا !

كان أسمها ينبع من جوف العتمة كأنه ثقب أسود يسحبها إليه مسلوبة الأرادة .

لا شيء سوى الظلام والعتمة وكأنها في صندوق أُحكِم إغلاقه فلم يدخله نور .

شعرت بثقل أجفانها فأغلقتها مستسلمةً لهذا الشعور .

سمعت أصوات أقدام حولها وهمس خفيف، قال صوت قريب منها بفرح شديد :
- لا أصدق لقد تحركت للتو !

أحست بحركة سريعة حولها وأصوات سمعت صداها في ذكرياتها، قال صوت أنثوي باكٍ :
- حبيبتي أيمكنك سماعي ؟

كان صمت غريب يحيط بها وكأنهم يترقبون فتحت عينيها ببطئ وتحرك بؤبؤا عينيها يمسحان الغرفة بذهول .

أبصرت سقف الغرفة الأبيض ووجوه من حولها تميل عليها قلقة .

- كيف ؟!
نطقت بصعوبة ولا زال الشعور ذاته يخالجها .

تلألأت الفرحة على وجوههم عندما تحدثت ونادى أحدهم على الطبيب فقدم مسرعًا .

قال الطبيب بوجه بشوش بعد أن أنهى قراءة مؤشراتها الحيوية :
- إنها بخير الآن وحالتها مستقرة لا أظن أن وقت خروجها سيكون ببعيد .

كان كلامه كبارقة أمل شعت في نفوسهم وأرسلت فيها دفء الطمئنينة، تناوبوا على زيارتها كل يوم حتى تستعيد عافيتها .

قضت معظم الوقت نائمة وعندما كانت تستيقظ كانوا يقصون عليها تفاصيل حادث السيارة الذي تعرضت له .. تلك الكذبة التي اتفقوا عليها !




يتبع ...



رد مع اقتباس