عرض مشاركة واحدة
  #122  
قديم 06-16-2016, 05:38 PM
 




الفصل الثالث و العشرون
*الظلام جزء من روحي*





بعد مرور ثلاثة أيام من محاولة اغتيال السيد لامارك..
في مكان اجتماعهم المعتاد داخل المبنى الضخم عالي الارتفاع جلس أوربان و شركاؤه حول الطاولة المستطيلة و جو من التوتر و الحيرة يسود المكان .

تحدث رئيس الاجتماع و هو شوانيير ناقما : كيف تفعل كوبرا ذلك ؟!! تتكلم عنا بطريقة سيئة أمام الصحافة و الإعلام و تصفنا بالرجال الشجعين ثم تقول أنها لا تقف في صفنا بل تعارضنا كلياً في كل أفعالنا و أقوالنا ؟!!

تكلم أوربان متخذا كعادته موقف المدافع عن كوبرا : لا بد أن لديها سبب وجيها لقول ذلك !
و أيده شخص لم يتوقع منه ذلك : "أتفق مع أوربان في هذا !"

كان المتكلم هو العجوز الضخم حاد الطباع بالينغر !

رفع شوانيير حاجبيه في استغراب : لم أتوقع منك أبداً أن تقول ذلك !

- حسناً.. لقد اعتبرت من المرة السابقة !

- لا أصدق أن هناك من يستطيع إقناعك !

أطلق بالينغر ضحكة خاتمة شبه مكبوتة : تلك المرأة مرعبة للغاية و لا أحد يجاريها في ذلك !

انضم إليهم البدين دانتون : ألا تزال كوبرا في المشفى يا أوربان ؟!!

أومأ أوربان و أضاف : إصابتها لم تكن بسيطة !

- عليك الاستفسار منها حين تذهب لزيارتها إذن !

- أجل سأفعل !


تنحنح شوانيير و قال محولا دفة الحوار لموضوع آخر : حسناً هناك تطورات مثيرة للدهشة في عالم المال خصوصاً في غرب أوروبا ! لدينا مثلاً ذلك المليونير..

في تلك اللحظة بالذات طرق الباب ! أعطى شوانيير الإذن بالدخول بنبرة حادة يملؤها السخط ! و دخل الحارس قائلا : سيدي هناك شخص يريد لقاءكم ، و هو يدعي..

غير أن ذلك الشخص و مرافقته لم ينتظرا الإذن فدلفا متجاوزين الحارس بثقة عارمة !
قال الحارس بلهجة خشنة و نظرة استهجان : هي أنت ! كيف تدخل هكذا قبل أن يؤذن لك ؟!!

صرفه شوانيير بقوله : لا يهم أيها الحارس انصرف الآن !


كان مجيء هذا الشخص مفاجأة غير متوقعة على الإطلاق !
نظر الرجال إلى بعضهم و ظلال الصدمة تبدأ بالزحف إلى وجوههم الشاحبة.. سأل بالينغر و هو يمعن النظر في ذلك القادم : هل أنت "ليدر Leader" حقاً ؟!!

أجاب ليدر بصوت رجولي حاد : و هل من الممكن أن أكون شخصاً آخر ؟!!

لم يكن وحده مظهر ليدر و الفتاة الشقراء الجامدة التي في صحبته بل حتى وقفتهما و طريقة تحدثهما خصوصاً ليدر توحي بأنهما عسكريان سابقان !

في ارتباك و قلق تكلم أوربان : ما الذي.. جاء بك إلى هنا يا ترى ؟!!

ثنا الرجل الواقف ذراعيه بنظرات متعالية : ماذا يمكن أن يكون السبب في رأيك ؟!

تكلم شوانيير في لهفة و ترقب : القائد الأعلى هو من أرسلك ؟!! نعم لا شك في هذا ، فأنت من حرسه الخاص و لا يمكنك التحرك إلا بأمر منه !

تهامس الرجال فيما بينهم :

"حراس القائد الأعلى الثمانية هنا ؟!!"

"لم قد يرسل حرسه الخاص في مثل هذا الوقت ؟!!"

"مجيؤهم المفاجئ يثير القلق !"


تحرك ليدر خطوة للأمام ثم قال بصوت جهوري : نعم ، أنا هنا بأمر من القائد الأعلى لأنقل لكم أوامره و توجيهاته !

همهم دانتون في امتعاض : و لم لم يفعل ذلك من قبل ؟!!

التفت ليدر نحوه بنظرة حادة أجفلته فلم يتوقع أن يسمع صوته الخافت من مكانه ذاك !

وزع ليدر نظراته الصارمة بين الحاضرين : ليس من عملكم أن تسألوا ! نفذوا الأوامر دون اعتراض إن كنتم تريدون الحياة !

سأل شوانيير باهتمام بالغ : إذن ما رأي القائد بما يحدث ؟!!

جلس ليدر بغرور على أريكة مقابلة لهم و هو يطالعهم باحتقار جلي : "حمقى !" هذا ما قاله حين سمع بأخباركم !
<أطرقوا رؤوسهم مخفين إنزعاجهم بينما استند ليدر بمرفقيه إلى ركبتيه و استأنف : لقد نصبتم تلك المرأة قائدة عليكم دون استشارة القائد الأعلى ، و هو غاضب جداً بسبب ذلك !

بانت آمارات الرعب بوضوح على وجوههم ! فهم أكثر الناس دراية بقسوة ذاك القائد و شراسته !
حاول أوربان إيجاد عذر مقبول لكنه لم يفلح والآخرون لم يكونوا أفضل حالاً .. لذا آثروا الصمت منتظرين ما سيقول ليدر بعد ذلك !



⭐⭐⭐



"ما أجمل هذه الأزهار !"

على هذا صوت الناعم أفاقت كوبرا ! تلفتت حولها لتجد الممرضة تفرغ باقة من زهور الجوري الحمراء في المزهرية على الطاولة ثم تقوم بتنسيقها بعناية..
رفعت كوبرا رأسها ثم اعتدلت في جلستها ، اضطربت الممرضة من استيقاظها فجأة و اعتذرت قائلة : أنا آسفة حقاً على إيقاظك يا آنسة !

سألت كوبرا في انزعاج و هي ترمق الورود الجميلة بنظرة اشمئزاز : من الذي أحضرها ؟!

أجابت الممرضة : بصراحة لا أعلم .. لقد رأيتها هذا الصباح موضوعة على الطاولة عندما دخلت الغرفة !

عقدت كوبرا حاجبيها : لا بد أنه ذلك الأحمق بيكارت ! <التفت نحو الممرضة و بنبرة آمرة : تخلصي منها حالاً !

فتحت عيناها في اندهاش : لكن يا آنسة..

أمرت المعنية بصوت أكثر حدة : قلت لك تخلصي منها لا أريد رؤيتة هذه النباتات المقرفة !

- حسناً يا آنسة كما تشائين !

ثم أخرجت الزهور من المزهرية و حملتها خارج الغرفة..
تمتمت مغتاظة : ما بال تلك الفتاة العجيبة ؟!! هل هناك بشر في العالم يمكن أن يكره هذه الزهور الرائعة ؟!!

كانت على وشك الاصطدام برجلين عملاقين يتجهان إلى الغرفة التي خرجت منها ! حملقت فيهما باندهاش أول الأمر لكن سرعان ما استدارت و أكملت طريقها..
طرق أحدهما الباب بتهذيب ثم ولج الاثنان للداخل بعد أن وصلهما الإذن.

سألت كوبرا : إذن.. يا آغويلارد هل أنهيتما إجراءات خروجي من المشفى ؟!!

تنهد شارل : ليس بعد ! فالطبيب يرفض بشدة خروجك من المشفى بهذه السرعة سيدتي !

أضاف كارل متعجبا : إنه عنيد جداً ذلك القزم !

قطبت جبينها في غضب : من يظن نفسه ؟! لست في حاجة لموافقته ! اخرجا الآن سأغير ملابسي و ألحق بكما !

قال الاثنان بانحناءة احترام : أمرك سيدتي !


بحذر و قليل من السرعة استبدلت ملابس المشفى البيضاء بخاصتها السوداء الأنيقة !
ثم خرجت من الغرفة ، على مهل و بخطوات متأنية أخذت طريقها في الممر برفقة آغويلارد قاصدة المصعد في آخره !

اعترض الطبيب طريقها معنفا : ما هذا الذي تفعلينه ؟!! كيف تخرجين هكذا ؟!! لم يمض أكثر من ثلاثة أيام على عمليتك !

تحدثت على عجل : أنا بخير ، لست في حاجة للبقاء مدة أطول !

قال الدكتور في عجب : وكيف من الممكن ذلك ؟!!

حركت ذراعيها و هي تقول في لامبالاة : أستطيع المشي وتحريك أطرافي بشكل جيد لذا لا داعي لتلك الجلبة فأنا سأغادر في كل الأحوال !

ثم تجاوزته مواصلة طريقها بينما ظل هو يحدق فيها دون أن يستوعب ذلك التهور والإهمال من جانبها !

"يجب أن توقعي قبل ذلك على ورقة إخلاء المسؤولية !"

ختف الطبيب من وراءها فردت ببرود :

"سأفعل !"



في منطقة مجاورة..

فرغ بيكارت من عمله و وقف ينظر إلى المائدة التي أعدها برضا و فخر كبير : تبدو كوجبة في مطعم فاخر ! كم أنا مذهل !

و بينما يضع اللمسات الأخيرة.. وصل إلى مسامعه صوت سيارة في الخارج فانطلق نحو الباب و هو يهتف : "لقد وصلت !"
و فتح الباب بابتسامة مشرقة "أهلاً بعودتك !"

قابلته كوبرا بنظرات باردة و هي تدخل : ماذا تفعل في منزلي ؟! <ثم أخذت تتفحصه باستغراب : و ما هذا الذي فعلته بنفسك ؟!

كان بيكارت يرتدي مريلة مطبخ بلون أزرق فاتح و يغطي شعره بقطعة قماش بيضاء !
ضحك بيكارت : لا تشغلي بالك بهذا ! الأهم .. يجب أن تري ماذا أعددت لك !

ثم قادها إلى غرفة الطعام المطلة على الحديقة و ما إن وقع بصرها على المائدة حتى قال بيكارت باعتزاز : ما رأيك ؟! هل تصدقين أنه أنا من أعد كل هذا الطعام الشهي ؟!

تحدثت كوبرا ببرود و هي تستدير لتغادر الغرفة : لست جائعة و لا رغبة في أكل أي شيء ! كله أنت !

صاح بيكارت مستاءا : هاه ؟! هل تمزحين ؟! لقد مكثت في المطبخ ثلاث ساعات لإعداده !

- أنا لم أطلب منك أن تطبخ لي ، كما أنك تعلم أني لا آكل إلا القليل !

قال بيكارت موبخا : هذا الوضع مختلف عن السابق ! فأنت لم تتعافي بعد من إصابتك و يجب أن تهتمي بغذائك جيداً حتى تتماثلي للشفاء !

التفت إليه و أطالت النظر فيه لبعض الوقت ثم قالت بصوت لا يوحي بأي مشاعر :
و لم عليك أن تهتم لأمري أصلاً ؟! لقد اخترتك من بين كثيرين أكثر كفاءة منك و ذلك لأني رأيتك أنانيا عديم الشفقة !

ضحك بيكارت : يا لك من قاسية ! كل هذا الاهتمام و أكون أنانيا ؟! لقد جرحت مشاعري الرقيقة !

فرمقته بنظرة صارمة : اسمع أنت هنا مساعدي ! لا ربة منزل ! عليك تنفيذ ما آمرك به فقط و إلا طردتك !

زفر و قال مهدئا : حسناً ! حسناً ! فهمت إنه خطئي لأني حاولت أن أكون لطيفاً ! لكن إن واصلتي إهمالك لصحتك فلن تكوني قادرة على المضي في هذا الطريق الخطر ، بل ستموتين قبل أن تقتربي من مرادك حتى ! يجب أن تدركي ذلك جيداً !

نظرت إليه في تردد و قد أثر فيها كلامه بقدر بسيط فانتهز بيكارت الفرصة و سحبها من ذراعها بلطف و أجلسها أمام المائدة : ليس عليك أن تنهي الأطباق كلها لكني لن أقبل بأقل من نصفها ! و تذكري أن هذا من أجل هدفك و ليس من أجلي !

التقطت الشوكة و أكلت لقمة صغيرة.. سأل بيكارت بلهفة : ما رأيك ؟! لذيذ جدا أليس كذلك ؟!

ردت بعد لحظات من التفكير : ليس.. سيئا ً!

- حسناً لم أتوقع أن تقولي أكثر من هذا ! <و بينما بسحب كرسيا ليجلس : أوه الهاتف يرن !

انطلق مسرعاً نحو الهاتف في الرواق المؤدي للحديقة ، التقط السماعة بحركة رشيقة : ألو مرحبا ً! أجل هذا هو ! من معي ؟! آه أهلاً بك سيدي ! بماذا يمكنني أن أخدمك ؟! أوه نعم .. لقد خرجت من المشفى قبل قليل ! أها.. هكذا الأمر ! نعم بكل سرور … لا لا داعي لذلك سأوصلها بنفسي ! من أكون أنا ؟! حسناً..<تلفت حوله ثم بصوت منخفض أقرب للهمس : أنا صديق لها ! أنا الأكثر شرفاً بمعرفتك سيدي ! نعم إنه توقيت مناسب.. إلى اللقاء !


أغلق السماعة و عاد إلى غرفة الطعام فاستقبلته كوبرا بسؤالها : من المتصل ؟!!
جلس على كرسي بجوارها و قد ظهرت على وجهه بهجة غريبة : إنه السيد لامارك !

تعجبت كوبرا : السيد لامارك ؟! هل تحدث معك شخصيا ؟!

- نعم ! إنه رجل متواضع كما تعلمين ! <أضاف بنبرة ساخرة : وبالنسبة له ليس من اللائق أن يجعل خادمه يكلم بالنيابة عنه الفتاة التي أنقذت حياته !

تساءلت كوبرا : ما الذي كان يريده ؟!

أخذ يصب له كأساً من الماء البارد : لقد سمع بخروجك من المشفى لذا تساءل ما إذا كنت قادرة على تلبية دعوته لتناول العشاء في قصره !

- وبماذا أجبته ؟!

- قلت بأنك ستسرين بتلبية دعوته ! عرض أن يرسل إحدى سيارته الخاصة لإحضارك لكني رفضت فأنا أعلم أنك لا تثقين بأحد ! إذن هل لديك أي اعتراض على ما قلت ؟!

هزت رأسها بالنفي : لا ، هذا ما كان يفترض بك قوله !


بعد خمس دقائق نهضت من مكانها : لقد شبعت لا أستطيع أكل المزيد !

تفحص بيكارت الأطباق ثم تذمر منزعجا : يا إلهي ما أعندك ! لم تأكلي إلا لقيمات عصافير !

تجاهلت كوبرا هذا الموضوع و خطت خارج الغرفة : سأذهب لآخذ قيلولة قصيرة !! تستطيع الانصراف الآن لكن عد قبل السادسة لتوصلني إلى قصر السيد !

قال بامتعاض وهو يحمل الأطباق : حسناً .. فهمت !


و أثناء صعودها الدرج.. رن الجرس الباب ! فاستدارت ناحية غرفة الطعام و نادت : بيكارت !

خرج المعني من الغرفة بخطوات سريعة : نعم أعلم !
خلع المريلة و قطعة القماش البيضاء ثم اتجه صوب الباب و فتحه !

"آه .. بيفورت !"

تبسم بيفورت حاملاً في يده باقة من زهور السوسن : مساء الخير ! هل جلالتها موجودة ؟!

التفت بيكارت نحو كوبرا التي كانت لا تزال واقفة في مكانها فقالت : دعه يدخل !
ثم بدأت تهبط الدرج بينما قال بيكارت : أجل إنها موجودة تفضل !

همس في أذنه أثناء توجههما للصالة حيث تجلس كوبرا : اسمع إنها مرهقة لذا..

طمأنه بيفورت بصوت خافت : لا تقلق لن أطيل المكوث هنا !

ثم حول نظره إلى كوبرا و قال بابتسامة جميلة : كيف حالك الآن ؟!

أجابت باقتضاب : بخير ! هل أتيت لتسأل هذا السؤال فقط ؟!

وضع باقة الزهور على الطاولة أمامها برقة ثم ضحك : أنت نبيهة فعلاً ! <جلس على أريكة مجاورة ثم تنهد عميقاً : لقد جئت لأخبرك بما حدث في غيابك !

أصغت إليه بانتباه تام فأكمل : لقد بدأ القائد الأعلى تحركاته أخيراً و قام بإرسال حرسه الخاص بزعامة ليدر ! هل سبق لك و سمعت بهم ؟!

- لا ، من يكونون ؟!

انحنى بيفورت للأمام و استأنف : حسناً إنهم الحراس الثمانية للقائد و المفضلون لديه ! يمتلكون مهارات فريدة و قدرات عالية ! و للسرية الشديدة التي أحاطهم القائد بها فلا معلومات متوفرة حول أسمائهم الحقيقية أو جنسياتهم لكن أغلب الظن أنهم كانوا في السابق ضباط في الجيش أو عملاء في الشرطة السرية ! أحضرهم القائد من بلدان شتى ، مسح هوياتهم و كل ما يتعلق بماضيهم ، ثم أطلق عليهم ألقابا للتمييز بينهم ! و قد اختفوا مع القائد بعد مقتل أسرة آيون بما يقارب السنتين أي قبل أكثر من عشر سنوات ! هذا كل ما أعرفه بشأنهم !

ابتسمت كوبرا في تحد : من تعابير وجهك يبدو أن هناك شيئاً خطيرا يخطط له من تدعوه بـ"القائد" ! و من قدومك إلي بهذه السرعة أستطيع أن أستنتج أن للأمر علاقة بي !

عبر بيفورت عن إعجابه مبتسما : أحسنت يا لك من فطنة ! <ثم أكمل كلامه بجدية : نعم ! لقد أصدر القائد الأعلى أمراً نقله قائد حرسه ليدر لأوربان و الآخرين.. و هو قتلك بأسرع ما يمكن !!

صفر بيكارت في دهشة بينما انفجرت كوبرا ضاحكة بأعلى صوتها !

كشر بيفورت : هذا ما توقعته منك !

قالت بابتهاج : ذلك المهرج الجبان يضحكني جداً !

- إذن.. ما الذي ستفعلينه جلالة الملكة ؟!

وضعت ساقها فوق الأخرى مكشرة بصورة فاتنة تنم عن ثقتها الهائلة بنفسها : أظنك قد عرفت الجواب بالفعل !

ضحك بيفورت : أوه أجل أستطيع التخمين من النظر في عينيك فقط ! < وقف على قدميه : حسناً بعد أن أبلغتك بالأمر ! أظن أنه يتوجب علي الذهاب الآن !

نهضت هي الأخرى و قد ارتسمت على طرف فمها ابتسامة خفيفة : لكن لماذا تكلف نفسك عناء المجيء إلى هنا و إخباري بالأمر ؟! أظنك قلت أن لا علاقة لك أو اهتماما بما يحدث !

أمال بيفورت رأسه بابتسامة مرحة : حسناً.. أنا أكره الغدر و لا تعجبني أساليبهم الكريهة في التعامل مع الأمور ! بالإضافة إلى ذلك.. فلطالما تساءلت و أنا أقرأ كتب التاريخ.. ترى لو عاشت كليوباترا فهل كانت ستهزم ملك الرومان ؟! أتوق كثيراً لمعرفة الجواب الحاسم لهذه السؤال !

اتسعت ابتسامتها الساحرة : أظنك ستكون قادراً على معرفة الجواب عما قريب !

قفز بيكارت فجأة من مكانه : بيفورت ! لقد حضرت الاجتماع والتقيت بـ"ليدر" أليس من الخطير قدومك إلينا بعد فترة قصيرة من انتهاء الاجتماع و أنت فوق ذلك مشكوك في أمرك بسبب اختلافك عنهم ؟!

ضحك بيفورت في تهكم : لا تقلق لست بطلاً مغوارا لأضحي بحياتي ! أنا لم أحضر الاجتماع فقد استيقظت في وقت متأخر ، لكني قررت الذهاب رغم ذلك فقد أردت استشارة دانتون في بعض شؤون الشركة التي تركها والدي فأنا تقريباً فاشل في هذه المواضيع ! و هكذا.. عندما كنت أجتاز أحد الممرات متجهاً إلى غرفة الاجتماع صادف أن كان شوانيير و بالينغر واقفين في الرواق الأيمن و هما يناقشان ما حصل في الاجتماع بقلق كبير و حيرة بالغة !
أخفيت نفسي لأنصت لحديثهما فقد شد انتباهي جزء من الكلام الذي قاله بالينغر : "بحق الله ما الذي يفكر به القائد الأعلى ؟! كيف يمكننا قتل كوبرا بهذه البساطة و هي وحدها من استطاعت الصمود في وجه الكونت ؟!!"
<ثم أضاف ببراءة : و حينما عرفت عن الموضوع بالقدر الكافي أتيت من فوري إلى هنا !

قال بيكارت بشيء من السخرية : كانت مجرد صدفة و ليس عملا بطوليا كما ظننت ! كم هذا مخيب للآمال !

ضحك بيفورت ملء فمه و قال رداً على تلك السخرية : أنا أترك لك دور البطولة يا أنطونيوس !
شده بيكارت و شعر بالإهانة من من هذا التشبيه : هاه ؟!!

فجأة وضع بيفورت يده على رأسه و قد تذكر شيئاً : أووه كيف نسيت ؟!! <التفت نحو كوبرا : هناك طفلة -في السادسة على ما أعتقد- تقف خلف سياج منزلك و يبدو أنها تنتظر منذ مدة طويلة ! حاولت الاستفسار منها لكنها أبت الحديث معي ! أظن أنه من الأفضل أن تذهبي أنت لرؤيتها !

قطبت جبينها و قالت مستنكرة : طفلة ؟!!

ثم انطلقت إلى الخارج وقد ظهرت على وجهها تعابير الانزعاج يتبعها بيكارت و بيفورت !

كانت الطفلة الصغيرة ذات الشعر البني القصير لا تزال في مكانها ! و حينما لمحت كوبرا قادمة في اتجاهها غمرتها سعادة عظيمة فاضت من عينيها الخضراوين !
تعجبت كوبرا من تصرف تلك الطفلة التي لم ترها في حياتها قط !

اقتربت أكثر حتى تقلصت المسافة بينهما لأقل من متر ثم سألت ببرود : من أنت أيتها الصغيرة ؟!

تبسمت الطفلة ابتسامة عريضة تجسد كل براءة الطفولة : اسمي مايا !

بالنبرة الباردة ذاتها سألت : و ماذا تفعلين هنا ؟!!

ردت الطفلة و بهجتها تتضاعف : كنت أنتظرك.. يا أختي !!

صاحت كوبرا في ذهول : هاه ؟! قلت أختك ؟!! ما الذي تهذين به أيتها الصغيرة ؟!!

و لم ينطق الاخران بشيء إذ لم يكونا قد استفاقا بعد من الصدمة !

نظرت إليها الطفلة بعينيها الصافيتين : أجل أنت أختي ! هذا ما شعرت به حين رأيتك أول مرة !

تنهدت كوبرا في ضيق و نفاذ صبر ثم سألت بجفاء : و ما الذي جعلك تشعرين بهذا ؟!!

تبسمت مايا و بصوتها الرقيق الهادئ أجابت : لأنك مثلي !

اتسعت عيناها الزرقاوان دهشة و لزمت الصمت لفترة !

فسأل بيكارت بلطف : أين والداك يا مايا ؟!

بان في عينيها الصغيرتين مقدار ضئيل من حزن مكبوت : لقد ماتت أمي قبل يومين ! أما أبي فلم أره في حياتي ! إنهم يريدون إلقائي في ملجأ للأيتام لكني لا أريد ذلك !

دنا بيفورت منها و ربت على رأسها بتعاطف !

أما كوبرا فأشاحت بوجهها بعيداً : ملجأ الأيتام ليس بذلك السوء الذي تتصورينه ! كما أنني لا أحب الأطفال و الاعتناء بك ليس من مسؤوليتي !

أدارت لها ظهرها لتغادر.. فأمسكت الطفلة كم معطفها بكلتا يديها مظهرة لها ابتسامة العذبة النقية : أنا.. سأجعلك تحبينهم ! أعدك بذلك ! لذا.. أرجوك لا تتركيني وحدي يا أختي !

و من دون أن تلتفت إليها ردت بصوت أقل حدة : أنا.. لا أستطيع..

حررت يدها من القبضتين الصغيرتين ثم بتمهل أخذت تعود أدراجها للمنزل..
استدار بيكارت نحو الطفلة.. فإذا به يسمع قرقعة معدتها الخاوية ! سأل متعجبا : متي آخر مرة أكلت فيها ؟!

وضعت مايا يدها على بطنها : مساء أمس !

- أوه يا إلهي ! هذا ليس جيدا ً! < التفت نحو كوبرا التي استدارت لتنظر في اتجاههم بتعابير لا تحمل أي معنى..

سأل : هذه الطفلة لم تأكل شيئاً منذ أمس ! و لقد تبقى الكثير من الطعام في المنزل لذا لن تمانعي إن..

- افعل ما يحلو لك !

قالت ذلك و أكملت سيرها إلى المنزل !

أمسك بيكارت يد الطفلة مايا بابتسامة انتصار : و الآن هيا لندخل إلى البيت مايا !
أشرق وجهها بسعادة غمرت قلبها الصغير !


تبسم بيفورت برقة و تحدث للمرة الأخيرة قبل مغادرته : من الرائع رؤية هذا الجانب منها ! كنت محظوظا لأشهد هذا المنظر النادر !

تكلم بيكارت في تباهي : هه ! أنا محظوظ دوماً !

ضحك بيفورت ثم قال بنبرة لطيفة لكنها تفيض سخرية : نعم أنت محظوظ لتواجدك قريباً منها لكن لكل شيء ثمن ! فاحرص على ألا يكون مصيرك كأنطونيوس المسكين.. ها ها ها !

استاء بيكارت و حاول أن يكبح نفسه عن ضربه : أنطونيوس مجدداً ؟!!

أطلق بيفورت ضحكة خبيثة ثم رحل و هو يلوح له بيده مودعا !

- ذلك اللعين ! <ثم نظر إلى الصغيرة التي كانت تحدق فيه و تبسم بود : آه.. لا تهتمي ! لندخل بسرعة مايا ! العم بيكارت أعد طعاماً شهيا لن تنسيه ما حييت !

كان المنزل حين دخلاه ساكناً تماماً من أي حركة أو صوت !

سألت مايا : أين أختي ؟!

حك بيكارت رأسه : لا شك أنها ذهبت لأخذ قسط من الراحة في غرفتها..
( تلك العنيدة إنها بالكاد تقف على قدميها.. من المؤكد أنها كانت تتألم كثيرا خلف ذلك الوجه الجامد ! )


جلست مايا في مكان كوبرا و ناولها بيكارت الشوكة و الملعقة فبدأت تأكل بنهم و شراهة !

ابتهج بيكارت لذلك : هل أعجبك ؟!

أجابت الطفلة باستحسان كبير : نعم إنه ألذ من الذي كانت تعده أمي !

هتف الألماني و قد انتفخ صدره و ازداد غروره لهذا المديح : ها ها ها نعم الرجال أفضل من النساء في كل شيء !

و أصابت رأسه في اللحظة ذاتها قارورة ماء فارغة قذفت نحوه !

"أنت تثرثر كثيراً !"

قالت كوبرا ببرود و هي تدخل الغرفة من الباب الزجاجي المفتوح على الحديقة مباشرة !
سرت مايا كثيراً لرؤيتها.. أما بيكارت فالتفت إليها ثم ضحك : آه ظننتك قد خلدت للنوم الآن !

أغلقت هاتفها المحمول ثم وضعته على المنضدة : كان علي أن أجري اتصالاً مع آغويلارد لمعرفة آخر الأخبار !

- إذن هل هناك من مستجدات على الساحة ؟!

دفنت نفسها في الأريكة الوثيرة مغمضة عينيها : لا .. ما زالوا في حيرة من أمرهم و لم يتفقوا بعد على قرار واحد !

و بينما تواصل مايا أكلها أسقطت في غفلة منها قطعة من اللحم على ثوبها ! جلب بيكارت منديلا وأخذ ينظف ثوبها ، فعبست مايا : أنا آسفة !

- لا بأس !

و فجأة شعرت الصغيرة بأنامل باردة تلامس يدها.. نظرت إليها فإذا بها كوبرا : أنت تمسكين الشوكة بطريقة خاطئة أيتها الصغيرة !

شعرت مايا بالإحراج : أنا آسفة أختي !

عدلت كوبرا من وضع الشوكة في يدها : لا داعي للاعتذار ! أمسكيها بهذه الطريقة و كلي على مهل !

قالت الطفلة بسرور بالغ : حاضر سأفعل أختي !

بعدها مباشرة غادرت كوبرا غرفة الطعام دون أن تلاحظ الابتسامة الدافئة التي ارتسمت على وجه بيكارت وهو يمعن النظر فيها !


قبل السادسة مساء بربع ساعة..
صعد بيكارت إلى الطابق الثاني.. اقترب من باب غرفتها ثم رفع يده ليطرق على الباب لكن قبل أن يلامسه فتح من الداخل بهدوء !

"آه لقد استيقظت لوحدك إذن ! كما هو متوقع من سيدة المسؤولية !"


كانت أكثر هدوءا و صمتاً بعد أخذها لتلك القيلولة كما أن وجهها ازداد نضارة و حيوية ! نزلت الدرج وهو خلفها..

- السيارة جاهزة ! هل ننطلق الآن ؟!

تلفتت في أرجاء المنزل : أين تلك الطفلة ؟!

أطال النظر فيها من الخلف بابتسامة خفيفة : إنها في غرفة الجلوس تشاهد برنامجا للأطفال على التلفاز !

وجهت نظرها نحوه : بيكارت ابق أنت هنا ! أنا سأقود السيارة و أذهب بمفردي !
صاح مستنكرا : ماذا ؟! ما هذا الذي تقولينه ؟! أنت لا زلت..

قاطعته بلهجة صارمة : أنا بخير تماماً ! لا يمكننا ترك هذه الطفلة وحدها في المنزل ! فمن الممكن أن تكسر تحفي الثمينة أو تقفز فوق أثاثي الفاخر !

ضحك بيكارت في سره و قال : حسناً كما ترغبين سأبقى لأحمي منزلك من هذا الوحش الصغير ! ( يا إلهي ! هل هذه هي طريقتك لقول : أنا قلقة من تركها وحدها في المنزل ؟! )



بعد مرور بعض الوقت و بينما السيد لامارك جالس في حديقة قصره البهيجة الواسعة.. تقدم خادمه الشاب و قال باحترام : سيدي لقد وصلت الآنسة للتو !

نهض العجوز و قال بدماثة : يجب أن أذهب لإستقبالها إذن !

أوقفه الخادم بأدب : لا داعي لذلك سيدي فهي في طريقها إلى هنا !

عبس السيد لامارك : ارجو ألا يكون هذا قد أزعجها !

- لا تقلق سيدي لم يبد عليها شيء من هذا القبيل !

لم يضف السيد لامارك شيئاً ذلك لأنه لمح كوبرا تقترب..
تبسم السيد تلقائياً لرؤيتها و أبهرته القوة العظيمة التي تجعلها تتحرك بتلك الحيوية و النشاط بعد فترة قصيرة من إصابتها الخطيرة في كتفها الأيسر !

حين وصولها مد يده و صافحها بحرارة : حمداً لله على سلامتك آنستي الصغيرة ! أنا سعيد جداً لرؤيتك معافاة و بصحة جيدة !

تبسمت كوبرا و ردت بلباقة : أشكر لك اهتمامك و مشاعرك الطيبة سيدي !

أشار لكرسي قبالته : تفضلي بالجلوس آنستي !

جلست منتصبة القامة كأنها في حالة تأهب لشيء ما.. و تحدث السيد فجأة : مع أنك تبدين بحالة ممتازة إلا أنك قد خرجت من المشفى بوقت مبكر جداً ، و من غير المعقول أن إصابتك قد شفيت ! لماذا تتصرفين بتهور هكذا يا آنستي ألا تشعرين بالألم حقاً ؟!!

هزت رأسها ببطء مبتسمة : لا سيدي أنا فعلاً بخير ! إصابتي ليست خطيرة لتلك الدرجة ! لكن الأطباء يحبون تضخيم الأمور لا أكثر !


و ساد سكون غامض.. في أثنائه لم يزحزح السيد لامارك نظره مقدار شعرة عنها.. لم يكن مبتسما و بشوشاً كعادته بل هادئاً بصورة غير معهودة منه !
و فيما هي الأخرى تنظر إليه حائرة دون أن تدري ما تفعل أدركت أخيراً الشيء الغريب الذي تنضح به نظراته.. كان إحساسا بالشفقة !

قطع الصمت القاتل قائلا : في ذلك اليوم... لم رميت بنفسك لحمايتي ؟!!

شدت كوبرا على قبضتها و أجاب بابتسامة بريئة : هل يفترض وجود سبب لتساعد إخوانك من البشر ؟!

فهتف فجأة بلهجة جادة : هذه ليست مساعدة بل تضحية بالحياة !

تحدثت كوبرا مختلقة قدراً مناسباً من الإحراج : هل.. هل ترى إنقاذي لحياتك عملاً خاطئا ؟!

رد بحزم و حدة فاجأتها : الخطأ ليس في إنقاذ حياة الناس بل في إلقاء النفس في التهلكة بتهور و دون أخذ أي شيء في الحسبان ! أنت شابة صغيرة في مقتبل العمر لم يجب عليك التخلي عن حياتك بتلك البساطة و اللامبالاة في سبيل إنقاذ رجل عجوز مثلي ؟!! هذا تصرف مهمل مثير للشفقة !

حملقت فيه مذهولة تكتم غيظها بصعوبة (ذلك العجوز اللعين.. هل يعقل أنه أدرك حقيقة الأمر ؟!!)

أكمل السيد لامارك بصوت أقسى و أشد وقعا : هل حياتك في نظرك عديمة القيمة إلى هذه الدرجة ؟!!

أطرقت كوبرا رأسها حتى تخفي ذلك الغضب الذي اجتاحها و اشتعل في عينيها بعد عجزها عن كبحه من الظهور !
هدأ السيد لامارك من إنفعاله بكأس من العصير المنعش.. ثم قال معتذراً : آسف إن كنت قد بالغت في إنفعالاتي ! لكني لا أحب أن أرى شباباً يمتلكون كل مؤهلات النجاح و التفوق يهدرون حياتهم بلا أدنى اعتبار أو مسؤولية !


انتصبت كوبرا واقفة.. و هي ترمقه بنظرات حادة بدرجة مخيفة : لم التزمت الصمت إن كنت تعرف الحقيقة من البداية ؟!! أكنت تريد السخرية مني و جعلي أضحوكة ؟!!

تبسم السيد لامارك و رد بهدوء : أنا لا أسخر من أحد يا آنستي الصغيرة ! لكني لا أجد سببا يدفعني لإحداث ضجة حول أمر كهذا ، بما أن المتأذي الوحيد جراء ذلك الحادث هو أنت فقط !

لسبب ما.. تأخر رد فعلها عن المعتاد ، ثم بشكل مفاجئ استدارت لتغادر !
وقف السيد لامارك على قدميه وحاول إيقافها : أين تذهبين يا آنسة ألن تتناولي العشاء معي ؟!!

ردت بغضب يخترقه شعور بالاهانة : هذا ليس في مصلحتك أيها العجوز ! فكلما طالت مدة مكوثي معك ارتفع احتمال موتك على يدي !

ابتسم السيد لامارك إذ لم يكن قادراً على إخفاء إعجابه بها : فظاظتك هذه و حدة طباعك أفضل بكثير من ذلك اللطف المزيف و الوداعة الخداعة !

انطلقت مسرعة غير آبهة بما يقول ... عندها لم يجد العجوز خياراً آخر فقال بابتسامة ماكرة : عليك أن تكوني صبورة يا صغيرتي فضيفنا المنتظر سيصل في أية لحظة !
التفتت إليه بحدة و قالت باستخفاف تعدى حدود الأدب : ضيفك المنتظر ؟!!

اتسعت ابتسامته أكثر و ازداد صوته ثقة و قوة : ضيفنا الذي ننتظره كلانا !
رجل هذا القرن .. الكونت !!











رد مع اقتباس