اِنْقَشعَتِ الغُيُومُ ..و ظَهرَتْ شَظَايَا حَقائِق و خَفايَا الخَلائِقِ غَسَقَ القَمرُ فَأظْلَمَ سَاعَة َالخُسُوف .. سَاعةَ انْكِشاَفِ بَدرِ الحَقيقَة غَسَقت السَّمَاء فأظْلَمَت و أمْطَرَت .. حجَبتِ الدُّمُوعَ سَرِيعًا خُسُوفٌ لمْ يَدُم طوِيلًا .. و بَرَز القمَرُ بدِيعًا .. انْجَلى الأمر مُنْذ زَمَن و بَرزَتِ الحَقِيقَة قبْلَ حِين الأجَل ..! و غُصْتُ فِي عُمق الدُّجَى .. مُنْتَظِرَةً اضْمِحْلَالَ الضَّبَاب و بُرُوز شَمسِ الوِفَاقِ ..!! - جُولْيَا إلى الأمامِ ، مُنحنية قد تَكَوَّرت ، لا يكاد شعرُها الفحْميُّ يُفرَّق وسط دُجَى المَكان !! لا شيء واضِحَ المَعَالم و لا اختلافٌ تشكَّل مَع مُضيِّ الثَّوانِي و عُلوِّ ذلك الأنِين ؛ كان مُمَزقا ، مُؤلما و حاقدا في صَدَارة كمِّ ما يحمله من مشاعر لا تؤدي الا الى الهلاك بعينه ..!! و كما حدَث و تمَاشت النِّهايَات هُناك .. هناك حيث لا شيء من الألوان لانعدام الأضواء ! بريقٌ ربَّما ان جَاز التَّعبير ؛ او نُورٌ ليس كالضوء تشْكيلا ..!! كان سَاطِعا لحدِّ الازعاج ، لِحَدِّ العَجْز عَن الرُّؤية أول الأمر .. !! لكن مع مرور ثوانٍ من التَّعوُّد سيكون من الصَّعب تجاهل ما تلتقطه عينك .. خاصة اذا كان نفس المشهدِ كل يوم ، و ياله من شيء مُبهج ان ترى درجًا يمتد الى ما لا نهاية بجانبه جدار به نُتوآت لا تكاد تميَّز ..!! و هناك بقدر ما كان قريبا .. كان بعيدا في الوقت ذاته ؛ لم يكن شيئا ماديا لكنه بالتأكيد كان يعبر عن شيء ما ؛ كان دخِيلا مُناقضًا لما بالداخل من ظُلمة .. لا بجب ان يكون ذلك السُّطوع هنا ؛ فهذا ليس مكانه ..!! ربما صار من البديهي استنتاج أن ذلك الجسد الصغير المكور قد عجز عن تسلقه ..!! *~* فتحت عينيها من غير ان ترمِّش و لو لمرة واحدة ، كأنها مخدَّرة .. أو جثة استمر تنفسها مصحوبا بدقات قلبها رغم موتها ؛ رغم مفارقة الروح لجسدها ..!!
لم تتحرك مُطلقا .. لم تطبق جفنيها أبدا ؛ أهدابها السوداء الطويلة لاتزال متيبسة تكاد تصل لحاجبيها السوداوين المَنحوتين بعِناية طبيعية ..!!
ضوءٌ خافت جدا- لا يكاد يلاحظ -.. بأشعته البيضاء قد بدأ يلوح من بعيد ؛ تسلل بهدوء متجاوزا الستائر الأرْجُوانية الشِّبه شفَّافة من غير عَناء.. تفرق في أنحاء الغرفة مَسْلوبة الحياة ، منعدمة الحرارة بانسيابية تامة ..!!
كان شعرها أسودا فحْميا كسَر بياض بشرتها الثلجية و أما عيناها فكانتا أبعد من الزُّمُرد أقرب إلى اليَشْبِ ؛ فلا لمعانا أو بريقا و لا حتى تَباينا .. كطبقة مغلَّفة من الضَّباب .!
كانت الغيوم مُمتدة الى ما لا نهاية و قد حَجبت زرقة السماء .. حدَّقتْ من النافذة مُستنكرةً ضوء الشمس الخفيف الذي بالكاد مَنحته الغيوم تأشيرة العبور فلو كان الأمر بيدها لجعلت كل شيء يغوص في الظلام في عمق الدُّجى لعلها في ذلك الوقت تستطيع الاختفاء بعد ان عحزت عن الاختِلاء ..!!
اليومَ آتٍ لا مَحالة .. سيكون من الأفضل لو تخرج مبكرا ؛ هربا الى اللامكان .. هربا من الحقيقة التي دمرت الكيان و هزت الوُجدان ..!
توجهت بخطوات شبه واعية الى الخزانة الخشبية القابعة في الزاوية .. أخرجتْ ثيابا عشوائية دون أدنى نيَّة لتحقيق التَّناسُق بعد أن حُجِب في قائمة الأولويات ..! لم تنتبه لما أخرجته الا عندما ارتدته .. كان سروالا أسودا مشدودا مع قميص صوفي بنفس اللون .. مجرد التفكير بأن القدر يقودها الى السواد في أبسط الأمور يجلب القشعريرة بحد ذاته ..!
واصلت ارتداء ما بقي من حذاء شتوي الى الركبة و معطف تدلَّى الى منتصف فخذها و وشاح بنفس لون عينيها المخضر .. كان هذا ضروريا و الا لأصبحت أقرب الى اللُّصوص مع كل السواد الذي يغلفها حتى شعرِها ..!!
خرجت بهدوء الأشباح قاصدة الحديقة العامة فحتى المدرسة تخلت عنها اليوم فهي اجازة اسبوعية .. كان البرد ليجبر الجميع على العودة للاستنجاد بالدفء و لكنها واصلت بمدِّ خُطاها داسَّة يديها في جيوب معطفها و قد تلون انفها بحمرة طفيفة كما هي الحال عند وجنتيها ..! *~*
- جُوليا -
جلستُ هناك .. كانت الحديقة خالية من كل أنواع الازعاج و لم اشك لحظة ان عاقلا سيتجول في هذا الجو ؛ راقني الهدوء و رماد السماء الكئيب .. هذا تماما ما يجب أن تكون عليه الأمور ..!!
أعلم أن كل شيء خاطئ بشكل مُرعب ؛ فلا شيء صحيح في حياتي حتى أتأكد من صدق ما يحيط بي ..!! أخذت أبكي .. مجرد بكاء صامت داخلي يكاد يفجرني من حُرقته و بصَري مثبت على ما تحت الأرض عميقا الى ما لا نهاية ..!
شعرت باقتراب أحدهم .. و كنت في كامل استعدادي لسحق القادم الي أن كان يريد زيادة حالتي سوءا ؛ و لكنني تحكمت في نفسي فلعل القادم لا يَقصدني رغم أنني أردت أن يكون كذلك لأفرغ غضبي فيه .. أشعر بقوة سِلبية تملؤني و أرغب في افراغها في أي شيء الآن ..!!
و قد كنت مخطئة حقا فقد ابتعد و خَبت معه آمالي الحاقدة . و عدت وحيدة الآن أكافح لأمنع الأفكار التي أدْخلتها منذ زمن لأمنعها من العودة و احتلال صَدارة أفكاري ..!!
لعَنْت حِدَّة ذَكائي و تحليلي الفوري للأمور .. فمِن الأفْضل أحيانا أن تبقى جَاهلا ، أن تكون أبلها لتتمكن من العيش بسلام ! اليوم يوم مولدي - و ان كان التاريخ صحيحا أصلا - سأبلغ الرابعة عشر .. أعلم منذ خمس سنوات أن اليوم آتٍ لا محالة ؛ ليزول الضباب لتتبين الحقيقة التي لطالما أردت أنني لم أدرِكها ..! التي لطالما اعتبرت ما سمعته عنها كابوسا آخر لأنني كنت حمقاء ، حمقاء عندما أردت الهرب من كابوسي الوَهمي باللجوء الى سرير امي و ابي هربا منه .. و لم أعلم بأن الكابوس الحقيقي انتظرني هناك ..! منذ ذلك اليوم أفكر حقا .. الى أين أنتمي ؟ أين كنت سأكون إذا لم أكن هنا ؟ ماذا يعني هذا الأمر ؟ ربما أُنجبت قبل أن يحدث ذلك ، ربما لم أسمع جيدا ..! و لكن لا ، سمعت اسمي يخرج من شفتيه هناك و هو يربت على كتفي أمي مسندة برأسها الى صدره : -لا مُشكلة ان لم ينجح العلاج < تردد قليلا في نطق الكلمة و لكنه واصل : - فكون الانسان عَقيما لا يعني ألَّا يحْظى بأولاد ، لدينا جوليا و علينا العناية بها فهي .. ابْنَتنا ! كنت في التاسعة عندها .. لم أفهم كل شيء و لكن ربط كل ذلك قد أوصل الي الفكرة ..! لم أكن متأكدة من أن مفهوم تلك الكلمة اللَّعينة الذي لدي هو المَقصود .. لعلَّ هناك معنى آخر أنا لا أعرفه ..!!
أصبحت كالخرقاء البالية المتوهمة و أنا أبحث في كل القواميس عن معناها و بعد أن تأكدت من أنها عدم القدرة على الانجاب و أن حدسي كان مصيبا ، لجأت الى تضْليل آخر .. فربما لم أسْمعه جَيدا ..!! و لكن صورة شفتيه و حركتهما تتكرر في ذهني بِتَأنٍ عندما انفتح فمه لبنطق بـ'العين' ثم تقاربت قليلا لتنطق بـ'القاف' ثم أطبقت أخيرا لتخرج رنَّة 'الميم ' فالعين عندي عذابٌ دائِم و القاف قُنوتٌ مُميت و الميم مَلاذٌ مُنْعدم .. أنا مدينة لهما .. لانهما وفَّرا لي المأوى ، جلبا لي الطبيب عند السَّقم ، و أطعماني قبل أن اجوع و أدفآني قبل أن أبرد ! و قبل أن أستشعر الفراغ الأبديَّ الذي كان في طريقه الي ..
كانت حياتي هادئة كحياة أي فتاة ذكية و جميلة تمتلك كل شيء ..!! أنا لا أعلم مالذي أريده بالفعل .. ربما ان علمت الحقيقة منهما مباشرة فسأرتاح ؛ سأستسلم للواقع فهما امي و أبي و لسا والدي و والدتي مهما كان ما حصل .. ! علمت أن الوقت حان للعودة قبل أن يستيقظا .. سأكون طبيعية و سأقول بدم بارد مُتظاهرة بالابتسام كالعادة : -لا يهمني من أكون .. أعلم فقط أنكما أمي و أبي و ستبقيان كذلك لذا فلا يهمني الأمر ..!
ههه ، سأفعلها ان كنت بتلك الدرجة من الحماقة .. على الأقل سأحاول لا اعلم ان كنت سأستطيع التمثيل لدرجة الاقْناع .. أعلم بأن ذلك القَلب المِعْطاء الذي تملكه امي يحسُّ بأنني لست على ما يرام و لكنها لا تريد ازعاجي فكوني لا أحمل دمها لا يعني أنها لا تفهمني ..!
ربما قد بالغت في كل شيء .. لم اشعر بمدى طول الدرب و لكنني وصلت ! دخلت كما خرجت و انتظرني مساءً كل شيء أردت معرفته و قلت كل ما خطَّطتُ لقوله و لكنني بكِيت في غرفتي - كيَتيمٍ- لأول مرَّة منذ زمن فانقشع غشاء عيني و انجلى غلاف الجهل مِن عَليهما .. و ربما السبب الحقيقي هو رؤيتي لصورة والدتي .. لأمي الحقيقية ..!
فِي تلك الليلة رأيت كَابوسي المُعتاد .. حُلمي المُلازِم و لكنَّه كَان دافئا و لم ارد الاستيقاظ منه و قد توضح أن ذلك النور كان والدتي التي توفيت عند ولادتي ..!! كانت تشبهني أو انا كنت نُسخة مصَغرة عنها .. شعرت أن قلبي حينها قد اصبح يتَّسع للجَميع وعقلي تمدَّد واستقبل الواقع ،وانْشَرح صدري لتقبل الامور .. فبعد رؤية صورتهما لن اطلب شيئا هو والدتي و هو والدي و هذان امي و ابي ..! صباحا.. كل شيء مختلف حتى السديم الذي كاد يَخنقني أمس أصبح لطيفا كان سَديما مُبايِنا ..! |
أحْبَبْتهُم كمَا أحَبُّونِي اعتَبَرْتهُم أحْسنَ مَا مَنحُونِي .. بعْد أنْ سُلِبْتُ منْ كَانَ السَّبَبَ فِي وجُودِي .. فَهَل بعْدَ الفُراقِ عِنَاقٌ ؟ نعم ، انْ كَانَ الأمرُ مِنْ نَسْجِ حُزْنِ الاِشْتيَاقِ .. |
*انتهى*
يُتبع الرَّجَاء عَدمُ الرَّد |
التعديل الأخير تم بواسطة ❀ ηลяjεεs ❀ ; 06-28-2016 الساعة 06:13 PM |