عرض مشاركة واحدة
  #24  
قديم 07-12-2016, 05:26 AM
 
الافتراضي رد: روايتي الأولى : لماذا أرى ملاكًا وسَط جحيمي

تابع :

بدأ فيصل بفتح عينيه مرة أخرى مع آذان العصر , و هو يتذكر أنه سمع الكثير من الحوارات أثناء نومه , و لكنه لا يستطيع تذكر التفاصيل ! .. مجرد همسات يظن بأنه سمعها ..

التفت ليجد عبدالرحمن جالسًا يقرأ كتابًا في يده , ثم قال بصوت متعب :

" عبدالرحمن ؟ "..

نهض ذاك مغلقًا الكتاب بين يديه و متوجهًا لرفيقه قائلًا :" الحمد لله على سلامتك .. لقد كدت أموت من الخوف عليك ! "..

ابتسم فيصل بهدوء ثم قال :

" لقد كان عادل هنا هذا الصباح أليس كذلك ؟ "

" نعم , لقد أتى .. استدعيته عندما أصبت بالنوبة , لقد ظننت بأن الوقت قد حان لتلتقيا , لم أستطع الوقوف لوحدي , فاستدعيته ليسندني و يسندك أنت قبلي "..

" أين هو الآن ؟ "..

" لقد رحل الصباح , قال بأنه سيزورك عندما تتسنى له الفرصة "..

" نعم , لقد سمعت ذلك "..

فتح عبدالرحمن عينيه قائلًا :" حقًا ؟ "..

أغمض فيصل عينيه دلالة على الإيجاب , ثم قال :" لقد أمره والدي بتركي أليس كذلك ؟ "..

تردد عبدالرحمن بالإجابة خوفًا على مشاعر صديقه , فقال :" آه , أظن ذلك , لا أعلم "..

" لا بأس يا عبدالرحمن , لقد اعتدت على قسوة قلبه , لقد أنكر وجودي لـ 7 سنوات , فلا أتوقع منه أن يلين و يسامحني الآن , إنه والدي و أنا أعرفه "..

" لا عليك , أنت لست بحاجة إلى أحد , أنا سأكون هنا من أجلك "..

هز فيصل رأسه , ثم قال :" هناك خدمة أريدك أن تسديها إلي , و تستطيع اعتبارها آخر خدمة تقدمها لي "..

" ما هي ؟ "..

مد فيصل يده إلى عبدالرحمن ليساعده على الاعتدال في الجلوس , ثم قال بهدوء :

" أريد أن أكون ميتًا ".. قال فيصل ثم علق ناظريه على الحائط أمامه ..

فتح عبدالرحمن عينيه بصدمة و انعقد حاجبيه , ثم عاد فيصل للحديث قائلًا :

" أريد أن أكون ميتًا بأعين الجميع ! .. و لكن حي أرزق أمامك "..

" تعني بأنك تريدني أن أقنع الجميع بأنك ميت ؟ "..

" نعم , هل تستطيع فعلها ؟ "..

" لماذا قد تريد هذا يا فيصل ؟ من في هذه الحياة يود أن يعيش كـ نكرة ؟ "..

" لا تسأل عن الدوافع يا عبدالرحمن , سأكون مرتاحًا للغاية إن حققت لي ذلك , أريد أن أختفي من ذاكرة الجميع , أن أعيش في الخفاء , أن أدبّر خطط متقنة للانتقام لنفسي , أريد أن أعمل خلف الستار "..

" تستطيع الانتقام لنفسك دون فعل ذلك ! "..

تنهد فيصل ثم رفع عينيه إلى عبدالرحمن بصبر قائلًا :" إن كنت لا تستطيع فعل ما طلبته منك فأخبرني في الحال ! "..

تنهد عبدالرحمن قائلًا :" طالما ذلك سيشعرك بالارتياح , فسأفعل "..

صمت عبدالرحمن قليلًا ثم قال :" و لكن ماذا لو أراد أن يرى عادل و أقاربك الجثة ؟ ماذا سأقول لهم ؟ "..

ابتسم فيصل قائلًا بنبرة غامضة :" أنت بارع في الكذب يا عبدالرحمن , أنا واثق بأنك ستجد مخرجًا لذلك "..

هز عبدالرحمن رأسه و هو يدور في مكانه باحتيار وتفكير ..


**********


( بعد يومان ) ..


رن هاتف عبدالرحمن فرفعه قائلًا :" نعم ؟ "..

" عبدالرحمن , السلام عليكم .. أنا عادل "..

ارتبك عبدالرحمن ثم قال :" وعليكم السلام , عذرًا لم أنظر إلى الرقم عندما رددت على الهاتف "..

" لا بأس , أردت أن اسألك عن فيصل , كيف حاله الآن , هل لا يزال في المستشفى ؟ "..

سكت عبدالرحمن ثم قال بهدوء :" فيصل ؟ "..

خاف عادل من نبرة صديقه ثم قال :" نعم , فيصل .. هل هو بخير ؟ "..

تنهد عبدالرحمن ثم قال :" هناك أمر أريد إخبارك به بشأن فيصل , و لكن أظن أن علينا أن نلتقي , لن نستطيع الحديث عبر الهاتف ! "..

" عبدالرحمن , ماذا حصل ؟! .. لن أنتظر حتى نلتقي ! .. "

" عادل , اهدأ أرجوك , لقد قلت لك علينا أن نلتقي , لا يمكننا التحدث هكذا "..

تلفت أعصاب عادل وهو يقول بصراخ :" عبدالرحمن , إياك و أن تختبر صبري , أخبرني ماذا حصل حالًا ! "..

قال عبدالرحمن بصوت متردد و منخفض :" لقد تعرض فيصل إلى .. إلى نوبة قلبية أخرى "..

فتح عادل عيناه بصدمة قائلًا :" متى حصل ذلك ؟ "..

" قبل يومان "..

قال عادل بسرعة و قلق :" و هل هو بخير ؟ أم ماذا ؟ عبدالرحمن لا تعطيني الأخبار بالتقسيط ! "..

سكت عبدالرحمن ثم همس ببطء :" لـ ـقد مات يا عادل ! "..

كان عادل يقف في منتصف غرفته فجلس على السرير و هو بالكاد يستطيع حمل نفسه , استغرق الأمر ثواني لعادل حتى يستوعب الوضع , فقال ببطء و قد داهم رأسه ألم حاد :

" مات ؟ .. تقولها هكذا بكل بساطة ؟ , لماذا لم تخبرني عن الأمر يوم مماته ؟ .. لماذا انتظرتني لاتصل حتى تخبرني ؟! ".. بدأ عادل بالصراخ و قد تلفت أعصابه كليًا ! ..

" لقد أوصاني فيصل قبيل مماته أن لا اتصل بك أو أخبرك بشيء , لقد كانت تلك وصيته الوحيدة ! .. و لكن أظن أنه من الواجب علي إبلاغك "..

" لم تكن لتخبرني إن لم أتصل عليك الآن ! كنت ستتركني على جهل إلى أجل غير مسمى , إنه أخي , أتفهم ماذا يعني ذلك ؟ لقد مات أخي , و لم ترغب أنت بإخباري بسبب وصية حمقاء ! ".. صرخ عادل غاضبًا من عبدالرحمن و أعذاره الواهية ..

" عادل , إنها وصيته , لم يطلب مني شيء سوى تنفيذها "..

سكت عادل و قد عض على شفتيه بحسرة و ندم , و أغمض عينيه بشدة و هو يقول :" أين هو الآن ؟ في ثلاجة الموتى ؟ "..

تردد عبدالرحمن قائلًا :" لا , لقد دفناه "..

فتح عادل عينيه غير مستوعب للأمر قائلًا :" دفنته ؟ .. و كيف لك أن تتصرف من نفسك بهذا الشكل ؟ كيف استطعت إخراجه من المستشفى دون إذني ؟ كيف سمحوا لك بأخذه للمقبرة ؟! ".. صرخ عادل بشكل استدعى والده إلى الدخول لغرفته و التحقق من أمر ابنه ..

قال عبدالرحمن :" أنا آسف يا عادل , و لكني فعلت ذلك .. لقد طلبت من المستشفى أن يتصلوا على والدك ليستلم الجثة , و لكنه .. و لكنه رفض , فسمحوا لي بإخراجه بصفتي أحد معارفه .."

كان عادل يستمع إلى عبدالرحمن بصدمة , غير مصدقًا أن والده قد يصل به الظلم و القسوة أن يرفض استلام جثة ابنه ! .. نظر عادل إلى والده بنظرات ليس لها مثيل , كانت تحمل الكثير من الحقد و الخزي , الكراهية و النفور ..

تكلم عادل مع عبدالرحمن و لا تزال عيناه معلقة بابيه :" عبدالرحمن , تعال إلى منزلي , و خذني إلى المقبرة حالًا "..

" حسنًا , سأصل خلال دقائق "..

خرج عادل من الغرفة بعدما ضرب كتفه بوالده الذي كان على علم بالأمر , و الذي رفض فعلًا استلام الجثة عندما تلقى اتصالًا من المستشفى .. و لكنه لم يستطع أن يمنع عادل من الخروج و الذهاب إلى المقبرة و الصلاة على أخيه , لم يستطع أن يقسو على عادل أكثر مما فعل مسبقًا ! ..

خرج عادل مسرعًا بعدما تلقى اتصالًا من عبدالرحمن يخبره بأمر وصوله , ذهب الاثنان إلى المقبرة و قد كان الهدوء يسود الأجواء .. كان عبدالرحمن يشعر بالخجل الشديد من عادل , كان يريد أن يتحدث معه و يواسيه , و لكنه خاف أن يتلقى عبارات من التوبيخ و العتاب ! .. و لكن ما أن اقترب الاثنان من المقبرة حتى تحدث عادل قائلًا :

" من قام بالدفن ؟ "..

" أنا و مجموعة من فاعلي الخير , بعدما أخذت جثمان فيصل إلى المسجد , كان هنالك مجموعة من الرجال يصلون على جثمان آخر , فقرروا الصلاة على فيصل أيضًا , و حملنا الجثتان و قمنا بدفنهما سوية "..

" يا للخزي ! .. لقد دفن أخي وحيدًا دون أن يشيعه أحد منا ! .. و كأنه مقطوع من شجرة , و كأنه فعل ذنوب لا تغتفر في حياته "..

" لم أكن أريد لذلك أن يحصل , و لكنها كانت وصيته ! .."

" إنها وصية متهورة و غير عقلانية , و قد زدت أنت الطين بلةً بتنفيذها ! "..

سكت عبدالرحمن غير قادر على نقاش هذا الشاب الغاضب و المتحسر على توأمه ..

نزلا الاثنان إلى المقبرة و مشى عادل خلف عبدالرحمن الذي بدأ يبحث بعينيه عن قبر حديث الإغلاق , و الذي تعلوه تربة رطبة , و ما أن رأى واحدًا حتى أخذ عادل إليه .. !!

بدأ عادل بصلاة الميت , و بدأ بالدعاء الذي تخلله الكثير من الصمت و الإجهاش بالبكاء .. و تلك الرعشات التي جعلت يداه المضمومتان بالقرب من وجهه ترجفان و تتحولان إلى آنية يجمع بها دموعه و حسراته , و يلفظ بداخلها دعاءه و وعوده بعدم نسيانه و دفنه في الذاكرة كما دفن في الأرض ..

انهى صلاته و جلس بضعف على ركبتيه و قد سحب غترته إلى الأرض و بدأ بتجفيف وجهه .. و ما لبث طويلًا حتى أحس بيدي عبدالرحمن على كتفيه و هو يحثه على الصبر و عدم الجزع .. ظل الاثنان صامتان , و مع اقتراب مغيب الشمس , التفت عادل إلى عبدالرحمن قائلًا :

" يمكنك الذهاب يا عبدالرحمن , سأعود بنفسي إلى المنزل "..

" أأنت متأكد ؟ "..

هز عادل رأسه بالإيجاب و أعاد نظره إلى القبر .. و نهض عبدالرحمن متوجهًا إلى البوابة و هو يلتفت إلى عادل كثيرًا , لم يكن يريد أن يرى صاحبه مكسورًا هكذا و يصلي على قبر لمجهول ! .. و أن يملأ وجهه و كفيه بالدموع , و أن يدعو لشخص حي ! .. كان يود لو يستطيع إخبار عادل بكل شيء , و أن يجعله يتوقف عن الحسرة التي هشمت قلبه و كسرته , و لكنه ظل يقول لنفسه أنه لن يخذل فيصل في ما أمره به .. فما تعرض له فيصل كان أشد مما يتعرض إليه عادل الآن , و هذه كانت قناعة عبدالرحمن التي منعته من العودة و فضح أمر هذه الكذبة المتقنة بأكملها ! ..



**********


" أعلم بأن الوقت قد تأخر كثيرًا على الاعتذار , أعلم بأنني لن أستطيع معرفة جوابك , و لكن : هل لا تزال غاضبًا مني ؟ هل سامحتني ؟ هل خرجت منك روحك و أنت مطمئن أم كان الأمر قاسيًا صعبًا ؟ .. هل غسلت روحك بالتوبة قبيل مماتك , أم أنك لفظت بالتوبة عندما بلغت الحلقوم ؟ ..

سأظل أسألك الغفران و السماح حتى آخر يوم في حياتي , سأظل استغفر لك ربك ما دمت لم تشرك به , سيظل لساني يصدح بالدعاء لك و الذكر , سأبذل كل ما عندي من أجلك , سأقيم لك الصدقات الجارية ما دمت حيًا أرزق .. سأظل أحكي للجميع عنك و عن نقاء روحك الذي كنت تخفيه خلف قسوتك و تمردك الدائم , سأخبر الجميع عن ابتسامك التي تظل دائمًا تخفيها خلف حاجباك المعقودان و صوتك الغاضب اصطناعًا ..

سأجعل الجميع يدعون لك سرًا حتى و إن لم يعرفوك , سأجعلهم يتمنون لقاءك في الآخرة , سأرسم لهم أجمل صورة عنك , سأخبرهم بأنك التوأم الوسيم مني , و أنك النسخة الملائكية عني .. سأقنع الجميع و أولهم نفسي بأنك لم تكن عارًا بيوم من الأيام , بل كنت فخرًا و سندًا تمنيت أن يدوم لي طوال عمري .. فلتنعم في الفردوس يا أخي , و ليغفر لك الله ذنوبك , ما علمت منها و ما لم تعلم ..

سأعود .. سآتي لزيارتك كل يوم , سأجعل غرفتك قائمة و كأنك ستعود في يوم من الأيام لتملأها بوجودك , سأطلب من الخدم أن يغسلوا ملابسك كل يوم و يعطروا فراشك , لأنك لم تمت بالنسبة إلي .. ستظل حيًا ما دمت أنا حي .. ستظل موجودًا في حياتي لأني أراك في كل مرة أقف أمام المرآة .. و في كل مرة أمشي بمحاذاة غرفتك .. لعل أجمل ما حصل في حياتي انني توأمك , ففي كل مرة سأشتاق لك فيها , سأنظر إلى المرآة لأراك بدلًا عني , و لكن لا أعلم إن كانت هذه نعمة أم نقمة , لا أعلم إن كانت رؤية نفسي ستطفئ اشتياقي لك , أم أنها ستزيد من حنيني إليك ؟؟ .. نم بسلام أيها المتمرد , ولا تحمل هم العار الذي جلبته , لأنني سأتخلص أنا منه .. "

نهض عادل عن القبر بعدما بلل ترابه زيادة على بلله , و خرج من المقبرة و هو بالكاد يستطيع حمل قدامه اللتان فقدتا قوتهما , و كأنما سار به الدهر 20 عامًا إلى الأمام ..

لم يشعر يومًا بهذا الضعف و الانكسار , و تمنى لو عاد به الزمن يومان فقط ليجلس بجانب أخيه في ساعات حياته الأخيرة ! ..


(( نهاية الفصل 18 )) ..

يلّا يا حلوات , رأيكم و توقعاتكم .. و مين فيكم تقدر تربط لنا الأحداث مع بعض , و تقدر تتوقع الأحداث الجاية ؟؟

بانتظاركم يا حلوات , و دمتوا بحفظ الله و رعياته يارب ..





الرد باقتباس اقتباس متعدد لهذه المشاركة الرد السريع على هذه المشاركة
رد مع اقتباس