عرض مشاركة واحدة
  #9  
قديم 07-13-2016, 01:37 AM
 
سائق الأجرة الذي طلبت منه مرافقتي إلى مقهى "الموعد", بدا عليه شيء من الاندهاش جعلني أعتقد أن لا وجود لهذا المقهى.
غير أنه سألني, وهو يراني محملة بالجرائد والأوراق, بنية التمويه, إن كنت أقصد المقهى القائم بجوار حي الفوبور. أجبته بالإيجاب, تفاديا لمزيد من الأسئلة.
ولكنه راح يمد معي حديثا عن الأوضاع الأمنية. وعن شرطي ألقوا به ليلة البارحة من الجسر, وعن فتاة ورفيقتها اختطفتا أثناء عودتهما من المدرسة.. وذبحتا.
كنت أستمع إليه وهو يسرد علي أخبار الأقارب والجيران والزبائن. وكل ما سمع به من مصائب. ولا أدري أكان من الأفضل أن أسايره بالحديث, فأشغله عن فضوله تجاهي, أم أصمت, كي لا أِجعه على تعكير مزاجي. فأنا أدري تماما أن الوضع الأمني سيئ هذه الأيام. وهو أحد أسباب زيارة زوجي للعاصمة. ولست في حاجة إلى مزيد من التفاصيل, في هذا الصباح بالذات..
كنت أعي أنني أقترف حماقة أخرى بذهابي إلى مكان لا أعرف شيئا عنه. حتى أني لست واثقة من وجود ذلك الرجل فيه. ولم أحتط, سوى في ذهابي إليه صباحا, في ساعة لا يكون مكتظا فيها بالزبائن, وهو الوقت الذي أتوقع أن يلتقي فيه اثنان, لو أنهما أرادا التلاقي في مقهى.
أما الجرائد والأوراق التي أحملها, بنية التمويه, فيبدو أنها قد تكون سببا إضافيا للمتاعب, ولن تقيني من شبهات أخرى.
في النهاية.. لم يكن لي من شيء أحتمي به في ذلك الصباح سوى مقولة للشاعر الإرلندي شيماس هيني "امش في الهواء..مخالفا لما تعتقده صحيحا!"
وهكذا رحت أمشي نحو قدري, عكس المنطق.

كان المقهى أكثر هدوءاً مما توقعت. وبرغم ذلك دخلته بارتباك واضح. فأنا لا أدري عمّن جئت أبحث, ولا أين يجب أن أجلس, ولا ماذا يجب أن أطلب, وهل أخفي أوراقي أم هل أفردها على الطاولة.. وكأنني جئت هنا لأكتب.
وقبل كل هذا.. أية زاوية يجب أن أختار للجلوس. كي لا أخطئ باختيارها قصدي.
هو قال "احجزي لنا طاولة أخرى.. في أية زاوية عدا الزاوية اليسرى.. ما عاد اليسار مكانا لنا".
أيعني أنني يجب أن أجلس في الزاوية اليمنى من المقهى وأنتظر؟ أم أجلس في الزاوية اليسرى, ترقبا لمن سيأتي ويجلس إلى يميني؟!
بدا لي المكان شاسعا. يجلس في ركن أيسر منه شاب وفتاة, مأخوذين بنقاش حول أمر ما. وفي زاويته اليمنى رجل بقميص أبيض دون ربطة عنق, منهمك في الكتابة. أمامه أوراق.. وجرائد.. وكثير من أعقاب السجائر.
جلست في الزاوية المقابلة له. محافظة على مسافة ثلاث طاولات بيننا, تحسبا للخطأ.
بدت منه التفاتة فضولية. نظر إلي بعض الشيء. وإلى الجرائد التي وضعتها على الطاولة. ثم عاد إلى الكتابة.
لم أفهم يوما, كيف يكون بإمكان البعض أن يكتب هكذا في مقهى أو في قطار. دون أي اعتبار لحميمية الكتابة.
أن تجلس لتكتب في مكان علني, كأن تمارس الحب على وقع أزيز سرير معدني. وبإمكان الجميع أن يتابعوا عن بعد, كل أوضاعك النفسية, وتقلباتك المزاجية, أمام ورقة.
حاولت أن أنشغل عن ذلك الرجل, ولكنني لم أتوقف عن متابعته.
أذهلني غيابه لحظة الكتابة. وأذهلني أكثر أنه يكتب كلاما في صيغته النهائية. دون تفكير, أو تردد, أو شطب.
كان يتوقف أحيانا. يأخذ نفسا من سيجارته, ثم يعود إلى الكتابة.
في لحظة ما, بدا لي وكأنه على وشك أن يبادرني بالكلام. فقد توقف بين جملتين. وراح ينظر إلي دون أن يقول شيئا. توقعت التفاتة تفضحه. ولكنه كان وكأنه ينظر إلى شيء وحده يراه. ولم أجد شيئا أهرب إليه من نظرته تلك, سوى فتح جريدة كانت معي.. ورحت أطالعها كيفما اتّفق.
بدت منه لحظتها, ابتسامة مربكة, لم أفهمها تماما؛ أكان يسلم علي بها؟ أم يشفق علي من وحدتي؟ أم يسخر مما أقرأ؟.. أم يقول لي فقط إنه تعرف إليّ!



ربما كانت تلك المرة الأولى التي أطلت فيها النظر إلى ملامحه.
كان على قدر من الوسامة. وكنت أشعر بمودة غامضة تجاه هذا الوجه, وضعف تجاه هذا الحضور الرجالي الصامت الذي لا يشبه في شيء التصرفات الذكورية في هذه المدينة.
إحساس ما, كان يقول لي إنني في زمن ما, أحببت رجلا يشبهه أو أنه يشبه تماما رجلا سأحبه يوما.

ورغم ذلك لم أجرؤ على القول إنه "هو" قبل أن تصدر عنه أية التفاتة تشي به.
أكان منشغلا عني حقا؟ أم كان فقط يتحرش بي بصمته. يجلس أمامي هكذا على مرمى قدر. ينتظر سؤلا يأخذنا إلى شيء قد يحضر؟
أنا المرأة الجبانة التي لم تبادر يوما رجلا بالكلام, كيف لي أنا أشاغبه, أن أشعل تلك الانارات الصغية التي ستجعله يوقف الكتابة ويقول لي شيئا؟
كم تمنيت لحظتها أن ينطق! ولكنه كان يعبث بي بكلام لا يقال إلا صمتا.. ويدخلني في حالة من الارتباك الجميل.
أثناء تفكيري, جاء النادل وسألني ماذا أريد. لا أدري لماذا أجبته على غير عادتي "قهوة".
ربما لأنسيه أنوثتي. مادام الرجال يطلبون عادة قهوة.
ذهب ولم يعد.
ولم يعنني كثيرا أنه لم يأت بقدر ماكان يعنيني قدوم رجل مميز المظهر, يرتدي قميصا اسود ونظارات شمس سوداء, في العقد الرابع من عمره. له خطى واثقة, وأناقة رجولة, في غنى عن أي جهد.
بدا على الرجل وكأنه يعرفني, أو كأنه فوجئ بوجودي هناك؛ فقد ألقى نحوي نظرة مندهشة, ثم سلاما وديا بإشارة من رأسه. ذهب للجلوس جوار ذلك الرجل, الذي توقف أخيرا عن الكتابة. وراحا يتبادلان حديثا,لم يصلني منه شيء.
داهمني شعور بالندم, وربما بالضآلة, كلما طال حديثهما, وكلما طال انتظاري لشيء لا يأتي.
عندما تنتظر أحدا, أنت لا ترى شيئا بعينه, ولا تتأمل شيئا بالتحديد؛نظراتك مبعثر كمزاجك. والذي تنتظره قد يأتي من اللامكان, ويفاجئك وسط ذهولك , وفوضى أفكارك.. وأسئلتك.
من هو هذا الرجل؟ هل تعرف إلي؟بل كيف أتعرف إليه؟وهذه المرأة التي سطوت على هويتها, ما شكلها, ما لون شعرها؟ ما هي عاداتها في السلام.. عاداتها في الكلام.. عاداتها في الانتظار؟
وهذا الرجل الذي بادرني بالسلام ومضى,أتراه يعرفني؟ أم يعرف أخي.. أو زوجي؟ أم تراه يعرفها؟ ولماذا يتأملني هكذا؟ تراني أشبهها؟ تراه كان ينتظرني؟ أم كان ينتظرها؟ أم تراه كان موجودا هنا للتحدث إلى هذا الصديق لا أكثر.. وماذا لو كان "هو"؟
أبحث في عينيه عن شيء ما, عن ذكرى.. عن شوق مؤجل, عن بقايا حزن سري, عن حب مات في هذا المكان.
ولكن عينيه المختفيتين خلف نظارات سوداء, لا توصلانني إلى أي جواب. بينما يطالعني هو عن بعد, دون أن تفضحه نظراته.
أن يسترق النظر غلي أثناء حديثه, هذا لا يعني شيئا. أي رجل غيره كان تصرف كذلك, على الأقل من باب الفضول, إن لم يكن من باب التحرش الصامت بأنثى تجازف بالجلوس بمفردها في مقهى بمدينة كهذه.
وماذا لو كان صديقه, هو الرجل الذي جئت من أجله, وأنه يمثل معي دور التجاهل كما فعل طوال عرض الفيلم, إن هذا الدور يشبهه تماما. إنه رجل يشي به الصمت, وتلك الزاوية اليمنى التي أختارها للجلوس مقابلا للذاكرة.
أخيرا جاء النادل بفنجان القهوة, وضعه أمامي, أو بالأحرى رمى به أمامي وذهب.
انتبهت لعدم وجود السكر جواره, كما هي العادة. رفعت يدي لأناديه, ولكنني عدلت فقد كان بعيدا, ولم أشأ أن أرفع صوتي لأقول كلاما تافها مثل "ياخويا.. يعيشك.. جيبلي سكريه".
شعرت أن صمتي أجمل من أن أكسره لأقول شيئا لنادل, خاصة أن عواقب ما سأقوله لن تكون محمودة, حسب ما توحي به لحيته.
فقد يرفض أن يعطيني السكر. وقد يطلب مني أن أذهب إلى بيتي, واشرب القهوة بالسكر أو بالقطران.. إذا شئت. هذا إذا لم يقلب علي فنجان القهوة.
فمنذ الأزل, الجزائر بلد يمكن أن يحدث لك فيه أي شيء مع نادل!
كتلك الحادثة التي روتها لي صديقة صحافية كانت موجودة في السبعينات في نزل فخم بالعاصمة, مع وفد من الصحافيين الجانب, بمناسبة الذكرى الثلاثين لاندلاع الثورة. وبعد انتظار طويل, وبعد أن يئست من إحضار طلباتها, استدعت النادل, وقالت له على طريقة الشرقيين:
نحن ننتظر منذ نصف ساعة, عليك أن تولينا اهتماما خاصا. إننا ضيوف لدى الرئاسة!
ولكنه رد عليها بطريقة لا يتقنها غير الجزائريين:
ما دمت ضيفة عن الرئاسة.. روحي لعند بن جديد "يسربيلك".
ومضى ليتركها مذهولة.
طبعا عندما عادت إلى سوريا وروت هذه الحاثة, لم يصدقها أحد. فعندنا فقط, يطلب النادل من رئيس الجمهورية أن يخدم ضيوفه بنفسه!

أمام ما أعرفه من قصص. عدلت عن طلب أي شيء من ذلك النادل. خاصة أنني في وضع "مشبوه" بالنسبة إليه.
حتى إنني, لم تكن بي رغبة في النهاية لاحتساء تلك القهوة.
ولكن.. فجأة وقف ذلك الرجل ذو القميص الأسود, واتجه نحوي, وفي يده صحن عليه بعض قطع من السكر.
لا أدري كيف انتبه لما كنت سأطلبه,, رغم كونه كان يبدو منشغلا بالحديث إلى صديقه.

إحساس غامض انتابني وهو يقترب مني. ويمدني بذلك الصحن الصغير. عطره الذي اخترق حواسي, أعادني إلى العطر الذي شممته في السينما, عندما اقترب ذلك الرجل مني ممسكا ولاعة.
فانتابني مزيج من الخوف والاندهاش.
وحدها نظرته كانت تنقص, ليكتمل المشهد. ولكن كان باستطاعته أن يثير داخلي الأحاسيس نفسها, ويقول الشيء نفسه, دون أن يخلع نظارته السوداء؛ فقد اصبح لهذا العطر ذكرى تقودني في عتمة الحواس.. لأستدل عليه.
ولذا لم أقاوم رغبة في استدراجه, أو في اختباره, وأنا أكرر معه المشهد نفسه, مستعملة الكلمات نفسها:
- أسفة.. لقد أزعجتك..
وجاءني الرد, مذهلا في تطابقه:
- قطعاً..
وكما في المرة الأولى قالها ومضى, دون ان يضيف شيئا.
أما أنا, فمن ذهولي بقيت لحظات أتابع عودته إلى تلك الطاولة. وجلوسه بالتلقائية نفسها التي غادرها بها.
لحظات.. أتأمله, قبل أن أصدق ردّاً لفرط ما أردته بدا لي كأنني توهمته.
لم يكن قرطي هو الذي وقع مني هذه المرة. وإنما قلبي الذي أصبح بكلمة واحدة يقع مغمى عليه كلما خطر للحب أن يلعب معي لعبة الغميضة, ويضعني أمام رجلين, عليّ كل مرة أن اتعرف بكلمة واحدة إلى أحدهما!

كنت ما أزال تحت وقع تلك الكلمة, عندما رأيتهما ينهضان. بدت من الرجل صاحب القميص الأبيض إشارة من رأسه كأنه يودعني بها, رافقتها نظرة غائبة تعد بشيء ما. ومضى.
لاحظت انه كان يرتدي بنطلونا أبيض ايضا, بينما توجه نحوي الآخر, ممسكا جريدة, لم تكن معه عند مجيئه.
وقف برهة أمامي.. ثم سألني:
- أتسمحين لي بالجلوس؟
كان يجب أن أقول "لا". أو في حالة أخرى "تفضل" ولكنني أجبت:
- طبعًا..
لكنه لم يجلس. قال وهو ما زال واقفا:
- في الحقيقة.. أنا أكره هذا المكان.. وأفضل أن نذهب لتناول شيء معًا في مقهًى آخر.. أيزعجك هذا..؟
أجبته:
- قطعًا.
طبعا, كان يجب أن اقول العكس. ولكن وجدتني لا أملك من لغة سوى لغته, خاصة أنني وجدت في عدم حبه لهذا المكان, دليلا آخر على كونه "هو".
أخرج من جيبه قطعة نقدية, تركها على الطاولة, ثمن قهوتي. ثم بلياقة فاجأتني, سحب الكرسي الذي أجلس عليه, ليساعدني على مغادرة المكان.
ولم أملك سوى أن اتبعه. أو بالأحرى أن أتبع شيماس هيني وأواصل مشيي في الهواء, مخالفة لما أعتقده.. صحيحا!
أمام باب المقهى أوقف سيارة أجرة بإشارة من يده وجلس جوار السائق. ووجدتني ألحق به, وأجلس خلف سائق شاب, فاجأتني طيبته. مما جعلني أغفر له ضيق سيارته وحرارتها القاتلة.
كنت سأفتح النافذة. ولكنني خفت أن يزيد هذا من احتمال رؤية الآخرين لي. فرحت أنتظر أن ينطق هذا الرجل.. لتنطلق بنا السيارة أخيرا.
- هل تعرف مكانا يمكن أن نذهب إليه؟
التفت السائق دهشا نحوه؛ فلم يحدث أن طرح عليه راكب سؤالا كهذا.
رد مع اقتباس