عرض مشاركة واحدة
  #12  
قديم 07-13-2016, 01:42 AM
 
هو الحب إذن..
دوماً.. يقدم لي أوراقه الثبوتية على هذا النحو.
في حالة من انسياب العواطف, يأتي رجل لا أحتاط من بساطته, أطمئن نفسي بكونه ليس هو الأجمل, ولا هو الأشهى, وفي تلك اللحظة التي أتوقعها الأقل, يقول كلاما مربكا, لم يقله قبله رجل. وإذ به يصبح الأهم.

غالبا.. وأنا ألهو باندهاشي به تبدأ الكارثة.
الحب ليس سوى الوقوع تحت صاعقة المباغتة!

مرةً أخرى.. ها هو ذا يذهب ويتركني معلقة إلى علامات الاستفهام. تنتابني حالة لم أعرفها من قبل: مزيج من أحاسيس عجيبة تفاجئني وأنا أغادر تلك السيارة, وأسرع نحو البيت ببراءة امرأة عائدة من السوق, أو من زيارة, لا من موعد في مكان لا تعرفه مع رجل لا تعرفه. ولكنه يعرفها!

أغلق باب غرفتي. أخلع بسرعة ثوبي الأسود, وكأنني أخلع تهمة على عجل.
أجلس على طرف سريري منهكة, مبعثرة تائهة النظرات. أحاول أن أفهم ما حدث لي تماما, أن أستعيد كل الذي قاله ذلك الرجل في ساعة ونصف, كل تفاصيل حوارنا الذي لم يسألني فيه سوى سؤال أو سؤالين, بينما طاردته أنا بالأسئلة دون جدوى, ما دمت قد عدت في النهاية بأسئلة أكثر , لم أكن أتوقع معظمها. ليس أقلها: من يكون هذا الرجل؟ ومن أين له كل تلك المعلومات؟ وكيف يعرف حتى عنوان بيتي؟

طبعًا, في منطق الأشياء كان يجب أن أعرف عنه أكثر مما يعرف عني, مادام ليس إلا بطلا في قصتي.
ولكن, أصبح إبداعي الآن يقتصر على التحايل عليه, لاكتشاف قصتي الأخرى وهي تُروى على لسانه. كتلك اللحظة التي حدّثني فيها عن موعدنا الأول, وعن ثوب الموسلين الأسود الذي كنت أرتديه يومها. وكان يمكن أن أصدق احتمال لقاء كهذا.. لو أنه كان يوجد في خزنتي ثوب من الموسلين الأسود.
ولم أقاطعه عمدا, ولا علقت على كلامه؛ اكتفيت بالاستماع إليه باندهاش مستتر, وربما بغيرة سرية من تلك المرأة التي فجّرت فيه يوما كل هذه الأحاسيس الجميلة.

قادتني هذه الفكرة إلى اكتشاف فاجأني.

لقد ولدت قصتي معه, أيضا في لحظة غيرة. فقد كان هو الرجل الذي كنت أبحث عنه لأقيس نفسي به. ولذا منذ البدء لم يفارقني إحساس بالغيرة منه والغيرة عليه, ورغبة في قتل تلك المرأة والحلول محلها, دون أن أترك بصماتي على عنق الكلمات.


منذ البدء, لا هاجس لي سواها. حتى إنني سألته مرتين إن كان في حياته امرأة, وأجابني في المرتين بالنفي. وربما كان هذا أجمل ما قال لي.
طبعًا لم يكن هناك من مبرر لسعادتي؛ فأنا ما زلت أذكر ذلك الذي سألته في أول موعد لنا: "هل في حياتك امرأة؟" وأمام فرحتي بجوابه, أضاف "لا تفرحي.. من الأفضل أن تحبي رجلاً في حياته امرأة.. على أن تحبي رجلاً في حياته قضية. فقد تنجحين في امتلاك الأول, ولكن الثاني لن يكون لك.. لأنه لا يمتلك نفسه!".

ولم أمتلكه. أخذته مني تلك القضية إلى الأبد. ولا استفدت برغم ذلك من نصيحته: ما زلت في الحياة أحب الرجال الذين في حياتهم قضية, وفي الروايات, أحب الأبطال الذين في حياتهم امرأة.
وكان أجدر بي.. لو فعلت العكس!


ذات لحظة, راودني احتمال أن يكون في حياة هذا الرجل أيضاً قضية ما, تبرر حزنه الباذخ, ونوبات صمته, ونزعته إلى التهرب من الأسئلة. وهي صفات كثيراً ما خبرتها في هذا النوع من الرجال.
ولكنني استبعدت احتمالاً كهذا. فقد انتهى زمن القضايا الكبيرة, والقضايا الجميلة, التي كانت تجعل جيلا كاملا من الرجال يبدو أكثر عنفوانا وتألقا مما هو.

في الدكاكين السياسية, التي يديرها حكام زايدوا علينا بدهاء في كل قضية.. باعونا "أم القضايا" وقضايا أخرى جديدة, معلبة حسب النظام العالمي الجديد, جاهزة للالتهام المحلي والقوميّ. فانقضضنا عليها جميعا بغباء مثاليّ. ثم متنا متسممين بأوهامنا, لنكتشف, بعد فوات الأوان, أنهم مازالوا هم وأولادهم على قيد الحياة يحتفلون بأعياد ميلادهم فوق أنقاضنا .. ويخططون لحكمنا للأجيال القادمة.

ولذا.. منذ "تلك القضية" انقرض الحالمون, وسقط فرسان الرومانسية من على خيولهم!

توصلني هذه الخواطر إلى زوجي الذي لم أمتلكه أيضاً. لا لكوني أقتسمه مع امرأة أخرى "شرعية".ولكن لأنه ملك للمسؤولية. ولأن الكرسي هو قضيته الوحيدة.

في النهاية, أكاد أصل إلى نتيجة مخيفة: الحب قضية محض نسائية. لا تعني الرجال سوى بدرجات متفاوتة من الأهمية, بين عمرين أو خيبتين, وعند إفلاس بقية القضايا "الكبرى".

أمن هنا يأتي حزن النساء.. أمام كل حب؟

فجأة ينتابني إحساس بالخوف من هذه القصة التي ستؤلمني حتماً. وبرغم ذلك أتوقع أن أنجرف نحوها دون رادع, ودون الاستفادة من كل ما تعلمته في الحياة.
في مواجهة الحب, كما في مواجهة الموت, نحن متساوون. لا يفيدنا شيء: لا ثقافتنا.. لا خبرتنا.. ولا ذكاؤنا.. ولا تذاكينا.
نذهب نحو الاثنين. مجردين من كل الأسلحة.. ومن كل الأسئلة.
وأنا التي واجهت الحب عزلاء دائما, أتوقع أن يأخذ بعين الاعتبار, شغفي بهزائمه. ويعوضني عن ل خسارة معه بخسارة جميلة أخرى.
ولذا لم يعنني يوما, أين هو ذاهب بي حصان الحب الجامح. مادامت حريتي معه تقتصر على الموت بسببه.. أو الموت دونه!

ما يشغلني حقا هو كيف أواصل كتابة هذه القصة بالنزاهة نفسها.
كيف لي بعد الآن, أن أكون الراوية والروائية لقصة هي قصتي. والروائي لا يروي فقط. لا يستطيع أن يروي فقط. إنه يزور أيضا. بل إنه يزور فقط. ويلبس الحقيقة ثوبا لائقا من الكلام.
ولذا فإن كل روائي يشبه أكاذيبه, تماما كما يشبه كلّ امرئ بيته.

وصلت إلي هذه الفكرة وأنا أتذكر ما قرأته عن الكاتب الأرجنتيني بورخيس الذي أصبح أعمى تدريجيا, والذي كان عندما يصل إلى مكان, يطلب من مرافقه, أن يصف له لون الأريكة, وشكل الطاولة فقط. أما الباقي, فكان بالنسبة إليه "مجرد أدب". أي بإمكانه أن يؤثثه في عتمته.. كيفما شاء.
عندما تعمقت في منطقه, اكتشفت أن كل رواية ليست سوى شقة مفروشة بأكاذيب الديكور الصغيرة, وتفاصيله الخادعة, قصد إخفاء الحقيقة, تلك التي لا تتجاوز, في كتاب, مساحة أريكة وطاولة. نفرش حولها بيتا من الكلمات, منتقاة بنوايا تضليلية, حد اختيار لون السجاد.. ورسوم الستائر.. وشكل المزهرية.

ولذا.. تعلمت أن أحذّر الروائيين الذين يكثرون من التفاصيل: إنهم يخفون دائما أمراً ما!
تماماً, كما يحلوا لي أن أتسلى بقراء يقعون في خدعتها, بحيث لا ينتبهون لتلك الأريكة التي يجلسون فوقها طوال قراءتهم لذلك الكتاب متربعين على الحقيقة.
منذ الأزل.. وأنا أبحث عن قارئ يتحداني, ويدلني أين توجد "الطاولة" و"الأريكة" في كل كتاب!
زوجي مثلاً, لم يوفق يوما في تمييز الأثاث الحقيقي عن الأثاث المزيف في أي نص كتبته. ولذا أصبح يبدي انزعاجه من جلوسي لساعات أمام طاولة الكتابة, بدل تخصيص هذا الوقت لطفل لا يأتي, دون أن يعترف تماما بأن ما يزعجه هو الكتابة في حد ذاتها. كعمل مواجهة, ومراوغة صامتة. لم يستطع _ برغم إمكانياته البوليسية_ التجسس على مصداقيتها.
وبدل أن يواجهني بحقيقة أفكاره, راح يوجّهني من طبيب إلى آخر. ويبعث بي من مدينة إلى أخرى, ليحوّل الأمومة مشكلتي وقضيتي الأولى.
لم أعد أذكر كم زرت من الأطباء بتوصيات خاصة, وكم من أضرحة للأولياء أجبرتنني أمي على التبرك بها.

سنتان وأنا أرافقها دون اقتناع. وحتى دون رغبة حقيقية في "الشفاء" من عقمي.
يمكنني أن أقول بأنني كنت أذهب فضولاً.. وربما استسلاماً لا أكثر.
أحيانا, أحب استسلامي. يمنحني فرصة تأمل العالم دون جهد. وكأنني لست معنية به.
في الواقع, أثناء ذلك أكون في حالة كتابة.. صامتة.

كهذا المساء, أتوقع أن أمارس عادتي في الكتابة, صمتًا, وأنا أتفرج على زوجي, وهو يخلع بذلته العسكرية, ليرتدي جسدي للحظات, ثم.. يغرق في النوم.

دوماً, كان ضابطاً يحب الانتصارات السريعة حتى في سرير.
وكنت أنثى تحب الهزائم الجميلة, والغارات العشقية التي لا تسبقها صفارات إنذار.. ولا تليها سيارات إسعاف, وتبقى إثرها جثث العشاق أرضاً.
بي افتتان بقصف عشوائيّ, يموت فيه الأبرياء عشقاً.. على مرمى اشتهاء, دون أن يكون لهم الوقت ليسألوا: لماذا؟
تمنيت أحيانا, لو أنه مارس الحب معي دون أن يخلع بذلته. ربما كان ببذلته تلك, فتح له طريقا إلى جسدي بالقوّة.
فقد كنت دائما مأخوذة بقوته.
ولكنّه هذه الليلة أيضاً لن يفعل. لأنه يخاف عليها أن "تتجعلك".
وربما –فقط- لأنه رجل بلا خيال. بل بالأحرى هو ينفق خياله وذكاءه خارج هذا السرير.
في النهاية, الرجال الذين خلقوا لكرسيّ, لم يخلقوا بالضرورة لسرير. والذين يبهروننا بثيابهم ليسوا الذين يبهروننا بدونها.
والمشكلة أننا نكتشف هذا فيما بعد!
الليلة أيضاً, سأسترق النظر إليه وهو يخلع قوته ويرتدي منامته.
وأستعيد دون قصد ذلك الحوار الجميل في مسرحية ألبير كامو "حالة حصار".
- اخلع ثيابك!.. عندما يغادر رجال القوة بذلتهم لا يكونون جميلين للرؤية.
ويأتي الجواب:
- ربما.. ولكن قوتهم تكمن في اختراعهم لتلك البذلة!

طبعا.. فاللباس ليس سوى "الإشعار" الذي نريد إيصاله إلى الآخرين. ولذا ككل إشاعة, هو يحمل دائما نية التضليل, حسب منطق ذلك الرجل الباذخ الحزن, والذي يرتدي الفرح إشاعة.
وهكذا, تكمن عبقرية العسكر, في اختراعهم البذلة العسكرية التي سيخيفوننا بها.
ويكمن دهاء رجال الدين, في اختراعهم لثياب التقوى التي سيبدون فيها وكأنهم أكثر نقاءً وأقرب إلى الله منّا.
وذكاء الأثرياء, في اختراعهم توقيعات لكبار المصممين. كي يرتدوا من الثياب ما يميزهم عنّا, ويضع بيننا وبينهم مسافة واضحة!
وهو.. لماذا تراه اختار الأسود؟
أم ليأتي مطابقا للون جئته فيه مصادفة. واختارته لي الحياة بنية التضليل, كي أعطيه إشعارا كاذبا.. بأنني "هي"!



* * * *




عشرة أيام من الترقب الصامت.
حاولت خلالها أن أتجاهل أنني أنتظر شيئا. ولكنني لم أستطع أن أفعل غير ذلك.
كنت لسبب غامض, واثقة من أنه سيتصل بي, بطريقة أو بأخرى. ولكن الحياة كانت تكذب حدسي يوما بعد آخر.
هو نفسه لم يقل شيئا وهو يودعني عدا "سأشتاقك".
كان رجلا يعيش خارج الزمن. فكيف وجدت في هذه الكلمة وعداً بشيء ما؟
كان اليأس يتسلل إلي تدريجيا, ليكتسح مساحات شاسعة, ملأتها أملا. حتى إنني أصبحت لا أغادر البيت خوفا من أن يأتي هاتفه أثناء غيابي.
ولكن الهاتف لم يكن يحمل سوى ثرثرة أمي ومشاريعها العادية.
منذ قليل طلبتني لتخبرني بأنها ستحضر لقضاء اليوم معي, مستفيدة من تغيب زوجي ليومين.
ما إن فتحت لها الباب.. حتى أطلقت علي وابل أسئلتها وهي تتأملني مذعورة كعادتها:
- واش بيك يا بنتي.. زيّك ما عجبنيش..
"ماذا بي؟" أكاد أضحك لسؤال كان لابد أن تطرحه عليّ بالمقلوب, على طريقة ذلك الرجل, كي أجيبها عما ليس بي. فذلك أسهل عليّ.
أصمت لأنها في جميع الحالات لن تفهم.
تواصل:
- راني جبت لك معاي شوية "بسيسة" حمصتها لك البارح.. درُك ندير لك بيها صحن "طمّينة".. غير تاكليها تولّي زي الحصان..
من قال لأمي أنني أريد أن أصبح مثل الحصان؟
رد مع اقتباس