كمن يتململ داخل قفص الجسد، انتفض واقفًا. كان يريد أن يغادر ذاته ويتّحد بي.
أسأله:
-ماذا أنت فاعل بي؟
يجيب:
"لا تملك الأشجار إلا
أن تمارس الحبّ واقفة
تعالي للوقوف معي
أريد أن أشيع فيك صديقي
إلى مثواه الأخير"
أسأله مستغربة:
-ماذا تقول؟
يجيب وهو يحاول الإمساك بي.
-إنّي أضمر لك قصيدة.
فجأة تصبح كلماته كأطراف أصابعه، أعواد كبريت تشعل كلّ شيء يمرّ به. ولا أفهم ماذا يعني. ولا.. لماذا يريد لنا حريقًا كبيرًا ومخيفًا إلى هذا الحدّ؟
رجولته تباغتني، فأنتفض بين ذراعيه كسمكة. ثمّ أدخل طقوس الاستسلام التدريجيّ.
فجأة يستوقفني:
-هل تحبينني؟
كانت ذراعه الوحيدة تنقل إليّ عدوى شراسته العشقيّة، في محاكاة جسديّة ملتبسة، فأجبته مذعورة:
-طبعاً أحبك.. لم يحدث للحبّ أن أوصلني إلى الخطيئة قبلك.
ولكنّه أجاب بحسرة ساخرة:
"حتّى متى سأبقى خطيئتك الأولى
لك متسع لأكثر من بداية
وقصيرة كلّ النهايات
إنني أنتهي الآن فيك..
فمن يعطي للعمر عمرًا
يصلح لأكثر من بداية؟"
كان لصوته مذاق متأخر للبكاء.
كدت أسأله "أيحدث للبحر أن يبكي؟". ولكنه اختفى.
تنتهي العاصفة.
يتركني البحر جثة حبّ على شاطئ الذهول. يلقي على جسدي نظرة خاطفة.
قبلة.. قبلتان
موجة.. موجتان
وينسحب البحر سرًا.. مع الدمعة القادمة.
البحر أيضًا يرحل على رؤوس الأصابع. بعدما يكون قد أتى صاخبًا.. هائجًا، على عجل. أيحدث له أيضًا، أن يمارس الحبّ عن ألم؟
انسحب البحر إذن. غادر جسدي بين قصيدتين ودمعتين. وبقي الملح.
وبقيت هنا إسفنجة بحرية.
لحظتها كان زوربا، بوعي الخذلان المبكر، يواصل الرقص حافيًا على شاطئ الفاجعة، فاردًا ذراعيه إلى أقصاهما كنبيّ مصلوب، يقفز على مقربة منّي، على وقع الطعنات المتلاحقة، بشراسة وجع يجعلك مازوشيًا حدّ النشوة. فرُحتُ أواصل الرقص معه، منتفضةً كسمكة خارجة توًا من سطوة البحر.
عندما تنتهي العاصفة.. يشعل البحر سيجارة. يدخن متكئًا على الأسئلة.
ثمّ عندما يعثر على الأجوبة، يكون قد أصبح رجلاً من جديد.
دومًا، بعد الحبّ، تعود أسئلة ذكورية أبديّة، يصوغها الرجال حسب ذكائهم، ليطمئنّوا إلى دوام رجولتهم:
-لقد خفت عليك دائمًا من لحظة كهذه؛ على سرير الواقع تصبح المشاعر اقلّ جمالا!
أطمئنه:
-جميل ما حدث بيننا. ولا أريد أن أعرف، إذا كان كذلك حقًا، أم أنّ الحبّ جعله يبدو أجمل ممّا هو.
أحاول أن أتحاشى الانتباه لذراعه وأنا أحدثه. ولكن كنت في انشغالي عنها أتأمله.
في الواقع، مشكلة الروائيّ أنّه لا يستطيع إلا أن يراقب كلّ شيء، حتّى أولئك الذين يقاسمونه سريره.
سألني وهو يصلح من جلسته:
-ما الذي تريدين رؤيته؟
فاجأتني نبرته الساخرة. قلت وكأنني أبررّ ذنبًاً:
-أريد أن أطالع التاريخ السريّ لجسدك، كي أعرف إن كنت حقًا خالد بن طوبال. أنت تتصّرف مثله في كلّ شيء. عجيب كم تشبهه!
أرحني.. قل لي من تكون.
أجاب ساخرًا:
-رجالك جميعًا يتشابهون.
ثمّ أضاف بعد شيء من الصمت..
-ولكنني لست هو.
لفظ هذه الكلمات الأخيرة بهدوء. بالوقع نفسه الذي يقول به بقيّة الكلام، وكأنّه لم يلفظ شيئًا يغيّر مجرى قصتنا.
قلت:
-ولماذا أخفيت عنّي الحقيقة كلّ هذا الوقت؟
أجاب:
-ليس هناك من حقيقة واحدة. الحقيقة ليست نقطة ثابتة. إنّها تتغيّر فينا.. وتتغيّر معنا. ولذا لم يكن ممكنًا لي أن أدلك إلا على ما ليس الحقيقة.
وأضاف:
أتذكرين.. كنت تقولين "أحبّ جسدك" وكنت أجيب "إنّ جسدًا قد يخفي جسدًا آخر" ولا تصدّقين. وكنت تقولين "أحبّ الرجال في الأربعين" وأصحّح؛ أقول "لست الرجل الذي تتوهمين" ولا تصدقين.
بل تماديًا في الخطأ، وقعت في حبّ يديّ. وكنت تطاردينني عنهما بالأسئلة. تقولين "أحبّ يديك.. ما عمرهما؟" وأجيب " لقد أحببت دائمًا عُقدي.." ولا تفهمين. ولا أملك الآن سوى هذا الجسد. لأردّ به على كلّ أسئلتك.
أجيب:
-ولكن لم يكن من داعٍ للمراوغة. فأنا أحبه كما هو..
يبتسم.. يقول:
-أنت تتوهمين
ثمّ يواصل:
-الحقيقة الوحيدة هي أنّك كنت جاهزة للحبّ. وكان يمكن أن آتيك متنكرًا في أيّ شخص، وفي أيّ زيّ، أن أقول كلامًا كنت تنتظرينه، أو لا أقول شيئًا. كنت ستحبينني.
تابع قائلاً:
ذلك أن الحبّ يتأقلم مع كلّ الحالات. وله هذه القدرة الخارقة على إضفاء جمالية حتّى على الأشخاص العاديّين. والدليل أنّك عندما ستكتشفين من أكون، ستجدين أيضًا في تفاصيل قصتنا ما يذهلك، ويقنعك بأنّك تحبينني أنا.. وليس ذاك الذي كنت تتوقعين!
-ولكنك أريتني جريدة عليها اسم خالد بن طوبال.
-تلك حقيقة أخرى. إنه اسمي. أو إذا شئت إنه الاسم الذي اخترته لأنه يشبهني. ولأنه مذ وصلتني تهديدات بالقتل. كان لا بدّ أن اختار اسمًا جديدًا أوقع به مقالاتي. ولا أشعر أنني سرقت هذا الاسم من احد. كل كلمة وقّعتها في تلك الجريدة، كنت أشعر أنه كان بإمكان ذلك الرجل الخارج من كتاب أن يقولها.. لو أنه نطق.
يذهلني كلامه. ألأننا كنّا نعيش وضعًا روائيًا، كلّ ما ينتج عنه أصبح روائيًا أيضًا؟
سألته:
-ما عدا هذا.. من أنت؟
ضحك.. أجاب:
-أنا قارئ جيّد..
-لا أفهم.
-لنقل أنني قرأتك جيدًا، قرأتك دائمًا، وإنّني أعرف عنك ما يكفي لإدهاشك. أنا ذاكرة أخرى لك.. أعرف عنك ما نسيت..
-ولكن في الحياة.. من أنت؟
-في الحياة.. اعمل صحافيّاً. ولن تصدّقيني لو قلت لك إنني منذ ثلاث سنوات كان هاجسي أن أتعرف إليك، بحجّة إجراء حوار للجريدة.
أضاف قائلا بعد شيء من الصمت:
في الواقع، كنت أريد أن اطرح عليك أسئلة، لم تكن تعني غيري. فقد صادف صدور كتابك مع تلك الحادثة التي شلّت فيها ذراعي.
وهو ما جعلني أقضي فترة النقاهة في قراءتك. أذكر أن صديقي عبد الحقّ جاءني بكتابك إلى المستشفى. وقال لي وهو يمدّني به: "جئتك بكتاب سيعجبك.." تصوّري: خفتُه قبل أن أقرأه.. ثمّ خفته لفرط ما قرأته. أذهلني أن أعثر على بطل يشبهني إلى هذا الحدّ. كان بيني وبينه مدينة مشتركة، واهتمامات وخيبات مشتركة، وعاهة وذوق مشتركان. ووحدك كنت الشيء الذي لم يكن مشتركًا بيننا. فقد كنت حبيبته وحده.
وتابع:
يوم التقيت بك، أصبح عندي يقين بأنّ حياتي ستطابق بطريقة أو بأخرى قصتك معه. حتّى إنني خفتك. وكثيرًا ما راودتني رغبة في عدم الاتصال بك. لو تدرين كم أحببتك.. وكم حقدت عليك بسبب كتاب!
-ثمّ؟
-ثمّ لا شيء.. أعتقد أنّك كنت تكتبين لقلب الأشياء، عندما اخترت بطلاً فاقد الذراع. ولكن تظلّ الحياة أكثر غرائبية من القصص التي نبتكرها. أيّ فخّ كبير هي الحياة!
تصوّري.. كنت أريد منك أجوبة لا أكثر. ولكنّ الحياة كانت تعدّ لي دورًا معاكسًا. لقد جئتك في زمن الأسئلة. انقضى هذا الكتاب، وأنا أردّ على أسئلتك. أعرف أنه دور أجمل ممّا توقعت. ولكنني لم أسع إليه. اكتفيت بمجاراة قدري، ومجموعة المصادفات التي واكبته.
-وأثناء ذلك، كنت تقودني إلى تيه النصّ، والمتاهات السريّة للعواطف.. وكمائن المواعيد.
-بل كنت أقودك إلى العشق. إنّ أجمل حبّ هو الذي نعثر عليه أثناء بحثنا عن شيء آخر. أدري.. كنت تبحثين عن رجل، خارج من كتبك. خلقته أنت، على قياسك. ولكن أليس أجمل أن أكون أنا الرجل الداخل إلى هذا الكتاب.. ولست الخارج منه؟
-ألهذا جئت اليوم؟ ألكي يمكنك أن تدّعي بعد الآن، أنّك كسرت ذلك الوهم الجميل، وحصلت على تلك المرأة التي لم تمتلك منها سوى كتب.. وأسئلة لا جواب لها.
-طبعًا لا. وأنت تعرفين تمامًا أنّ هذا ليس صحيحًا. فأنا أملك من الكلام ما يمكّنني من إقناعك بما أشاء، ولكنّني كنت احرص على ألا أكسر أي شيء فيك. ولا أي شيء بيننا. لقد اعتقدت دائمًا أنّ الاشتهاء هو وحده حالة الامتلاك، أما المتعة فهي بداية الفقدان.
-وما الذي أوصلنا إلى هذا السرير إذن؟
-أوصلنا إليه الموت.
-ألا ترى في قولك إهانة للحبّ؟
-بل ردّ اعتبار له. لا تظنّي انه من السهل أن نأتي بالمتعة عن ألم، أو نأتي الجنس بذريعة موت الرفاق. يلزمنا كثير من الحبّ لنثأر به من الموت.
-ولكن.. منْ مات من معارفك كي يداهمك كلّ هذا الحزن؟
يستنجد بسيجارة ثمّ يجيب:
-مات سعيد مقبل.. ألم تسمعي بموته البارحة؟
قلت كمن يعتذر:
-أنا لم أشاهد التلفزيون منذ أيّام.. ولا قرأت الجرائد.
ثمّ واصلت:
-هل كان صديقًا مقربًا إليك؟
أجاب:
-لا. أنا لم ألتق به أبدًا. أصبح صديقي البارحة. فقد رفعه القتلة برصاصتين إلى مرتبة صديق. تصوّري.. لي تسعة وعشرون صديقًا، لم ألتق بمعظمهم، إلا على الصفحات الأولى للجرائد بمناسبة نعيهم. ولكنّه كان صديقًا مقربًا من عبد الحقّ، فقد كان يعمل معه في الجريدة قبل أن يتركها عبد الحق ويسافر إلى قسنطينة. ولقد اتصلت به منذ مدّة، لأعرض عليه الكتابة في الجريدة نفسها.. وكان مفترضًا أن نلتقي هذه الأيام..
أسأله:
-وكيف قتلوه؟
يجيب:
-كان يتناول غداءه. رفقة زميلة له في مطعم صغير جوار الجريدة. عندما اقترب منه شخص، توّهم منه أنّه يريد محادثته. ولكنّه أخرج مسدسًا، وأطلق النار عليه ومضى بهدوء. تصوّري.. كان اسم المطعم "الرحمة"ّ
|