دفتي كتاب. في تلك المساحة المخصصة للحلم والوجاهة، والتي اسمها "الأدب".
وإذا كان من المعقول أن تحبّ كاتبًا، حتى تتوهم أنك بطل من أبطاله، فأين العجب في أن يحب كاتب بطل من أبطاله، حتى يتوهم بدوره، أنه موجود في الحياة، وأنه حتمًا سيلتقي به يومًا في مقهى.. ويتبادلان كثيرًا من الأخبار، والذكريات!
* * *
عودة أمي، أعادت إلى الحياة وجهها الطبيعي، وأخرجتني لوقت من أسئلتي الدائمة. فقد جاءت ومعها أخبار عن عرس أتوقع أن تحدثني عنه كثيرا في المستقبل فهي تؤكد أن شروط الانفجار جاهزة بين الزوجتين الأولى والجديدة.
أتسلى بالاستماع إليها وأنا أعرف مسبقا المنحى الذي سيأخذه حديثها. فهي على يقين ثابت من أن ضرتي هي سبب عقمي، وبعض ما حل بي وهو ما لا أصدقه.
طبعا،لم يكن سهلا أن أتقبل فكرة مقاسمة رجل مع امرأة أخرى بل كان بإمكاني أن أشترط طلاقه منها. فقد كان يريدني وقتها إلى درجة الرضوخ لكل مطالبي. ولكنني كنت أشفق على تلك المرأة التي تكبرني بخمس عشرة سنة والتي شاركت زوجي عشرين سنة من حياته وأعطته ثلاثة أولاد قبل أن يصبح ضابطاً، على قدر من الأهمية بحيث كان لابد له ككل المسؤولين من حوله أن يعيد النظر في حياته الزوجية .
أعتقد أن استسلامها منذ البدء للأمر الواقع هو الذي جردني من أسلحتي. لا أعتقد أنها كانت من الطيبة لدرجة التحمس لهذا الزواج. ولكنها لم تكن شريرة ولا حاولت يوما أن تكيد لي.
ثمّ مع الوقت ولد بيننا شيء من التواطؤ النسائي الصامت، بعد أن أدركت كل واحدة منا، أنها لا يمكن أن تلغي الأخرى، أو تنفرد بامتلاك ذلك الرجل.
كثيرًا ما سألت نفسي إن كنت أغار من هذه المرأة، التي من الأرجح أن يكون زوجي الآن في بيتها، يقاسمها سريرا لا يشغله إلا نادرا، وغالبا أثناء غيابي.
والمدهش أن الجواب يأتي دائما بالنفي. وبرغم ذلك لم يتقبل جسدي تماما فكرة وجودها. بل انه لم يتقبل هذا، منذ الليلة الأولى.
وأذكر أنه طوال ليلة زفافي، لم تفارقني فكرة وجودها، ولا مشهد حضورها الصامت، في تلك السهرة مراعاة لزوجي الذي كان يريد أن يثبت للحضور مباركتها لهذا الزواج.
ربما لذلك السبب، صنع جسدي يومها، حاجزا لم يستطع زوجي تخطيه، رغم ما أوتي من إمكانيات فحولية.
ورغم اشتهائي له، شيء في كان لا يطاوعني ويرفض الاستسلام له. خاصة أن مقاطعة ناصر لكل احتفالات الزواج، قد وضعتني في حالة نفسية سيئة.
تراودني كل هذه الأفكار، وأمّي تنقل لي "وقائع"هذا الزفاف الذي لم تسفر ليلته عن نتائج ترضي كبرياء العريس الممتلئ فحولة ذكورية، وهو ما جعل النساء كعادتهن يجتهدن في تفسير الأمر.
أما الخبر الأهمّ، فكان بالنسبة إلي شعور أمي المفاجئ بالضجر ورغبتها في العودة إلى قسنطينة في أقرب وقت.
خبر تلقيته بمذاق سابق للحزن، أسرعت بإخفائه عنها.
فقد تعلمت أن أخفي عنها حزني وفرحي، حتى لا أجد نفسي مجبرة على شرح الأول، أو على تبرير الأخير. فلم تكن لنا يوما المقاييس نفسها للسعادة.
السعادة، ذلك العصفور المعلق دوما على شجرة الترقب، أو على شجرة الذكرى. هاهو على وشك أن يفلت مني الآن أيضا. ولأنني أدركت ذلك بدأت أعيش ذلك الحب، بشراسة الفقدان.
كالذين يعيشون عمرًا مهددًا، علمني الموت من حولي أن أعيش خوف اللحظة الهاربة، أن أحبَّ هذا الرجل كل لحظة.. وكأنني سأفقده في أية لحظة، أن أشتهيه، وكأنّه سيكون لغيري، أن أنتظره.. دون أن أصدق أنه سيأتي. ثم يأتي.. وكأنه لن يعود، أبحث لنا عن فرحة أكثر شساعة من موعد، عن فراق، أجمل من أن يكون وداعًا.
غير أنه كان يبدو فجأة غير مبال بمداهمة الحياة لنا، بل إنه كان يملك من ترف الوقت، ما جعله يصرّ على أن لا يكون موعدنا الأخير في بيته، وإنما في مطعم بحريّ على بعد نصف ساعة سيرًا على الأقدام من بيتي.
وعبثاً حاولت إقناعه بأننا قد لا نلتقي قبل زمن طويل، وأنّ هذا المكان لا يصلح لوداعٍ، ولا لموعد أخير. ولكنه كان يجيب:"سيكون لنا هناك موعد أجمل".
* * *
التقينا.
في مقهى ارتجله الحب لنا، كان هنا. هو والبحر.. وطاولة صيف مسائية..
هو وأنا وتنهّدات الأمواج بيننا.
قلت عاتبة:
-كان بإمكاننا أن نلتقي عندك. لماذا أصررت على تبذير ثروة الحلم أمامي ؟
أجاب دون أن يتوقف عن التدخين :
-تبذير الحياة.. هو أيضا جزء من الحياة.
-ولكنني أريدك.. وقد لا نلتقي قبل زمن طويل.
وضع بيننا كعادته منفضة الصمت. وأعقاب جمل لم تكتمل ثم قال:
-لفرط ما أردتك أفهم معنى أن تريديني. ولكن لا بد أن نتعود الحرمان، حتى عندما نكون معا.
-ولكن لماذا؟
-لأن قدرنا أن لا نكون معا دائماً.
-لماذا أهديت إليّ إذن كل تلك المتعة.. إذا كنت تعدّني لكل هذا الألم ؟
-أنا أعدّك لمتعة أجمل. قبلك لم يكن الحرمان جميلا. لأنه لكي يكون كذلك، لابدّ أن نريده، أن يكون تواطؤا سرّياً بين اثنين. وقتها فقط يغير اسمه، تصبح له تسمية أجمل.
يسألني بعد شيء من الصمت :
-أتعرفين ما اسمه؟
أقول دون تفكير :
-لا
يجيب:
-يصبح اسمه الوفاء!
تترك الحروف خلفها ذيلا من الدخان الذي ينفثه بكسل نحوي .
أجيب:
-أنا أفهم تماما ما تقول. ولكن، ألا تعتقد أنك تزايد على القدر، وتعاقبنا أكثر مما عاقبتنا الحياة؟
يرد:
-ما أعتقده هو أنك كنت دائما الطفلة المدللة للحب. أتوقع أن يكون قد منحك دائما ما أردته دون جهد. ثمة أناس لهم تلك القدرة الخرافية على المشي فوق قلوب الآخرين، دون شعور بالذنب.
أتمتم:
-ألهذا..؟
يقاطعني:
-لا..ليس لهذا أعاقبك اليوم بالحرمان. وإلا أكون أعاقب نفسي بك.ولكن جميل أن يروضك رجل،لم يفهم قبلك في الخيول..
وقبل أن أنطق يقول:
-أتدرين.. مع الخيول الوحشية، الأصعب دائما هو لحظة الاقتراب منها. أما ترويضها بعد ذلك فهو قضية وقت. ولهذا أوجد رعاة البقر لعبة الروديو، التي يتنافسون فيها على عدد الدقائق التي يبقون فيها على ظهر حصان وحشي، قبل أن يرمي بهم أرضا، لتتهشم عظامهم عند أقدامه. ففي دقائق قد يربحون حصانا، كما أنهم قد يخسرون حياتهم في دقائق!
ثم واصل وهو ينفض دخانه ببطء في المنفضة، دون أن تغادرني نظراته:
ولذا عكس ما تتوقعين، لم أربحك في موعدنا الأخير، وإنما في موعدنا الأول. في تلك الدقائق القليلة التي سألتك فيها في مقهى "الموعد"، إذا كنت تسمحين لي بالجلوس. وكنت على وشك أن تقولي "لا". ولكنك قلت "طبعا". ولم أكن أملك بعد ذلك سوى حبل الكلمات لأطوقك به، وأوقف جموحك الفطريّ. يومها فقط.. جرّبت رعب الاقتراب من فرس.
-ثم..؟
-ثم ها نحن معا أمام امتحاننا الأصعب. عكس موعدنا الأول، لسنا نحن الذين نختبر بعضنا بعضًا اليوم، أو نقيس استعدادنا للصمود في وجه الحب، أو قدرتنا على الإيقاع بغيرنا. إنما الحياة هي التي تختبرنا معاً، وتختبر الحب بنا. ولكي ننجح علينا أحيانا أن نتساوى بالعشاق المفلسين، أن نتخلى عن ترف تملكنا لمفاتيح شقة. ونعيد للحب جماليته.. واستحالته الأولى.
-جميل ما تقوله.. لولا أنك تجرب فينا نظريات في الحب، لا يمكن أن تنطبق على واقعنا. أنت تنسى وضعي الاجتماعي.. وتنسى أنني موجودة معك هنا خلسة.. ومجازفة.
-لم أنس هذا. ولكن أنت نفسك قلت إنك لا تعيشين حبنا بخجل، وإنك تكرهين العلاقات المستترة التي تعيش في ظلّ الشوارع الخلفية. فامنحي حبنا شرعية الضوء، وشيئا من الكرامة التي تخرجنا من صنف السرّاقين.
-وماذا لو رآنا أحد معا؟ كيف أدافع عن تهمة معرفتي بك.. أو وجودي معك هنا؟
يقاطعني:
-تدافعين عن هذه التهمة! أي تهمة؟ وأمام من؟ أمام زوجك؟ وهو أحد المتهمين في هذا البلد! الذي أعجب له الأكثر، أن يكون الحب هو الفعل الذي يحرص الناس على إخفائه الأكثر، والتهمة التي يتبرأون منها بإصرار. ما عدا هذا.. فبإمكانك أن تكون مجرما أو سارقا وكاذبا وخائنا وناهبا لأموال الوطن.. وتفرد ما سطوت عليه أمام الناس دون خجل، وتواصل حياتك بينهم محترما. أليس الأمر مدهشا؟
يضيف متذمرا:
-بين الذين أهدروا ماضينا، والذين يصرون على إهدار مستقبلنا، بين الذين أفرغوا أرصدتنا، وأولئك الذين سطوا على أحلامنا، نظل نحن أثرياء الحب أشرف من غيرنا.
يواصل وهو ينفض سيجارته بشيء من العصبية:
-مذ شلّت ذراعي، تعلمت شيئا: الأجدر أن يُعرّف الإنسان بما فقد وليس بما يملك. فنحن دائما نتيجة ما فقدناه. ولكن لا أحد يسألك عن الذي فقدته؛ هم يسألونك فقط عما تملك وأنتِ نفسك، لم تسأليني يوما كيف فقدت ذراعي، ومتى شلّت.. وكيف ؟ ألا يعنيك أن تعرفي هذا ؟
أقول معتذرة وقد باغتني بسؤال لم أجرؤ على طرحه:
-توقعت أن يكون في الأمر إزعاج لك. |