عرض مشاركة واحدة
  #34  
قديم 07-13-2016, 12:43 PM
 
يقول بسخرية المرارة:
-ولم يخجلني أمر لست فاعله؟ أتعرفين قصة بيكاسو، عندما رسم لوحته الشهيرة "غرنيكا" مصورا فيها خراب تلك المدينة على أيدي الفاشيين. فجاء منهم من يسأله "أنت الذي فعلت هذا؟" فرد عليهم بجوابه الشهير "لا.. بل أنتم ". لو سألتني لأجبتك مثله: "لست أنا ..بل هم".
لم أفهم من كان يقصد بالتحديد.سألته:
-ومتى كان هذا..؟
أجاب وهو يسحب سيجارة جديدة، ويشعلها ببطء من يشعل فتيلة الذكريات:
-حدث هذا أثناء أحداث أكتوبر 1988.كنت وقتها أعمل مصورا صحافيا. فذهبت لألتقط صورا لتلك التظاهرات التي اجتاحت فيها الحشود الشوارع دون سابق قرار. وكان شيئا مذهلا ذلك الذي شاهدته: سيارات مسرعة.. وجوه مرعبة وأخرى مرعوبة، رصاص طائش وصدور تتلقى قدرها بغتة. مدينة تحكمها الدبابات. كل شيء قائم فيها قد أصبح أرضا، حتى أعمدة الكهرباء .
كان العسكر يضعون حاجزا بشريًا أمام الآف الشبان الذين راحوا يكسرون في طريقهم كل شيء يرمز إلى الدولة، ويوجهون رصاصهم تارة في الهواء وتارة وسط الناس لإخافتهم دون جدوى. بينما احتل جنود سطوح المباني الرسمية. أذكر أني حاولت أن ألتقط صورة لعسكري وهو يقف على مبنى مقر الحزب، موجها رشاشه نحو الشارع، وخلفه علم الجزائر. عندما انطلق رصاص من ذلك المبنى، واخترق ذراعي اليسرى. ولم أدر إن كان العسكري قد اشتبه في أمري عندما رفعت آلة تصويري وتوقع أنني أرفع سلاحا أم أنني تلقيت رصاصا طائشا كان موجها إلى أي شخص.
ثم واصل بنبرة غائبة:
-تصوّري تلك اللحظة التي نزلت كي أصورها، وتختزنها آلة تصويري اختزنها جسدي إلى الأبد. وأصبحت ذاكرة جسد، أتقاسمها مع مئات الجرحى والقتلى الذين سقطوا في تلك الأحداث.

مرة أخرى فاجأني هذا الرجل بقصة لم يكن مقررا أن يقصها علي اليوم بالذات في هذا المكان وهذا الظرف بالذات.
وكعادته أجابني عن السؤال الذي عدلت عن طرحه لفرط ما طاردتني علامات استفهامه.
تأملته وهو يفك آخر زر في هذا المعطف الكثير الأزرار ويحل آخر لغز في تلك الفوازير التي شغلتني عدة أشهر وكأنه بلغ حالة تعب من المراوغة وقرر أن يهدي إلي أخيرا الحقيقة

بدا لي في عنفوانه أجمل من وهمي به.
قلت:
-أتدري أن الحقيقة تزيدك إغراء.
أجاب:
-تمنيت أن تزيدني احتراما فلا أعتقد أن بإمكاننا أن نحب أو نشتهي شخصا فقد احترامنا ولذا حرصت أن لا أصغر في عينيك بسبب عاهتي.. والأجمل أن أكبر في عينيك بها.
قلت:
-لم ألتق قبلك برجل ثمل كبرياء إلى هذا الحد..
أجاب:
-هل أفهم أنك تحبينني؟
كدت أقول "طبعا"ولكنني قلت:
-حتما..
واصل:
-أتأذنين لي أن أسألك إن كنت تحبين زوجك؟
أجبت:
-حدث أن أحببته.
-وهل أنت سعيدة معه؟
-لا أدري ..أحيانا اكتشف تعاستي ..ثم أعود فأنسى .
-ولماذا بقيت معه إذن؟
-لأنه زوجي.. لأنني وحيدة.. ولأنني متعبة ولا قدرة لي على اتخاذ أي قرار.
-ولكنك حرة في تغيير مجرى حياتك والانفصال عنه.
-أظنه أندريه جيد الذي قال"من السهل أن تعرف كيف تتحرر ولكن من الصعب أن تكون حرا".قد أنجح في أن أتحرر من هذا الرجل رغم أني لا أتوقع أن يكون هذا أمرا سهلا ولكن الأصعب أن تكون حريتي بعده فحياة امرأة مطلقة في بلد كهذا هي عبودية أكبر إنها تتحرر من رجل كي يصبح كل الناس أوصياء عليها.
أصمت فجأة ثم أسأله:
-لو انفصلت عنه..فهل تتزوجني؟
يجيب بنبرة المفاجأة :
-أتزوجك؟ أنت تمزحين؟
-ألا يسعدك أن أكون امرأتك؟
-طبعا..لكن..
-ولكن ماذا؟
-أنا لا أملك شيئا يا سيدتي لا شيء مما تعودته في نمط حياتك كل ثروتي في بيت للإمام الشافعي:
"غني بلا مال عن الناس كلهم وليس الغنى إلا عن الشيء لا به"
-كل هذا لا يعنيني.. تلك الشقة التي تسكنها تكفينا لنكون سعيدين معا.. أنا أحبها.
-ولكن حتى تلك الشقة ليست لي أنا أقيم فيها مؤقتا فقط.
-ولمن هي إذن ؟
-إنها لعبد الحق.. ذلك الصديق الذي حدثتك عنه تركها بعد أن وصلته تهديدات بالقتل فذهب ليعيش لمدة في قسنطينة حيث مازال أهله يقيمون وقد يعود إليها عندما تتحسن الأوضاع.
-وكل ما في البيت له؟
-طبعا.
-وتلك المكتبة أيضا؟
-أيضا.
-وكتاب هنري ميشو الذي استعرته منك..هل هو له؟
-هو أيضا له..
تفاجئه أسئلتي التي تبدو لع غريبة بينما أصاب أنا بصاعقة الذهول وأدخل في حالة صمت لا يجد لها تفسيرا.
سألني مازحا:
-مالذي يزعجك أكثر أن يكون ذلك البيت له؟ أم أن يكون ذلك الكتاب له؟
أجبته بابتسامة غائبة:
-لا شيء يزعجني من كل هذا.. ولكن فاجأني..
-وأنت أيضا فاجأتني. هذه أول مرة تطلب فيها امرأة يدي. قبلك طلب العسكر يدي اليسرى وأخذوها في أحداث 88 مع آلة التصوير. أما اليمنى فما كدت أتحول إلى الصحافة المكتوبة حتى أصبح الإسلاميون يطالبون بها! تصوري: أنا رجل مزعج، اتفق الفريقان على قطع يديه. وعليك أن تقرري بسرعة إن كنت تريدينني حقا. قد يأتي زمن لن يتمكن فيه أحد في هذا البلد من طلب يد صحافي للزواج!

أضحك لهذه "النكتة" ولهذه الروح الساخرة التي يخفي بها دائما حزنه. ولكنه لا يشاركني الضحك.
أسأله:
-أنت قلمّا تضحك.. لماذا؟
-علمتني الحياة أن أبتسم عشر مرات قبل أن أضحك.. وأن أعيد صياغة كلماتي عشر مرات قبل أن أنطق بها، ولهذا اخترت في الماضي مهنة التصوير. الصورة لحظة صمت طويل.. إنها كالرسم، تجربة في الصمت.
-وماذا علمتك الحياة أيضا؟
-علمتني الصبر. أنا رجل من برج الصبر. وهذا آخر ما أريد أن أعلمك إياه.
يضع يده في جيبه ويخرج حاملة مفاتيح جلدية يضعها على الطاولة ويواصل:
-بيننا وبين المتعة مفتاح لا أكثر. ولكنني أرفض أن يتحكم هذا المفتاح فينا. وإلا فسيكون في هذا إهانة للحب. أنا لا أقل عنك اللحظة رغبة ولا إشتهاءً بل إنني أحوج منك إلى الحب، من حاجتك أنت إلى هذا الحبّ، وهذه المتعة ذاتها. ولكن عندما نبلغ ذلك القدر المخيف من اللذة، كل متعة لا تزيدنا إلا جوعا. وعلينا الآن أن نجرب لذة الامتناع، لنتصالح مع أجسادنا، لنعرف كيف نعيش داخلها عندما لا نكون معا.. ولنكتشف جمالية الوفاء عن حرمان.
أقاطعه:
- لا أفهم، لماذا أغريتني بالخيانة، إذا كنت ستطالبني بالوفاء.. عن جوع!
يردّ ساخرًا:
-أنت تسيئين فهمي مرة أخرى. أنا لم أطالبك بشيء. أعددتك للإخلاص، دون أن أطالبك بأن تكوني مخلصة لي..

-تمنيت أن تقول غير هذا. كان يسعدني أن تطلب مني ذلك..
-ولكن الإخلاص لا يُطلب؛ إن في طلبه استجداءً ومهانة للحب. فإن لم يكن حالة عفوية، فهو ليس أكثر من تحايل دائم على شهوة الخيانة، وقمع لها. أي أنّه خيانة من نوع آخر. ولذا أجد في تسمية الخيانة بالمغامرة قلبا للحقيقة. إنّ المغامرة الحقيقية هي الوفاء.. لأنها الأصعب حتما.
-لماذا الأشياء معك معقدة دائما إلى هذا الحد؟ أريد منك كلمات بسيطة. كتلك التي يقولها العشاق وهم على وشك غياب. كلمات جميلة في بساطتها. موجزة، مربكة، ممتعة، موجعة. كلمات تذهلنا، تخترقنا ولا تغادرنا، لكنك لا تقول شيئا من كلّ هذا.
-لا أريد لنا حبا يقتات بالكلمات، حتى لا يقتله عند البعد صمتنا. تريدين كلمات قرأتها في الكتب، وشاهدتها في الأفلام، ولكن أجمل مما قرأته وما شاهدته قصتنا.
توقف لحظة، ثم أضاف:
-عندما قرأت كتابك منذ ثلاث سنوات، تساءلت كيف يمكن لقصتي أن تبدأ حين انتهت قصة خالد، في السنة والأحداث نفسها؟ تراني فقدت ذراعي فقط لأمنح الحياة ترف مطابقتها لرواية، أم لأمنح الأدب زهو مواصلة قصة في الحياة ؟ أدركت الجواب عندما التقينا. لقد تواطأ الأدب والحياة، ليهديا إلينا قصة الحب التي هي من الجمال بحيث لم يحلم بها قارئ وكاتبة قبل اليوم. أنت نفسك كروائية تجاوزتك قصتنا لأنها أغرب من أن تجرؤي على تصورها في كتاب.
أجيب:
-أعترف بأنني ما كنت تصورت أمرا كهذا. برغم كوني حلمت دائما بقارئ يأتي ليقاصصني بكتاباتي. جميل كل ما يمكن أن يحدث لنا بسبب كتاب. ممكن أن نكرّم، يمكن أن نسجن، يمكن أن نغتال، ممكن أن نُحَبّ، يمكن أن نُكرَهَ.. يمكن أن نُقدَّس، يمكن أن نُنفى. فلا يمكن أن نخرج بحكم البراءة من كتاب. البراءة في هذه الحالات، ليست سوى شبهة أن لا نكون في الواقع كتّابًا. العجيب في قصتنا أن الحياة هي التي قرأتني وعاقبتني بتحويل ما كتبته إلى حياة. ربما لأنني كنت كاتبة بنزعات إجرامية، تجلس كل مساء إلى مكتبها، ودون شعور بالذنب، تقتل رجالاً لا وقت لها لحبهم، وآخرين خطأً أحبتهم، تصنع لهم أضرحة فاخرة في كتاب، وتذهب للنوم.
أصمت. ثم أواصل بنبرة غائبة:
كيف كان لي أن أعرف أننا في كل ما نكتبه نكتب قدرنا؟ لشدّة ما تأتي الحياة متنكرة في بساطة كتاب. في أي يوم، أمام أي نص، قد يكتشف أحدنا أن صفحة من كتاباته قد وقعت في قبضة الحياة.. وأصبحت هي حياته.
يتوقف فجأة عن التدخين ويسألني متهكما لفرط حزنه:
-هل لي أن أعرف إن كنت تنوين قتلي؟
أرد مازحة:
-طبعا لا. أنت بالذّات سأستميت في الإبقاء عليك حياً.
وأواصل كما لتأكيد قولي:
-ثمّ إنّ خالد لا يموت في تلك الرواية.
يقاطعني:
-أدري.. يموت زياد. ولكن لا أرى حولي أحدا. أصدقائي جميعهم قتلوا.. لقد حان دوري، أليس كذلك؟ أي رقم سيكون رقمي في قائمة الاغتيالات حسب رأيك؟
لا أدري إن كان يحدثني حقاً عن لعبة الكتابة، أم أنّ هاجسه الحقيقيّ كان الحياة، أو على الأصحّ الموت الفعليّ فيها مغتالاً ككلّ رفاقه.

وقبل أن أجيبه يضيف:
-حياة.. أجّلي موتي قليلا. ولكن أحبّيني وكأنني سأموت. لقد وقعت على اكتشاف عشقيّ مخيف. لا يمكنك أن تحبّي أيّ شخص حقاً، حتى يسكنك شعور عميق بأنّ الموت سيباغتك، ويسرقه منك. كلّ الذين تلتقين بهم كلّ يوم، ستغفرين لهم أشياء كثيرة. لو تذكّرت أنهم لن يكونوا هنا يوماً، حتى للقيام بتلك الأشياء الصغيرة التي تزعجك الآن وتغضبك. ستحتفين بهم أكثر، لو فكّرت كلّ مرة، أنّ تلك الجلسة قد لا تتكرر، وأنّك تودعينهم مع كلّ لقاء. لو فكر الناس جميعا هكذا لأحبوا بعضهم بعضا بطريقة أجمل.
أسأله:
-وهل تفكر فيّ بهذه الطريقة نفسها؟
يردّ ضاحكاً من ذعري:
-معك.. أوجدت فلسفة أجمل. أنا أعمل لدنياي كأنني سأراك غدا. وأعمل لآخرتي وكأننا سنموت معا! ولذا أنا أستعد كل يوم للقائك هنا.. أو هناك، بالتألقّ والشوق نفسه.
رد مع اقتباس