عرض مشاركة واحدة
  #35  
قديم 07-13-2016, 12:43 PM
 
أتمتم:
-أخاف إحساسك هذا. أشعر وأنا أستمع إليك بأن حبنا استغفال للحياة، وأنه لم يبق لنا من الوقت سوى قبلتين وضمة.
-بل لنا متسع من العمر. وسأنتظرك في الحياة.. وفي الكتب. إن لحظة حب تبرر عمرا كاملا من الانتظار.. هل تعين هذا؟
-أحاول ذلك.. ولكن كل شيء ضدنا.
- الحب ككل القضايا الكبرى في الحياة، يجب أن تؤمني به بعمق، بصدق، بإصرار، وعندها فقط تحدث المعجزة. انظري مثلا بوضياف: رجل في الثانية والسبعين من عمره. قضى نصف حياته في مكافحة الاستعمار، والنصف الآخر منفيا من وطنه. رجل نُفِيَ حتى من الذاكرة الوطنية، أُلغي حتى من الكتب المدرسية. ثم جاء به التاريخ، رئيسا بعد ثمانية وعشرين عاما من المنفى. أليس هذا أمرا مذهلا.. ورائعا؟ صدقيني إنها قضية وقت فقط..
-ولكنني أخاف الوقت.. إنه عدو العشاق
-بل هو عدو الثورات، الكبيرة منها.. وتلك الصغيرة المرتجلة. جميعها يقتلها الوقت. وسننتظر موت الأوهام الثورية.


* * *


طبعا.. الوقت عدو العشاق.
ها هوذا يفرقنا. خطوات.. ويتوارى خيال رجل يعود إلى عتمته الأولى، مرتديًا سواده.
فأعود رفقة البحر مشيا على الأقدام. أمشي وتمشي الأسئلة معي. وكأنني انتعل علامات الاستفهام.
نيتشه كان يقول "إن أعظم الأفكار، هي تلك التي تأتينا ونحن نمشي" فأمشي.
ولكن كل فكرة يأتيك بها البحر، تذهب بها الموجة القادمة.
كنت أعتقد أن الرواية هي فن التحايل، تمامًا كما أنّ الشعر هو فنّ الدهشة. ولم أفهم كيف أنّ هذا الرجل الذي لم يكن مهيّأً لدور الشاعر، ولا لدور الروائي، تمكّن من إدهاشي، والتحايل على كلّ حواسي إلى حد جعلي أمّية أمام الرجولة.
كيف دون أن يدري، كتب هذه القصة على قياسي، في هذا الكتاب الذي غيّرنا فيه أكثر من مرّة، أماكننا وأدوارنا، كيف أصبح ذلك الصديق الغائب فجأة، هو البطل الرئيسي.
فقد بدا واضحًا الآن أنه الرجل الذي جلس إلى جواري عند مشاهدتي لذلك الفيلم، وأننّي ما فتئت أعيش بمحاذاته منذ ذلك اليوم. أشتمّ عطره.. أطالع كتبه.. أستمع إلى موسيقاه، أجلس على أريكته.. أتحدّث على هاتفه.. وأقع في حب بيته!
لم أفهم، كيف بغباء مثالي وقعت في فخ كل الإشارات المزورة التي وضعها الحب في طريقي.
وإذا بي أثناء وهمي باكتشاف رجل، كنت أكتشف آخر.
لا أدري في أية محطة، أخطأت قطار الحب "الأول"، فأخذت قاطرة أوصلتني إلى حب آخر.
كسائح شارد يأخذ الميترو لأول مرة، كمغامر يكتشف قارة دون قصد. في لحظة شرود عاطفيّ. أخطأت وجهتي. وقبلي أخطأ كولومبس، فاكتشف أمريكا. ومات وهو يعتقد أنه اكتشف الهند.
يا للروائيين، كما البحارة هم يموتون دائما في لحطة جهل!
قطعا..لم تصل.
أنت المسافر في كل قطار صوب الأسئلة. من قال إنّك وصلت؟ من قال إنك تدري أين هي ذاهبة بك الأجوبة؟ ف"الأجوبة عمياء ..وحدها الأسئلة ترى".
الوقت سفر..
مراكب محملة بالأوهام عادت، وأخرى بحمولة الحلم ذاهبة.
ضحك البحر لما رآني أبحر على زورق من ورق، وأرفع الكلمات أشرعة في وجه المنطق. عساني أعرف..كيف كل هذا قد حصل.

الوقت مطر..
غيمة تغادر الهاتف. وتأتي كي تقيم في حقيبتي. وخلف نافذة الخريف، مطر خفيف.. يطرق قلبي على مهل.
الوقت قدر..
يغلق البحر قميصه. يتفقد ليلاً أزرار الذكرى. يغلقها أيضاً بإمعان، حتى لا يتسرب الملح إلى الكلمات.
ثم يرتدي صوته الأجمل. يدير أرقام هاتف.. يسأل:
وتجيب امرأة:
-ألو نعم!
الوقت ألم..
لماذا نحن نقول دائما"نعم" عندما نرد على الهاتف.. حتى عندما يكون الوقت "لا"؟
الوقت "لا"..

في بهو الحزن الفاخر، تعلّمي الاحتفاء ليلاً بالألم.. كضيف مفاجئ.
هو ألم فقط.. فلا تستعدي له كما لو كان دمعك الأول.
متأخّر هذا البكاء، لحزن جاء سابقا لأوانه، كوداع.
فالوقت وداع..
يقول الحب: ألو.. "نعم"
وتجيب الحياة: ألو "لا". والملح يتسرب عبر خط الهاتف يجتاحنا. بين استبداد الذاكرة، وحياء الوعود. تتابع الأشياء رحلتها.. دوننا.


* * *


أغادر سيدي فرج فجرًا، قبل أن يستيقظ البحر، ويستبقيني بدمعة.
له كل ذلك الموج، ولي الملح، وطائرة تنتظر.
عندما جئت إلى هنا منذ أسبوعين، كان بودلير يرافقني بتلك المقولة الجميلة، التي كانت تستبقه إلى كل سفر "الشهوة تناديني.. والحب يتوجني".
الآن، أترك عرش الحب خلفي. فالشرعيّة تناديني.. وقسنطينة تنتظرني. والحياة التي استغفلتها وخرجت على قانونها، تعيدني إلى بيت الطاعة، متوجةً ببريق الذكريات.
أعود إلى قسنطينة، متحاشيةً النظر إلى هذه المدينة.
كنت أتمنى لو أراها بعيون بورخيس عندما يرى بوينوس آيرس بعينين فاقدتي البصر. عساني أحبّها دون ذاكرة بصرية.
أحيانا يجب أن نفقد بصرنا، لنتعرّف مدناً لم نعد لفرط رؤيتها نراها.
هنا شوارع نخاف من عيون عابريها، مطاعم لا نجرؤ على ارتيادها، بيوت لا يمكن أن ندخلها معا.
هنا.. مدينة لا تعترف بالحب، إلا في أغاني "الفرقاني". لا تغادر بيتها إلا لتذهب إلى المسجد، أو إلى مقهى. لا تفتح نافذة إلا لتطل على مئذنة.
وأنا جئتها بأعراض عشقية، وكلمات اسخيليوس في مواجهة أثينا:
"يا سيدتي.. تخلي قليلا عن الآلهة. واعطيني شيئا من شقائك العظيم.."
وهل أكثر شقاءً من عاشق في قسنطينة؟

زوجي قابلني بلطف مثير للشبهات، أو ربما أنا التي كنت أبالغ في تضخيم أخطائه. بل أتربص بها، ليمكنني فيما بعد، المبالغة بعدم الشعور بالذنب تجاهه.
بدا لي سعيدا بعودتي. أو ربما كان سعيدا، لأسباب أخرى. فمذ جاء بوضياف، عاد شيء من الأمان إلى قلوب الناس. وعادت الحياة الطبيعية إلى المدينة. ومعها تلك الحمى التي تسبق الصيف دائما، وتذهب بالعائلات أفواجا إلى مروج عين الباي، وجبل الوحش.
وبدأ الناس يجرؤون أخيرا على القيام بمشاريع قريبة أو بعيدة الأمد، مراهنين على خروج البلاد من النفق.
هذه الطمأنينة المباغتة، جعلتني أتعلّم الاستكانة إلى الوقت والمكان، واثقةً بكلام ذلك الرجل.
تراني تعلمت منه التفاؤل.. أم تعلمت التريث؟ حتى إنني كثيرا ما قاومت تلك الرغبة التي تستيقظ داخلي، وتغريني بالتحري لمعرفة من يكون عبد الحق.

ماكان يربكني هو كوني حيث كنت، أواصل العيش بمحاذاته مادمت حتى هنا، أتقاسم معه المدينة نفسها.
أحياناً.. كانت تذهب بي الأحلام، فأتصور مكاناً قد يجمعنا مصادفة، قد لا يتعرف إلي، برغم أنه قرأني، بل كتبني طوال هذه القصّة مادام هو الذي أهدى تلك الرواية لصديقه وأوصله دون أن يدري.. إليّ.
وحده كتاب هنري ميشو قد يدله عليّ. لو أنا أخذته معي. أما أنا فسأستدل عليه بصمته، أو بتلك الكلمات القليلة التي كانت ميزته، والتي كعطره، سربها لصديقه.
سأسأله:
-هل عرفتني؟
وسيجيب:
-طبعاً.
أو قد يجيب:
-حتمًا.
...الكلمتين الوحيدتين اللتين قالهما يوم جلس إلى جواري في قاعة السينما.
عندها سأعترف له:
-اشتقتك.. أتدري روعة أن نشتاق إلى شخص لم نلتقِ به؟
كنت أحلم، أتصور لنا أكثر من بداية. وأتصور لي أكثر من طريقة للعثور عليه. ثم أعدل عن أفكاري، وأنا أتذكّر أنني أكرّر معه مغامرتي مع صديقه بكلّ حذافيرها.

هذه المرة أيضًا، أنا أمام رجل لا أعرف اسمه. فعبد الحق ليس اسما عائلياً، ولا يكفي للعثور على صحافي، لا أدري في أية جريدة.. ولا بأية لغة يكتب، ولا بأي اسم يوقع مقالاته، في زمن أصبح فيه لكل صحافي اسمان.
في الواقع، كان يسعدني أن يكون هذا الرجل، لا أحد.
رجل لا اسم له بالتحديد. لا أوصاف، لا صفات مميزة، ولا أوراق ثبوتية.
فقد تعلمت من تجربتي السابقة. أنّ في ما نجهله جماليّة تفوق فرحتنا بمعرفة الحقيقة.
ولذا، قرّرت أن أترك موعدي مع عبد الحقّ للحياة، تتدبره كما تشاء. حتى لا أفقد عنصر المفاجأة.. وحتى لا أستعجل الخاتمة.
فعندما نعثر على الشيء الذي بحثنا دائما عنه، تكون بداية النهاية.
أما السبب الأهم لعدولي عن البحث عنه، فهو كوني كنت أجد في انشغالي الدائم واللاشعوري به، شيئًا من الخيانة المستترة، لذلك الرجل الذي قضى موعدنا الأخير، في إقناعي بالإخلاص، وكأنه كان يستبق الأحداث، أو كأنه كان يعرف عني في كتابٍ، ما يكفي ليحذر نزعتي لحبّ صديقين في الوقت نفسه.
ألهذا أعطاني من شراسة الحب وتقلباته، كما لو كان أكثر من رجل. وقال وهو يودعني على الهاتف ذلك الاعتراف الذي ألمني: "لا أملك إلا الحبّ.. لأردّ عنك خطره".
ما كدت أذكره، بذلك القدر من التفاصيل، حتى عاودتني حالة من الاشتهاء له، حاولت أن أهرب منها إلى الكتابة. ولكن..
لليد ذاكرة لا تنفك تطاردك بالسؤال عن جسد الفقدان. وأنا ما زلت لا أفهم، كيف أن جسده الذي لم يكن الأجمل.. أصبح الأشهى إلى حدّ إرباك سكينتي، ومنعي لأيام من الكتابة.


* * *

مر شهران..
كنت خلالهما أكتفي بوجبات الأحلام، ورشفات حبر سريعة، وأترك للآخرين ولائم الضجر.. وقهوة النميمة.
فمنذ الأزل، كانت عقدة النار، كيف التوحّد مع الماء. وأنا لم أتقن يوماً، فنّ هدر الوقت والجلوس إلى النساء. كنت سيدة الحزن، وكنّ خادمات لدى الفرح.
وأذكر الآن، تلك المقولة الجميلة "إن عظمة النار في كونها تحرق..وتحترق".وأفهم لماذا، كنت منذ الأزل، لا أجالس غير الرجال.
فمع النساء لم أكن أحرق سوى أعصابي..!
وبرغم ذلك، قبلت يومها، حضور دعوة لدى إحدى القريبات، احتفالا بنجاح ابنتها في امتحان ما.
كنا في نهاية حزيران. وكانت النساء من حولي يتبادلن أحاديث حول قهوة.. وأصناف من الحلوى. وكنت أهرب من ثرثرتهن، وأسترق النظر أحيانا إلى جهاز التلفزيون الذي كان مفتوحا.. لمزيد من الضجيج.
رحت أتابع بين حين وآخر، خطاب بوضياف الذي كان التلفزيون ينقله مباشرة، من دار الثقافة في عنابة. ولكن،لم يكن يصلني منه الكثير فاكتفيت بتأمّله، لأوّل مرة، دون أن أدري أنني أتأمل ذلك الرجل في حضوره الأخير.
حتى دون صوت، كان بوضياف يخترقك بعينين حزينتين، لهما ذلك الحزن الغامض، الذي يجبرك على أن تثق بما يقوله.
عينان تعرفان تدرّب الوطن على الغدر منذ الأزل. عينان تغفران وتنسيان، مذ داهمهما حزن المنافي، وإحساس عميق بخيانة الرفاق.
فلم يعد يغادرهما حزنهما ولا عادتا تقويان على الضحك.
وكان بو ضياف في وقفته الأخيرة تلك موليا ظهره إلى ستار القدر.. أو "ستار الغدر".
يبدو واثقاً وساذجاً وشجاعاً، وبريئًا.
فكيف لا يحصل له..كل الذي حصل؟
لا أدري عن أي شيء كان يتحدث لحظتها. أذكر أن آخر كلمة قالها كانت "الإسلام..".
وقبل أن ينهي جملته، كان أحدهم، من المسؤولين عن أمنه، يخرج إلى المنصة من وراء الستار الموجود على بعد خطوة من ظهره، ويلقي قنبلة تمويهية.. جعل دويّها الحضور ينبطحون جميعهم أرضًا .
ثم راح يفرغ سلاحه في جسد بوضياف، هكذا مباشرة أمام أعين المشاهدين، ويغادر المنصة من الستار نفسه.
كنا في التاسع والعشرين من حزيران.
كانت الساعة تشير إلى الحادية عشرة وسبع وعشرين دقيقة.
وكانت الجزائر.. تتفرج مباشرة على اغتيال أحلامها.
كان الجميع ينتظر سيارة الإسعاف التي لم تأت.
وكان علم الجزائر الموجود على المنبر، قد أصبح مصادفة غطاء لرجل ينام أرضاً. جاء ليرفع رؤوسنا.. فجعلنا أحلامه تنحني في بركة دم.
ذلك كان قدر بوضياف مع حزيران الوطن.
منذ أربعين سنة، في الشهر نفسه، اقتاده رفاقه إلى سجون الصحراء.
ثم جاء به الوطن, كي يحكمه 166 يوما. وها هو يكافئه ذات حزيران.. بكفن!
رد مع اقتباس