عرض مشاركة واحدة
  #36  
قديم 07-13-2016, 12:43 PM
 
وابل من الرصاص، مقابل خمسة أشهر من الحكم.
لم يمهلوه سبعة أيام فقط. كل ما كان يلزمه كي يصل به العمر حتى 5 يوليو عيد الاستقلال الذي كان يريد أن يهدي فيه إلى الجزائر، خطابه المنتظر.
فجأة، توقف بنا القدر، كما تتوقف عجلات سيارة في الوحل، وهي في طريقها إلى مشوار جميل.
فقد كان كل شيء جاهزا كي لا يخلف بوضياف هذه المرة موعده مع الموت، بما في ذلك سيارة الإسعاف التي أضاعت طريقها إلى المستشفى وهي تنقله.. فكان آخر من يصل من المصابين.
يوم موت بومدين، قال بوضياف "لقد كنت دائما على خلاف مع بومدين في كثير من القضايا. ولكن عندما شاهدت جنازته شعرت بأنني ظلمته. فلا يمكن لرجل يشيعه شعبه بهذا القدر من الفجيعة.. أن يكون قد أخطأ في حق الوطن".
أولئك الذين كانوا يطلقون الزغاريد من الشرفات عند سماع الخبر ويعلنون دون خجل أمام التلفزيون شماتتهم بموته، ويتسابقون إلى المساجد متصدقين بولائم "الكسكسى" احتفالا بدمه المسفوك.
والأربعون حرامياً، الذين كانوا يسعدون سرا.. أمام جثمانه، ويفركون أيديهم فرحا بغنائم، يمكنهم مواصلة التناوب على السطو عليها لسنوات أخرى، أولئك الذين ظنوا أن جثمانه قد يمر سهوا في غفلة من الوطن، أن موته قد يكون حادثا لا حدثا في تاريخ الجزائر.
تراهم توقعوا له.. جنازة كتلك؟

انهيار صاعق للأشياء.
وطن يغمى عليه، يدخل حالة من الهستيريا، يبكي رجاله كالأطفال في الشوارع. يهتفون "إنا هنا". تخرج نساؤه ملتحفات بالأعلام الوطنية، حاملات مع موتاهنّ صورة رجل، لم يحكم كي تغطي صوره الشوارع... إنما كي تغطي صورة الجزائر صور القتلى الذين يملئون صفحات الجرائد.
رجل لم يمش يوما باطمئنان على تراب الوطن، تحمله القلوب، أمواجا بشرية نحو التراب.
رجل يمضي.. ويتركنا من جديد ليتمنا. نردّد خلفه.. امضِ "إنّا هنا". فيواصل التاريخ بعدنا:
"نم.. ولا تهتم أبو ناصر.. إنهم هنا"

لم أغادر يومها البيت كي أشارك في تشييعه. كان حزني أكبر من أن أتقاسمه مع أحد .
ولكن في مكان ما من أعماقي، كنت سعيدة من أجله.
هذا الوطن الذي لم يهدِ إليه حياةً على قياس أحلامه، أهدى إليه جنازة على قياس حياته.
جنازة لرجل عبر الحكم مشيا على الأقدام.. 166 يوما لا غير. ولكنها جنازة ليس في متناول أولئك الذين حكموا أوطانا ربع قرن بجيش من المخبرين، متسلطين على شعوب طحنها الذل الأزلي.
هؤلاء الواثقون من ولاء الدبابات لهم، عليهم أن يجربوا الموت مرة ليختبروا رصيدهم في جنازة.. فيذهلو
* * *

أسبوعًا بعد آخر، موتًا بعد آخر، كنت أعي أنني أعيش عمراً قيد الإعداد. تصنعه تارة أحداث كيرى، وتارة أحداث هامشيّة أخرى.
في كل لحظة، لأيّ سببٍ كان، يمكن لقدري أن يأخذ مجرى آخر.
فأنا امرأة تعيش بين رجال ثلاثة، حياتهم معلقة برصاصة القدر.
ويتصرف بأعمارهم وأقدارهم أولئك الذين يهندسون الموت والرعب كل يوم في هذا الوطن.. ولا أدري متى سيسقط أحدهم قتيلا بتهمة، أو يسقط الآخر بنقيضها.
ولذا أصبحت مسكونة دائما بهاجس الصدمة، مهووسة بهذا الموت المباغت الذي أراه يحوم حول كل من يحيطون بي.
بين أخي الأصولي الذي تطارده السلطة، وزوجي العسكري الذي يتربص به الأصوليون، وذلك الصحفي الذي أحب، والذي يصفي الاثنان حساباتهما وخلافاتهما بدمه، كيف يمكنني أن أعيش خارج دائرة الذعر؟
منذ سقط بوضياف قتيلا مباشرة على شاشة التلفزيون أمام ملايين الناس، كان واضحا أن موسم الصيد قد فتح، وأصبح السؤال بعد كل موت.. من سيكون دوره الآن؟
كنت أحاول أن أستعين على الخوف بالكتابة، وغالبا بالحب، أستعيد كل ما قاله لي ذلك الرجل وهو يهيئني لزمن كهذا.
ولكنه هو نفسه لم يعد هنا ليؤكد لي ذلك. منذ اغتيال محمد بو ضياف وأنا أحاول الاتصال به دون جدوى.
كان مجرد طلبه هاتفيا من قسنطينه أمرا فيه كثير من المجازفة، وهو ما جعلني أحاول الاتصال به كلما وجدتني عند إحدى القريبات، نظرا إلى كون هاتفي مراقبا.. بحكم أنه هاتف عسكري. وهاتف أمي كذلك بنية التجسس على أخبار ناصر وتنقلاته. وهاتف ذلك الرجل أيضا موضوع تحت التصنت.. لكونه صحافيًا وعضوا في المجلس الاستشاري. وهو الأمر الذي زاد من وحدتي وشعوري بأنني أعيش قدرا مضادا للحب. ليس الجانب البوليسي سوى أحد أوجهه المخفيّة والمخيفة.
ذات صباح استيقظت، وبي رغبة للتحرش بالذاكرة. كنت قد تعبت من جثة الوقت بيننا، بعد أربعة أشهر من الترقب. ولم أجد لي سوى مكان واحد قد يوصلني إليه، أو إلى عبد الحق.
وهكذا أخذت أكثر قراراتي جنونًا. لبست أكثر ثيابي احتشاما. وغادرت البيت دون زينة.. ودون السائق. ولا شي في حقيبة يدي سوى كتاب هنري ميشو "أعمدة الزاوية"، الذي أخذته معي كي أحتمي به من نظرات الفضول وأستعين به على انتظار قد يطول. وربما أيضا لأجعل ذلك الرجل يتعرف عليّ إذا ما حضر إلى المقهى، ورآني أطالع كتابه الشخصي. وهو ما سيوفر علي ارتباك مبادرته بالكلام.
مشيت خطوات على قدمي. كدت أتوقف لأشتري جريدة بعد أن أصبحت قراءة الجرائد إحدى عاداتي السيئة مثلي مثل كل الجزائريين الذين يهجمون كل صباح على الجرائد عن ضجر أو عن ذعر. وكأن شيئا ما حدث أو سيحدث.
ولكن هذه المرة عدلت عن الفكرة، تفاديا لما قد يلحقني من شبهات أخرى.. إن أنا رحت أطالعها في مقهى وظن البعض أنني صحفية.
سعدت وأنا أوفّق على بعد شارع من بيتي، بسائق أجرة. فطلبت منه بكثير من التودد إيصالي إلى مقهى الموعد. شعرت أن عليّ أن أثبت براءتي لكل من يصادفني.. بدءًا من السائق. فقد كنت أعي تماما أنني أقوم بعمل جنوني آخر.
في الواقع كنت أملك احتياطيا كافيا من الجنون يبدو أمامه رصيدي من العقل هزيلا، ورصيدي من الصبر معدوما. وكنت سعيدة أن تكون ثروتي لا تتعدى روايات أكتبها لنفسي لا تدر عليّ أي دخل.. ولكن يتدخل أبطالها في حياتي.. حد احتمال إيصالي إلى حتفي.
في ذلك الطابق العلوي للمقهى، جلست أمام أمكنة الحب الشاغرة. أترقب رجلاً.. تعوّدت أن أنتظره بصمتي. أعبر إلى الوقت من غيابه. أتأمل طاولة في الزاوية اليمنى، مستعيدة جمالية ألغام الرغبة، لحظة لقاء أول.
أكنت أنتظره حقا؟.. من الأرجح أنني كنت أنتظر صديقه بحجة أنه الرجل الذي سيزودني بأخباره.. أو سيوصلني إلى عبد الحق.
حتما.. كنت موجودة هناك من أجل عبد الحق. ولذا وضعت كتاب هنري ميشو على الطاولة.. عسى يلحظه إن هو حضر.
كان في الطابق السفليّ صخب يخفي حزن الناس، ويأتي حتى طاولتي ليدخل الرعب إلى قلبي. كيف لا عقل يحرسني من طيش رغبات صباح بارد، ولماذا بي افتتان برجال مجبولين بالعصيان.. وبأقدار يتعذر الإمساك بها؟
رحت أحاول تشخيص حالة حبّ، تسبقها دائمًا أعراض كتابة، وتليها دائما فجيعة ما.
ما الذي جاء بي هنا؟ وأي إحساس قادني هذا الصباح في هيئة لا تصلح للقاء، وأجلسني في مناطق منزوعة الرغبة، مقابلة لطاولة منزوعة الشهوات؟
إنها حتما حاستي الكتابية السادسة، تلك التي لا تخطئ.. والتي تعدني اليوم بمفاجأةٍ ما.
كانت الأصوات الرجالية التي تصلني بأعداد أكثر كلما تقدم الوقت، تزيد رعبي، ولا يقيني منها سوى وجود امرأة ورجل يتحدثان في زاوية قريبة مني. ولكن هما نفسهما لم يكونا على قدر من الطمأنينة، فقد كانا مرتبكين.. وعصبيين.
ذلك الرعب أصبح فجأة عدوى جماعية قابلة للانتقال من شخص إلى آخر، ومشهدا عاديا قابلا للتضخم يوما بعد آخر. وأنت تصغر أمامه حتى تصبح في حجم حشرة لا تدري في جوف أي فريق ستنتهي، وفي أية وجبة سيتم أكلك. وبأية تهمة سيكون قتلك. إنه المنطق العبثي والعشوائي للموت، في زمن الحروب غير المعلنة، تلك العبثية الموجعة التي اختصرها خليل حاوي في ذلك البيت الجميل:
"كل ما أعرفه أني أموت
مضغة تافهة في جوف حوت"

لم يكن في المقهى ما يمكن أن يثير فضولي.
فرحت أتأمل بين الحين والآخر، شابًا في مقتبل العمر بهيئة بسيطة، يجلس على بعد طاولة مني، يطالع جريدة.
بدا لي أصغر من أن يكون عبد الحق. وبرغم ذلك رحت أسترق النظر إليه عن ضجر. رافعة أحيانا كتاب هنري ميشو تمويها، أو إشعارا لغريب قد يحضر. ثمّ فجأة، هممت بمغادرة المكان عن يأس، أو بالأحرى عن خوف، وأفكار بوليسية تباغتني، خاصة وأنا أتنبه لوجودي في مقهى يرتاده الصحافيون.
ماذا لو كان هذا الشاب الجالس على بعد خطوة مني يخفي مسدسا، ويختفي خلف جريدة تربصا بأحد ما؟ فمعظم الاغتيالات ارتكبها شبان في العشرين يرتادون المقاهي، أو يقفون متكئين على جدار وهم يطالعون جريدة.. في انتظار ضحيتهم.
كنت أجمع أشيائي مذعورة، وأترك ثمن قهوتي على الطاولة قبل مغادرة المكان، عندما رأيته يفتح الجريدة على صفحة داخلية ويغرق في قراءة شيء ما.
وإذ بي ألمح في الصفحة الأولى من تلك الجريدة التي كان يرفعها، صورة كبيرة، أعرف تماما ملامح صاحبها، وفوقها كلمتان بالفرنسية مكتوبتان بخط أسود كبير..
كلمتان جعلتاني أتسمّر في مكاني ذهولاً.


كنت أتوقع من الموت كلّ شيء.
تقريبا كل شيء، من نوع تلك المفاجآت الدنيئة، التي وحده يتقنها.
ولكن هذا الصباح، كانت الجريدة التي لم أشترها. تنقل لي الموت الوحيد الذي لم أتوقعه.
فالبارحة فتح ذلك الحوت فكيه، وابتلع لوجبته المسائية من جملة من ابتلع - عبد الحق!
أي قناص سادي هو القدر؟ يتخذ له زاوية منسية في حياتنا، ثم يأخذ في إطلاق النار كيفما اتفق على من أحببنا، دون شعور بالألم.
قطعًا، لم أتوقع أن تكون لي مع عبد الحق، مفاجأتان، الأولى موته، والثانية صورته. وكأنه كان لا بد أن يموت ليصبح أخيرا رجلا حقيقيا باسم كامل، ووجه، وملامح، وقصة حياة.. وقصة موت.
بالنسبة إلي كانت القصة تبدأ من صورته. فأنا لم أنس هذه الملامح التي قضيت وقتا طويلا ذات يوم في تأملها، بإعجاب سري في هذا المكان نفسه.
أكنت قد جئت إذن هنا، لأن الحياة كانت تهيئني هذا الصباح لمفاجآت قدرية ظالمة.. في هذا المكان الذي رأيته فيه لأول مرة؟
أجئت أشهد غيابه، وأتأمل طاولته الشاغرة دونه، لأكمل بحضوري دورة الفراق.. في قصة لم يكن فيها سوى لقاء.. وكثير من صمت الغياب.

رد مع اقتباس