أثناء تفكيري، جاء أحدهم وطلب من ذلك الشاب الحضور معه.. لأنهم يحتاجونه في المطبعة.
كان المسكين صحافيا إذن.. أو موظفا في جريدة. كدت احتضنه وأجهش بالبكاء، لو كنّا بمفردنا. ولكنني لم أجد في صوتي شجاعة سوى لطلب تلك الجريدة منه.. فناولني إياها.. ومضى.
لم تكن قدماي قادرتين على حملي. فعدت وجلست مكاني.
هذه المرة.. لم أكن أجالس وهما.. وإنما ألماً.
مهملا كان الحزن في ركن من هذا المقهى.. حيث طاولة مغلقة على سرها كبيانو تنتظر رجلا تعود أن تأتيها ليكتب. وهي الآن صامتة دونه. وحدها تشاركني الحداد عليه. وتسأل.. لماذا اختارها هي دون غيرها؟
أفتح الجريدة على صورته. فتؤلمني الكلمتان على بساطتها “adieu abdelhak”.
أيكفي أن تضيف كلمة "وداعا" إلى أي اسم.. ليثير فيك كل هذا الألم؟
إنه عبد الحق إذن..
الرجل الذي كان يجلس بقميص وبنطلون أبيض على هذه الطاولة إياها.. في ذلك اليوم الذي..
أذكر.. كان لا يتوقف عن الكتابة والتدخين. وطوال جلوسه وحيدا لنصف ساعة تقريبا، لم يبادلني سوى الصمت، ولحظات من الشرود.
ثم جاء صديقه، في زيّ أسود. سلم علي من بعيد، وكأنه يعرفني. تحدثا طويلاً. كنت أتساءل طوال الوقت، أيّهما ذلك الرجل الذي..
ثمّ فجأة، نهض اللون الأسود. ناولني صحنا من السكر، كنت سأطلبه من النادل.
أذكر، فاجأني عطره. أعادني إلى ذلك العطر الذي..
فرحت أختبره بكلمات اعتذار. وإذ به يجيبني بتلك الكلمات الصغيرة التي..
ولحظتها.. أفلتت حواسي مني. وأخذته مأخذ وهمي به.
لم أكن أدري أن الحب كان يسخر مني، مسربا كلمة السر نفسها لأكثر من رجل.
الآن أعي أنني يومها أخلفت، بفرق كلمة ولون، قطار الحب الذي كنت سآخذه.
فلحقت في لحظة من فوضى الحواس، بذلك اللون الأسود، وأخطأت وجهتي.
هو قال: "أجمل حبّ، هو الذي نعثر عليه أثناء بحثنا عن شيء آخر".
وكيف لي أن أعرف الآن، إذا كان ما عشته معه هو أجمل حقًا مما كان مفترضا أن أعيشه، لو أنني لحقت باللّون الآخر.
ولكن، أكان ثمة حقا.. لون آخر؟
لقد أصابني الحب يومها بعمى الألوان. وأربك فيّ أيضا حاسة النظر.
وأذكر أنني سألت اللون الأسود في أول لقاء لنا:
-قبلك لم أر رجلاً يلبس الأسود في هذه المدينة. حتى لو كان ذلك حدادًا.
فأجاب:
-وأيّ لون توقعت أن أرتدي؟
قلت:
-لا أدري.. ولكن الناس هنا، يرتدون ثيابا لا لون لها.
ثم واصلت بعد شيء من التفكير:
-صديقك أيضا يبدو غريبا عن هذه المدينة..
رد ضاحكا:
-لماذا..؟ ألأنه يرتدي الأبيض باستفزازية الفرح.. في مدينة تلبس التقوى بياضا؟
ثم واصل ساخرا :
-صديقي.. فرحه إشاعة. إنه باذخ الحزن لا أكثر، والأبيض عنده، لون مطابق للأسود تماما.
لقد كنت في النهاية، أمام رجلين يرتديان، بطريقة مختلفة، اللون نفسه.
ويبدو واضحا الآن، أنه لم يحدث للحبّ أن سخر إلى هذا الحد، من امرأة كانت واثقة من نفسها إلى ذلك الحد.
قطعًا..
الحبّ ليس سوى حالة ارتياب.
فكيف لك أن تكون على يقين من إحساس مبني أصلا على فوضى الحواس، وعلى حالة متبادلة من سوء الفهم، يتوقع فيها كلّ واحد أنه يعرف عن الآخر ما يكفي ليحبّه.
في الواقع، هو لا يعرف عنه أكثر مما أراد له الحبّ أن يعرف. ولا يرى منه أكثر مما حدث له أن أحب، في حب سابق.
ولذا نكتشف في نهاية كلّ حبّ، أننّا في البدء.. كنّا نحبّ شخصًا آخر!
من بين كلّ الميتات، جاء اغتيال عبد الحقّ، الأكثر صدمة لي.
هل أكثر ألماً من أن تدخل حياة أحد، وهو على وشك أن يغادر الحياة؟
هذا الرجل الذي لا أعرفه، وأعرف كلّ شيء عنه، ماذا يمكن للجرائد أن تضيف إلى معرفتي به سوى تفاصيل موته، التي لا أريد أن أعرفها، والتي نشرتها كلّ الصحافة الوطنية في صفحاتها الأولى، بصورة كبيرة له، وتحتها الكلمات نفسها، بلغة أو بأخرى "وداعًا.. عبد الحقّ"
تعوّد الصحافيون هنا إنزال صور موتاهم، بالأحجام نفسها، ورثاء أنفسهم مسبقًا مع سقوط كلّ صحافيّ جديد.
وعبد الحقّ نفسه لم يخالف القاعدة. ولذا لم يجدوا في الجريدة التي كان يكتب فيها، أجمل من أن ينشروا في الصفحة الأولى جوار صورته الكبيرة، تلك القصيدة نفسها التي كتبها غداة اغتيال صديقه الصحافي والشاعر الطاهر جعوط، وكأنه كان يرثي نفسه بها.
إذ كلّ التفاصيل التي تميّز موت عبد الحقّ عن موت صديقه، تبدو مجرد تفاصيل.
ولم يعد مهمًا أن يكون الطاهر جعوط، قد اغتيل داخل سيّارته حاملاً أوراق مقاله الأخير، إلى الجريدة، عندما باغته قاتلوه من الخلف وأطلقوا رصاصتين على رأسه، بينما اختطف عبد الحق من أمام مسكن والدته في سيدي المبروك، وكان قد حضر سرًا ليودعها قبل سفرها إلى "العمرة" أوّل أمس. وعثروا على جثته البارحة، مقتولاً برصاصة في الصدر.. وأخرى في جبينه.
أي أنّه شاهد قاتليه وهم يطلقون النار عليه، دون أن يتمكن من الدفاع عن نفسه، لأنه قتل وهو مغلول اليدين: ربطت يده اليمنى بحزام بنطلونه، واليد الثانية بسلك حديديّ، متصل بالحزام أيضًا. ووجد منكبًا على وجهه على حافة الطريق.
ربّما يكون قد استعاد لحظتها، تلك الكلمات الأخيرة التي لفظها شي غيفارا وهو يرى جلاّده قد صوّب رصاصه نحوه، غير مصدّق أن يكون ذلك الرمز قد أصبح في متناول مسدسه، وهو ما جعل "غيفارا" يصيح به "أطلق النار أيها الجبان.. إنك تقتل إنسانًا!".
وهي المقولة التي وضعها عبد الحقّ منذ شهرين عنوانًا لزاويته اليوميّة، عند رثائه لصديقه الصحافيّ "سعيد مقبل" الذي لم يتردد قاتله في إطلاق ا لنار عليه وجهًا لوجه وهو يتناول غداءه..
في النهاية، قضى عبد الحقّ الأشهر الأخيرة، في ابتكار ستّ وثلاثين طريقة، لرثاء نفسه. وهي عدد أصدقائه ورفاقه في مهنة المتاعب المصائب.. والموت، الذين سبقوه إلى تلك النهاية. ولذا لم يعد ممكنًا للموت أن يباغته على الأقلّ في هذا المجال. فأيّةً كانت الطريقة التي سيأتيه بها، فقد استبقه ووصفها. وأيّةً كانت الجهة التي سيأتي منها القتلة فقد استبقهم.. وشتمهم.. وتحدّاهم بما يكفي ليعجّل موته، حاملاً الرقم "37" في قائمة الاغتيالات التي لا أحد يعلم أين تنتهي.
عدت إلى البيت محملة بأكثر من جريدة باللغتين.
ها هوذا عبد الحقّ إذن..! أصبح بإمكاني الآن أن أطالع الجرائد.. وأعرف من هو.
"هذا السارق الذي يتسلل في الليل بمحاذاة الجدران عائدًا إلى بيته، إنه هو.
هذا الرجل الذي أمنيته أن لا يموت مذبوحًا. إنه هو. هذه الجثة التي يخيطون عليها رأسًا مقطوعًا. إنه هو.
هذا الذي لا يعرف ما يفعل بيديه.. سوى كتاباته الصغيرة.
هو الذي يتمسك بالأمل، ضد كلّ شيء؛ ألا تنبت الورود فوق أكوام القاذورات؟
هو الذي كلّ هذا.. وليس سوى صحافيّ".
كنت أحاول أن أكتشف حياته الأخرى باندهاش متأخر، كمن أحبت رجلا بالمراسلة، فعرفت كلّ شيء عنه، ولم تمنحها الحياة فرصة التعرف إليه عن قرب. وها هي تطالع الآن الجريدة كآلاف القرّاء المجهولين الذين يكتشفون هذا الصباح موت رجل لم يلتقوا به. أمّا هو فلن يعرفها أبدًا.
تلك المرأة التي كان لها في حياته دائمًا، ذلك الحضور السريّ النكرة، كيف له أن يدري ماذا فعل بها موته؟ هي التي عاشت في بيته، ونامت في سريره مع صديقه، وتحدّثت مع رجل غيره على هاتفه، وطالعت دون علمه، كتابًا كان يحمل هواجسه، واستعملت عطرًا كان له، وتقاسمت معه في عتمة قاعة سينما، اشتعالاً مباغتًا للرغبة، ولحظة بكاء، وتبادلت معه على بعد طاولة في مقهى، ذبذبات حديث لا يقال إلا صمتًا!
كلّ هذا، دون أن يتوقع وجودها في عالمه الحميميّ، على الطرف الآخر من حياته.
أنحتاج إلى موتنا كي نحبّ.. ونعرف أنّ ثمة من أحبونا؟!
في ذلك المساء، حاولت أن لا أطيل النظر إلى صورته. كي لا أكتشف على شفتيه، آثار أخر امرأة قبّلها، فأحزن لها، أو تلك التي كان يمكن أن يقبّلها لو لم يمت، فأحزن له.
تحاشيت عينيه اللّتين تنظران الآن إلى مكان واحد يراه، وشاربيه اللّذين كأحلامه، يرفضان أن يتواضعا حتّى بعد موته.
وبرغم ذلك، وجدتني، بحركة تلقائية، أقتطع تلك الصورة، وأخفيها بين أوراقي.
في البدء، كنت أردت أن أقتطع تلك القصيدة، وأحتفظ بها في الدفتر الأسود نفسه، الذي يعرف الكثير عن ذلك الرجل، عندما فاجأني إحساس قديم ومربك. فقد أعادتني تلك الحركة إلى طفولتي البعيدة، إلى ذلك اليوم الذي اقتطعت فيه صورة أبي من الجريدة، يوم تصدّرت منذ ثلاثين سنة الصفحات الأولى للجرائد، بهذا الحجم نفسه، ولكن في حرب كان الغرباء فيها هم القتلة، وكان للموت فيها تسمية أجمل من الجريمة.
أجل "كل حرب تغير لبعض الوقت تعريف الموت، وبهذا تفصل بشرخ سري بين الأجيال".
هيَذي تلك الصورة، في اصفرارها، معلقة أمامي مذ عثرت عليها، منذ بضعة أشهر، كما توقّفت عندها نظرة أبي إلى الأبد، يفصلني عنها.. زجاج الوقت.
ويفصلها عن الوقت، تسمية جديدة للموت.
وجوارها صورة عبد الناصر ذاتها، تلك التي رافقت وجودها في بيتنا دائمًا، صورة أبي، ولكن بحجم أكبر دائمًا. وكأنها تلخص في انكسار عنفوانها موتًا أكبر من كلّ الميتات.. الموت قهرًا.
لقد كانتا حتى الآن، تختصران في حضورهما الصامت، صور كلّ الشهداء، وكلّ القضايا، التي آمنت بها منذ طفولتي الأولى، دون أن أسأل نفسي لماذا.
تمامًا، كتلك المعتقدات التي نتربّى عليها، ولا نجرؤ على التشكيك فيها.
ولا يعنيني أن لم تعد الناصرية إلا في خانة المشاعر، أو في أسماء جيل حمل، لمصادفةٍ تاريخيةٍ، اسم آخر محارب عربي.. بروح شاعر.
هل أجمل من أن يكون أبي قد أعطى لابنه الوحيد اسم "ناصر"، قبل أن يستشهد، وأن يكون اسم الابن البكر لمحمد بوضياف، أيضًا "ناصر".. وأن يكون في مكتبة هذا الرجل كتب عن عبد الناصر، وأن يترك لنا كلّ الذين يرحلون في فجيعة وطنيّة.. شيئًا من وهم القوميّة؟
كانت تراودني كلّ هذه الأفكار، بينما كانت يدي تفكّ إطار صورة. وتضع خلفها بطريقة مستترة، صورة أخرى، بعد أن وجدت أنّه الطريقة الفضلى للاحتفاظ بها حاضرة وغائبة في الوقت نفسه، كما كان صاحبها، وتفاديًا أيضًا لما قد يثيره وجودها في مكتبي من أسئلة.
كنت أستعين بأبي، لأخفي خلفه رجلاً أحببته. فقد كنت أدري أنه وحده هو سيتفهم هذا. فطالما جاءني الرّجال متنكرين فيه.
كنت أخبئ موتًا.. بآخر. وأغطي وطنًا بآخر. وأخفي تهمة حبّ خلف حبّ آخر.
وبإمكاني الآن أن أقول، وأنا أرى صورة أبي على مقربة مني، إنّ رجلا قد يخفي رجلاً ثانيًا.. وربما أيضًا رجلاً ثالثًا.. وإني وحدي أعرف ذلك!
|