أمام المواقف غير المتوقعة التي تضعنا فيها الحياة، أحبّ أن يتّبع المرء مزاجه السريّ، ويستسلم لأول فكرة تخطر بذهنه، دون مفاضلتها أو مقارنتها بأخرى. فالفكرة الأولى دائمًا على حقّ، مهما كانت شاذة وغريبة، لأنها وحدها تشبهنا.
وكانت تلك الفكرة، تشبه كاتبةً عرفتها.
تشبهها إلى درجة جعلتني أعتقد أنني أثأر لها من زمن بعيد، كانت تتسلى فيه بخلق أبطال من ورق، وقتلهم في كتب، مطابقة لمنطق الحياة في الحبّ والقتل دون سبب.
حتّى راحت الحياة بدورها، تلعب معها، لعبة تحويل كلّ ما تكتبه إلى حقيقة.
أكانت تتحرش بالحياة؟ وإذ بالحياة تعيد إصدار كتابها، في طبعة واقعية، وإذ بها القارئة الوحيدة لنسخة مزورة، تكفل القدر بنقلها طبق الأصل عن روايتها، بعد أن أدخل عليها بعض التغييرات الطفيفة في الأسماء، أو في تسلسل الأحداث، كما في كلّ السرقات الأدبية!
أغرب ما يمكن أن يحدث لكاتب، أن يكتشف أنه مع كلّ صفحة يكتبها، يكتب عمره الآتي. وأنه برغم ذلك لا يستطيع رفع دعوى على الحياة لأنها طابقت خياله، وقلّدت قصته تقليدًا فاضحًا.. فعادة يحدث العكس!
ذات يوم، كتبت تلك الكاتبة رواية، بنية استباق الألم، فقتلت أحبّ الناس إليها.
طبعًا، لم تكن تتوقع أنها تكتب قدرها. ومثل بطلها ستعود إلى الجزائر على عجل، على متن طائرة للحزن، بتوقيت حظر التجول، محملة بمخطوط تلك الرواية نفسها. وأمام ذلك الجمركي العصبي نفسه، الذي سينبش في حقيبتها بالإصرار نفسه، لن تجد شيئًا تصرّح به سوى مخطوطتها، وتلك الذاكرة التي جاءت لتدفنها.. وهي تدفن أباها.
أمام قبره لم تبكِ.
كانت مشغولة بالتساؤل: لماذا مات الآن؟ لماذا مات اليوم؟ لماذا بعد بوضياف بثلاثة أشهر؟
لماذا قبل صدور الكتاب بأسبوعين.. وقد انتظره عدة سنوات، كلّ تلك السنوات التي كان يزودها فيها بالمعلومات عن مدينة لم تزرها، اسمها قسنطينة، وبذاكرة أتعبه حملها بمفرده؟
أرحل كي يترك مكانا أكبر لذلك الكتاب، وكأن الحياة لا يمكن أن تسعهما معا؟
أو كأنه وهو الشاعر، رحل كي يصبح ذلك النصّ بموته أجمل؟
أم فقط، لأنهم في زمن الميتات الملفقة، والسيارات المفخخة، فخخوا أحلامه، وأطلقوا الرصاص على ذاكرته أمامه، فدخل عمر الذهول، لا عن شيخوخة، ولكن لأن الوطن كان يدخل سنّ اليأس، وهو لم يكن له من عمر يومًا، سوى عمر الوطن.
حتمًا.. كان عليه وهو رجل التاريخ أن لا يخطئ في اختيار تاريخ موته.
وهي تذكر صباح أوّل نوفمبر..
وذلك النشيد الوطني الذي كان يدوي في كلّ المستشفى العسكري، وهم يخرجون جثمانه. حتى بدا لها وكأنهم يعزفونه من أجله.. أو كأنه يستوقف حامليه ليسمعه للمرة الأخيرة:
قسمًا بالنازلات الماحقات والدماء الزاكيات الطاهرات
والبنود اللامعات الخافقات في الجبال الشامخات الشاهقات
نحن ثرنا فحياة أو ممات وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر
فاشهدوا.. فاشهدوا.. فاشهدوا
كانت سيارات الإسعاف العسكريّة تغطّي لحظتها على النشيد الوطني، وتشق الطريق بصفاراتها، لتلقي على الأسرة المتحركة جنودًا جزائريين سقطوا بسلاح جزائري. بعضهم جرحى، وبعضهم جاؤوا مشوهي الجثث لينتظروا أهلهم في براد.
ولذا نسيت يومها أن تبكي أباها، وراحت تبكي النظرات الفارغة لجنود لن يدركوا يومًا لماذا ماتوا.
عندما زارت قبره في اليوم التالي، حاولت أن تكون جميلة. تزينت كعادتها كي تتميز بمظهرها عن جميع النساء من حوله، وكي تمنحه –كعادته- زهو المفاخرة بها في مجلسه الأخير.
كانت ترفض وهي أحب مخلوق إليه، أن تتساوى بمن جئن ليبكينه يومًا.. ويذهبن.
ثمة حزن يصبح معه البكاء مبتذلاً، حتّى لكأنه إهانة لمن نبكيه.
فلم البكاء، مادام الذين يذهبون يأخذون دائمًا مساحة منا، دون أن يدركوا، هناك حيث هم، أننا، موتًا بعد آخر، نصبح أولى منهم بالرثاء، وأن رحيلهم كسر ساعتنا الجدارية، وأعاد عقارب ساعة الوطن.. عصورًا إلى الوراء؟
الأغرب يومها، أنها تركت الجميع متحلقين حول قبره، وذهبت امام دهشتهم، تبحث عن قبر آخر.
في تلك الباحة الشرفية للموت. حيث ينام كبار شهداء الجزائر.
تحت باقات الورود الرسمية، التي وضعت توًا على قبورهم بمناسبة اول نوفمبر، توقف أمام قبر بوضياف.
غير أن قبرًا صغيرًا، أثار فضولها بتواضعه، ووجوده على يمينه، ببساطةِ من يعتذر عن المساحة التي يشغلها هناك.
هوذا إذن.. سليمان عميرات، الرجل الذي لم تسمع باسمه قبل ذلك اليوم، الذي أفردت له الجرائد صفحاتها، لتنعاه في موته الغريب، الموجع.
لم تتوقع أن يكونوا أهدوا إليه قبرًا صغيرًا جوار بوضياف، وأنه منذ ذلك اليوم الذي سقط فيه ميتًا بسكتة قلبية، عند أقدام جثمانه، لم يفترقا.
انتهى به المشوار هنا.
من عامه السابع عشر إلى عامه السبعين، وهو متورط مع الوطن، منخرط في حبّ الجزائر، حتى الموت. عرفته سجون فرنسا، وسجون الجزائر الثورية. حيث بقي عدة سنوات متهما بجرم المطالبة بالديموقراطية..
أما في آخر مقابلة تلفزيونية له، وكان قد أدرك خطر وقوع سلاح الديموقراطية في يد من لا يؤمنون بها إلا مطية، فقد صرح: "لو خيرت بين الجزائر والديموقراطية.. لاخترت الجزائر".
وها هوذا اختار.. الموت قهرًا عند أقدام الوطن.
الوطن؟ كيف أسميناه وطنًا.. هذا الذي في كلّ قبر له جريمة.. وفي كلّ خبر لنا فيه فجيعة؟
وطن؟ أي وطن هذا الذي كنا نحلم ان نموت من اجله.. وإذ بنا نموت على يده.
أوطن هو.. هذا الذي كلما انحنينا لنبوس ترابه، باغتنا بسكين، وذبحنا كالنعاج بين أقدامه؟! وها نحن جثة بعد أخرى نفرش أرضه بسجاد من رجال، كانت لهم قامة أحلامنا.. وعنفوان غرورنا!
بين قبرين، لا تميز أحدهما عن الآخر سوى بعذ الوجاهة الرخامية، رأيت تلك المرأة تجهش بالبكاء، فتتغير هيأتها وتصبح امرأة ككل النساء الناحبات هنا.
لم أستطع أن أفعل شيئًا من اجلها. فقد أصبحت في لحظة امرأة لا أعرفها، حولتها الفجيعة إلى امرأة أمية، بطقوس حزن بدائية، وبنحيب مفاجئ مزق الصمت حولها. وكأنها كانت تريد أن تقلد ذلك الرجل في موته. وتختبر حالة يمكن فيها، من البكاء، الموت قهرًا أمام قبر.
أهكذا ماتت الخنساء وهي تبكي أخاها؟ ولم هي تبكي هكذا على كل قبر تصادفه خطاها، أفي كلّ قبر لها صخر؟
لم يكن بإمكاني أن أسألها لماذا الآن؟ لماذا هنا؟ لماذا هما؟
هذه المرأة الغريبة الأطوار، لا تملك أجوبة عن أسئلة بديهية، وإلا لما تركت الناس يبكون اباها.. وراحت لتبكي غيره.
شيء فيها، أصبح فجأة يخيفني، ويصيبني بالذعر. فتركتها يومها عند قبر بوضياف تنتحب، وغادرت المكان على عجل.
هذه الذكريات التي فاجأتني. فقط لأنني وضعت ذلك الدفتر على قبر ومضيت، لم تغير مزاجي، أو على الأقل، لم تغيره حدّ استدراجي إلى البكاء.
في الواقع، لم أكن أشعر بشيء. لا شيء على الإطلاق.
فجأةً، كما في انقطاع كهربائي، إثر ضغط عال، توقفت داخلي الأحاسيس، وأصبحت الأشياء حولي تحدث لامرأة أخرى غيري.
أما أنا فكنت أشعر بخفة، وشيء شبيه بالسعادة، التي لم أجد لها من تفسير، إلا عندما تذكرت أن سببها ذلك الدفتر الذي تركته خلفي، غير معنية بمصيره.. ولا بتلك المكاسب الأدبية التي كان يمكن أن أجنيها من وراء نشره.. بعد أن قضيت عاما كاملا في كتابته.
الحقيقة، هي كوني خفت إن أنا احتفظت به، أن يحلّ بي ما حلّ بتلك الكاتبة، التي لم تغفر لنفسها أبدًا ترددها في وضع مخطوط روايتها على قبر أبيها.. والعودة إلى منفاها.
هي التي حملته إليه يوم موته، لتقول له كمن يعتذر عن غياب: أنها خلال السنوات الطويلة التي لم تحضر لزيارته، ولم تره فيها، كانت مشغولة عنه بالكتابة إليه.. ومن أجله.
طبعًا.. كانت تكذب. هي كانت تكتب من اجلها. وإلا لكانت يومها، تركت ذلك المخطوط على قبره.. ومضت.
ولأنها لم تجرؤ على ذلك، لم تستطع بعدها أن تكتب شيئًا.
أعوام من الصمت لتعاقب نفسها على جريمة تفضيلها الآف القراء، على قارئ واحد، لن يقرأها ووحده يعنيها.
ربما بسبب جبنها في ذلك اليوم، تغيّرت نظرتي إلى الكتابة، وإلى وجاهتها، وإلى زهو شهرة تنزل عليك مصادفة بسبب كتاب، والتي ليست إلا تذكيرًا بخيانة لقارئ واحد. نسرق منه بذريعة أو بأخرى مخطوطًا كتب له. كي نصنع منه الآف النسخ المزورة لقراء لا يعنيهم أمرنا.
قطعًا.. في كلّ نجاح لكتابٍ خيانةٌ لشخص.
* * *
|