[
ﺣُﺰﻧِﻲ ﻧﺤَّﺎﺕٌ ﻣَﻮﻫﻮُﺏ ﻻ ﺃﺑﺼِﺮُﻩ ﻳﺄﺗﻴﻨﻲ ﻛﻞَّ ﻣﺴﺎﺀْ ﻳَﺴﺘﺨﺪِﻡُ ﺇﺯﻣِﻴﻼً ﺩُﻭﻥ ﻣَﻼﻣﺢْ ﻟﻴﺰﻳﺪَ ﺧﻄﻮُﻁَ ﺟﺒﻴﻨﻲ ﻋُﻤﻘﺎً ﻳﺮﺳﻢُ ﺑﻌﺾَ ﺧﻄﻮﻁٍ ﺃﺧﺮَﻯ ﺃﻫﺮَﻡَ ﺗﺪﺭﻳﺠﻴﺎً ﻛﻲ ﺗﻜﺘﻤﻞَ ﺑﺒُﻂﺀٍ ﺗُﺤﻔﺘﻪُ ﺍﻟﻔﻨﻴَّﺔ
وقف "اللورد أوتويا" أمام شرفة منزله الضخم، شاردًا في سكون الليل.. نهاره اليوم قد مضى في شؤون أرضه، وأمور شعبه الذي يرى فيه كل يوم عبئًا متجددًا ود لو يفرغ منه، لولا منفعته الوحيدة المتمثلة بخدمته. بدا جسد اللورد جزءًا من الظلام الذي يلفه، وبثيابه السوداء كان لا يختلف كثيرا عن ظله الطويل الممتد على الحائط خلفه، يتمايل مع كل حركة يبديها ويعكسها على نحو مبالغ فيه. وجهه فقط كان واضحًا إلى حد كاف لتبين ملامحه، انحناءت وجهه المتناسقة وأنفه المستقيم، وحاجبيه الداكنين المتعانقين على الدوام كفل له سمعته كرجل قُدَّ من جُلمود بارد! كان اللورد أوتويا كعادته حين يأوي إلى بيته مساءً، يرتدي الكومونو.. زيٌ لم يعد أحد عدا قلة قليلة من الناس يعرفه في هذا العصر. يداه كانتا مشبوكتين أسفل كمي الرداء الأسود المزخرف والعباءة الحريرية التي تسربل بها.. وتحت ضوء القمر الشاحب، بدت وقفته منضبطة.. تنم عن صلابة أظهرته شبيها بمحارب ساموراي من الزمان الغابر! كان منزل اللورد هو الوحيد الذي بقي على حاله في منطقة (نوفا 3) رغم مرور عدة قرون على بنائه، بإصرار متحدي لما يجاوره من عمران، ظل البيت الشبيه بالقصر محتفظًا بهيئته العتيقة اليابانية الطراز. جدرانه وحدها كانت تحكي قصص ساكنيه من الزمان القديم، فاللورد سليل أسرة عريقة التاريخ، ذائعة الصيت... والحفاظ على ذلك التاريخ حيًا كان نذرًا غير منطوق في عائلته، يتوارث من جيل إلى جيل، و اللورد أوتويا كان رجلًا محافظًا... لم يكن ليغير شيئًا في عادات استمرت قرون في نسله... حتى وإن كان العالم قد تمدن من حوله على نحو جنوني. حتى وإن بدأت الحياة الآلية تطغى على الطبيعة والبشرية هذه الأيام! لم يكن اللورد أوتويا ضد العلم.. بل إن التطور الذي تنبض به جدران قصره الصغير يشهد له بخلاف ذلك... فلم يكن أحد ليخمن أن أسفل أحجار هذه الجدران المسنة، علم يفوق ما توصل إليه بقية العالم.... كان ثمة سخرية جوفاء في هذا... في الحداثة التي تختبئ بين ثنايا عتاقة الماضي في أفياء هذا المنزل. ومع ذلك... خيل إلى اللورد أوتويا أن ما يراه من معالم هذه الليلة كئيب على نحو ما.. كنذير مشؤوم من أسلافه، أو ربما إشارة من لعنتهم التي يتهامس بها شعبه بعيدًا عن أنظاره... خائفين من أن يطالهم غضب سيدهم. المنظر الذي تكشف أمام ناظريه في تلك اللحظة، كان بروز القمر بين السحب، ليلقى الضوء علي حدبات الغابة النائمة المحيطة بقصره، والسكينة البالغة التي كانت تكسو جنباتها. كان ذلك السكون دليلًا على عدم وجود أي مخلوق دخيل في أرضه، و إن يكن ثعلبًا صغيرًا. وضع اللورد كفه على السطح الرخامي البارد لسور الشرفة، ثم مال برأسه إلى الخلف يستنشق هواء الليل المفعم بشذا أزهار العسل الجبلية، ممتزجًا بعبير أشجار السرو والصنوبر. أخذ يختزن هذه الروائح التي كانت تمثل له وطنه، ومن بعيد لمع البرق، عاكسًا ظلالًا مهيبة على وجهه،وتبعه هزيم الرعد المنخفض. "لـ.. لورد أوتويا..." نطق الخادم المرعوب الإسم مصحوبًا بشهقة خافتة، وحاول ما بوسعه المحافظة على رباطة جأشه أمام سيده، بينما يتابع: "ابنك سيدي... الأمير إبيسو... لـ..لقد قضى نحبه منذ قليل.." تلعثم الخادم، وتصبب عرقًا، وحده رجل غبي كان ليقاطع خلوة اللورد على ذلك النحو، بل وحده الغبي من قد يجيء إليه محملًا بنبأ كهذا من الأساس! تذكر المستخدم الشاب وجه والدته العجوز، وتساءل إذا كان سيعود إليها الليلة سالمًا، أم جثة هامدة! فكر في إضافة إعتذار لرسالته القصيرة، لكنه سرعان ما عدل عن ذلك، فمن يكون هو ليقدم تعازيه للملك! بصر اللورد أوتويا بقي معلقَا بالقمر الضخم الرازئ في كبد السماء... كانت ليلة خانقة... داكنة للغاية.. حتى قمرها الضخم بدا شحيح الإنارة.. ضعيفًا وهرمًا. لم يبد أي حزن أو تأثر في صوت اللورد الخشن والخافت وهو يسأله: "ماذا بشأن المعالج؟" ورغم معرفة الخادم بسمعة سيده القاسي إلا أنه وجد نفسه مشدوهًا.. لم تتغير خلجة واحدة في وجه اللورد الحاد الملامح، نبرة صوته الجافة بدت رتيبة وخاوية... لكنه لم يدرك أن ردة فعله اللامكترثة إزاء وفاة ابنه ما كانت لتفاجئ أحدًا عدا مستخدمًا حديث العهد مثله. "المعالج في جناح الأمير سيدي..." "أرسل أمرًا لإعدامه صباح الغد." والتف اللورد أوتويا يخطو في الرواق الفاره.. تاركًا الشرفة التي يقف عندها... التفافته الإنسيابية لم تمتلك العنفوان الذي كانت عليه في وقت مضى.. بدت خطواته وإن احتفظت بشيء من أناقة النبالة، ثقيلة.. يرى الناظر بوضوح أنه يتجنب الإثقال على جانبه الأيسر خلالها، سنوات من الحرب والمرض تركت أثرها عليه. سأل اللورد مستخدمه الذي تبعه بولاء: "وسايبا؟" "الأمير الصغير محجوز في غرفته منذ خر شقيقه مريضًا سيدي." "أرسلوا إليه خبرًا بوفاة أخيه، ثم اأتني برئيس المعالجين في الحال." "بأمرك سيدي." ودون لحظة تردد انطلق الخادم مبتعدًا في الردهة الطويلة، وما إن غاب عن ناظري مرؤوسه حتى ركض كالمسعور، ولم يتوقف إلى أن بلغ جناح المطبخ بسلام.
|
[/align