عرض مشاركة واحدة
  #9  
قديم 07-18-2016, 06:54 PM
 
[
.


















.



















ﺣُﺰﻧِﻲ ﻧﺤَّﺎﺕٌ ﻣَﻮﻫﻮُﺏ

ﻻ ﺃﺑﺼِﺮُﻩ

ﻳﺄﺗﻴﻨﻲ ﻛﻞَّ ﻣﺴﺎﺀْ

ﻳَﺴﺘﺨﺪِﻡُ ﺇﺯﻣِﻴﻼً ﺩُﻭﻥ ﻣَﻼﻣﺢْ

ﻟﻴﺰﻳﺪَ ﺧﻄﻮُﻁَ ﺟﺒﻴﻨﻲ ﻋُﻤﻘﺎً

ﻳﺮﺳﻢُ ﺑﻌﺾَ ﺧﻄﻮﻁٍ ﺃﺧﺮَﻯ

ﺃﻫﺮَﻡَ ﺗﺪﺭﻳﺠﻴﺎً

ﻛﻲ ﺗﻜﺘﻤﻞَ ﺑﺒُﻂﺀٍ

ﺗُﺤﻔﺘﻪُ ﺍﻟﻔﻨﻴَّﺔ






وقف "اللورد أوتويا" أمام شرفة منزله الضخم، شاردًا في سكون الليل
..

نهاره اليوم قد مضى في شؤون أرضه، وأمور شعبه الذي يرى فيه كل يوم عبئًا متجددًا ود لو يفرغ منه، لولا منفعته الوحيدة المتمثلة بخدمته.



بدا جسد اللورد جزءًا من الظلام الذي يلفه، وبثيابه السوداء كان لا يختلف كثيرا عن ظله الطويل الممتد على الحائط خلفه، يتمايل مع كل حركة يبديها ويعكسها على نحو مبالغ فيه.



وجهه فقط كان واضحًا إلى حد كاف لتبين ملامحه، انحناءت وجهه المتناسقة وأنفه المستقيم، وحاجبيه الداكنين المتعانقين على الدوام كفل له سمعته كرجل قُدَّ من جُلمود بارد!




كان اللورد أوتويا كعادته حين يأوي إلى بيته مساءً، يرتدي الكومونو..

زيٌ لم يعد أحد عدا قلة قليلة من الناس يعرفه في هذا العصر.

يداه كانتا مشبوكتين أسفل كمي الرداء الأسود المزخرف والعباءة الحريرية التي تسربل بها..

وتحت ضوء القمر الشاحب، بدت وقفته منضبطة.. تنم عن صلابة أظهرته شبيها بمحارب ساموراي من الزمان الغابر!




كان منزل اللورد هو الوحيد الذي بقي على حاله في منطقة (نوفا 3) رغم مرور عدة قرون على بنائه، بإصرار متحدي لما يجاوره من عمران، ظل البيت الشبيه بالقصر محتفظًا بهيئته العتيقة اليابانية الطراز.

جدرانه وحدها كانت تحكي قصص ساكنيه من الزمان القديم،

فاللورد سليل أسرة عريقة التاريخ، ذائعة الصيت...

والحفاظ على ذلك التاريخ حيًا كان نذرًا غير منطوق في عائلته، يتوارث من جيل إلى جيل،



و اللورد أوتويا كان رجلًا محافظًا... لم يكن ليغير شيئًا في عادات استمرت قرون في نسله... حتى وإن كان العالم قد تمدن من حوله على نحو جنوني.

حتى وإن بدأت الحياة الآلية تطغى على الطبيعة والبشرية هذه الأيام!




لم يكن اللورد أوتويا ضد العلم.. بل إن التطور الذي تنبض به جدران قصره الصغير يشهد له بخلاف ذلك...

فلم يكن أحد ليخمن أن أسفل أحجار هذه الجدران المسنة، علم يفوق ما توصل إليه بقية العالم....

كان ثمة سخرية جوفاء في هذا... في الحداثة التي تختبئ بين ثنايا عتاقة الماضي في أفياء هذا المنزل.




ومع ذلك...

خيل إلى اللورد أوتويا أن ما يراه من معالم هذه الليلة كئيب على نحو ما.. كنذير مشؤوم من أسلافه، أو ربما إشارة من لعنتهم التي يتهامس بها شعبه بعيدًا عن أنظاره... خائفين من أن يطالهم غضب سيدهم.




المنظر الذي تكشف أمام ناظريه في تلك اللحظة، كان بروز القمر بين السحب، ليلقى الضوء علي حدبات الغابة النائمة المحيطة بقصره، والسكينة البالغة التي كانت تكسو جنباتها.

كان ذلك السكون دليلًا على عدم وجود أي مخلوق دخيل في أرضه، و إن يكن ثعلبًا صغيرًا.



وضع اللورد كفه على السطح الرخامي البارد لسور الشرفة،

ثم مال برأسه إلى الخلف يستنشق هواء الليل المفعم بشذا أزهار العسل الجبلية، ممتزجًا بعبير أشجار السرو والصنوبر.

أخذ يختزن هذه الروائح التي كانت تمثل له وطنه،

ومن بعيد لمع البرق، عاكسًا ظلالًا مهيبة على وجهه،وتبعه هزيم الرعد المنخفض.



"لـ.. لورد أوتويا..."



نطق الخادم المرعوب الإسم مصحوبًا بشهقة خافتة،

وحاول ما بوسعه المحافظة على رباطة جأشه أمام سيده، بينما يتابع:

"ابنك سيدي... الأمير إبيسو... لـ..لقد قضى نحبه منذ قليل.."



تلعثم الخادم، وتصبب عرقًا، وحده رجل غبي كان ليقاطع خلوة اللورد على ذلك النحو، بل وحده الغبي من قد يجيء إليه محملًا بنبأ كهذا من الأساس!

تذكر المستخدم الشاب وجه والدته العجوز، وتساءل إذا كان سيعود إليها الليلة سالمًا، أم جثة هامدة!



فكر في إضافة إعتذار لرسالته القصيرة، لكنه سرعان ما عدل عن ذلك، فمن يكون هو ليقدم تعازيه للملك!

بصر اللورد أوتويا بقي معلقَا بالقمر الضخم الرازئ في كبد السماء... كانت ليلة خانقة... داكنة للغاية.. حتى قمرها الضخم بدا شحيح الإنارة.. ضعيفًا وهرمًا.



لم يبد أي حزن أو تأثر في صوت اللورد الخشن والخافت وهو يسأله:

"ماذا بشأن المعالج؟"



ورغم معرفة الخادم بسمعة سيده القاسي إلا أنه وجد نفسه مشدوهًا..

لم تتغير خلجة واحدة في وجه اللورد الحاد الملامح، نبرة صوته الجافة بدت رتيبة وخاوية...

لكنه لم يدرك أن ردة فعله اللامكترثة إزاء وفاة ابنه ما كانت لتفاجئ أحدًا عدا مستخدمًا حديث العهد مثله.



"المعالج في جناح الأمير سيدي..."



"أرسل أمرًا لإعدامه صباح الغد."



والتف اللورد أوتويا يخطو في الرواق الفاره.. تاركًا الشرفة التي يقف عندها...

التفافته الإنسيابية لم تمتلك العنفوان الذي كانت عليه في وقت مضى..

بدت خطواته وإن احتفظت بشيء من أناقة النبالة، ثقيلة.. يرى الناظر بوضوح أنه يتجنب الإثقال على جانبه الأيسر خلالها،

سنوات من الحرب والمرض تركت أثرها عليه.



سأل اللورد مستخدمه الذي تبعه بولاء:

"وسايبا؟"



"الأمير الصغير محجوز في غرفته منذ خر شقيقه مريضًا سيدي."



"أرسلوا إليه خبرًا بوفاة أخيه، ثم اأتني برئيس المعالجين في الحال."



"بأمرك سيدي."



ودون لحظة تردد انطلق الخادم مبتعدًا في الردهة الطويلة، وما إن غاب عن ناظري مرؤوسه حتى ركض كالمسعور، ولم يتوقف إلى أن بلغ جناح المطبخ بسلام.
"لقد توفي شقيقك!"



ممرضة سايبا الخاصة زفت النبأ إليه بتشدق،

كانت إمرأة ضخمة حجبت بحجمها العريض والطويل مدخل حجرته..



"هل.. تفهم.. ما.. أقول؟"



تكلمت ببطئ متعمد، وابتسامة عريضة تمتد على وجهها المكتزن.



"أخوك الأمير، وريث العرش... لقد مات، دم أسرتك الموبوء قتله!"



فهم سايبا معنى كلامها المستفز جيدًا رغم عدم قدرته على النطق،

وشعر بنار تتأجج في صدره الصغير.. ليس حزنًا، إنما ضيقًا وانزعاجًا،

فقد كان يبغض تلك المرأة!

قبض سايبا الكتاب الضخم بين يديه بقوة، وحتى في ظلام حجرته بدا الجذل المتراقص على وجهها واضحًا له.



راحت تقول:

"الأمير إبيسو كان الابن المثالي، الولد المفضل لدى أبيك، والمحبوب لدى والدتك، لكن ذلك ليس مفاجئًا البتة، أليس كذلك؟ فما من أحد لن يختار ولدًا حيويًا معافى على طفل مريض أبكم مثلك؟!"



تقدمت أكثر داخل الحجرة، فنصب سايبا ظهره، واعتدل في جلسته فوق سريره... كان معتادًا على حقدها، كلماتها القاسية لم تعد تؤذيه.

لقد أقنع نفسه قبل زمن بأنها أشد منه إثارة للشفقة، إذ أي نوع من الناس يهاجم طفلًا عليلًا كما تفعل؟!



"أليس لديك ما تقوله؟"



بلى.. أجاب سايبا في ذهنه.. اذهبي إلى الجحيم واحترقي فيه!



واصلت المرأة حديثها الساخر:

"الآن وقد مات شقيقك، بت الوريث الوحيد لأبيك، ولن يسمح لك بقضاء وقتك مدفونًا بين أكوام الكتب بعد الآن... ذلك طبعًا إن لم تنجب أمك ولدًا آخر.. بل إني أجزم أن فتاة ستظل خيارًا أفضل منك حتى!"



أطلقت ضحكة بشعة انتهت بشخرة قبل أن تواصل:

"لقد راقبتك طيلة سنوات عمرك السبع تصبح أضعف فأضعف... راقبتك تغدو مثيرًا للإشمئزاز شيئًا فشيئًا... لذا أنا واثقة بأنك لن تحيى حتى تصل سن الرشد... ليس إن لم يستطع شقيقك....."



شعر بيديه تتحركان قبل أن يدرك ما يفعل حتى، ثم رآها تخر على الأرض ويدها تغطي أنفها النازف،

رأى كتابه الذي رطمه بوجهها يسقط إلى جوارها بصوت مكتوم،

وبضع من صفحاته تتناثر على الأرضية..

نظرت إليه بتعيير مصدوم وعيون متسعة، قبل أن تنهض على قدميها، وتهتف:

"حقير بائس!"



وتندفع منصرفة..



مضت ثلاث دورات كاملة للقمر على وفاة إبيسو،

اتضح خلالها لسايبا كم كانت ممرضته محقة.

والده اعتاد سابقًا أن يتجاهله..

كان يفضل رفقة ابنه الآخر، وفي كثير من الأحيان...

كان سايبا يراقبهما خلسة...

في طلعاتِهما.. وجلساتِهما.. يراقب الإهتمام الذي يغدقه والده بأخيه..

وفي أحيان أخرى كان يصغي بحنق مكتومٍ، لبعض الخدم الذين يتجولون في جناحه وهم يتبادلون قصصًا ممتعة عن مغامرات أخيه الحبيب.



نشأ سايبا على حياة لم يعرف فيها عدا النبذ..

لذا لم يكن مفاجئًا أن كره أخاه قبل أن يبلغ عامه السادس حتى..

لكن الأحوال تبدلت الآن بوفاة أخيه.. حدثت تغييرات في حياة الأمير الصغير،

فوالده الآن يزوره مرة كل أسبوع، جالبًا معه الهدايا والنقود..

والخدم الذين تجاهلوه معظم حياته راحوا ينظرون إليه بإهتمام...

يتساءلون..

هل يعقل أن يكون هذا الأبكم الضئيل مليكهم القادم؟!



ملكة القطاع (نوفا 3)، زوجة اللورد أوتويا كانت إمرأة ذات جمال أسطوري..

اسمها كان "نارسينو".. وقيل أنها امتلكت بشرة بيضاء كالبروسيلين، وشعر بحمرة الدماء..

تناقلت الألسن أحاديث عديدة عن جمالها الإستثنائي، وعن قصص الرجال الذين تنافسوا ليحظوا بشرف زواجها في الماضي..

كان والدها رجلًا عظيمًا، وكان يعد ابنته الوحيدة مصدر فخره الأكبر..

لذا كانت صدمته عميقة حين فرّت إلى أرض (نوفا 3)!



لم يستطع والدها التسامح مع فعلتها التي ألحقت به العار..

فأعلن والدها الحرب على زوج ابنته.. حرب خسرها من فوره.. ولايزال قطاعه يعاني آثارها حتى اللحظة!



هدأت أوضاع البلاد بعد حين، وخمدت الأحاديث الثائرة حول زوجة اللورد الجديدة..

أنجبت نارسينو صبيين لللورد.. الأكبر توفي قبل سن 12، والأصغر كان طفلًا أبكم...

وذات جمال أسطوري أم لا، وجد اللورد أوتويا زوجته غير قادرة على منحه الوريث الذي يرغب به.



"هل سبق وسمعت عن حكاية الساموراي الأبيض؟"



بطن نارسينو المنتفخة كانت ظاهرة بوضوح أسفل أغطية سريرها الثخينة..

بدت مبتهجة، جسدها كله يتوهج حبورًا وحماسًا لمولودها القادم.



سايبا كان جالسًا إلى جوارها في السرير الكانابوني الشديد الضخامة..

يحظى بلحظات إهتمام نادرة من والدته.

أحاطت أمه بطنها بيد حريصة.. وابتسمت بِحُنُو كما لو كانت تتواصل مع جنينها،

فحاول سايبا كبت وخزة غيرة من الطفل الذي لم يولد بعد!



قالت أمه ملتفتة إليه:

"لدي إحساس بأنك لابد وقد سمعت به، خاصة مع كم الكتب التي تقرأها باستمرار."



كان سايبا قد قرأ الحكاية فعلًا، لكنه لم يكن ليعترض على سماعها من جديد..

كان يحب الشعور بذراعها تحيط كتفيه الصغيرين كما الآن، ويستمتع بالإصغاء لصوتها العذب.

فرغت أمه من سرد القصة بعد وقت قصير... ثم صمتت للحظات طويلة، شاردة في فراغ الغرفة..

حتى تكلمت أخيرًا بنبرة قلقة متوترة، لم يسمعها منها من قبل:

"بني... استمع إلي جيدًا... أنت ستغدو الوريث الجديد الآن.."



لمست بطنها مجددًا واستطردت:

"إنها فتاة..."



حدق سايبا في بطنها متسع العينين، كما لو كان سيقدر على التمييز هو الآخر،

لكنه رفع بصره لها حين تحدتث من ثانية:

"لن أبقى طويلًا صغيري... والدك لن يكون مسرورًا حين يكتشف الأمر... سيكون غاضبًا مني للغاية.... لكن أنت.."



أحاطت وجنته بيدها برفق.. وهي تتابع:

"أنت ستصبح ملكًا صالحًا... ستكون عادلًا وقويًا.. وستعيش يا صغيري... ستعيش حتى تكبر وتهرم... وذلك هو ما أبتغيه لك.. لكن تذكر دائمًا يا سايبا بأن لك أمًا تحبك بعمق... أكثر من أي شيء في هذا العالم..."



صوت أبيه الذي لم ينتبه أي منهما لدخوله الغرفة قطع عليهما لحظتهما الحميمية.



"ملكتي... أود لو تمنحينا لحظة إنفراد."



"بالطبع أيها اللورد."



وقفت والدته خافضة بصرها، وأحنت رأسها بخفة قبل أن تنصرف عبر الباب.

وقف سايبا بدوره ينتظر أباه،

تطلب الأمر وقتًا قبل أن يتكلم اللورد، وحين نبس.. كان صوته مشدودًا:

"جلبت لك ميدالية.. إنها مهمة لدي، وأريدك أن تحافظ عليها جيدًا."



أخرج له ميدالية جميلة نجمية الشكل، منقوشة من الذهب القديم..

شعر بها سايبا ثقيلة في كفه، وبدا أنها تفوح برائحة لم يميزها.



"أهدانيها والدي حين كنت صغيرًا، وكذلك فعل والده من قبله... إنها إرث عائلي."



لم يجبه سايبا، كان يحدق في الميدالية الصغيرة في يده..

إنها له الآن.. لأن والده رآه أخيرًا مستحقًا لها..

عميقًا داخله... شعر بقلبه يشتعل بالفخر..

وتراقصت طيف ابتسامة صغيرة على شفتيه!



ظل والده يراقب تعابيره عن كثب، حتى قال أخيرًا:

"أرجو يا سايبا، أن تنظم لي الليلة على مائدة العشاء."



رفع سايبا رأسه لأبيه، وأومأ إيجابًا..

كانت تمطر تلك الليلة،

لطالما كره سايبا البرق والرعد، حين يتردد صداهما في أرجاء وممرات القصر الخالية.

تلك الليلة سمع صياحًا متألمًا..

ولم يكن الفضول ما قاده خارج فراشه، بل معرفته لهوية الصوت..

كان يعرف بأن الصياح يعود لأمه!



تذكر تحذيرها له بأنها لن تظل معه لوقت أطول..

والتقط ميداليته من أسفل وسادته وقبض عليها عند صدره بقوة،

شعر بأنها تجعله أشجع على نحو ما.. كما لو أنها تحجب عنه أصوات العاصفة في الخارج.



تتبع سايبا الأنين المعذب عبر الردهات المظلمة كم لو كان مغيبًا..

رحلته بدت له لامتناهية الطول.

كان الصياح المتألم قد توقف منذ وقت،

حين لمح هيئة ممرضته الضخمة وهي تخاطب والده بوشوشة خافتة أمام جناح والدته.. فتوارى عن ناظريهما خلف تحفة ضخمة زيَّنت أحد جانبي الرواق.



"الليدي والطفلة بخير جلالتك."



استفسر والده:

"الطفلة؟"



"فتاة يا سيدي... لم تظهر عليها علامات المرض أو النزيف كالطفلين السابقين.."



استمع سايبا إلى الشتائم التي أطلقها والده تاليًا قبل أن يصيح آمرًا بغضب عاصف:

"تخلصوا منهما.. من كليهما!"



"بأمرك سيدي."



وافترق الإثنان..

لم يكن ثمة أدنى شك في ذهن سايبا عن معنى عبارة أبيه،

لقد رأى وسمع ما يكفي في حياته القصيرة ليعرف جيدًا مقدار الوحشية التي يتمتع بها والده..

مرتجفًا.. فكر سايبا في والدته الجميلة الرقيقة..

تصور رأسها مفصولًا عن جسدها.. وبركة من الدماء تغرقها بالكامل..

عصف به الرعب.. وسيطرت فكرة واحدة على ذهنه...

عليه أن يينقذها..



في الخارج اشتدت العاصفة نحيبًا، جلدت زخات المطر الأرض بعنف، وطوحت الريح بالأشجار كما لو كانت ستقتلعها من جذورها..

كانت نارسينو تتوقع مجيء هذه اللحظة، فاستعدت لها من قبل..



"يوشيكي.."



خاطبت الممرضة الضخمة بقلق، وهي تلحف رضيعتها ببطانية إضافية:

"لا تنسي ما اتفقنا عليه.. خبئي الطفلة في..."



قاطعتها المرأة الصخمة بجلفة:

"لم أنسى الخطة، المهم ألا تنسي أنتِ أن تدفعي لي.."



راحت نارسينو تهمس مهدهدة الرضيعة الباكية للحظات، ثم قالت:

"ستحصلين عليه ما أن تكون ابنتي بأمان.."



واحتضنت طفلتها داعية ألا تكون المرة الأخيرة التي تراها فيها، ثم أضافت:

"أرجوكِ يوشيكي.. لا تنسي ما اتفقنا عليه.. واحرصي بأن يبقى سايبا..."



بترت جملتها حين وقع بصرها على الصغير الواقف عند عتبة الغرفة، وشهقت:

"بني.. ماذا تفعل خارج فراشك؟! لقد تأخر الوقت... هيا.. هيا عد إلى غرفتك."



"كلا..."



اتسعت أعين المرأتين بصدمة تامة..

وحدقتا بالصبي الذي نطق لتوه بكلمته الأولى..

تحول الذهول في تعابير أمه إلى فرحة مشوبة بالأسى، وهمست بتهدج.. دامعة العينين:

"سايبا.."



لم يبد الصغير واعيًا للمشاعر المعتملة في أعماق المرأتين، بصره تعلق بالرضيعة الباكية بين ذراعي أمه للحظات قبل أن يجري مقتربًا،

ويجثو قرب رأس السرير الضخم قائلًا:

"أستطيع أن أساعدكِ أمي... بإمكانكِ أن تهربي أيضًا.."



هزت أمه رأسها نفيًا..

"كلا.."



لكن وقبل أن تستطيع إتمام احتجاجها.. باغتتهم صيحة غضب مفاجأة دَوّت من عند الباب.

"ما الذي يجري هنا؟!"



"لورد أوتويا!"



اتسعت عينا نارسينو بشدة دون أن تنبس ببنت شفة، في حين أطلقت الممرضة صرخة، وشهق سايبا برعب..

ما حدث بعدها كان بالغ الوحشية بحيث امتنع سايبا عن استذكاره ما تبقى من حياته..

وسط الصياح.. والألم.. والدماء.. والوحشية..

الذين غمرا عالمه كله للحظات..



بدا الشعور بذراع والده التي طوقت وسطه لترفعه بسهولة وتنتزعه عن أمه.. هي الشيء الملموس الوحيد حينها..

ففي لمح البصر.. كان الحرس الذين استدعاهم والده قد أدّوا مهمتهم وألقوا بجسد والدته أرضًا مسجاة في دمائها.. وبجاورها ممرضته الخائنة!



قبض سايبا على ذراع والده التي تحتجزه متشبثًا بكل قوته،

لا ليستعين به، ولا ليمنعه وإنما ليستيقظ من كابوسه المريع..

أغلق عينيه أخيرًا...

وشعر بشيء رطب يجري على خديه..

فعلم أنها دموعه..

دموع افتقدها طويلًا..


ثمانية عشرة عامًا قد مروا..

وسط صالة هائلة المساحة، انسابت عبر نافذتها الممتدة من سقفها إلى أرضيتها الرخامية المزخرفة، أضواء شفق المغيب..

تلألأت انعكاسات تختطف الأنفاس على البيانو الكريستالي القابع في المنتصف..

و هناك كان سايبا.



جالسًا على مقعد أمام البيانو الشفاف المضيء،

منحنيًا فوق المفاتيح البيضاء والسوداء..

عيناه كانتا مغمضتين، يستشعر الذبذبات الموسيقية تمر عبر أصابعه فيما يعزف..

كان العزف بالنسبة له تحريرًا لمشاعر قد لا يظهرها أبدًا عبر أي طريقة أخرى!



فلِوَقت قصيرٍ.. كلما عزف.. كان ينسى ما حوله ويَتيه مع تلك الأنغام.. فيحل على روحه سلام نادر.



دون وعي منه، تمايل جذعه قليلًا مع الموسيقى..

ورأسه يميل إلى الوراء تارة، وينخفض تارة أخرى..

ارتحلت أصابعه الطويلة عبر لوحة المفاتيح برشاقة.

واللحن الذي بدأ هادئًا ناعمًا، أَفضى إلى آخر عنيف ذي عمق درامي!



ضرب آخر ثلاث نوتات سامحًا للنغمات بأن تعبر منه إلى البيانو ثم إلى الحجرة الخالية.. وتوقف.

التقط نفسًا عميقًا زفره ببطء..ثم فتح عينيه.



كان ثمة إرهاق روحي يتجلى في حدقتيه..

رغم إلتماعهما بسبب انحناءه فوق البيانو المضيئ أسفل شمس المغيب.

رزقتهما الغنية الداكنة بدت ضبابية الآن..

متماشية وضبضبة أفكاره في تلك اللحظة.



كان عود سايبا قد اشتد بمرور السنوات، فلم يعش ليبلغ عامه الخامس والعشرين فحسب، بل نمّى صلابة وقوة جسدية فاجأت الجميع.

كان شديد شحوب الوجه، بتناقض تام ودكنة عينيه..

ارتفع فوق حاجبيه المستقيمين شعر قرمزي الحمرة، تتلوى خصله الحريرية حول وجهه وتنسدل على كتفه مجموعة برباط مرتخي.

لا تعبير مرتسم على ذلك الوجه الوسيم ، ليس بالأمر الغريب عنه.



ضيق عينيه و هو ينظر إلى السماء تتلون بألوان الغروب.



"سيدي الأمير.."



استدار سايبا في مقعده دون أن ينهض، ليرى الحائط خلفه يفترق كاشفًا عن بابٍ عبر من خلاله رجل طويل عريض الكتفين،

في وجهه الذي لوحته الشمس وُعورَة وخشونة، اختلط الشيب بشعره ما جعله يبدو كأنه قد تجاوز الخمسين.. لكنه لازال يبدو صلبًا متزنًا.



"ما الأمر سوجيما؟"



من خلال النظرة التي علت عيني العجوز الفولاذيتين، علم سايبا بالموضوع قبل أن يباشر ساعد أبيه الأيمن ومستشاره بالإجابة حتى.



"غدًا يكون قد مرّ عام كامل على إختفاء اللورد أوتويا سيدي.. وأنت تعلم ما الذي يعنيه ذلك بحسب القوانين."



لم يجب سايبا بشيء، بل مال برأسه جانبًا بحركة غير ذات معنى..

ومن الباب المشرع خلف سوجيما، انسل حيوان سِنّوري أسود،

بدا شبيهًا بالفهد.. بحجم أكبر ضعفين أو ثلاث، وبِوَبَرٍ أشد كثافة، وعينين حمراوين تحيطهما رموش فضية.



لم يبدُ على أيّ من الرجلين ردة فعل على الفهد الذي تقدم دون صوت إلى داخل الغرفة،

وتوجه إلى سايبا ليُمَرِغ وجهه في كتفه مداعبًا إياه بأُلفة لا يشي بها مظهره الشرس..

رفع سايبا ذراعه ومرر يده على ظهر الحيوان فغاصت في وبره الكثيف..

كان الفهد الغير عادي يرتفع أطول من سايبا حين يكون جالسًا،

ومع ذلك لم تبدر أي لمحة في وجهه تَنُّم عن عدم ارتياحه لذلك.



كان الحيوان رمزًا آخر من رموز هذه الأسرة.. سلالته كلها قضت حياتها وفية وحامية لعائلة سايبا.

وكان هذا الفهد آخر هذه السلالة..

ورغم كونه قد أبى أن يَرْضَخ للورد أوتويا، إلا أنه كان متعلقًا كليًا بسايبا ومواليًا له!



"صحة اللورد أوتويا لم تكن لتسمح له بالبقاء كل هذا الوقت دون دوائه... لذا اسمح لي بالقول سيدي... بأنه من الآمن الجزم بأنه قد فارق الحياة، فلا تفسير آخر لإختفائه."



واصل سوجيما حديثه، وإن كانت الصورة أمامه قد أثارت في أعصابه توترًا!

لم تكن تلك هي المرة الأولى التي يرى فيها الفهد الضخم يخفض رأسه ليفركه في جذع سايبا كما لو كان مجرد قط أليف،

فينصاع الأخير له ويداعب رأسه.



كان ذلك المشهد مستنزِفًا للأعصاب حين كان الأمير صغيرًا،

بحيث يظن الناظر بأن أي حركة من الحيوان الضخم ستسحقه!

لم يعد ذلك غريبًا الآن..

لكنه بات محطمًا للأعصاب بطريقة مختلفة جذريًا..

جثم الفهد أرضًا أمام الأمير، فطوق الأخير ذراعيه حول رقبه،

وأسند ذقنه فوق رأس المخلوق الضخم..

وتطلب الأمر من سوجيما أعصابًا حديدية، كي لا يبدر منه أي ردة فعل إزاء زوج العيون المتباينة التي تنظر إليه!



"أتقترح تتويجًا غيابيًا يا سوجيما؟"



أومأ سوجيما برأسه إيجابًا.

"أجل سيدي."



كان ثمة إختلاف هائل بين الابن وأبيه، وإن كان المثول أمام أي منهما تجربة غير سارة بإجماع العديدين.

فكر سوجيما بأن سايبا قد لا يملك ملامح والده المنحوتة بقساوة،

وتجهمه الدائم الذي يبعث في الروح رهبة من قوته الفطرية.

لكن ومع ذلك كان ثمة هالة ناعمة من التهديد تحيط بالأمير الشاب..

هالة تعلن بوضوح بأن أي احتكاك خاطئ به قد لا ينتهي على خير البتة!



"سيكون عليك أن تتركني أفكر بالأمر بضعة أيام."



"لكن سيدي..."



قاطعه سايبا محملًا نبرته الهادئة بصرامة قاطعة:

"سأفكر بالأمر سوجيما... لا أظنك تود أن تكون مسؤولًا عن هذا القرار إذا عاد اللورد أوتويا فجأة وتبين لك خطأ حساباتك.. هممم؟!"



كزّ سوجيما على أسنانه وأحنى رأسه بإحترام خافضًا طرفه.

"أستميحك عذرًا سيدي."



استطرد سايبا متجاهلًا إياه:

"كما وأن والدي العزيز لم يعد كثير الإعتماد على دوائه كما تحسب..."



رفع سوجيما عينيه إليه بدهشة إثر عبارته الأخيرة.

"سيدي..؟!"



سحنة سايبا تغيرت فجأة، وبدا أن نوعًا من الفكاهة القاتمة قد ظللت قسماته.

مال برأسه جانبًا من جديد، بدا متسليًا بدهشة سوجيما، لكنه لم يبتسم.. قال:

"لم يأخذ أيًا من دمائي منذ فترة الآن، وأنت تعرف بأن العلاج لا يتجاوب مع خلاياه.. لذا يُنْقَل إليه من خلال دمائي حين آخذ أنا الدواء."



"ولكن.. إن لم يكن يأخذ.. الدواء.. فكيف حافظ على صحته؟!"



لاحظ سايبا كيف تجنب سوجيما الإشارة إلى ماهية الدواء،

غير مرتاح بوضوح لفكرة استنزاف اللورد لدماء ابنه حتى يعالج بها نفسه..

إما أن مستشار أبيه على قدر من السذاجة،

الأمر الذي تنفيه سنوات حياته العديدة..

وإما أنه إنسان صالح للغاية.. بحيث تُكَدِره هذه الفكرة!



التفت سايبا إلى النافذة الضخمة ليرى بأن آخر شعاع للشمس يكاد يتلاشى كليًا، وهمس:

"ألن ترغب بمعرفة سر ذلك؟!"







.






.
[/align
__________________
-









أستغفر الله وأتوب اليه عدد ما ذكرهُ الذاكرون
و غفلَّ عن ذكرهُ الغافلون !

رد مع اقتباس