عرض مشاركة واحدة
  #216  
قديم 08-04-2016, 01:33 PM
 




الفصـل الرابع و الثلاثـون
ج2
*أثر من روح راحلة*






انطلق أفراد العائلة خلف الطبيب تسبق أرواحهم أجسادهم إلى غرفة لم تبعد عنهم كثيراً ، كانت مخصصة للأطفال حديثي الولادة ، لكن جميع الأسرة الصغيرة بدت خالية ما عدا واحدا فقط ، وقفت إحدى الممرضات عنده و أخذت تغطي الرضيع جيدا ببطانية دافئة بعد أن أغمض عينيه و استغرق في نوم عميق ..

تراجعت للخلف حين رأت الطبيب مقبلا و أفسحت المجال لأفراد الأسرة حتى يمكنهم الاقتراب من الطفل النائم .. طفل بوجه ملائكي يبعث السلام و الطمأنينة في روح الناظر إليه.

تركزت العيون بلهفتها و توقها عليه ، و عادت الدموع تجري و ترسم مسراها على الخدود مجددا .. لكنها هذه المرة دموع أمل لم يخب و رجاء قد تحقق ، فليليان .. الابنة و الأخت و الصديقة .. لم يرحل منها غير جسدها ، فقد تركت قطعة من روحها الطيبة و فيضا لا ينضب من حنانها داخل هذا الطفل الصغير !


انحنى جوزيف آيون و حمل الرضيع بعناية بين ذراعيه ، ثم قبل رأسه و هو يتطلع إليه بعينين يتضارب فيهما شعور بالفرح لنجاة الحفيد و آخر بالحزن على فقد الابنة.

دنت الجدة كارولينا و هي تبكي بصمت و مدت أصابع يدها المرتعشة لتلامس يد الطفل الناعمة شديدة الصغر ..

تبسمت رغم الدموع و نطقت كلماتها الأولى منذ دخولها : "ما .. هو اسمه ؟!"

تبادل جوزيف آيون نظرات الحيرة و التساؤل مع الثلاثة الآخرين ..

قالت إيفا و هي تمسح دموعها : "كانت محتارة في آخر مرة رأيتها .. و لم تخبرني في أي اتصال لها إن كانت قد أفلحت في اختيار اسم له !"

حينئذ تنحنح الطبيب بأسلوب مهذب و دخل الحوار الدائر بقوله : "عفوا يا سادة ! لكننا عثرنا على رسالة في جيب معطف السيدة المتوفاة ، ربما قد تجدون فبها ما يفيدكم !"

وقع هذا الخبر الغريب موقع دهشة و فضول عند العائلة .. هتف إدمون بسرعة : "أين هي تلك الرسالة ؟!"


التفت الطبيب نحو الممرضة فانطلقت خارجة من الغرفة لتعود بعد أقل من دقيقتين و في يدها ظرف رسالة مجعد قليلا ، أعطته للطبيب الذي سلمه من فوره لإدمون آيون.

أخرج إدمون من داخل الظرف ورقة أخذ يقرؤها بتمعن .. كانت ملامح وجهه تحتد و يظهر الذهول و الصدمة عليها كلما تقدم في القراءة !
و كان أفراد عائلته يراقبون تحول تعابيره الملفت باهتمام و فضول شديدين.

"ما الأمر يا إدمون ؟!" سألت إيفا مستغربة ، لكن زوجها بدا كأنه لم يسمعها .. طوى الورقة قليلا - كيلا يسترق أحد النظر إلى محتواها - ثم قدمها إلى أبيه و تلك التقطيبة الحادة فوق عينيه لم تبرح مكانها.

"ألق نظرة على هذا يا أبي !"

أعطى جوزيف الطفل لجدته ثم أخذ الورقة من يد إدمون و شرع يقرأ ... كانت التعابير التي طفت على وجهه أكثر هدوءا من التي ظهرت على ابنه رغم تشابههما الكبير ..

هتفت كارولينا و صبرها ينفذ : "ما الذي في الرسالة ؟! أخبرانا أو دعانا نقرأها بأنفسنا !"

دون أن ينبس بحرف طوى جوزيف الورقة مرتين ، ثم ردها لابنه الذي أعاد وضعها في الظرف ثم خبأها في جيب سترته الداخلي !

قال رئيس العائلة للطبيب متجاهلا نظرات السخط و اللوم من النساء الثلاث : "كيف حصل الحادث أيها الطبيب ؟!"

أجاب الطبيب بسرعة : "لقد اصطدمت سيارة السيدة بمتجر صغير يا سيدي !"

"متجر ؟!" ردد إدمون باستهجان ، فأردف الطبيب مفسرا : "نعم ، كانت السيارة تسير بسرعة دون توقف حتى اصطدمت بمتجر يقع في آخر الطريق الذي سلكته !

أبدى إدمون استهجانا كبيرا : "ماذا ؟! كيف يحدث مثل هذا الحادث الأرعن أثناء قيادة ذلك السائق ؟! الأمر برمته لا يبدو منطقياً فذلك الرجل - كما عرفته - هادئ مترو و لم يسبق لي أن رأيته يقود بتهور .." أضاف بعدها مستدركا "إلا إذا .." و بدل أن يكمل جملته نظر إلى أبيه نظرة ذات مغزى ، فهز الأخير رأسه ..

كان يدور بين الرجلين حديث صامت يتبادلان فيه الأفكار من خلال نظراتهما فقط.
مرت دقائق خيم السكون فيها على الغرفة قبل أن يدنو جوزيف من زوجته و يأخذ الطفل منها.
حدقت فيه متسائلة ... لكن إدمون هو من تحدث : "أمي خذي إيفا و سارة و عودي للمنزل !"

التفت النسوة إليه و صحن : "ماذا ؟!"

قال جوزيف بصرامة : "ليس هناك ما تفعلنه هنا ، ستقام الجنازة صباح غد و ليس اليوم !"

انسابت دمعتان على وجنتي كارولينا .. كانت تكافح رغبة قوية في الصراخ بعد أن تلفظ زوجها بكلمة "الجنازة" ، فحتى تلك اللحظة كان جزء منها يرفض فكرة موت ابنتها و فقدانها إلى الأبد.


تمسكت سارة بذراع أمها لتعينها على السير .. فيما التفتت إيفا إلى الرضيع بين ذراعي جده و قالت مستنكرة : "ألن نأخذ الطفل معنا ؟!"

رد إدمون بقسوة : "لا !"

"ماذا تقول ؟!" صاحت إيفا غاضبة و استدارت الجدة و ابنتها اللتان كانتا تهمان بالرحيل ..

صرخت كارولينا بينما تذرف عيناها الدموع : "ما الذي تعنيه يا إدمون ؟! كيف لا نأخذ الطفل معنا ؟! إنه حفيدي ! ابن ابنتي !"

هذه المرة تكلم جوزيف : "نعم لا شك أنه كذلك ! لكن الطفل لن يذهب الآن إلى المنزل !"

قال كلماته الحازمة مؤكداً على كلمة "الآن" بصورة أثارت استغراب و دهشة النساء !
و حينما فتحت الجدة فمها ، أشار الجد لها بيده معلنا انتهاء النقاش ..

"هذا يكفي ! عدن الآن إلى المنزل و في المساء سنخبركن بكل شيء !"

أضاف إدمون بقوة و صرامة : "إلى ذلك الحين لا تتحدث أي واحدة منكن بشأن هذا الطفل حتى لو كان مجرد همهمة بينها و بين نفسها !"

تبادلت النسوة نظرات التعجب و الاستياء .. كن غير راضيات بل في غاية الانزعاج من تصرف الرجلين الذي بدا لهن أنانيا و غير مقبول ... لكن الجد و ابنه كانا حازمين بما يكفي لكي ينصعن لأمرهما و يغادرن المشفى دون مزيد من الجدال.


*****

اجتمعت الثلاث - برغبة من كارولينا - في غرفة ليليان التي غدت فجأة كئيبة و باردة .. كن يتقاسمن الحزن و الألم بينهن في صمت ، بلا نحيب أو ولولة حتى أن المار بجوار الغرفة لم يكن ليتوقع وجود أحد فيها لشدة هدوئها.

كانت سارة تجلس قرب النافذة المفتوحة و تنظر من خلالها إلى الحديقة و تحديداً إلى شجرة كبيرة الحجم طويلة العمر اعتادت أن تجلس ليليان - قبل زواجها - تحت ظلها لتقرأ إحدى كتبها المفضلة .. رفعت رأسها و قد أفاقت من شرودها على صوت سيارة.

"لقد عادا !" هتفت سارة و انتصبت واقفة ، فنهضت الأخريتان كذلك و أسرعت الثلاث بالخروج لملاقاة الجد و إدمون و استقبال الحفيد الصغير .
لكنهن فوجئن بأن الجد جوزيف قد عاد وحيداً !

قطبت كارولينا جبينها و قالت : "أين إدمون و ..."

غير أن جوزيف رماها بنظرة تحذير حادة ، فابتلعت كلمتها الأخيرة و سكتت ..
أشار الجد لهن بالدخول إلى القصر ثم قال بحسم : "سنتكلم حين يرجع إدمون !"


*****

في مستشفى على أطراف العاصمة .. جلست السيدة إيفرهارت على سريرها و بكت في صمت ، كان زوجها إلى جوارها و رغم أنه لم يبك إلا أن حزنه كان مماثلا لما عند زوجته ..

طرق الباب طرقة خفيفة لبقة ، فهتف السيد إيفرهارت بصوته المغموم : "تفضل !"

دخلت ممرضة قصيرة لطيفة المظهر و قالت : "هناك شخصان على الباب يودان مقابلتكما ، سيد و سيدة إيفرهارت !"

نظر السيد إلى زوجته ..
"هل هن صديقاتك يا ترى ؟!"

همست الزوجة عابسة : "ليس لدي صديقات هنا ، ليس بعد .. ربما يكونون زملاءك في العمل !"

رد الزوج ساخرا : "هه أي عمل ؟!" ثم تحدث مخاطبا الممرضة : "دعيهما يدخلان !"

استدارت الممرضة و فتحت الباب قائلة لمن ينتظران قربه : "تفضلا بالدخول !"

كانت الدهشة هي أول تعبير أبداه الزوجان لدى رؤية الزائرين ، بغض النظر عن أنهما لم يلتقياهما من قبل قط ، كانا أيضاً من نوع غير معتاد في حياة الزوجين البسيطة المتواضعة ، و بمجرد النظر إلى وجهيهما الجادين عرف السيد و السيدة إيفرهارت أن في انتظارهما أمرا غير عادي !

تكلم أحد الرجلين بتهذيب : "مساء الخير سيد و سيدة إيفرهارت ! أرجو ألا تكون زيارتنا المفاجأة قد سببت لكما الإزعاج !"

كان المتحدث رجلا أبيض طويل القامة ، يرتدي بدلة سوداء أنيقة ، و يظهر عليه المكر و سعة الحيلة.

رد السيد إيفرهارت بأدب : "لا إطلاقاً ، لكننا لم نتقابل من قبل .. لذا هل يمكن أن تعرفا عن نفسيكما ؟!"

دارت عينا الرجل في أرجاء الغرفة قبل أن يقول متفاديا سؤال السيد إيفرهارت : "كم مضى على إقامتكما في باريس يا سيدي ؟!"

رد السيد إيفرهارت بامتعاض و قد استاء لتجاهل الزائر سؤاله : "ما يقارب الشهر .."

"و هل حصلت على وظيفة ؟! أم أنكما هنا للاستجمام فقط ؟!"

تجهم وجهه و انزعاجه يزداد من هذا الاستجواب الغريب : "لا ، لقد تقدمت للعمل في كثير من الشركات ، لكن أيا منها لم يقبل توظيفي بسبب افتقادي للخبرة كما قالوا .. لذا أنا عاطل عن العمل حاليا .."

هز الرجل رأسه بتفهم .. بعدها رفع عينيه إلى الزوجة و عاد يقول بنبرة أسف : "و قد فقدتم اليوم الفرد الثالث للعائلة ، صحيح ؟!"

مسحت السيدة بحركة سريعة دموعها قبل أن تسيل على خديها
"نعم ، كان حملي الأول بعد زواجي بثمان سنين ، و ما كدنا نفرح بقدوم طفل حتى ولد ميتا .."

تنهد الرجل : "يبدو أن أيامكم الماضية في باريس لم تكن سعيدة .."

أطرق الزوجان رأسيهما المثقلين بالهموم و لم يتكلما .. فتبسم الرجل الغريب مضيفا : "لكن القادمة ستكون أجمل !"

حدجاه بنظرات استغراب و فضول .. و أخرج الرجل من جيبه بطاقة ثم تابع موضحا مقصده : "سيد إيفرهارت ، تعال في الغد إلى هذا العنوان و ستحصل على وظيفة جيدة !"

فغر السيد إيفرهارت فاه مذهولا ثم أخذ البطاقة من الرجل و أمعن النظر فيها غير مصدق !
"مؤسسة لوميير ؟!"

"نعم !"

"لا أصدق ! ما كنت لأحلم حتى مجرد حلم بالعمل هناك !"

"تعال في الغد و ستصدق حينما ترى بأم عينيك !"

أدار الرجل وجهه نحو السيدة و قال بذات الابتسامة الخلابة : "وأنت يا سيدة إيفرهارت ، ستحصلين على طفل كما كنت تتمنين !"

أطلقت السيدة صيحة دون ان تنتبه ..
"كيف ذلك ؟!"

"في اليوم الذي مات فيه طفلك ، ولد طفل آخر لكنه خسر أباه و أمه .."

حل الحزن محل الدهشة على وجهها : "يالطفل المسكين ! أليس له أقارب ؟!"

تنهد الرجل عميقا و تبددت ابتسامته : "لديه ! لكن بقاءه في هذا المكان يشكل خطرا كبيرا على حياته ، لذلك يجب أن نبعده من هنا بأية وسيلة حتى يكبر و يكون في مقدوره الاعتماد على نفسه !"

تساءل السيد إيفرهارت باهتمام : "ما هذا الخطر الذي قد يهدد طفلا رضيعا ؟!"

عندئذ تحدث الرجل الثاني للمرة الأولى منذ دخوله : "هذا أمر لا يمكننا الإفصاح عنه حفاظا على السرية التي تضمن سلامة الطفل !"

كان هذا الرجل مختلفا عن رفيقه ببشرته السمراء و قامته المتوسطة كما أنه بدا هادئا قليل الكلام ..

تبادل الزوجان نظرات الحيرة و الشك .. فنهض الرجل الأسمر و قدم للزوجين بطاقته : "أعرفكما بنفسي ، جاك مارتل ، مدير فرع المخبارات في باريس !"

انتفض الزوجان و قد أصابهما الخوف ..

"م .. مخابرات ؟!" همس السيد إيفرهارت .

تحدث مارتل بوقار : "نعم ، و في الحقيقة لست معتادا على التلويح ببطاقة عملي في وجه كل من أقابل ، لكني شعرت أنكما تحتاجان إثباتا قويا على جدية هذا الموقف و خطورته !"

ازدرد الزوج لعابه و غصت الكلمات في حلق الزوجة .. عندها تحدث رفيق مارتل منبها لشيء ما : "نحن لا نجبركما على هذا الأمر و بالطبع من حقكما أن ترفضا !"

فتح السيد إيفرهارت فمه لكنه قبل أن ينطق بكلمة عاد و أغلقه .. فتبسم الرجل و قد عرف سبب تردده : "لا تقلق بشأن الوظيفة ! ستحصل عليها سواء قبلت بالطفل أم لا !"

أشرق وجهه فجأة و كاد أن يهتف بشيء ما ... غير أن الزوجة قطعت عليه ذلك بقولها : "سنأخذ الطفل بالتأكيد !" و التفتت إلى زوجها بنظرة حاسمة و كأنها تقول "و لا تناقشني في هذا !"

ابتسم الرجل في رضا و استحسان "هذا جيد !"

قالت السيدة بشوق و لهفة : "هل أستطيع رؤيته الآن ؟!"

"بالطبع !"

وأومأ للممرضة الواقفة قرب الباب فانطلقت مغادرة الغرفة .. ثم عادت سريعا تحمل بين ذراعيها طفلا رضيعا ! أخذه الرجل منها و قبل أن يعطيه للسيدة .. نظر إليه مطولا .. كان الرضيع مستيقظا يحرك يديه الغضتين ببطء و عشوائية ... ضم الرجل الطفل إلى صدره ثم تركه ليجد يده ضئيلة الحجم و القوة تمسك ربطة عنقه !
ارتسمت على وجهه ابتسامة دافئة و برفق شديد سحب ربطته من بين الأصابع الصغيرة القابضة عليها ..

"كم هو لطيف !" قال السيد إيفرهارت برقة و هو يدنو من الطفل .. فهتفت السيدة و مدت ذراعيها متوسلة : "أريد أن أراه !"

أجيب طلبها بسرعة ، فتهلل وجهها لرؤية أمنيتها تتحقق بعد انتظار دام أكثر من ثمان أعوام ! رغم أن الطفل لم يكن من صلبها و لا تربطه بها أية قرابة إلا أنها شعرت بحب غزير يتدفق داخلها حين وقعت عيناها عليه !

"يا إلهي ما أجمله !" رفعت عينيها إلى خاله و سألت بتوق : "ما اسمه ؟!"

"لقد ماتت أمه قبل أن تختار له اسما ، لذلك أقترح أن تسميه الاسم الذي اخترت لابنك المتوفى !"

هتفت مدهوشة : "هل أستطيع ذلك حقا ؟!"

هز إدمون رأسه مخفيا حزنه خلف ابتسامة مصطنعة ، فيما اكتسى وجه السيدة بحيوية و سعادة هائلين كأنها لم تخسر ابنا هذا اليوم !

"آلويس !! سأسميه آلويس !!"

"اسم جميل !" قال إدمون بشيء من التكلف

وقف السيد إيفرهارت بجوار زوجته و وضع يده على كتفها .. كان هو كذلك سعيدا ، كيف لا و قد حصل على كل ما تمناه خلال لحظات ؟!

انتبه فجأة لفكرة ما فسأل : "ماذا عن إجراءات التبني في فرنسا ؟! هل هي صعبة ؟!"

قال مارتل : "ليس بكم حاجة إلى تلك الإجراءات .."

تابع إدمون : "لأن هذا الطفل هو طفلكم الآن ! ابنك الذي حملت به تسعة أشهر يا سيدة إيفرهارت ثم ولدته في هذا المشفى !"

فوجئت السيدة تماما ، فهي لم تتخيل أن تحصل على أكثر من طفل متبنى ! و كذلك كان حال السيد ، فتصرف كهذا قد يسبب لهما العديد من المشاكل لاحقاً .. لكن حب الطفل الذي اجتاح قلب السيدة و الرغبة القاهرة في الأمومة كانت أقوى من كل ما سواها ! فقالت السيدة إيفرهارت وقد استعادت ابتسامتها الواثقة : "نحن موافقون !"

بادلها إدمون الابتسام لكن بصعوبة ..
"شكرا لكما !"

هزت السيدة رأسها نافية : "لا نحن من عليه شكركم !"

وافقها الزوج بابتهاج : "هذا صحيح ، لقد منحتمونا كل ما كان ينقصنا و نحتاجه بشدة !"

ابتسم مارتل لأول مرة "إذن .. أرجو أن يظل كل ما حصل في هذه الغرفة سرا بيننا !"

"اطمئن ، لن يعرف بهذا أي أحد !"

عندها ربت مارتل على ذراع إدمون الذي كان واقفا ينظر بشرود إلى آلويس في حجر السيدة إيفرهارت : "لنذهب يا صديقي !"

جفل إدمون قليلاً و كأنه استفاق من غفوة ! حاول تحريك قدميه للخروج ، لكنه وجد نفسه بدلا من ذلك يقول بصوت حزين مكروب للسيد و السيدة إيفرهارت : "إنه ثمين جدا بالنسبة لنا .. لذلك أرجوكم أن تعتنوا به جيدا !"

ابتسمت السيدة و قالت مستنكرة : " هل نسيت ؟! إنه ابننا الحبيب ، فكيف توصينا به ؟! نحن لن نفرط في آلويس مهما حدث لذا اطمئن و أرح بالك !"

تنهد إدمون في راحة عميقة ، ثم تقدم خطوات من السرير و مسح مسحة لطيفة على خد الرضيع
"كن ولدا صالحا .. يا آلويس !"

فتح آلويس عينيه للمرة الأولى منذ ولادته ... و كان أول ما أبصرته عيناه الجميلتان في هذه الدنيا هو وجه خاله و هو يبتسم مودعا.


*****


كانت الساعة قد تجاوزت التاسعة حينما عاد إدمون إلى الماسة الرمادية ، و كما توقع وجد الجميع ينتظرونه ، لكن ليس في غرفة الجلوس بل في غرفة الطفل الوحيد في القصر ابنه وليام !

دخل إدمون إلى الغرفة المليئة بالألعاب بمختلف أحجامها و ألوانها ، كان مستغربا من عقد الاجتماع في غرفة طفله و القصر يعج بالغرف التي تصلح لذلك أكثر من مكب الألعاب هذا !

كان الجد و الجدة و سارة يجلسون على كراس قرب الحائط بعيدا عن ألعاب وليام ، أما إيفا فجلست على السجاد مع ابنها لتراقبه و هو يبني ناطحة سحاب بمكعباته الملونة.

نهض الجميع حين رأوا إدمون قادما حتى وليام ، ألقى المكعبات من يده و هتف مشيرا إلى والده : "بابا !" و انطلق يجري نحوه ، حمله إدمون بين ذراعيه ، ثم هم بالاتجاه إلى حيث يجلس الثلاثة ، لكنهم وفروا عليه ذلك و أتوا إليه بأنفسهم .. و اجتمع أفراد العائلة على السجاد الأزرق حول وليام الذي عاد إلى مكعباته ليستأنف بناء ناطحة السحاب.

ابتدأت كارولينا الحديث و قد بذلت كل ما في وسعها لتظل هادئة : "إذن ، أين ابن ليليان ؟!"
رد جوزيف بهدوء : "ابن ليليان لن يعيش معنا !"

صاحت كارولينا : "ماذا ؟!"

ثنت سارة ذراعيها بشكل ينم عن عدم رضاها : "هل تقصد أنه سيعيش مع والده يا أبي ؟!"

"لا ، إنه لن يبقى مع أي قريب له !"

صرخت كارولينا و الدموع تجري على خديها : "ما هذا الذي تقوله يا جوزيف ؟! ماذا فعلتم بابن ليليان ؟!"

نظر إليها زوجها نظرة تقريع غاضبة : "اهدئي يا كارولينا ! ليليان ابنتي أيضا و أنت لا يمكن أن تهتمي بابنها أكثر مني !"

تنهد إدمون و غمه يتزايد : "لم يكن أمامنا خيار آخر يا أمي ، أنت تعلمين أنني أحب عائلتي أكثر من أي شيء آخر ، و لو كان الأمر بيدي ما تركته لحظة واحدة بعيدا عني !"

سألت إيفا باستنكار شديد : "ما الذي قد يحدث بحق الله و يضطرك لإبعاد الطفل عن أهله ؟!"

أجاب جوزيف مرة أخرى و كان صوته قويا مجلجلا : "أن يشكل أهله ذاتهم خطرا عليه !!"

ارتعدت كارولينا و انخفض صوتها من الخوف : "م .. ما الذي ... تعنيه يا جوزيف ؟!"

قالت إيفا نائحة : "هل تتوقع أننا من الممكن أن نعرضه للأذى يا عمي ؟!"

"لا .. فالخطر ليس من جهة أمه !"

ظهرت الصدمة على وجوه النساء .. و تحدث إدمون مواصلا كلام أبيه : "نعم .. الخطر من الجهة الأخرى .. من أبيه بحد ذاته !!"

اعترضت إيفا و قد فوجئت تماماً : "لكن أسرة دي لا فونت .."

"قد حصلت على أول صفحة سوداء في تاريخها عن طريق سليلها الوحيد نيكول !" قال جوزيف آيون بهدوء مدهش.

"يبدو أن نيكول قد انحرف عن طريق النبل و الاستقامة الذي دوما ما افتخر أفراد أسرة دي لا فونت بثباتهم عليه !"

عقدت سارة حاجبيها و استفسرت : "لكن كيف اكتشفتم ذلك ؟!"

رد أخوها بسؤال آخر : "هل تذكرين الرسالة التي عثر عليها في معطف ليليان ؟!"
"هل تعني أنكم وجدتم فيها ما يدين نيكول ؟!"

"نعم ! كانت كما يبدو رسالة من متتبع كلفته ليليان بمراقبة زوجها !"

"هل يمكن أنها كانت تشك به ؟!"

تكلمت إيفا بعد أن سيطرت على أعصابها إلى حد ما : "لقد أفصحت لي في زيارتها الاخيرة عن شكوك تنتابها في زوجها .. قالت أنه يسافر كثيرا و يرفض اصطحابها معه ، كما أن كلامه معها يقل و تعامله يزداد فتورا مع مرور الوقت .. لكنها لم تكن أكثر من هواجس بشأن تغير مشاعر نيكول نحوها !"

فرك إدمون ذقنه ببطء و أخذ يتذكر كلمات الرسالة : "أجل ... هذا يفسر ذكر المتتبع لجملة "لم تظهر إمرأة واحدة بالقرب منه" يبدو إذن أن ليليان كانت تشك في إخلاص زوجها ، فأرسلت خلفه متتبعا لتعرف إن كانت تلك الشكوك في محلها أم لا ! لكن الأمر كان أسوأ بكثير من مجرد خيانة !

أضاف جوزيف : "إن نيكول دي لا فونت متورط مع قادة منظمات إجرامية يتخفون تحت أسماء براقة لرجال أعمال ناجحين ! و هذا سبب امتناعه عن أخذ ليليان معه في سفره فقد خشي أن تتعرف على أحدهم و تفضح أمره !"

هتفت الأم المنكوبة : "و لماذا لم تبلغوا الشرطة عنه ؟!"

"لا جدوى من ذلك ، فأؤلئك الرجال يعملون بالخفاء و نحن رغم يقين علمنا بما يقومون به إلا أننا لا نملك ما يكفي من الأدلة لإدانتهم !"

لكن كارولينا احتجت : "لكن الناس يحبونك و سيصدقون ما تقوله حتما يا جوزيف !"

" المواطنون نعم ، أما الدولة فلا ! ثم إن ذلك لن يزيد الأمر إلا سوءا يا كارولينا ، لأن المجرمين سيصبحون أكثر حذرا و تريثا في خططهم و سيصعب علينا عندها إيجاد أي إثبات يدعم اتهامنا !"

تابع إدمون : "لذلك و إلى أن نجمع ما يلزم من الأدلة .. علينا أن نبقي ابن ليليان بعيدا عن أبيه قدر المستطاع !"

قطبت سارة حاجبيها و قد التمع في عينيها لهيب حقد و غضب : "إذا كان نيكول يتعامل مع مجرمين و اكتشف أن أختي تراقبه و أنها أصبحت على علم بسره الخطير ... إذن .. فلا شك أنه هو من فعلها !!"

أومأ إدمون مؤيدا استنتاجها : "هذا ما فكرنا فيه أنا و أبي يا سارة ، لكننا للأسف لا نملك أي دليل على تورطه في مقتل ليليان و هو أيضاً يملك حجة غياب لا يمكن دحضها ، إنه في لندن منذ عشرة أيام ! هل نسيت ؟!"

ردت سارة بحدة : "لا لم أنس ، لكن لن يصعب عليه تكليف أحد الخدم في منزله بالعبث بمكابح سيارة أختي !"

" بالضبط ، لكن سيكون من شبه المستحيل إثبات ذلك ، لأنه إن كان نيكول متورطا مع منظمات إجرامية سرية بذلك الحجم ، فيجب أن يكون حوله مساعدين يعاونونه على إبقاء سره مخفيا عن زوجته ، لذلك حتى لو بحثنا في منزله و حققنا مع العاملين فيه لن نحصل على نتيجة ، فلا شك أن مساعديه قد أزالوا الآن كل الآثار و أعدوا المكان لاستقبالنا في أية لحظة !"

عند هذا الحد وبعد أن عرفت النساء ما أردن أن يعرفنه .. تبدد الغضب الذي كان يسيطر عليهن و خيم هدوء نسبي على الحديث الدائر بين العائلة ..

مسحت الجدة دموعها بمنديلها ثم سألت بحسرة بالغة : "ألن نستطيع رؤية ابنها أبدا ؟!"

ربت إدمون على كتف أمه بلطف : "سنحاول إيجاد طريقة لنتمكن من رؤيته و الاطمئنان على حاله ، لكن اللقاءات ستكون قصيرة و على فترات متباعدة !"

التقطت كارولينا أنفاسها المتقطعة من البكاء : "هل وضعته في ملجأ للأيتام ؟!"

"لا بل عند أسرة هولندية طيبة السمعة !"

انتصبت واقفة على قدميها و صاحت ناقمة : "كيف يمكنك أن تسلمه للغرباء بهذه البساطة ؟!"

"أسرة غريبة عنه ، نعم ، لكنها شريفة ، محافظة تملؤها الألفة و المحبة ! أم أنك تريدينني أن أسلمه لأبيه الحبيب ؟! أقرب الناس إليه بالطبع ! لكنه مجرم دنيء قتل والدته و كان ينوي قتله هو أيضاً بدم بارد !"

دعم جوزيف تصرف ابنه و قال مخاطبا زوجته بحزم : "كان هذا تصرفا حكيما من إدمون يا كارولينا ! ابن ليليان يجب أن يبقى مخفيا و بعيدا ، فلو علم والده بحياته لن يتركه عندنا بل سيطلب أن يأخذه معه و القانون يقف إلى جانبه كما تعلمين ! و أنا لن أسمح و لو على جثتي أن يتربى حفيدي في بيت قاتل !!"

عادت كارولينا للجلوس مهزومة حزينة .. لكنها لم تبك مجددا فرغم القسوة التي تصرف بها زوجها و ابنها و قيامهما بإبعاد الابن الوحيد لابنتها الفقيدة عنها دون استشارتها .. إلا أنها بعد هذا النقاش الطويل أصبحت تدرك - و كذلك سارة و إيفا - أن ذلك كان التصرف الأفضل من أجل حفيدها ! فهي أيضاً لن تقبل بأن يعيش ابن ابنتها البريئة الطيبة في جحر ثعبان غادر !












رد مع اقتباس