الموضوع
:
إبداع متناثِر ~ 🔥باحثا عن ظلي🔥
عرض مشاركة واحدة
#
232
08-08-2016, 02:43 PM
Mygrace
الفصـل السابع و الثلاثـون
*احذر أنا شيطان*
"ما الذي .. ماذا .. كيف ؟!" هكذا خرجت الكلمات مبعثرة من فم إدمون المذهول !
هل هو يحلم ؟! هل هذا الصغير ضئيل الحجم يعني حقا ما قاله ؟!
كشر آلويس حتى ظهرت أنيابه الصغيرة و إدمون يحملق فيه ببلاهة فاغرا فاه ،
و عندما استعادت كلماته انتظامها أخيراً ، قال دون أن تنفك الصدمة عن وجهه : "أعد .. ما قلته قبل لحظات !"
"قلت أن استنتاجي كان في محله ، أنت خالي و قد أقررت بذلك لتوك أنسيت ؟!" رد الصغير مع ابتسامة تفيض مكرا و دهاء.
ضرب إدمون فمه بيده ثم أزاحها سريعا و قال بلهجة عدائية إلى حد ما : "ما الذي تقوله أيها الصغير ؟! لقد زل لساني فقط أنا لم أقر بشيء !"
رفع آلويس حاجه مستهزئا "حقا ؟! لا جدوى من الإنكار ، لقد أسدلت الستارة عن مسرحيتكم و انتهت هذه التمثيلية الطويلة أيها الآيون !"
كان إدمون يقف متحجرا في مكانه ، عيناه الذاهلتان مفتوحتان بأوسع ما يمكن .. و كأنه قد تلق صفعة قوية على وجهه بغتة دون سابق إنذار.
"من الذي ملأ رأسك بهذا الهراء أيها الصغير ؟! أنت آلويس من أسرة إيفرهارت الهولندية ، و لا تربطك بعائلتنا أية صلة !"
"عذرا إذن لأنني لست غبيا بما يكفي لأصدق كذبة واضحة كهذه !"
"كذبة ؟!"
"طبعا ، و إلا ففسر لي .. لماذا أنا لا أشبه والدي ؟! ولماذا أبي - رغم ما عاناه من مشاكل جراء ذلك - لم أره ينظر و لو مرة لأمي نظرة اتهام أو شك و لو كانت أمي أذنبت فلم لا تبدي أي شعور بالذنب ؟! لماذا لا يوبخاني أو يظهرا غضبهما مني حين أخطأ التصرف ؟! ألا يفعل الآباء ذلك عادة ؟! لماذا يحرصان كل شهر على التقاط الصور لي و يسجلان كل ما يحدث معي مهما تضاءلت أهميته ؟! لم تداومون أنتم على المجيء كل سنة إلى هولندا ؟! و لم أمك تنظر إلي تلك النظرة المحبة الدافئة كلما مررت بجوارها و كأنني قطعة اقتصت من فؤادها ؟! أمي نفسها و رغم كل طيبتها و حبها لم تمنحني هذا القدر اللامتناهي من الحنان.
ثم ما هذه الصدفة التي جمعت في الأسبوع ذاته مولدي و حصول أبي على وظيفة في شركتكم و موت أختك و ابنها الرضيع ؟! أخبرني .. لم لا تجيب ؟! هل أكل القط لسانك .. خالي إدمون ؟!"
مر الوقت ببطء .. و إدمون متجمد على وضعية الصدمة و الاندهاش ، هل يعقل أن هذا الشيطان الصغير الواقف أمامه لم يبلغ الخامسة من عمره ؟! لا يصدق !
تحرك جسده أخيرا .. انحنى على الصغير و على دهشة منه أمسك رأسه و أخذ يفتش بين شعره !
"ماذا تفعل ؟!" صاح آلويس بحنق محاولا إبعاد يدي خاله عن رأسه دون جدوى
قال إدمون بوجه جامد : "أبحث عن القرون ! قرون الشيطان ! لا شك أنها هنا في مكان ما في رأسك !"
بدفعة جمع فيها كامل قوته أبعد آلويس إدمون عنه .. رفع رأسه وقد تبعثر شعره الكستنائي الاملس و بدأ العصير يجف على وجهه .. و بالطبع لم يكن الصغير المتأنق مسرورا بهذا.
تجهمت ملامحه الجميلة و هو ينظر باستياء لخاله الذي نفض يديه قائلا : "لا بد أنه قد تم استئصالها حين أحضرك الشياطين لعالم البشر !" ثم ضحك بتشف حين انتبه لمنظر آلويس "تبدو ظريفا أكثر بهذا المنظر !"
ارتسمت على فم الطفل فجأة ابتسامة تهكم و سخرية "ليس أظرف من منظرك حين هزمتك في الشطرنج قبل قليل !"
توقف إدمون عن الضحك "أنت طويل اللسان حقا !"
رمقه آلويس بنظرة جانبية ماكرة "و هذا أكثر ما يثبت أني من عائلتكم !"
فتح إدمون فمه ليرد لكنه عاود إغلاقه حين لم يجد ما يفحم به هذا الطفل العجيب.
تنهد طويلا ثم رفع يده إلى رأسه و قال باستسلام : "حسنا لقد غلبتني أنا أستسلم ! هل ارتحت الآن أيها المزعج ؟!"
كشر آلويس بطريقته المغرورة و زم إدمون شفتيه بنوع من الامتعاض قبل أن يقول : "و الآن هيا اختر كتبك بسرعة لنرجع !"
أعاد آلويس الكتاب - والذي لم يسلم بدوره من رشاش العصير - إلى إدمون "اختر أنت، فلست مهتما بفعل ذلك بنفسي !"
رماه إدمون بنظرة متفحصة يملؤها الشك لا تخلو من الحدة "لا تقل لي .. أنك تحديتني في الشطرنج ثم طلبت اختيار جائزتك من مكتبتنا فقط لتبوح لي باكتشافك على انفراد !"
أطلق آلويس ضحكته الخبيثة "نبيه يا خالي !"
لعدة لحظات وقف إدمون ممعنا النظر ببرود في الشيطان الصغير أمامه تنهد بعدها قائلا : "لنعد الآن ، و سأرسل لك الكتب غدا !"
هتف آلويس باستنكار و حنق مشيرا إلى حالته السيئة : "كيف أعود هكذا ؟!"
التفت إليه خاله و انفجر ضاحكا بطريقة استفزازية ضاعفت من استياء آلويس "تبدو كالهر المبلول بهذا الشكل ، هل يمكنني التقاط صورة للذكرى ؟!"
احتدت نظرات آلويس الغاضبة و ظهر العبوس على وجهه ، فحاول إدمون تهدئته دون أن يتوقف ضحكه "حسنا ، حسنا لا تقلق ! سآمر بتجهيز حمام ساخن و ملابس جديدة لسموك !"
و خرج تاركا آلويس خلفه ..
حين عاد إلى الصالة وجد الضيوف متجمعين قرب الحائط في دائرة .. كانت ضحكاتهم العالية تغطي على صوت خطوات إدمون و هو يقترب منهم ... توقف ليشاهد ما يحدث وسط التجمع .. كانوا يلعبون لعبة ذيل الحمار ، تمسك واحدة من الظيوف - بعد أن ربط على عينيها - ذيل الحمار و تحاول إلصاقه في مكانه المناسب في اللوحة المعلقة على الجدار ، لكنها أخطأت الاتجاه و كادت تلصقه بجبهة رجل بدين.
"ها قد عدت يا إدمون !" قال جوزيف الذي كان أول من لاحظ وجود ابنه ، فالتفتت رؤوس الحضور نحو إدمون بلهفة ، و شقت السيدة إيفرهارت طريقها بين الضيوف ثم قالت باستغراب يعتريه القلق حين لم تر آلويس معه : "أين آلويس سيد آيون ؟!"
كتم إدمون ضحكته بصعوبة و قال : "أوه ، لقد سكبت العصير على شعره عن طريق الخطأ بينما كنت أحاول إنزال كتاب أراده من الرفوف العليا ! لذلك أرسلته مع الخادمة ليأخذ حماما و يغير ملابسه !"
تباينت ردات الفعل على هذا الخبر لكن غالب الحضور كان يرمق إدمون بنظرة اتهام ساخرة ، حسبوه فعل فعلته عن عمد انتقاما من الطفل الذي هزمه أمام الجميع ، حتى جوزيف ، كارولينا ، و سارة يطالعونه بالطريقة ذاتها ، مما جعل هذا إدمون يشعر بإلاهانة ، لكنه لم يحاول الإنكار فهم يبدون مقتنعين باستنتاجهم و لا فائدة من الجدال في هذه الحالة.
أما السيدة إيفرهارت فوضعت يدها على قلبها و تنفست الصعداء "اوه هكذا إذن !" لكن فكرة أخرى مقلقة انتابتها فأسرعت تقول : "لكنه .. سيمرض دون شك إن خرج بعد الاستحمام إلى هذا الجو المتجمد !"
تقدم جوزيف إلى جوار إدمون و رسم على وجهه ابتسامة عذبة "لذلك ستمكث أسرة إيفرهارت هذه الليلة في قصرنا !"
أبدى السيد إيفرهارت امتنانه "هذا كرم شديد منك سيد آيون !"
"لا ، أبدا ! هذا الواجب !" أدار عينيه نحو ابنه و أخفى ضحكته "لا أريد أن يتأذى طفلكم الرائع بسبب غلطة من ابني البالغ !"
التفت إدمون نحو أبيه بشفتين مزموتين استياء غير أنه لم يقطع صمته .. حتى جلس هو و أبوه على طاولتهم بعيدا عن أسماع الضيوف.
"صدق أو لا تصدق !" ابتدر إدمون كلامه ليجذب انتباه والده إليه "لقد كشف الشيطان الصغير أمرنا !"
"ماذا تقول ؟!"
"إنه يعرف ، و قد اختار الذهاب للمكتبة ليخبرني بعلمه !"
اعترى الذهول وجهه و صوته "مستحيل ! كيف لطفل أن يفكر في ذلك ؟!"
قص عليه إدمون استناجات آلويس و ملاحظاته الذكية التي قادته للحقيقة .. و أنصت جوزيف بمزيج من الاهتمام و الدهشة.
"غير معقول !"
ضحك إدمون بخيبة متشربة بالسخرية "هذا ما كنت لأقوله لو لم أسمعه يقول ذلك بأذني هاتين !"
حدق جوزيف في الأرض شاردا تضربه أمواج من الأفكار و الهواجس .. و لم يمض كثير من الوقت حتى التفت إلى ابنه سائلا : "أين هو الآن ؟! لابد أنه انتهى من الاستحمام منذ فترة !"
"أجل .. هل تريد رؤيته لتتأكد بنفسك ؟!"
"نعم ، لكن سننتظر إلى أن يغادر جميع الضيوف ، فليس من اللائق أن نتركهم يذهبون دون توديعهم !"
"بالطبع ، و أظنهم سيشرعون بالانصراف في أي لحظة فالوقت قد تأخر !"
و كما توقع إدمون لم تمر دقائق حتى أخذ الضيوف يغادرون تباعا .. حتى لم يبق في الصالة غير أسرتي آيون و إيفرهارت.
سألت السيدة إيفرهارت بلهفة و شوق : "هل يمكنني الذهاب لآلويس سيد آيون ؟! أنا لا أحتمل فراقه ساعة واحدة !"
تشارك إدمون و أبوه الابتسامات الغامضة .. و قال الأخير : "نعم ، بكل تأكيد !"
*****
كان آلويس يجلس على السرير في غرفة جميلة مريحة أعدت ليقضي ليلته فيها ، لم تكن ملابسه الجديدة قد وصلت بعد ، لذلك ارتدى روبا أبيض لف فوقه منشفة ثقيلة و مد يديه الصغيرتين نحو المدفأة الكهربائية القريبة بينما تقوم الخادمة بتمشيط شعره.
"أوه طفلي الجميل !"
اندفعت السيدة إيفرهارت نحو آلويس لتعصره بين ذراعيها بحب مفرط "اشتقت إليك جدا !"
صاح محاولا الافلات من قبضتها "ستخنقينني !"
تركته فزعة "أوه .. آسفة !"
التقط أنفاسه التي كادت تنقطع للأبد ثم التفت إليها عابسا "لست صغيرا !"
لاحظت عيناه للمرة الأولى وجود أسرة آيون ، فعاد ينظر إليها نظرة تأنيب : "لقد سببت لي الإحراج !"
لم تستطع منع نفسها من الضحك "آسفة مجددا عزيزي ! هل تقبل اعتذاري الآن ؟!" خللت أصابعها برفق بين شعره المسرح "لقد جفف شعرك جيدا !" و التفتت صوب الخادمة بابتسامة امتنان رقيقة فبادلتها الفتاة الابتسام بسرور .. و خرجت إثر إيماءة من إدمون.
تقدمت كارولينا و جثت على ركبيتها أمام الصغير .. رقت ملامح وجهها و تدفق الحنان من عينيها الزرقاوين و هي تقول : "اعذرنا على ما سببه لك إدمون يا عزيزي !"
تنهد آلويس بتعاليه المعهود "لا بأس ، سأتحمل .. فهو خالي على أية حال !"
تهدل الفك السفلي لكارولينا و انفرجت شفتاها من الذهول ، و غطت السيدة إيفرهارت فمها بيدها و تبادلت مع زوجها المصدوم نظرات الخشية من مصيبة توشك أن تقع على رأسيهما.
أما سارة فأحاطته بنظرات متفحصة يتخللها خليط متضارب من الشك و الإثارة "ماذا قلت ؟!"
تنهد آلويس متصنعا نفاذ الصبر و تحدث ببساطة : "و ما المثير للدهشة في كلامي ؟! أنتم جميعا تعلمون أنه خالي !" أدار وجهه نحو الشخص المذكور بنظرة متسائلة زائفة البراءة "أليس كذلك ؟!"
ضحك إدمون بصوت مكتوم و عيناه تطوفان بين الأربعة المدهوشين "إنهم يعلمون أنني خالك بالطبع ، لكن لا يعلمون أنك تعلم بذلك !"
وقفت كارولينا و هي ترمق ابنها بنظرة لوم لاذعة "منذ متى و أنت تعلم ؟! و لم لم تخبرنا ؟!"
"لم أعرف بهذا الأمر حتى أعلمني به سموه عندما دخلنا المكتبة !"
تركزت أنظار الجميع على الطفل الماكر و الذي حاول إظهار البراءة على وجهه .. و فشل.
طأطأت السيدة إيفرهارت رأسها و سألته هامسة : "كيف عرفت ذلك يا آلويس ؟!"
أما السيد إيفرهارت فاستدار نحو جوزيف و ابنه مبديا خجله و إحراجه من فشل المهمة "نحن .. آسفان للغاية أيها السادة .. لم نكن كفءا للمهمة التي كلفتمونا بها .."
نظرت إليه زوجته ثم هزت رأسها بأسى و أسف "نعم .. لا شك أننا اقترفنا الكثير من الأخطاء الفظيعة حتى تمكن آلويس من اكتشاف الحقيقة !"
ابتسم جوزيف بلطف "لا ، سيد و سيد إيفرهارت لقد أديتما عملكما على أكمل وجه ، و اكتشاف آلويس للخطة لم يكن ناتجا عن خطأ بدر منكما .." التفت إلى حفيده بفخر "بل عن الدهاء العجيب الذي يتحلى به ثعلبنا الصغير ، صحيح ؟!"
هز آلويس رأسه مع ابتسامة مفرطة في الثقة "نعم" أضاف موزعا نظراته الذكية بين الموجودين "إذن .. حان الوقت لأطرح سؤالي الأهم .. " ضيق عينيه بقدر من الحدة "لماذا لا تعترفون بانتمائي لأسرتكم و تسعون بكل هذا الإصرار لإبقائي مخفيا ؟!"
للحظات خيم صمت مطبق على الجميع علت فيه الحيرة وجوههم .. هل يمكنهم حقا إخباره بالحقيقة ؟! كيف يستطيعون أن يقولوا لطفل أن أباه مجرم حرب خطير قتل أمه ثم توارى بعيدا عن أنظار العالم و أنهم يخفونه خشية عليه من ذلك الأب القاتل ؟! حتى لو كان آلويس ناضج العقل لن يكون إعلامه تصرفا سليما ، فالتأثير الأليم لهذا الخبر سيصيب قلبه لا عقله.
استاء الصغير من سكونهم المريب فنهض موجها كلامه لأسرة آيون و لجده بشكل خاص : "لماذا لا تجيبون ؟! هل .. من سوء من جانب .. أمي ؟!!"
جفلت كارولينا و تطلعت إليه في صدمة و لم يبد إدمون و أخته أقل اندهاشا منها .. وحده جوزيف من تقبل هذا السؤال بهدوء و رد عليه بقوة و ثقة لا تقبل الشك : "أمك أنقى من الثلج يا آلويس !"
لمع في عينيه بريق الذكاء "إذن .. فالسوء من طرف أبي أليس كذلك ؟!"
اكتست نظرات من حوله بالإعجاب و الذهول ، لكن تساؤله بقي معلقا بلا إجابة منهم .. و بالنسبة لآلويس الفطن كان صمتهم أقوى إثبات على صحة كلامه ، و من شدة تحفظهم أدرك أن أي استفسار يطرحه بخصوص أبيه لن يحصل على رد .. لذلك انتقل لسؤال آخر ليس ببعيد عن الموضوع الأساسي.
أطلق تنهيدة عميقة ثم عاد للجلوس قرب المدفأة و قال : "و هل سأبقى مخفيا طيلة حياتي ؟!"
رفعت كارولينا عينيها الحزينتين إليه .. جلست بجواره ثم أخذته في حضنها و هي تقمع ثورة دموعها المكبوتة.
في حين أطرق إدمون رأسه المليء بالهموم .. و نظرت سارة لأبيها بتساؤل.
أما جوزيف أب العائلة .. فأفرغ الغم المتراكم في صدره بزفرة طويلة لم يلبث بعدها حتى تحدث بصوته الرزين : "الخطر الذي هدد حياتك منذ أول يوم لك في هذا العالم ما زال موجودا بل إنه يزداد قوة و شراسة يوما بعد يوم ، لذلك .. ستبقى في عهدة هذه الأسرة الطيبة حتى يزول ذلك الخطر ، عندئذ ستعود معنا إلى منزل والدتك في فرنسا !"
أخفض آلويس رأسه .. لم يعرف أحد فيم يفكر أو ما نوع المشاعر التي خلقها ذلك الخبر في داخله.
كانت السيدة إيفرهارت تتطلع إليه بحزن عميق .. لقد تلاشى حلمها الجميل الذي دام أكثر من أربعة أعوام ، هي الآن لم تعد أما و آلويس لم يعد ابنها الحبيب .. كانت تعلم أن هذا اليوم سيأتي ، لكن لم تتوقع حلول ميعاده بهذه السرعة المفاجئة.
على الجانب الآخر بدا السيد إيفرهارت هادئا .. هو بلا شك يحب آلويس كثيرا كما لو كان ابنه ، لكنه كان أكثر عقلانية من زوجته .. آلويس ينتمي لأسرة أخرى سيعود إليها يوما ما ، لذلك ينبغي ألا يتعلقوا به أكثر مما يجب .. فالفراق مؤلم و كلما كان رباط المشاعر قويا اشتد الألم.
"آلويس !"
هدم نداء جوزيف الحاني جدار الصمت الكئيب .. نظر إليه الحفيد بوجه خال من التعابير.
"هل أنت حزين يا بني ؟!"
ثوان من السكوت فصلت بين سؤال الجد و جواب حفيده .. قال : "لست سعيدا بماضيّ .. أمي ماتت دون أن تسنح لي فرصة لرؤيتها .. و أبي .. لم يكن ذلك الأب المثالي كما يبدو .." وجه نظراته نحو السيدة إيفرهارت ثم زوجها فظهرت على شفتيه ابتسامة جميلة "لكني مسرور بحاضري ، لا أعتقد أنني كنت لأحصل على أبوين أفضل من هذين !"
أخذت الابتسامات تعلو وجوه أسرة آيون تلقائياً عند سماعهم كلامه الذي فاق توقعاتهم‘
فاضت السعادة من عيني السيد إيفرهارت و انقضت السيدة على آلويس "صغيري كم أحبك !"
هتف آلويس بانزعاج : "إن بقي عناقك عنيفا هكذا سأهرب إلى فرنسا اليوم قبل غد !"
و امتلأت الغرفة بصدى ضحكات الأسرتين.
*****
"هذا ليس عدلا ! ليس عدلا أبدا !"
احتجت إيفا ثم أضافت منفسة عن استيائها : "لم تحدث كل هذه الأحداث المثيرة حين لا أكون موجودة ؟!"
ضحك إدمون و قال مبرئا ساحته : "أنت من اخترت الذهاب إلى منزل أسرتك وقت زيارتنا لهولندا !"
زمت شفتيها الورديتين بطفولية "أعلم هذا ، لكني لم أتوقع أن يحصل كل ذلك ، في العادة لا نكسب من سفرنا إلى هناك أكثر من رؤية بعيدة لآلويس لا تدوم إلا لحظات قليلة !"
"لا بأس عليك هذه ليست نهاية العالم ، ستكون هناك زيارات أخرى في القريب !"
"هل تعني ثمانية أشهر أو أكثر فترة قصيرة بالنسبة لك ؟!"
"الأيام تمضي بسرعة كما تعلمين !"
زفرت بعمق و وضعت كفيها تحت ذقنها .. ما كادت تسرح بأفكارها حتى وصل إلى أذنيها صوت عال جعلها تستدير نحو مصدره بتقطيبة بسيطة فوق عينيها ..
لم يكن مصدر الصوت غير لونا الصغيرة ! بدت مبتهجة و مستمتعة مع أخيها الذي طاف أرجاء الحديقة الواسعة ثم عاد و هو يحملها.
ظهر الحبور على الوالدين .. هتفت إيفا بشغف : "مرحبا بك يا عزيزي !"
أما إدمون فكان أكثر نشاطا ، وقف على قدميه ، ثم سار نحو وليام و أخذ ابنته بين ذراعيه "أهلا بحبيبتي الجميلة ! هل استمتعت بنزهتك ؟!"
غمغمت لونا بسعادة كلمات غير مفهومة .. كانت تدخل في أفضل مزاج لها حين تكون مع والدها.
ذهب وليام ليجلس إلى جوار أمه التي مسدت على شعره برقة "هل أتعبتك هذه الشرسة ؟!"
تبسم ويل و هو يتحسس خده "حسنا .. كانت تخاف من كلاب الحراسة فتشدني من شعري و تنهال على وجهي بالصفعات كلما سمعت نباح كلب ، ربما حسبتني أتعمد المرور بتلك الحيوانات لأثير خوفها .. ما عدا ذلك كانت مسالمة !"
بازدراء رفعت إيفا عينيها نحو ابنتها "طفلة متوحشة !"
اعترض إدمون باستياء طفيف : "ليست كذلك ، إنها طريقتها في التعبير عن حبها !"
"حقا ؟!"
"أجل ، أنت لا تفهمينها بقدري يا إيفا !"
"أوه أكيد ، فهي ابنة أبيها !"
قطبت لونا جبينها و بادلت أمها نظرات الازدراء .. تمتمت بلهجة تهديد : "إيبا ..."
قال وليام ضاحكا : "إنها تفهم حين يحاول أحد إهانتها !"
تجهم وجه إيفا و على البرود عينيها ، فضحك إدمون ملء فمه ساخرا "هل تريدين الدخول في شجار مع ابنتك ذات الثماني أشهر أيتها المجنونة ؟!"
أشاحت إيفا بوجهها عابسة كطفلة صغيرة .. و تشارك وليام مع والده الضحك باستمتاع على منظرها.
⭐⭐⭐
مضى شهر يلحقه آخر سريعا ، كان الوقت يجري و كأنه في سباق لا نهاية له مع نفسه.
انقضت سنة كاملة دون أن يزور أي فرد من أسرة آيون آلويس في أمستردام ، فقد تم تأجيل الزيارة للسنة التالية و تحديدا بعد عيد مولد آلويس السادس بأسبوعين.
كان ذلك من باب الحيطة والحذر و كسر العادة أيضا .. فليس من المألوف أن يتفقد الرؤساء فروع شركاتهم في البلدان المجاورة كل سنة.
هذه الزيارة كانت مختلفة عن سابقاتها بحضور فردين جديدين ، هما وليام و لونا ، و بالنسبة للفتاة الصغيرة - التي ستتم عامها الثاني بعد شهر - تلك هي المرة الأولى التي تسافر فيها خارج فرنسا .. و هذا الشعور غير المسبوق حسن من مزاجها فبدت أكثر حيوية و نشاطا.
بعد مشاورات و نقاشات مع والده خرج إدمون بحيلة جديدة تمكنهم من لقاء آلويس بسهولة ، و قد باشروا تنفيذها قبل قدومهم إلى هولندا بأشهر . كانت الخطة تقضي بتنظيم زيارات مفاجئة يقوم بها الرؤساء و مدراء الأقسام لمنازل الموظفين للإطلاع على أحوالهم و ظروفهم المعيشية كي يتسنى للشركة تقديم ما يمكنها من المساعدة لهم ، و قد لاقت هذه الفكرة استحسانا كبيرا من العاملين في مؤسسة لوميير بمختلف طبقاتهم.
و جاء السيد إيفرهارت الثامن في جدول الزيارات.
توقفت سيارة الليموزين السوداء أمام المنزل الذي بدا مجرد كوخ صغير مقارنة بقصر الماسة الرمادية الفخم .. نزل أفراد الآيون من السيارة تباعا .. تقدمهم إدمون و طرق جرس الباب.
لم تمر دقيقتان حتى فتح لهم السيد إيفرهارت ، كانت الدهشة التي كست ملامحه صادقة تماما ، إذ تعمد إدمون ألا يخبره بزيارتهم حتى تكون مفاجأة حقيقة.
لكن الرجل سرعان ما استعاد طبيعته الهادئة و رحب بهم بأكرم ما يمكنه ،
و للضجة الغريبة التي أحدثها قدومهم غير المتوقع للمنزل خرج آلويس من غرفته و أطل برأسه بفضول من الطابق الثاني .. ليشاهد أسرته - التي زادت فردين - و قد جاءت لزيارته مرة أخرى بعد غياب طويل.
لمحه إدمون و هو ينزل الدرج ، فألقى نحوه ابتسامة ماكرة سارع آلويس للرد عليه بواحدة تكافئها "أووه هذا أنتم ؟! كدت أنساكم ، ماذا كان اسمكم يا ترى ؟! آمون ؟!"
كان على خلاف المرة السابقة يرتدي ملابس خفيفة تبرز بنيته النحيفة ..
اهتز أفراد آيون ضاحكين ، سليط اللسان الصغير لم و لن يتغير.
رفع إدمون حاجبه بنوع من الاستنكار "يبدو أنك لم تقرأ شيئا من الكتب التي أرسلتها لك !"
اكتست نظرات آلويس بالسخرية "آه كتب الأخلاق تلك ؟! لقد تركتها لك حتى تقرأها أنت ، ستفيدك أكثر مما تفعل معي !"
كانت إيفا حينها تمسك بطنها و هي تكاد تختنق من الضحك.
ظل فمه مفتوحا للحظات جراء تلك الصفعة الكلامية .. قال و ابتسامته الماكرة تتزعزع : "لو كان لقامتك أن تكون بطول لسانك لارتطم رأسك بالاقمار الاصطناعية !"
كشر الطفل عن ابتسامة راضية .. ثم أخذت عيناه البراقتان تتفحصان الوافدين الجديدين بقدر لا يستهان به من الغرور "هل هذان هم ابناك ؟!"
رد إدمون باعتزاز مع قليل من الحدة : "أجل ، ألا يعجبان سموك ؟!"
ركز آلويس نظراته على لونا .. كانت تبدو رائعة الجمال بثوبها الأحمر المزركش و الشريطة الحريرية فوق شعرها البرتقالي الناعم.
"إنها تشبهك كثيرا !" قال آلويس بمسحة واضحة من التهكم.
لم يرد إدمون على هذه السخرية فقد تكفل شخص آخر بذلك نيابة عنه.
"اسمت !"
هتفت لونا ذات العامين عاقدة حاجبيها في غضب ، فاتسعت ابتسامة آلويس حتى انقلبت ضحكة "ألم أقل لك ؟! إنها تشبهك !" أضاف باستمتاع و إثارة "يبدو أن هذه الزيارة ستكون مسلية !"
Mygrace
مشاهدة ملفه الشخصي
إرسال رسالة خاصة إلى Mygrace
البحث عن المشاركات التي كتبها Mygrace