سيدُّنا عليٍ عليهِ السَّلام - 14
سيرة
سيدّنا عليٍّ بن أبي طالبٍ عليهِ السَّلام
مِنْ دروسٍ
لفضيلةِ الدكتور : محمد راتب النابلسي
حفظه الله تعالى وبارك فيه وبارك في علمه وعمره آمين.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ , والصَّلاة والسَّلام على سيدِّنا مُحمَّدٍ الصَّادقِ الوعدِ الأمينِ , اللهمَّ لا علمَ لنا ، إلا ما علمتنا ، إنكَ أنتَ العليم الحكيم , اللهمَّ علمنا ما ينفعنا , وانفعنا بما علمتنا , وزدنا علماً , وأرنا الحقّ حقّاً , وارزقنا اتباعه , وأرنا الباطل باطلاً , وارزقنا اجتنابه , واجعلنا مِمَنْ يستمعونَ القول فيتبعونَ أحسنهُ , وأدخلنا برحمتكَ في عبادكَ الصَّالحينَ .
تلكَ أُمَّة قدْ خَلَتْ :
أيها الأخوة , مع الدرس الرابع ، مِنْ دروس سيدّنا عليٍّ بن أبي طالب كرَّم الله وجهه , أتمنى : أنْ أضع بين أيديكم ، حقائق بمناسبة وصولنا ، إلى إمارة سيدّنا علي بن أبي طالب ، والحقيقة الصارخة الأُولى : هو أنَّه لمْ يتح للتاريخ الإسلامي ، رجالٌ ثقاةٌ كرجال الحديث ، قاموا بتمحيص رواياته وفحصها ، ودرسوا الرّجال ، حتى استقام لهم الحديث الصَّحيح ، مِنْ الحديث الزائف ، وعرفوا الصَّحيحَ مِنْ الموضوع ، هذا الذي حصل للحديث الشَّريف ، لمْ يحصل للتاريخ الإسلامي ، لذلك تجد في التاريخ : الغث والثمين ، الصَّحيحَ والزائف ، الذي وقع ، والذي لمْ يقع ، وتجد الوصف الموضوعي ، والوصف المُبالغ فيه فالذي أعتقده : أنَّ كثيراً ، مِمَّا كتب عن خلافاتٍ طاحنةٍ , وعن حروبٍ مستعرةٍ ، بينّ سيدّنا عليٍّ ، وبعض صحابة رسول الله ، إنْ لمْ يكن له أصل ، فإنّه مبالغٌ فيه ، مبالغةً لا حدود لها ، فنحنُ نَكِلُ : أمر ، ما حدث ، إلى اللهِ عزَّ وجلَّ ، لقول الله عزَّ وجلَّ :
﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً ﴾ ( سورة اﻹسراء الآية : 17 ).
﴿ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ ( سورة البقرة الآية : 134). كيف نُحلل هذا الحدث ؟؟
أيها الأخوة , إنَّ المُؤمنَ الصَّادق ، ينطلق مِنْ هذه الحقيقة ، تقييم الرّجال ، ليس مِنْ شأن البشر ، بلْ مِنْ شأن خالق البشر ، الإنسان : أعقد مخلوق ، فقد علمونا ، في الجامعة ، أنَّ العلوم المادية قوانينها قطعية وثابتة ومطَّردة ، أمَّا كلّ علمٍ مُتعلقٍ بالنفس البشرية : فلشّدة رقيِّها , ولشّدة تعقيدها ، ولشّدة العوامل المُتداخلة ، في صنع قرارها ، ينبغي أنْ نقول دائماً ، فيما يتعلَّق بالإنسان هذه الجملة : في الأعم الأغلب ، لأنَّ كلّ القوانين المُتعلقة بالإنسان : قوانين ظنيّة ، وليست قوانين قطعيّة .
أريدُ أنْ أقف الموقف الكامل , إنسان أمامه كونٌ عظيم ، وكلّ ما في الكون ينطق بعظمة الله ، وينطق بوجوده ، وينطق بكماله ، وينطق بوحدانيته ، وأمام المؤمن كتابٌ مُعجز ، كلّ ما في القرآن ، يشير إلى أنه ، كلام الله عزَّ وجلَّ ، وأمامنا سُنّةٌ صحيحةٌ ، توافر لها رجال الحديث الألمعيُّون ، هذه السُّنة تأتي في المرتبة الثانية بعد القرآن ، فهي تفصيلٌ وبيانٌ له ، والهدف هو الله ، والطريق واضح المعالم ، ألا تكفينا فيه آيةٌ كريمة :
﴿ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾( سورة البقرة الآية : 134 ). لكنَّ الإنسانَ يقيس , والقياس نشاط عقلي ، فقد يأتي مؤمن ، في آخر الزَّمان ، والفتن حوله مُستعرة ، والأمور بالغة التعقيد ، ومع ذلك ، لا يفعل إلا الشيء ، الذي يرضي الله عزَّ وجلَّ ، فكيف بصحابيٍ ، عاش مع رسول الله عليهِ الصَّلاة والسَّلام ، واستقى منه الحديث ، ورأى مِنْ كماله ، ورأى مِنْ جماله ، ورأى مِنْ أخلاقه ، ورأى مِنْ شمائله ، أيعقل أنَّ هذا الصَّحابي الجليل ، الذي رضي الله عنه ، والذي بوأه الله مُبوأ صدق ، أو مقعد صدق ، أنْ يصدر منه شيءٌ ، يترفَّع عنه مؤمنٌ ، في هذا الزَّمان ؟ لذلك ، فالمسلم : كلما أحسن الظن بأصحاب رسول الله عليهِ الصَّلاة والسَّلام ، كلما كان أرقى وأعدلَ .
الحذر الحذر : مِنْ أنْ تقع ، في كمين ، لأعداء الدِّين ، مِمَّا روجوه ، في تاريخ المُسلمين :
ذكرت لكم ، فيما أذكر ، أنَّ التاريخ ، يمكن أنْ يقسم قسمين : تاريخٌ يعد عبئاً علينا ، وتاريخٌ يعد حافزاً لنا ، ليس مِنْ مصلحة المُسلم ، أنْ ينقِّب عنْ التاريخ العبء , ويدع التاريخ الحافز ، فأية روايةٍ ، وأية قصةٍ ، وأي موقفٍ ، مِنْ التاريخ يحْفزنا إلى البطولة ، نتمسك بها ، ونعرضها ، ونحللها ، أمَّا الشَّيء الذي يضعنا في حيرة ، أو يجعلنا نَرْتَبِك ـ نتركه جانبًا ، هذا التاريخ ، يمكن ولا أبالغ أنْ يكون لا أصل له ، ويمكن أنْ يكون ، ذا أصلٍ صغيرٍ جداً ، وقد بولِغَ في وصفه ، طبعاً بولغ ، مِنْ قبل أعداء الإسلام .
ولا تنسوا : أنَّ الكيد للمُسلمين بدأ ، مِنْ عهد سيدّنا عثمان ، على يد : عبد الله بن سبأ ، الكيد قديم جداً , ولا تنسوا : أنَّ أعداء الدِّين ، عجزوا مِنْ ، أنْ يواجهوا الإسلام مواجهةً ، لكنَّهم يسلكون الأساليب الملتوية ، مِنْ أجل الكيد لهذا الدِّين ، لا عنْ طريق مواجهته ، بل عنْ طريق الدسِّ فيه ، واسمعوا مني هذه الحقيقة : الآن العالم كلُّه مجمعٌ على محاربة الإسلام ، ولكنْ فيما أعتقد ــ لا بطريقة المُواجهة ، بل بطريقة التفجير الداخلي ، فهذا مكرُ الماكرين ، الذين صوّروا الصَّحابة ، على أنَّهم حاقدون على بعضهم بعضاً ، يتوارثون العداوة والبغضاء ، هذا التاريخ ينبغي أنْ نتجاوزه ، لأنَّه ليس في صالح المؤمنين ، وأنْ يبقروا بطون الكتب ، ليعثروا على رواياتٍ ، أغلب الظن أنّها غير صحيحة ، أو أغلب الظن : أنه مبالغٌ به .
أنصح أخوتنا الكرام ، ألا تقرؤوا مِنْ التاريخ ، إلا ما هو مشرق ، والذي لا يعجبكم ، قيسوا أنفسكم عليه ، فأنتم أتيتم ، في آخر الزَّمان ، وكلُّ واحد منكم ، يتمنى أنْ يرضي الله عزَّ وجلَّ ، ويقف الموقف المُشرّف الكامل ، أفمؤمنون أتوا ، في آخر الزَّمان على ضعفٍ منهم ، يقفون هذه المواقف المشرِّفة ، وأصحاب النَّبيّ عليهم رضوان الله ، الذين عاشوا مع النَّبيّ ، واستقوا مِنْ كماله ، ومِنْ شمائله ، ومِنْ علمه ، أيضيِّعون عملهم في الآخرة ، مِنْ أجل خلافٍ بسيط ؟ فاحذروا يا أولي الألباب .
إليكمْ بعض حكم هذا الإمام :
تلوت على مسامعكم ، خطبة ، ألقاها الإمام عليّ كرَّم الله وجهه ، حينما توفي سيدّنا الصِّديق ، قال له :
" كنتَ أشبَهنا ، برسول الله عليهِ الصَّلاة والسَّلام ، خَلْقاً وخُلُقاً ، سمَّاك اللهُ ، في كتابهِ صدّيقاً : صدّقته ، حينما كذّبه الناس ، قمتَ معه ، لمَّا قعدوا ، واسيته ، بمالك " .
هذا كلامٌ ، يعبر ، عنْ معرفةٍ كبيرةٍ ، بهذا الصَّحابي الجليل ، وهذه روايةٌ صحيحة ، لأنَّها تتناسب ، مع مقام أصحاب رسول الله عليهِ الصَّلاة والسَّلام .
إنني في هذا الدرس ، سأُلقي على مسامعكم ، بعضاً من حكم هذا الإمام الجليل ، يقول : " صدر العاقل ــ صندوق سره ، والبشاشة ــ حبالة المودة ، والاحتمال ــ قبر العيوب " .
ثلاث صفات , كما قال عليهِ الصَّلاة والسَّلام :
" استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان ، فإنَّ كلّ ذي نعمة محسود " ( ورد في الأثر ). البشاشة حبالة المودة ، الوجه الطلق ، الوجه البشوش ، هذا يسبب تأليف قلوب الناس لك ، هذا يسبب اكتساب الأصدقاء ، والاحتمال قبر العيوب ، أنتَ فيمن حولك ، لك أصدقاء ، لك أخوان ، لك أقرباء ، هؤلاء ليسوا معصومين ، فإذا حاسبتهم ، على كلّ واحدة ، ضج الناس مِنْ حولك ، وانفضوا عنك ، أمَّا إذا احتملت أخطاءهم ، فهذا مِنْ كرم الأخلاق ، ومِنْ علو المقام ، عند الله عزَّ وجلَّ ، الاحتمال قبر العيوب ، والبشاشة حبالة المودة ، وصدر العاقل ــ صندوق سرّه .
وصفهُ للدُّنيا :
قال هذا الإمام الجليل : " إذا أقبلت الدُّنيا ، على أحدٍ ، أعارته محاسن غيره ، وإذا أدبرت عنه ، سلبته محاسن نفسه " , ومِمَّا جاء ، في بعض الحِكم ، التي قالها بعض حكماء الصين : " اللهم ارزقني ــ حظاً تخدمني به ، أصحاب العقول ، ولا ترزقني ـــ عقلاً أخدم به ، أصحاب الحظوظ " ، فإذا وفّقك الله عزَّ وجلَّ ، فكلّ مَنْ حولك ــ في خدمتك ، وإذا لم يوفقك ــ فمحاسنُك وعقلك لا تنفعك ، ومالك لا ينفعك ، بلْ كلّ ما تملكه يتلاشى ، لذلك فسَّر بعض المُفسرّين ، قول الله عزَّ وجلَّ :
﴿ أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ﴾ ( سورة طه الآية : 39 ). آية عظيمة جداً ، أي : إذا ألقى الله عليك محبته ، أي : ألقى حبك ، في قلوب الخلق , هذه ، مِنْ أعظم النعم ، أعظم نعمةٍ ، أنْ يمدحك الناس في غيبتك ، لكنَّ الإنسان القوي ، قد يهابه الناس ، ولكنَّهم في غيبته يذمونه ، ويتحدثون عنه بما لا يريد ، فمقياس نجاحك مع الناس ، لا ما يقال ، في حضرتك ، بلْ ما يقال في غيبتك ، ومِنْ أجمل التوجيهات اللطيفة ، لحديث رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ :
" إنَّ أسرعَ الدُّعاء إجابةً : دعوة غائب لغائب ، أو دعوة الأخ ــ لأخيهِ بظهرِ الغيبِ " . ( ورد في الأثر ). فأنت : متى تمدح أخاك : في غيبته أم في حضرته ؟ لكن طبيعة الحياة والمجاملات ، تقضي مجاملته في حضرته ، أمَّا حينما تمدح أخاً في غيبته ، فهذا دليلٌ قطعيٌ على أنه مُحسن ، إذًا : هذا المُحسن الذي يُمدَح في غيبته ، وإذا دعوت له ، فأغلب الظن ، أنَّ الله يستجيب له ، بلْ إنَّ أسرع الدُّعاء إجابةً : دعوة غائبٍ لغائب ، أو دعوة الأخ ــ لأخيه في ظهر الغيب ، إذًا : فاسعوا مِنْ خلال سلوككم ، أنْ يمدحكم الناس ، في غيبتكم ــ لا في حضرتكم .
يتبع رجاءاً
جمعها مع التنسيق
عبد الله الراجي لعفوه ورضاه تعالى