عرض مشاركة واحدة
  #257  
قديم 08-16-2016, 12:08 PM
 



الفصل السادس و الأربعون
*بداية ابتسامة*





توقفت عند الرصيف و انحت على ركبتيها لتعيد لأنفاسها شيئا من انتظامها ، ثم جالت ببصرها حول المكان بحثا عن مرافقها و شقيقها بالتبني .. ألبيرت.
لكن الطريق الواسع بدا خاليا من ضالتها ، تساءلت في نفسها و الهواجس المقلقة تتدافع إلى ذهنها (إلى أين ذهب يا ترى ؟! يا إلهي هذا ليس الوقت المناسب لتختفي يا ألبيرت !)

أقلعت عيناها عن الالتفات بعدما استدرك عقلها أمرا فاته (مهلا .. لقد ابتعدت عنه دون إعلامه لذا .. لا شك أنه قلق لاختفائي المفاجئ و أخذ يبحث عني !) ألقت نظرة على الطريق أمامها ثم خلفها (منزله أقرب إلي من الشاطئ سأبحث عنه هناك أولا !)

و بأسرع ما أمكن جسدها الصغير ركضت عائدة أدراجها نحو المنزل .. لم يكن عليها قطع المسافة كلها ، فقد عثرت عليه في منتصف طريقها . تهلل وجهها الجميل و هي تراه يولي لها ظهره و يسير ببطء فيما يتلفت يمينا و يسارا بحثا عنها . حثت خطاها نحوه و هي تصيح و تلوح له : "ألبيرت !"

استدار المعني إليها جفلا لينهار القلق المهول من ملامحه و يتنفس الصعداء في راحة عظيمة.
قال معنفا بينما تقترب الصغيرة منه : "أين كنت ؟! هل تعلمين ماذا حل بي عندما لم أجدك بجواري ؟! كدت أصاب بنوبة قلبية !"

تشبثت بيده و هي تلهث و قالت دون اعتذار متجاهلة كلامه السابق : "لا وقت .. للشرح ! يجب أن .. نعود للمنزل .. حالا !"

قطب جبينه باستنكار "لماذا ؟!"

أخذت تسحبه بكل ما لديها من قوة و هي تقول بأنفاس متلاحقة : "قلت لك لا وقت ! هيا .. تحرك !"

تنهد بقلة حيلة و سار خلفها و قد خضع مكرها لطلبها المثير للاستغراب.


كانت الحديقة فارغة عند وصولهما مما دل على أن الجدة قد أنهت عملها فيها و دخلت لمشاهدة التلفاز.
و دون أن تمهله الفتاة فرصة لطرح سؤاله شدته من يده و هي تردد : "بسرعة اركب سيارتك ! هيا ! لم أنت بطيء هكذا ؟!"

تحدث باستهجان شديد بعدما سحب يده من قبضتها سريعا : "لم علي ذلك ؟!"

قطبت جبينها باستياء و الدموع تترقرق في خضرة عينيها "يجب أن تسرع ، هناك فتى يوشك على الموت !"

اتسعت عيناه في ذهول "ماذا ؟!" جلس القرفصاء أمامها و أمسك كتفيها بقوة و هو يرمقها بنظرة حادة "أخبريني أين ذهبت بعد اختفائك و ماذا كنت تفعلين ؟!"

صاحت بانفعال و انهمرت بعض دموعها : "قلت لك لا وقت للشرح ! قد يموت الفتى بينما أنت تقف و تثرثر هنا كالأحمق !"

حدق إليها بدهشة ممزوجة بالبلاهة من وقاحتها المفاجئة في حديثها معه و استطردت هي بنبرة غاضبة : "لن أسامحك طيلة حياتي إن مات ! أتفهم ما أقول ؟!"

لم يبرح ذلك التعبير المأخوذ وجهه بل زاد نفوذا على ملامحه و هو يسمع كلماتها المتوعدة . ما الذي حدث معها في تلك الدقائق التي غابت فيها عنه ؟! إنها تبدو مختلفة عن السابق بصورة تثير للعجب.

نهض و هو يتنهد في استسلام "حسنا.. " وأضاف بينما يخطو معها نحو سيارته : " ما به ذلك الفتى إذن ؟! وعكة صحية مفاجئة ؟! تسمم ؟! يجب أن أعرف حتى آخذ احتياطاتي !"

اصفر وجهها و تخلل الخوف صوتها و هي تجيب بعسر : "إنه .. لقد أصيب بعيار ناري.. فـ.. في صدره !"

بانت الصدمة عنيفة على قسمات وجهه و همس غير مصدق : "ماذا تقولين ؟!"

اختلطت كلماتها المتألمة بصوت نشيجها "و لهذا أقول لك أن تسرع .. فهو ينزف .. ينزف بشدة !"

عندها انطلق ألبيرت مهرولا إلى سيارته ، فتح الباب ثم رمى بنفسه على مقعد السائق و شغل المحرك.
أخذت لونا المقعد المجاور له و هي تمسح دموعها.

"يجب أن ننقله إلى المشفى بأقصى سرعة !"

صاحت لونا معترضة : "لا لن تفعل ! لن تأخذه للمشفى !"

أدار رأسه تجاهها و عقدة حادة تعلو عينيه المستنكرتين و قال بعصبية : "ماذا ؟! ألم تصدعي رأسي قبل قليل حتى أساعده ؟!"

"بالطبع أريدك أن تساعده ، لكن ليس بإرساله للمشفى بل بأن تنقذه بيديك ! يجب أن تعالجه بنفسك يا ألبيرت !"

هتف مستهجنا و قد تصاعدت الدماء إلى وجهه : "مصاب بعيار ناري و تريدينني أن أنقذه بمفردي ؟! كفي عن التصرف بحماقة يا لونا ! إن لم ننقله إلى المشفى سيموت !"

صاحت هي بقوة : "لا على العكس إن نقلته إلى هناك سيموت بلا ريب !"

تقابلت عيونهما المتماثلة في حنقها لوهلة .. ثم قالت الصغيرة مفسرة و الخوف ينبعث من كل حرف في كلماتها : "سيقتلونه ! أؤلئك الوحوش سيقتلونه !"

ردد مصدوما : "وحوش ؟!"

فوضعت يدها المرتعشة فوق يده القابضة على المقود بتوسل : "أرجوك أنقذه ! أنقذه كما أنقذتني ذلك اليوم ! أنا .. أنا أثق بك يا آلبيرت و أعرف أنك قادر على فعلها !"


لم تصمد رقة قلبه على معاندة دموعها الراجية أكثر من ذلك .. أطرق رأسه بصمت ثم رفعه و اتجه بناظريه للأمام بحسم ..
"أين هو المكان ؟!"


******


دون أن يدرك كيف و أين و متى .. وجد نفسه يسير في طريق موحش حالك الظلمة ، بذهن خال تابع خطاه عله يقترب من النهاية .. و بعد مدة لم يحسب طولها أحس بطريقه المستو ينتهي عند درجات معتدلة الارتفاع ، لا شعورياً شرع يرتقيها دون انقطاع و كأنه برمج على فعل ذلك.

ريح قارصة البرودة اندفعت من الهاوية أسفل منه لتبعثر خصلات شعره المنسدلة بنعومة على جبهته . لم تكن تلك الدرجات محاطة بجدران أو ثابتة على أرض صلبة بل معلقة في الهواء فوق حفرة مهولة الحجم سحيقة العمق !

رفع قدمه تلو الأخرى عابرا الدرجات الطويلة بذات الوتيرة المتروية .. لم يبد عليه تعب من المسير المتواصل أو خوف من الطريق الوعر الذي يسلكه ، كان مستمرا في خطوه دون أن يعرف السبب الغامض وراء إصراره على المضي بهذا الشكل.

فجأة .. التقطت عيناه شيئا يتوهج في نهاية الدرج ، جسما دائريا يلمع في الظلام ليزعزع بعض سوداه بلونه الرمادي المشع !

أحس بخطواته تتسارع ثم بجسده يقترب من ذلك الوميض حتى أضحى مواجها له . مد يده ليقبض عليه .. كان صلبا ثابتا مغمورا بالدفء ، أداره على مهل ، ثم جذبه في اتجاهه لينبثق عامود من النور يتسع شيئا فشيئا .. كان بابا ! و لكن لأي مكان يؤدي ؟!

أخذ الباب يفتح و مع اتساع فتحته يزداد الضوء القادم من ورائه قوة و سطوعا.

أحاط عينيه بيديه كيلا يعميهما ذلك النور المبهر ، ثم ببطء بدأ يزيحهما ليرى المشهد القابع خلف الباب.

انفتحت عيناه على اتساعهما و الدموع تتلألأ و تزيد لونهما الذهبي لمعانا .. خلف الباب عثر على ضالته و استعاد ما خسره . خلف الباب .. كانت غرفة جلوس .. ذاتها غرفة الجلوس في منزله في هولندا !

وقف على عتبة باب سعادته الماضية و قطرات كاللآلئ تنزلق على خده تباعا فيما ينظر بشوق إلى المتواجدين في الحجرة .. والداه بالتبني و الروح دون الدم الزوجان إيفرهارت ، جداه العطوفان جوزيف و كارولينا ، خالته الملولة سارة ، و إيفا ذات الضحكة الرنانة ، ثم و الأهم خاله و الشخص الأقرب إلى قلبه .. إدمون !
مجتمعين في الغرفة الهادئة العابقة برائحة الحب و السلام يتبادلون الأحاديث المتنوعة و يتشاركون الضحكات فيما بينهم باستمتاع.

تسمر في موضعه و راقب بدهشة تخالطها اللهفة المشهد الجميل الذي حسبه لبرهة شريطا مسجلا لذكرياته السابقة لولا الالتفاتة غير المتوقعة من خاله نحوه !

"انظروا من جاء ؟!" هتف إدمون بابتسامته الماكرة المعهودة فالتفتت الوجوه كلها إلى آلويس.

كانوا يبتسمون له بحب و ترحيب ، تكاثفت الدموع في مقلتيه و قفز قلبه التواق للحنان ، هذه ليس ذكرى و لا حلما و إنما الواقع ! نعم إنه الواقع و كل ما قاساه من مآسي لم يكن سوى كابوس انتهى !

حاول أن يخطو للداخل لولا أن حاجزا منيعا لا مرئيا سد طريقه و ردعه عن تجاوز حده !
أحنى رأسه بيأس و دموع الحسرة تتساقط بغزارة و تصطدم بالعتبة الخشبية ..

"لم لا يسمح لي بالدخول ؟!"

نطق صوته الغارق في قيعان الحزن و الوحدة ليجيبه صوت آخر ناهرا ببعض السخرية : "ليس بعد أيها الفتى العجل !"

رفع رأسه ليفاجأ بخاله واقفا قبالته ! اجتمعت عيناه الباكيتان بعيني إدمون الحانيتين .. و سأل بألم : "لماذا ؟! لماذا لا يمكنني البقاء معكم ؟!"

علت شفتيه الحمراوين ابتسامة مواسية و أشار بناظريه إلى الظلام وراء آلويس .. "هناك ما عليك القيام به ! أمور في غاية الأهمية أنت وحدك من تستطيع فعلها و لن يكون في وسعك العبور إلى هذه الحجرة ما لم تنهها !"

ألقى الفتى نظرة قلقة من فوق كتفه إلى السواد الموحش خلفه ليغمر قلبه شعور جامح بالوحدة و الخوف .. "لكني .. لا أريد العودة لذلك المكان .. إنه مظلم جدا !"

ردد إدمون و قد ارتفع حاجه باستنكار : "مظلم ؟! و ماذا عن المشاعل في جوانب الطريق إذن ؟!"

كرر آلويس بذات الأسلوب المستهجن : "مشاعل ؟! لا توجد هناك مشاعل !"

"لن تصبح المشاعل مشاعلا ما لم توقد شعلتها أليس كذلك ؟! المشاعل في طريقك و أعواد الكبريت في جيبك ماذا ينقصك أكثر من ذلك لتضيء دربك ؟!"

تلقائياً أخذ يتحسس جيبه ليفاجأ بصدق زعم خاله ! علبة كبربت كانت تقبع في جيبه طوال الوقت دون أن ينتبه !

"لقد انشغلت بالتحديق في الظلام ، ثم الخضوع لسطوة سوداه القاتم و لم تلحظ أنه و طوال الوقت كان في حوزتك السلاح الأقوى لقهره.. الضوء ! المشعل لن يضيء من تلقاء نفسه إن أردت منه النور امنحنه لهيبا ! أعط لتعط ، ساعد لتجد العون في الشدة و كن أول من يبادر بالمعروف ! هل تفهم كلامي .. يا آلويس ؟! و الآن .." أخذ الباب فجأة ينغلق من تلقاء نفسه مما أرغم آلويس على التراجع لكن دون أن يرفع عينيه الدامعتين عن وجه خاله الباسم.


"هيا عد لتتابع طريقك !"قطب جبينه قليلا ثم أضاف بمسحة من التأنيب : "و لا تتعجل مرة أخرى القدوم إلينا ، فمهما طال الأمد ستجتمع بنا في النهاية ، لذلك لا تقنط أيها الفتى المتهور و ارض بالمكان الذي أنت فيه فهو خير لك مما سواه !"

أحاسيس كثيرة متضاربة أخذت تتصارع داخله بينما يصغي لكلمات خاله الواعظة و يطالع بحسرة - في الوقت ذاته - الباب الذي أبى إلا أن يغلق دونه و يحجب عنه ما وراءه من نور.

لكن كلمات قليلة عزمت على التسلل من الفتحة الضيقة للباب قبيل إنطباقه لتؤازر الفتى في محنته و تلازمه طيلة دربه الشاق.

"اثبت على طريقك و كن قويا كما عهدتك و تأكد .. أنك لست وحيدا ! لست وحيدا أبدا !"

انغلق الباب مصدرا صريرا عاليا تردد صداه في الفراغ المعتم .. ثم شعر به يبتعد .. رغم أن الفتى ثابت في مكانه إلا أن الباب واصل ابتعاده عنه .. ثم فجأة أحس بأن الدرجات تحت قدميه قد تلاشت دون سابق إنذار ! بقي معلقا في الهواء لوهلة ثم أخذ يهوي .. و يغرق في السواد ..

شرعت معدته تتقلص و تنقبض أثناء السقوط .. ثم سرت هزة عنيفة في جسده خالجه إثرها شعور مختلف كما لو أنها سحبته لعالم آخر.

لم يعد يهوي في حفرة مظلمة .. بل يستلقي بسكينة على فراش مريح دافء !
حاول تحريك أطرافه لكن دون جدوى ، كانت مشلولة تقريبا ، هذا بغض النظر عن الألم المشل الذي يكتسح عظامه و مفاصله.

قناع مطاطي مثبت على الجزء السفلي من وجهه كان يمد رئتيه بهواء نقي بارد بينما تنغرز إبرة رفيعة في ظهر يده اليسرى.

صوت طفولي رقيق قلق النبرة أخذ يسأل : "هل سيكون بخير ؟! هل سيعيش ؟!"

(طفلة ؟!) جاهد ليفتح عينيه لكنه وجد جفونه المطبقة ثقيلة يستعصي إنفراجها كأنها التصقت ببعضها ، و لم يكن لسانه المتحجر و لا حنجرته الجافة أقل سوءا . كان سمعه وقتها الحاسة الوحيدة التي تعمل بشكل كامل ، بل في الواقع بصورة أفضل و أكثر وضوحا من العادة ، ربما لأن معظم نشاطه و قوته قد تركزا عليها دون باقي الحواس ..

"سيكون على ما يرام !" أجاب صوت رصين لا يكون إلا لرجل بالغ عالي الخبرة.


ما كاد الرجل ينهي جملته حتى أحس الفتى الراقد بجسد يتحرك قربه ، ثم بأصابع صغيرة دافئة تلامس برقة يده المرتخية ، ثم تمسك بها بلطف و عناية .. تلك اليدان الضئيلتان اللتان تحتضنان يده .. كانتا أدفء و أحن شيء جناه آلويس منذ سنين طويلة.

"هيا لنخرج !"

لكن هذا القول الصادر عن الرجل نفسه جاء ليضع النهاية لتلك اللحظات الجميلة القصيرة .. بعد تردد وجيز تركت الكفان يده برفق .. و شعر بصاحبتهما تبتعد .. ثم بالباب يغلق.

إثر جهد مضني رضخت جفونه المغلقة لعناده و انفتحت بمقدار بسيط يسمح له برؤية ما حوله .. لم يكن حيث توقع أن يكون . هو ليس في مشفى بل داخل غرفة ضيقة غاية في الصغر - بالإضافة لسريره الحديدي المرتفع - لم يسعها أن تحوي سوى دولاب منخفض صفت داخله بانتظام مجموعات متنوعة من الأدوية ، و طاولة خشبية مستطيلة الشكل وضعت فوقها علبة مناديل ، ضمادات سميكة ، كيس قطن صغير و معدات طبية أخرى.

وجه ناظريه صوب الباب .. رغم كونه مغلقا فقد أمكن آلويس بسهولة الاستماع إلى ما يدور خلفه من نقاش.


تحدثت إمرأة بسرعة : "لقد سمعت من صاحب البقالة قبل قليل أن رجال الشرطة عثروا على ثلاث جثث لرجال قتلوا ظهر هذا اليوم في الغابة الصغيرة قرب الشاطئ !"

سمع تنهيدة طويلة مهمومة تلاها صوت الرجل الأول و هو يقول بحزم : "يجب أن نبلغ الشرطة بخصوص هذا الصبي !"

لم يكن جسده فقط هو المخدر بل حتى أحاسيسه و رغبته في مواصلة الحياة .. لم يظهر اهتماما بما قد يحل به على عكس الصغيرة التي هبت معترضة بشدة : "لا لن أسمح لكم بذلك !"

رد عليها صوت رجولي غير مألوف لآلويس : "لونا ! ما هذا الذي تقولينه ؟!"

انتفضت جوارحه فزعا لذكر ذلك الاسم و شعر بقلبه ينبض بصوت مدو كأن الحياة دبت فيه بعد هجران مديد !
( مستحيل ! هل ما أسمعه حقيقة ؟! لابد أنه تشابه أسماء لا أكثر ! فكيف يمكن لهذه الطفلة.. ) لم يكد سؤاله يكتمل في ذهنه حتى مرت على ذاكرته صورة عائلته في منامه .. لونا لم تكن موجودة بينهم ! و هذا يعني..


لكن الجدال المشتعل في الخارج شتت تسلسل أفكاره .. صاحت الطفلة في عناد : "لن تخبروا الشرطة !"

شعر آلويس رغم بعده و الحاجز الذي يفصل بينهم بالجهد الذي يبذله محاور الطفلة ليظل هادئا . قال محاولا إقناعها : "اسمعي يا لونا ! لقد طلبت ألا أنقله للمشفى و استجبت لطلبك الغريب هذا خشية أن يكون في ذلك خطر على حياته كما قلت ، لكن الأمر مختلف الآن ! يجب أن نبلغ الشرطة حتى توفر له الحماية اللازمة ، هل تفهمين ؟! قد نستطيع نحن علاجه ، لكننا لا نقدر على الصمود لحظات أمام أؤلئك المجرمين ، ثم ربما يكون بحوزة هذا الفتى معلومات هامة قد تساعد الشرطة في القبض على من يهددون حياته و بذلك ينجو !"

غير أن كلامه لم يزعزع إصرارها قيد أنملة ، تحدثت بحدة : "افهم أنت يا ألبيرت ! ما دام أنهم لا يعلمون بنجاته لن يكون هناك خطر ، أما إن تصرفتم بحماقة و أعلنتم عن حياته ، فحتى شرطتكم لن تقدر على حمايته ! أنت لم ترهم .. إنهم يريدون قتله بأي وسيلة و مهما كلف الثمن !"

مرت فترة من الصمت .. ثم سأل الرجل - الذي خمن آلويس أنه الأكبر سناً بين الرجلين - بمكر : "ما الذي فعله ذلك الصبي حتى يسعوا للقضاء عليه بهذا الشكل ؟!"

سكتت الطفلة لبرهة ثم ردت بقوة : "لم يفعل شيئا ، فقط لأنه كان متواجدا في المكان الذي تقاتلوا فيه . حسبوه قد رأى وجوههم فأطلقوا عليه النار !"


أثناء إصغائه باستغراب لقصتها الملفقة كان عقله المرهق يسترجع ما حدث له قبل قدومه إلى هذا المكان .. قتله للمغتالين ، ثم التحامه مع قائدهم ، و في الأخير .. اتسعت عيناه بقدر ما سمحت جفونه التعبة .. تلك الطفلة .. لونا هي بلا شك من أنقذ حياته ! و هي الآن تستقتل لتبقيه بأمان !

بعد لحظة من سكوت مريب قال الرجل بلهجة سائلة فيها رنة شك : "حقا ؟! هل هذا ما حدث ؟!"

"أجل !"

"حتى لو كان ما تقولينه صحيحا لا أستطيع إيواء الطفل في منزلي ، أنا لا أريد المشاكل !"

اندفعت لونا قائلة بغضب : "كن مطمئناً أيها العجوز الجبان ! سننقله إلى منزلنا حالما يستعيد قدرته على تحريك أطرافه ، أليس كذلك يا ألبيرت ؟!"

لم يرد ألبيرت بكلمة و لم يعرف آلويس كيف نظر لسؤالها لكن ما أدركه أن رد فعله أيا كان لم يعجبها.

قالت بصوت يحترق غيظا : "لم تنظر إلي هكذا ؟! ألست أختك بالتبني ؟! أليس منزلك منزلي ؟!" انقطع صوتها لثوان .. ثم سمع صوت نشيجها المتداخل مع حسرة كلماتها "لو كنت أملك منزلا .. لو كانت لدي أسرة حقيقية .. ما كنت لأضطر للجلوء إلى أي منكم !"تحلى صوتها بالشراسة و هي تصيح : " أنتم حمقى ! جميعكم حمقى ! أنا أكرهكم !"

ثم ولت مبتعدة و شق صوت ركضها السكون السائد في الممر .. شد آلويس بيده الواهنة على غطائه .. استاء من نفسه بل إنه بدأ يمقتها ، كيف سمح له كبرياؤه أن يصل لهذا المستوى من الضعف حتى تضطر ابنة خاله الصغيرة إلى التوسل من أجله ؟! كيف سيجرؤ على النظر في عيني خاله و قد جعل طفلته المدللة تبكي ؟!

هتف ألبيرت في محاولة فاشلة لإعادتها : "لونا ! انتظري !"

قالت المرأة باشمئزاز : "طفلة وقحة ! سأذهب لأتصل بالشرطة !"

و كان الطرق الثقيل لكعب حذائها فوق الأرضية دليلا على شدة عزمها.

أبدى الرجل الآخر دهشته : "يا لها من طفلة ! من أين أتيتم بها يا ألبيرت ؟!"

قال ألبيرت بنبرة متوترة توح بالحرج و الندم أيضا : "في الواقع .. إنها .. " أخرج زفرة طويلة ضائقة و أكمل بصوت مغموم : "إنها ابنة إدمون آيون !"

شهق في صدمة : "ابنة إدمون آيون ؟! هل تمازحني ؟! ألم يمت جميع أفراد هذه الأسرة في الانفجار المروع قبل أكثر من عام ؟!"

"مات الجميع باستثناء لونا ! لقد حماها والدها .. بتضحيته !"

نبض قلب آلويس بعنف ارتج صدره له أثناء سماعه هذه الكلمات .. كان هناك في أعماقه - و حتى تلك اللحظة - صوت عنيد مكابر يرفض و ينكر رغم كل الدلائل أن تكون هذه الطفلة هي نفسها ابنة خاله التي قابلها قبل عدة سنوات ، لكن كلام ألبيرت غير المشكوك في صدقه بدد كل ريبة في قلبه بهذا الشأن . هذه الفتاة الصغيرة شاء أم أبى هي ابنة خاله إدمون .. ابنته الغالية التي ضحى بحياته لأجلها !


تنهد الرجل بأسف.. "فهمت .. في الحقيقة لقد أثار استغرابي أن تتبنى أمك طفلة صغيرة و هي في هذه السن .. هذا يفسر الأمر !"

"نعم .. أرجوك سيد دوفال ألا تذكر هذا الأمر أمامها ، فهي لا تعلم أي شيء عنه ، لقد فقدت ذاكرتها في الانفجار .. و ربما كان ذلك من مصلحتها !"

تأوه السيد دوفال بأسى صادق : "أوه يا إلهي ! حمدا لله أنك نبهتني على هذا قبل أن يزل لساني بشيء ! لا تقلق أبدا من المستحيل أن أذكر أمرا بهذه القسوة أمام الطفلة !"


كان وقع الصدمة أشد بكثير على آلويس ! إذن .. لونا لا تتذكر شيئا عن عائلتها ! لكن لماذا ساعدته إن كانت لا تعرفه ؟! لماذا طفلة بمثل سنها تجازف بحياتها لتنقذ شخصا غريبا عنها و تكافح بكل هذا الإصرار لتحميه ؟! إنه لا يستطيع أن يفهمها مهما حاول.

أضاف الرجل بعد برهة من التفكير الصامت : "إدمون رجل داهية و ابنته كما أرى تشبهه كثيرا ! أظن .. أنه كان حريا بنا الاستماع لكلامها أو على الأقل إعطاؤه قليلا من الاهتمام !"

تسلل الشك إلى صوت ألبيرت : "هل تعتقد ذلك حقا ؟!"

"أجل.. "

حينها عاد الكعب العالي ليطرق الأرضية مصدرا صوتا حادا .. أردف دوفال بقلة حيلة : "لكن لا جدوى من قول ذلك الآن ، فالشرطة في طريقها على أية حال !"

قالت المرأة باستنكار : "شرطة ؟! أية شرطة ؟!" أضافت بغضب : "لقد نزع أحدهم سلك الهاتف و أخذه معه ، و أظنني أعرف من يكون !"

ردد ألبيرت بتفاجؤ : "نزع سلك الهاتف ؟!" بينما ضحك الآخر ملء فمه.

قالت المرأة بحنق شديد : "لم تضحك يا أبي ؟!"

أوقف الأب تتابع ضحكاته بصعوبة و قال لألبيرت متجاهلا استفسار ابنته : "ليست تشبه أباها فحسب بل إنها دون مبالغة نسخة طبق الأصل منه !"

سأل ألبيرت بنوع من الدهشة : "أكنت على معرفة بإدمون سيدي ؟!"

"ليس تماما .. لكني التقيت به مرة في شبابي .. عندما كنت ما زال أعمل في المستشفى .. سأخبرك بالأمر لاحقا ! "أردف و هو يضحك : " فلنذهب الآن لإعادة الآنسة الغاضبة !"

أدار عينيه للسقف دون أن تفارق الدهشة تعابير وجهه .. تلك الطفلة ليست عادية ! أي جنون ترك خاله فيها ؟!

سرت ابتسامة خفيفة فوق شفتيه .. ثم أخذ يرتخي و يستسلم شيئاً فشيئا لنوم هادئ عميق ..


*****

على الجانب الآخر .. جلست الطفلة فوق أرض الحديقة الصلبة مسندة ظهرها إلى الجدار الخارجي للمنزل و رامية وجهها على ركبتيها الملتصقتين بصدرها .. كانت تصدر نحيبا خفيضا ثابت النبرة مع كون عينيها جافتين تماما !

تلف ذراعها اليسرى حول رأسها المختفية و تستخدم اليمنى لتحفر مخبأ مناسبا للسلك المسروق.
لم يكن ذلك النحيب في الواقع أكثر من تأثير مضلل للتغطية على عملها الحقيقي.

سمعت فجأة أصوات خطواتهم المتجهة نحوها ، فرفعت رأسها سريعا و أخذت تدعك عينيها حتى احمرت.
احتضنت ساقيها كطفلة صغيرة حزينة و رسمت عبوسا ظريفا على وجهها .. هتف ألبيرت فرحا و هو ينعطف إلى الجانب الذي تجلس فيه : "أنت هنا !"


أشاحت بوجهها سريعا متظاهرة بالانزعاج بينما يقترب منها ألبيرت خلفه دوفال .. قال الأول ملاطفا : "هيا لونا لا تنزعجي كانت مزحة لا أكثر نحن لن نتصل بالشرطة !" التفت إلى مرافقه يطلب التأييد "أليس كذلك ؟!"

رد المعني مبتسما "بالتأكيد !"

أدارت عينيها البريئتين بلون الزمرد البراق إليهما و سألت بصوت متردد فيه أثر بكاء "هل .. هذا صحيح ؟!" ( بالطبع لن تتصلوا أيها الحمقى فقد نزعت سلك الهاتف ، و كأنكم قررتم ذلك باختياركم ! )

تبسم ألبيرت بإشراق : "أجل !"

"و هل .. هل قبلت أن نأخذه إلى .. " ترددت لحظة قبل أن تضيف "منزلك ؟!"

تردد المعني بدوره و تبعثرت ابتسامته الواثقة "آه.. هذا.."

احتشدت الدموع في عينيها الواسعتين : "ألن تسمح له بالذهاب معنا ؟!" شدت على قبضتيها بغضب "إن لم تسمح له بالبقاء أنا أيضا لن أبقى و سأبحث عن منزل آخر !"

خلل أصابعه في شعره بعصبية و هو يتمتم "آه يا إلهي ما هذه الورطة ؟!"

رددت لونا مهددة : "لن أبقى دونه ، هل تفهم ؟!"

ستصاب أمه بالجلطة بمجرد سماعها هذا التهديد فكيف بتنفيذه ؟!

قلب المسألة في عقله للمرة الأخيرة .. رغم الخطورة المحفوفة بها إلا أنه لم يكن أمامه خيار سوى قبولها.
أطلق تنهيدة يائسة ثم رفع رايته البيضاء معلنا استسلامه "حسنا كما تريدين !"

قفزت و قلبها يرفف في السماء فرحا : "مرحى ! مرحى !"

و أخذت تدور حول نفسها بسعادة غامرة بينما تراقبها أعين الاثنين بدهشة و عجب.












رد مع اقتباس