الموضوع
:
إبداع متناثِر ~ 🔥باحثا عن ظلي🔥
عرض مشاركة واحدة
#
267
08-19-2016, 02:53 PM
Mygrace
الفصـل الخمسـون
*ذكرى محفورة في القلب*
أخذ يتقلب في فراشه و قد جافى النوم عينيه .. كان يشعر بضيق شديد لم ينفك عن صدره مذ تركته لونا و هي غاضبة .. كره نفسه و لعنها ألف مرة لتلفظه بتلك الكلمات و تمنى لو يستطيع العودة بالزمن للوراء ليلجم لسانه عن قولها . لم يتصور للحظة أنها قد تنزعج بهذا الشكل منه و تضرب عن زيارته ، فهي حتى لم تأت لتتمنى له ليلة سعيدة كما اعتادت أن تفعل كل يوم و قد جعل ذلك إحساسه بالذنب يزداد قوة.
زفر محاولا نفث ضيقه خارج صدره ، لكنه كان أكبر من يتلاشى بمجرد زفرة لذلك استلقى على جانبه الأيمن و هو يردد في نفسه (لا فائدة .. لا فائدة من تأنيب الضمير الآن يجب أن أنام و في الغد سأصالحها !)
ثم وجه فكره نحو أمور أخرى .. إلى رفاقه المتفرقين - الذين هم الآن دون أدنى شك يعانون وقتا عصيبا بسبب غيابه و انقطاع أخباره عنهم و ربما يكون خبر موته قد وصلهم عن طريق إيريك - يجب أن تكون أول خطوة يقوم بها إثر خروجه من هنا هي الذهاب إليهم و إيجاد طريقة للهروب خارج البلاد لفترة حتى تتوقف بشكل كامل دوريات التفتيش و الاستطلاع السرية التي تقوم بها المنظمة لتقفي آثارهم ، يجب أن يبقوا بعيدين عن خضم الأحداث و ينشغلوا بتقوية أنفسهم و ضم المزيد من الحلفاء و التابعين لهم ،ثم حين يحين الوقت المناسب يعودون مرة أخرى ليبدؤوا هجومهم الشامل.
عندما انهمك جديا في التفكير بهذه المسألة غافله النوم على حين غرة ، أسدل جفونه برفق و أضفى سكينة و راحة لم تألفها قسمات وجهه حال يقظته.
رفعت رأسها عن الوسادة و اعتدلت جالسة و قد بلغ الصراع في أعماق نفسها كل مبلغ ، ظلت مستغرقة في تفكير عميق ليس بخالص من تدخل عواطفها الجامحة حتى هجر النعاس عينيها قانطا و تركهما منتفختين من السهر.
زمت شفتيها بحدة و حملقت في الفراغ .. لقد ضاقت ذرعا بذلك الصراع الذي يكاد لا ينتهي ، يجب أن تضع حدا لكل تلك الأفكار و تقرر بسرعة.
اختلست نظرة إلى الجدة التي تغط في نوم هانئ بجوارها ، ثم وجهت ناظريها نحو دمية محشوة بشكل دب باندا تشغر جزءا من مكانها .. حملته بهدوء ثم نظرت في عينيه الخاويتين و همست بصوت لا يكاد يسمع : "ما رأيك ؟! هل ترى من الصواب أن أذهب إليه الآن ؟!" ألقت نظرة سريعة على الجدة لتتأكد من استغراقها في النوم ثم عادت تقول : "أنا أشعر بالقلق و الضيق فلم أطمئن عليه قبل ذهابه للفراش. "
تنهدت دون صوت ، ثم أشاحت بوجهها و قد ارتفع أنفها في عناد و كبرياء.
"لكني في الوقت ذاته لا أريد رؤيته ،فلقد أهانني و أمام الجميع أيضا !"
عادت لتطرق رأسها بيأس و تركت الدب يسقط في حجرها ، ثم أخذت تأرجح قدميها في شرود دام وقتا غير معلوم فالظلام كان يشوش عليها رؤية عقارب الساعة.
أخيرا .. أفاقت من سرحانها و حملت دبها بين ذراعيها ، ثم هبطت من السرير متجنبة قدر الإمكان إصدار أي صوت.
لم تكن مقتنعة كليا بقرارها ، لكنها وجدت نفسها تميل نحوه أكثر من غيره ، لذلك حسمت أمرها و غادرت الغرفة بهدوء شديد.
وقفت مترددة و قبضتها متعلقة بمقبض الباب .. ماذا سيقول عنها لو رآها الآن ؟! بل ماذا ستقول هي عن نفسها و قد جاءت إليه بقدميها بعد إهانته لها ؟! لكن ماذا لو كان نائما ؟!
نظرت لدبها تستلهم منه التأييد ، ثم ألصقت إذنها بالباب لتلقط ما استطاعت من أصوات ، لكن لا شيء سوى الصمت . لا شك أنه نائم الآن ، فالوقت قد تجاوز منتصف الليل . هي لن تقترب منه و لن تتحدث إليه في حال كان مستيقظا ، ستلقي مجرد نظرة من مكانها لتطمئن على حاله ثم تعود.
أخذت نفسا عميقا ، ثم أدارت المقبض و دفعت الباب بخفة و حذر .. ثم أجالت ناظريها في الغرفة دون أن تطأ أرضيتها . كان مستغرقا في النوم كما توقعت ، لكنها لم تنصرف بعد ذلك ، فقد لاحظت أن غطاءه قد انحسر عن صدره و تركه عرضة للهواء البارد المنبعث من المكيف .. لم تستطع رغم استيائها منه تجاهل هذا الأمر .. قد يموت إن أصيب بالتهاب في صدره و جراحه لم تبرأ بعد.
فوجدت نفسها تخطو إلى الداخل لتدوس مع كل خطوة تكابر كبريائها العنيد.
تركت دبها جانبا و أمسكت بطرف الغطاء ثم سحبته لتغطي صدره المكشوف و حاولت ما أمكنها تجنب النظر إلى وجهه .. إلا أنها تنبهت أثناء استدارتها لوجود شيء غير طبيعي كشفه ضوء القمر الخافت يعكر سكون تعابيره.
رفعت عينيها بقلق لتجد جبينه يتصبب عرقا و ملامح وجهه تتقلص ألما ، اقتربت أكثر و الخوف يتملكها ، ما به ؟! هل هو محموم ؟!
تلمست جبهته الرطبة لكنها لم تكن بالحرارة التي توقعتها .. ما خطبه إذن ؟!
و في وسط حيرتها و تخبطها تحركت شفتاه بوهن : "لا.. "
و أخذ يأن و يتقلب من الألم ، ثم رأت دمعتان تنحدران من بين جفونه المطبقة و تبللان صدغيه.
نظرت إليه بإشفاق .. إنه يحلم ، و ما يراه في حلمه لا يبدو سارا أبدا لذلك يجب أن توقظه.
هزته من منكبيه برفق كيلا تفزعه و فتحت فمها لتنادي "أورانج" لكن الكلمة غصت في حنجرتها تأبى الخروج فهتفت بدلا من ذلك : "هل أنت بخير ؟! أيمكنك سماعي ؟!"
و لم يكن الفتى خفيف النوم بحاجة لأكثر من ذلك حتى يفتح عينيه و يهب جالسا و هو يلهث كمن قطع صحراء قاحلة دون قطرة ماء.
لم يظهر أنه أحس بوجودها فما لاقاه في كابوسه كان أشد من أن يبرح ذهنه بهذه السرعة . كان ما يزال محدقا أمامه و الفزع عنوان نظراته عندما قالت بهدوء ليطرق صوتها المطمئن جدار عقله الواعي و يتمم صحوته : "هل أنت بخير ؟! هل تريد أن أوقظ ألبيرت أو لورا ؟!"
رفع وجهه نحوها و لوهلة لم يستطع التعرف عليها و لا تذكر سبب وجوده في هذه الغرفة ، فوضع يده على رأسه و أغمض عينيه ليحث عقله المنهك على استرجاع ما فقده من مدارك.
و لم يكد يفرغ من ذلك حتى أحس بذراعيها النحيلتين تطوقان عنقه . فتح عينيه بدهشة و الفتاة الصغيرة تمسد على شعره بلطف قائلة : "لا تقلق ! كل شيء على ما يرام ! أنت في أمان هنا.. "
ثم فارقته قبل أن يفارقه الذهول و اعتلت شفتيها ابتسامة صغيرة لم تكن كتلك المفعمة بالسعادة و المرح التي اعتادها منها ، لكنها عطوف و مطمئنة.
رفعت الغطاء لتحيطه به حتى كتفيه و هي تقول موضحة : "ستمرض إن تعرضت للهواء و أنت متعرق بهذا الشكل !"
ثم اتجهت نحو الطاولة الملاصقة لسريره .. ملأت كأسا من الماء و قدمته له
"اشرب لا شك أنك تشعر بالعطش !"
أخذ الكأس بصورة آلية و جلس يحملق فيه تارة و في من قدمته إليه تارة أخرى .. ثم رفعه إلى شفتيه و أفرغ كامل محتوياته في جوفه بجرعة واحدة في الوقت الذي التقطت فيه لونا جهاز التحكم في المكيف و رفعت الحرارة بضعة درجات.
حدق آلويس في الكأس الفارغة بشرود ، ثم نظر نحو الصغيرة التي أعادت الجهاز لمكانه و بدت من عجلتها بوادر الرحيل.
"لونا !"
قال بصوت خفيض تسوده نبرة توسل ، كان يبدو عليه أنه استعاد كامل وعيه و ذكرياته ، فالتفت المعنية نحوه بوجه خال من التعبير و انتظرت حتى واصل كلامه : "أ.. أما زلت غاضبة مني ؟!"
لم يطرأ أي تغيير على قسماتها و هي ترد ببرود : "و من الذي قد لا ينزعج عندما ينعت بالسخيف ؟!"
فتح عينيه على اتساعهما و قال بدهشة بالغة : "لم أقل عنك سخيفة !"
أدارت وجهها عنه و ظهرت شرارة غضب في صوتها : "ما قلته في الواقع أسوأ من هذا !"
"حسنا أعتذر إليك إذن ، فأنا لم أدرك أبدا أن كلامي سيجرحك !"
عقدت ساعديها فوق صدرها و قد تقطب جبينها "أنت فقط لم تبال !"
"لم تقولين ذلك ؟!"
عندها لم تعد قادرة على كبح جماح غضبها الذي جاهدت كي تخمده . وجهت بصرها إليه و ضيقت ما بين عينيها الغاضبتين قائلة : "لأنك كاذب ! ما قلته لي عن كون سعادتي هي سعادتك لم يكن أكثر من تملق زائف . أنت لم تر نفسك و أنت ترد على مزحة سامويل ، لم تشاهد نظرتك الثائرة و لم تسمع صوتك الذي يتميز غيظا ، كنت تعتبر فكرة ارتباطك بي شيئا مقززا و إهانة لا تغتفر لكبريائك !"
ثم سكتت لتلتقط أنفاسها المتلاحقة بعدما كاد نفسها ينقطع لشدة انفعالها ، ثم استدارت بحركة عنيفة مولية ظهرها له.
شعر حينها بضميره يضغط على قلبه بمخالب من حديد و لم يكن ذلك ما أذهله بل الصوت الذي انفجر ضاحكا في داخله حتى كادت ضحكته تخرج من فمه لولا أنه أطبق فمه بقوة.
تردد لبعض الوقت قبل أن يقول بأهدأ نبرة استطاعها : "لونا أنا آسف حقا .. لم أتصور أنك قد تفكرين بالزواج و أنت في هذه السن الصغيرة !"
انتفضت و قد تخضب وجهها بحمرة غامقة يتداخل فيها الخجل و الغضب و صاحت : "لـ.. لست كذلك أيها الأحمق ! لا تحاول أن تبرئ نفسك باظهاري بصورة الطفلة المنحرفة ! أنت تعرف جيدا ما قصدت بكلامي !"
لم يستطع السيطرة أكثر على رغبته القاهرة فانحنى للأمام و اهتز ضاحكا.
صاحت بصوت أعلى و جسدها الصغير يرتعد من فرط الغضب : "لا تضحك !"
لكن صراخها لم يزد ضحكه إلا قوة و استمتاعا ، كان منظرها مسل و هي تبدو كالهرة عندما يداس ذيلها ، تزمجر مكشرة عن أنيابها و تخرمش الأرض بمخالبها استعدادا للهجوم.
"قلت لك كف عن الضحك ، أنت تثير أعصابي !"
و حالما أحس بأنه يوشك على الخطو داخل حقل ألغامها تراجع و أمسك ضحكاته بصعوبة و تنحنح ليجلس باستقامة و وقار.
استرق النظر إليها بطرف خفي فوجدها ترمقه بنظرة مشتعلة ، دكت الأرض بقدميها بغضب و هي تتجه نحو دبها ، ثم التقطته و همت بالمغادرة لولا أنه استوقفها قائلا : "انتظري ! هناك شيء أود قوله لك !"
زمجرت بحنق : "لا أريد الاستماع إليك ، أنت برتقالة عفنة !"
"برتقالة عفنة ؟! حسنا إذن.. "
كان يتحدث بهدوء و لا مبالاة لكنها أحست بنبرة تهديد في صوته لذلك استدارت نحوه لتراه يحمل إبريق الماء و يرفعه فوق رأسه.
"إن لم تنصتي إلي حتى النهاية سأسكب هذا الماء على رأسي !"
قالت ببرود : "و ماذا يهمني ؟!"
"حقا ؟! ألا يهمك أن أتبلل بالماء في هذا البرد ؟! سأغرق جسمي بالماء ، ثم أصاب بالرشح ، ثم التهاب حاد في صدري ، ثم أموت ، ثم تجلسين على قبري تبكين و تعترفين لي بحبك.. "
صاحت بغيط و قد أضحى وجهها كبندوة ضخمة من شدة الاحمرار : "أنا لا أحبك أبدا !"
قال بمكر : "حقا ؟! لماذا جئت لتطمئني علي إذن رغم غضبك مني ؟!"
فأشاحت بوجهها قائلة بارتباك مضحك : "لـ.. لأن.. لأن ذلك واجبي ! فأنا من دعاك لمنزلنا !"
عاد يقول و ابتسامته الماكرة تتسع : "و هل الواجب من دفعك لاحتضاني أيضا ؟!"
لم تبد قادرة على الإجابة و قد اضطربت نظراتها من شدة الخجل و تصاعدت الدماء الحارة إلى وجهها لتغطي بياضه بحمرتها القانية.
و واصل هو مسرحيته المأساوية و قد غمره الشعور بالرضا و الانتصار لعدم قدرتها على الرد ".. ثم ستطلبين عفوي ، لكني لن أعطيك إياه و سأتحول إلى شبح و آتي كل يوم لأسكب الماء على رأسك و أنت نائمة ثم .. "
رمت بنفسها مغضبة فوق الكرسي و هي تضم دبها إلى صدرها بقوة "حسنا حسنا.. قل ما عندك و خلصني !"
أعاد الابريق لمكانه ثم نظر إليها متبسما ، لكن ابتسامته لم تفلح في تهدئة ثورتها ، تنهد ثم قال بجدية : "أعترف أني أناني و لا أراعي كثيرا مشاعر الآخرين . كان علي أن أنتقي كلماتي بعناية ، لكن ما حدث قد حدث على أية حال ، و كل ما أستطيع فعله هو أن أوضح لك وجهة نظري في الموضوع ، إن إنزعاجي مما يمكن أن ندعوه "نبؤة المغفل سامويل" لم يكن بسببك مطلقا ، أنا فقط لا أحب ذلك ، لا أحب أن يلصق أحدهم مستقبلي بفتاة ما و يجعل هذا الأمر يبدو حتميا و إن كان على سبيل المزاح . هل تفهمينني ؟! كنت سأغضب بذات الطريقة أيا كانت الفتاة !"
أخذت تتفرس وجهه بعينيها الحادتين بحثا عن أي إشارة تنبئ بالكذب و بعد فترة من التحديق قالت بعناد : "وما يدريني أن ذلك ليس كذبة أخرى ؟!"
"أنا لم أكذب أبدا فيما قلته ، أقسم لك !"
زمت شفتيها باستياء واضح و لم ترفع عينيها عنه .. بدت منشغلة بصراع عنيف يعتمل داخلها ، فلم يحاول آلويس التحدث إليها حتى تخرج بقرارها.
و إثر دقائق من الصمت أخذت تعابيرها تهدأ خلالها رويدا رويدا انتصبت واقفة فقال آلويس : "ماذا قررت ؟! هل سامحتني ؟!"
قالت ببرود الجليد : "و ماذا يمكنني أن أفعل غير ذلك ؟!" كاد يبتسم ابتسامة واسعة لولا أنها أضافت : "لا حيلة لدي إن كنت بليد الإحساس بالفطرة ! البلادة مرض في رأيي و المرضى لا حرج عليهم !"
حدق إليها و قد تصلب وجهه من الصدمة ، أما هي فواصلت طريقها إلى الباب بلا اكتراث و أردفت وهي تتثاءب : "يجب أن تخلد للنوم الآن فالوقت تأخر كثيرا !"
لكنه التقط من فوق الطاولة كتابا قد قرأه ثلاث مرات حتى تلك اللحظة .. و قال و صور فظيعة من الكابوس تطوف أمام عينيه : "لا .. لا أحسبني قادرا على النوم ، لذلك سأشغل وقتي بالقراءة !"
"لا يمكنك ذلك ، من الضروري أن تنام جيدا و بالقدر الكافي حتى تشفى بسرعة !"
تنهد و نظر نحوها بيأس : "لكنني لا أستطيع النوم كما قلت لك !"
حدقت إليه لفترة قبل أن تقول : "هل ذلك الكابوس هو السبب ؟!"
فأبعد عينيه عنها و ثبتهما على كتابته دون أن يصدر منه رد على سؤالها ، لكن صمته كان جوابا كافيا ، فتقدمت منه و لدهشته مدت له دب الباندا و توردت وجنتاها عندما قالت : "خـ.. خذه ! دعه يبقى معك هذه الليلة !"
حدق فيها ثم في دبها و قد بدت عليه البلاهة و عدم الفهم : "و لماذا قد أبقي معي لعبة أطفال كهذه ؟!"
قطبت جبينها و ازداد خداها حمرة ثم صاحت محتجة : "بون ليس مجرد لعبة ! إنه طارد الكوابيس !"
"هاه ؟!" و أخذ يحملق في وجهها فاغرا فاه من الدهشة "هل تريدين مني أن أجعله ينام بجواري ليطرد عني الكوابيس ؟!"
أومأت إيجابا بطريقة مرتبكة بعض الشيء ، فعقد الآخر ذراعيه و قال بكبرياء : "لا يمكن ! أنا لم أفعل ذلك حتى عندما كنت طفلا فكيف و قد كبرت ؟! هذه إهانـ.. "
لكنه ابتلع الأحرف الأخيرة من كلمته حالما انتبه لنظرة الاستياء الحادة التي ترمقه بها ، عليه أن يكون حريصا و لا يكرر غلطته السابقة فلم تمض أكثر من دقائق على تصالحهما.
استدرك و قد رسم ابتسامة سريعة على وجهه : "أعني .. أني لست معتادا على فعل ذلك .. لكن لا مشكلة في التجربة ، أقبل عرضك بكل سرور !"
و كان لذلك التدارك السريع تأثير كبير على انزعاج لونا ، فابتسمت هي الأخرى برضا و سلمته الدب قائلة : "جيد ، لكن تذكر ! عليك أن تثق تماما بقدرة بون إن أردت نتيجة مضمونة !"
كان يشعر بعضلات وجهه تتشنج من الابتسام و قد بذل للحفاظ على ابتسامته المتكلفة جهدا ليس بالقليل.
"حسنا فهمت !" و رفع الدب إلى مستوى وجهه و قال : "أعتمد عليك يا بون !"
اتسعت ابتسامة لونا في سرور ، لكن ابتسامة آلويس على النقيض منها أخذت تتضاءل فجأة و نظر نحوها سائلا : "لكن ماذا عنك ؟! هل ستكونين بخير من دونه ؟!"
"لا تقلق بشأني فأنا أنام مع جدتي ، و عندما أكون معها لا أشعر بالخوف !"
تنفس الصعداء و قال بارتياح : " هذا مطمئن .."
"حسنا إذن.. يجب أن أتركك لتنام الان .. ليلة سعيدة !" لكنها توقفت قبل أن تفتح الباب و تطلعت إليه من فوق كتفها و أضافت : "صحيح نسيت أن أخبرك !"
رفع عينيه عن الدب الذي اتخذ له مكانا على سريره و نظر نحوها متسائلا ، فتابعت مع ابتسامة غامضة تنذر بالخطر : "لقد سامحتك هذه المرة لأنك في فترة نقاهة لكن إن أغضبتني مجددا .. لن أكون متساهلة و أغفر لك ببساطة ! تذكر ذلك !"
ثم خرجت بهدوء كما دخلت و ظل آلويس يحدق في خيالها لبرهة طويلة قبل أن يتنهد باستسلام و يغرق في فراشه الناعم إلى جوار الباندا حارس أحلامه لهذه الليلة.
أدار رأسه مزموم الشفتين لينظر بانزعاج طفيف إلى وجه الدب الملون بالأبيض و الأسود و الابتسامة البلهاء التي تعلوه و تزيد شعور آلويس بالخزي و الخجل من نفسه.
"حتى أنت تسخر مني ؟!"
ثم فجأة صدر عن الباب صرير خافت و انفتح قليل ليطل رأس سامويل بشعر أشعث و عينين شبه مغلقتين ، أجال بصره في الغرفة قبل أن يتوقف أخيرا على وجه آلويس ، تبسم و هو يقول هامسا : "جيد ، تبدو سليما !" ثم استرق نظرة توجس وراءه و أردف بصوت أخفض : "كنت كامنا في الممر أراقب غرفتك خشية وقوع إصابات ! لقد أيقظني صياح تلك المتوحشة من نومي فزعا !" و اهتز ضاحكا : "حسبتها ريبيكا ، ثم تذكرت أنني لست في منزلي و كم كان ذلك مطمئنا لي !"
فتبسم آلويس رغم عنه ابتسامة أشبه بالضحكة ، إنه ليس الوحيد الذي يعاني مع مثيلات ابنة خاله.
******
مضى الوقت و أخذت عقارب الزمن تسير سريعا و لم يشعر آلويس إلا و قد بلغت فترة نقاهته يومها الثامن . لم يكن هذا اليوم يختلف بشكل كبير عن سائر ما فات من أيام سوى أنه كان أقلها أحداثا ، و قد أصبح المنزل ساكنا شبه فارغ بعدما انطلق ألبيرت إلى عيادته في الصباح الباكر و نزلت الجدة مع سامويل إلى السوق لشراء بعض الهدايا لصديقاتها في بريطانيا و لم يبق بين جدران المنزل غير لونا ، آلويس ، و الممرضة.
فتح الفتى عينيه بعد قيلولة لم تستغرق أكثر من ساعة ، فوجد نفسه وحيدا في غرفته . هز كتفيه و اعتدل جالسا .. ربما ذهبت لورا للمطبخ حتى تعد لها كوبا من القهوة ، إنها تفعل ذلك عادة في مثل هذا الوقت من النهار ، أما لونا فلا خبر لديه بشأنها . يحتمل أنها نزلت إلى الشاطئ فإجزاتها تكاد تنتهي و أقدامها لم تطأ رماله فضلا عن السباحة في مياهه الباردة.
نهض من فراشه و سار نحو الباب متمهلا .. لقد تحسنت حال أطرافه كثيرا و أصبح قادرا على المشي و إن كان بسرعة محدودة و لمسافات قصيرة.
كانت الممرضة في المطبخ كما دله صوت احتكاك الأكواب بسطح المنضدة و جر الكراسي فوق الأرضية.
فاتجه إلى المكتبة و قدماه بالكاد تصدران وقعا ، كان حريصا على ألا تعلم الممرضة بخروجه من غرفته وحده فذلك لن يسرها.
فتح باب المكتبة ببطء .. و خطى إلى الداخل ، يبدو أن ألبيرت اهتم بهذه الغرفة أكثر من أي واحدة أخرى في منزله ، كانت كبيرة ، مرتبة و رفوفها الكثيرة مكتظة بمختلف أنواع الكتب.
أخذ يتجول بين الرفوف و يطالع ما حوته بحثا عما قد يثير اهتمامه و يشغل وقته ، و بينما كان ينتقل من رف لآخر لمح بطرف عينه كتلة من الشعر الأحمر ، فترك ما بيده و مد رأسه ليجد لونا جالسة بهدوء أمام طاولة القراءة و منهمكة في قراءة كتاب ما.
بخطوات صامتة تسلل آلويس و توارى خلف أقرب رف إليها . لم يرد أن يقاطع قراءتها كما أنه كان يشعر بالفضول حول ما تقرأ ، فألقى بحذر نظرة إلى عنوان الكتاب .. لم يكن كتابا بوليسيا أو غير ملائم لسنها كما تصور و إنما رواية واقعية هادئة تدعى "الحديقة السرية"
تبسم آلويس بينما يراقبها من مخبئه ، يبدو أنها فضلت أن تنوع في الأصناف التي تقرأها حتى لا يصيبها الملل.
لكن ابتسامته تجمدت من هول المفاجأة .. و رفع كلتا يديه ليغلق فمه بإحكام و يكبت ضحكته المدوية.
تمتم في نفسه و الضحكة المحبوسة توشك أن تخنقه ( تلك الطفلة .. لا تصدق ! هل يعقل أنها و بعد كل ذلك الوقت ما تزال ملتزمة بعادتها في التهام الكتب ؟! )
كانت لونا تمضغ الصفحة الأخيرة من الرواية بتلذذ و تحادث نفسها : "ليست سيئة مع أنها أكثر ملوحة من سابقتها ! الكتب الجديدة مذاقها أشهى من القديمة ذات الملوحة الزائدة !"
واصلت أفعالها الغريبة و شبكت أصابع يديها كما لو كانت تصلي و قالت : فرانسيس هودسون برنيت ! الذكاء و الإبداع الذي تملكينه يجري في دمائي الآن ! شكراً لك !
و تشبث آلويس بأحد الرفوف كيلا يقع أرضاً ، فأسقط دون أن يلحظ كتاباً وضع على حافة الرف.
تحرك بسرعة ليبتعد عن المكان لكن لونا سبقته بقفزتها المفاجئة أمامه و سدت مهربه.
بدت متفاجئة لرؤيته هناك لكن دهشتها سرعان ما اختفت وحل محلها استياء وإحراج طفيف ، وجهت نحوه سبابتها في اتهام قائلة : "لم أنت هنا ؟! هل يعقل أنك كنت تتجسس علي ؟!"
لوح الويس بيديه نافيا : "لا إطلاقاً ، جئت فقط للبحث عن كتاب أقرؤه !"
ثم رسم على وجهه ابتسامة خلابة يدعم بها براءته ، فيما قالت لونا مؤنبة : "ولماذا أتيت إلى هنا بنفسك ؟! ألم يطلب إليك ألبيرت المكوث في فراشك وعدم القيام بأي نشاط غير ضروري ؟! كان عليك أن تطلب ذلك مني بدل أن ترهق نفسك !"
قال آلويس بصدق : "ظننتك تلعبين على الشاطئ كما تحبين أن تفعلي في الغالب !"
تنهدت الصغيرة و قالت بعدما استعادت هدوءها : "أنا لا أفعل ذلك في الوقت الحالي فلدي مريض علي العناية به !"
قال آلويس مداعبا و هو يشير إلى نفسه : "و الذي هو أنا صحيح ؟!"
وضعت لونا يديها حول خصرها قائلة : "نعم ، و هل هناك غيرك ؟!"
فهمس آلويس بابتسامة عذبة : "ليس عليك البقاء بجانبي دائماً فالممرضة موجودة في حال احتجت إلى شيء !"
صاحت في وجهه عابسة : "أحمق ! لا أفعل ذلك لأنني مجبرة بل لأنني أحب الجلوس معك وأستمتع فيه أكثر من أي شيء آخر !"
تبسم آلويس لكن في سره ، فقد خشي أن تفضحه ابتسامته إن ظهرت للعلن . يبدو أن لونا قد نسيت أو بالأحرى تناست ما حدث من صدام قبل بضعة أيام و عادت لسالف عهدها واضحة و صريحة في عواطفها.
سألها بعد ذلك وهو يكافح كيلا يضحك : "لا أقصد التطفل على خصوصيتك ، لكن ما الذي فعلته قبل قليل ؟!"
نظرت إليه مطولا .. ثم فجأة راحت تلوح بذراعيها و تقفز حوله مؤدية حركات أشبه بالرقصات الأفريقية ، و لم يستطع آلويس منع نفسه من أن يقول : "هل هذه رقصة الهنود الحمر ؟!"
توقفت لونا و قالت بجدية : "لا.. أنا أحاول محو ذاكرتك !"
أفلتت ضحكة من بين شفتيه ، فقال محاولا أن يصلح الأمر : "لكن يبدو أنها لا تعمل اليوم جيداً ! فأنت لم تتناولي غداءك بعد !"
هتفت لونا : "صحيح أنت محق !"
و أضاف : "كما أنك لست مضطرة لفعل ذلك ، فأنت تثقين بي صحيح ؟!"
ترددت قليلاً لكنها حزمت أمرها في النهاية و قالت : "أظن هذا !"
"حسناً إذا كان الأمر كذلك ألن تخبرني بما كنت تفعلين ؟!"
فتنهدت لونا و قالت بثقة : "لا بأس ، لأنك أفضل أصدقائي سأخبرك .. بأعظم سر لدي ! يجب أن تكون فخوراً لكونك أول من يعرف بأمره !"
قال آلويس على الفور و قد أعد نفسه لمواجهة صدمة أخرى : "بالتأكيد !"
أخذت لونا نفساً عميقا قبل أن تقول متفاخرة : "إذن .. سر ذكائي الخطير الذي يتساءل الجميع عنه .. هو كما رأيت بنفسك .. أكلي للكتب ! مع كل ورقة ألتهمها يزداد نبوغي و عبقريتي !"
هذه المرة كان آلويس على أتم استعداد فلم تغدر به ضحكته و تخرج رغما عن إرادته ، طمسها داخله بشكل كامل ثم سأل باهتمام مقنع : "لكن ألا يكفي أن تقرئيها فقط !"
نفت الطفلة بشكل قاطع و قالت بحماس مفرط : لا ، القراءة وحدها غير كافية . يجب أن تأكلها ليتشرب دمك الفن والإبداع فيها ، و لتجعل تلك الكلمات والعبارات الملهمة تجري في عروقك طيلة حياتك !"
من حيث الظاهر ظل آلويس محافظا على هدوئه ، لكن أحشاءه كانت تهتز من قوة ضحكاته المكتومة ، و بينما هو يقاوم محاولاتها العنيفة في الصعود إلى حنجرته أخذت لونا تتمتم بكلمات لم يسمعها لكن نهاية جملتها رنت في أذنيه و جعلت شعر رأسه يقف.
"...لكنك لن تستوعب كلامي ما لم تجرب و تشهد تأثيرها بنفسك !"
رفع عينيه نحوها باندهاش يسوده الرعب و سرعان ما غطى تعابيره تلك بابتسامة متوترة و قال : "في الواقع .. أنا .. "
لكن لونا لم تول كلامه أي اهتمام بل تلفتت إلى الرفوف حولها و همهمت حائرة و هي تمعن النظر في عنواين الكتب : "ماذا نختار ؟! ماذا نختار ؟!"
كانت تبحث بحماس عن كتاب مناسب لتحمل آلويس على التهامه و تذوق طعم أفكارها المريعة.
و نظر آلويس نحو الباب آملا أن تظهر الممرضة بوجهها المتجهم و تنقذه من جنون هذه الطفلة ، لكن رجاءه بدا بعيد المنال.
ثم ضرب جبهته بيده و قد تنبه لأمر فاته رغم بسطاته و وضوحه ، قال محاولا قدر استطاعته ألا يبتسم أو يظهر أي تعبير يدل على السعادة : "لكن يا لونا أليست هذه كتب ألبيرت ؟!"
انتفض جسدها الصغير و بدا الرعب في عينيها ، لا شك أن عادتها العجيبة قد أنستها هذه الحقيقة ، فأكمل آلويس و قد أرضاه رد فعلها كثيرا : "لا أظنه سيسر بتمزيق كتبه أليس كذلك ؟!"
ظلت لونا متخشبة في مكانها لفترة ليست طويلة فقد استعادت ثقتها و نظراتها الحازمة فجأة و اتجهت إلى طاولة القراءة .. التقطت الكتاب ذي الصفحة المفقودة و أعادته إلى موضعه في الرف القريب من النافذة ، ثم التفت نحو آلويس و قالت بلهجة لها مغزاها : "أنت لم تر شيئا صحيح ؟!"
أومأ آلويس و قد بذل جهدا مضنيا كيلا يضحك : "بالطبع !"
*******
لم تخفف الفترة التي أقام فيها آلويس عند أسرة آردوان - رغم ما ملأها من هدوء و ارتياح و أوقات مسلية مع لونا - من قلقه على رفاقه و شعوره المتنامي بضرورة رحيله بل أخذا في الازدياد مع كل يوم يمر.
أراد الالتحاق بهم بأقرب فرصة ، لكنه في الان ذاته لم يعرف إن أصبح من الآمن التجول في المدينة و الذهاب لمكان اللقاء المتفق عليه ، هذا باستثناء أنه لم يستعد كامل قواه بعد ، رغم الشوط الكبير الذي قطعه في طريق شفائه و التحسن المدهش الذي طرأ على حالته الصحية و أثار إعجاب ألبيرت و الدكتور دوفال.
و لم يتوقع أن اليوم العاشر سيكون الأخير لرحلته الجميلة التي لم يكتب لها الدوام.
كان على غير العادة متواجدا في غرفة المعيشة يتوسط لونا و سامويل فوق أريكة مريحة و قد صفت لونا الوسائد خلف ظهره لتزيد وضعية جلوسه راحة و رخاء.
انشغل الاثنان في حل لغز الكلمات المتقاطعة الذي صادف لونا و هي تقلب صفحات المجلة بلا اهتمام ، بينما قضى سامويل أغلب وقته في مشاهدة دوري كرة القدم الذي تعرضه إحدى القنوات المحلية.
كان كل شيء هادئا يسير كما المعهود إلى أن رن جرس الباب . رفع آلويس و لونا عيونهما عن المجلة و نهض سامويل ليرد على الطارق.
لسبب ما راح قلب آلويس يقرع كالطبل في صدره كما لو أنه استشعر وجود شيء غير طبيعي .. أو حتى خطر !
و جاء الصوت الناعم ذو الرنة المدللة ليقطع الشك باليقين و يتمم كابوسه :
"مساء الخير !"
هب آلويس واقفا على حين غرة من لونا التي فزعت و أسقطت المجلة على الأرض.
سألت بقلق : "ما بك ؟!"
لكنه لم يرد و لم يبد أنه سمعها أصلا ، كانت عيناه مثبتتان على باب غرفة المعيشة الموارب و عقله يعمل دون توقف في محاولة لإيجاد حل ينقذه من هذا المأزق.
عاد الصوت الحالم ليقول فيتردد صداه في الممر : "أعتذر على إزعاجكم ، لكني أبحث عن طفل مفقود منذ عدة أيام و جئت لأسأل إن كنتم رأيتموه في أي مكان.. "
كرر سامويل باستغراب : "طفل مفقود ؟!"
"نعم .. أمهلني لحظة من فضلك .."
لم يتريث آلويس أكثر و اتجه نحو الباب تاركا لونا تتخبط في حيرتها ، وقف عند العتبة و مد رأسه قليلا . كان جسد سامويل الضخم يحجب رؤية الشخص الذي يقبع عند الباب .. لكن خصلات ذهبية ظهرت من تحت ذراعه و هي تتمايل مع الرياح و تلمع في ضوء الشمس.
و لم يكن في حاجة ليقف على أطراف أصابعه كي يحصل على نظرة غير واضحة للصورة التي أعطتها المرأة لسامويل ، فهو بالفعل يعرف لمن تعود و يعرف أكثر من أي شخص آخر الوجه الذي يظهر فيها.
انقبض صدره و تحلت نظراته المتعلقة بالشعر الذهبي بقسوة فجائية . لا يمكن ! كيف استطاعوا الوصول إليه بهذه السرعة ؟! بل كيف توقعوا أصلا أن يكون هنا ؟!
يجب عليه أن يتصرف ، يجب أن يتلاحق الموقف قبل أن تسد أبواب الحلول في وجهه ، لكن ماذا يفعل ؟! كيف سيواجههم و هم واقفون على أعتاب المنزل ؟!
كاد يقفز فزعا عندما أمسكت لونا يده .. تنفس الصعداء و هدأت أعصابه المشدودة حين رآها.
قالت و قد بلغ قلقها مرحلة الخوف : "هل أنت على ما يرام ؟!"
هز رأسه كاذبا و لم تبد لونا مقتنعة بصدقه و لو قليلا.
عاد آلويس ليوجه ناظريه نحو الباب لكن هذه المرة مترقبا رد فعل سامويل الذي أعاد الصورة للمرأة بعد أن فحص كل بوصة فيها.
لم يقل شيئا فكررت المرأة سؤالها : "هل سبق لك أن رأيته يا سيدي ؟!"
و قبل أن يفتح فمه اندفعت لونا متجاوزة آلويس و وقفت إلى جوار سامويل قائلة : "ما الذي يجري ؟!"
تنحى سامويل عن الباب قليلا ، فاختبأ آلويس وراء الجدار قبل لحظة واحدة من أن تلمحه عينا المرأة الشقراء ، و التي كانت في الواقع ابنة عم السيد هوغو .. سوزان !
انحنت سوزان و رسمت على شفتيها ابتسامة وديعة و هي تحادث لونا : "أنا أبحث عن طفل مفقود يا عزيزتي.. " و مدت لها يدها بالصورة و أضافت : "هذا هو ! فهل رأيته ؟!"
لم يكن في مقدور آلويس أن يشاهد ما ارتسم من تعابير على وجه لونا إذ كانت تدير ظهرها له ، لكنه سمع نبرة صوتها الهادئة و هي تقول بدهاء : "لا .. لم أره ، لكن لماذا تبحثين عنه ؟! لا يمكن أن تكوني أمه فأنت أصغر سنا من ذلك ، و لا أن تكوني أخته فأنتما غير متشابهين أبدا !"
للحظة لمح مكرا مريبا يتخلل نظرات سوزان المثبتة على لونا ، لكنها سرعان ما غطت عليها بابتسامة لطيفة : "أنت ذكية يا عزيزتي ، أنا في الواقع صديقة مقربة لوالدته و قد تفرقنا نحن الاثنتان للبحث عنه في المدينة !"
طفل مفقود و أمه تبحث عنه ؟! هل هذه هي المسرحية التي ابتكرتها المنظمة لتبعد شبهات الناس و تضمن تعاونهم معها ؟! ليست سيئة حقيقة و أداء سوزان لدورها كان مقنعا.
لكن ابنة إدمون لم تكن سهلة الإقناع أيضا ، ثنت ذراعيها و قالت ببعض البرود : "أها .. و كيف فقد هذا الفتى إذن ؟!"
كانت تتحدث بطريقة من يرمي لغزا و ينتظر أن تحله ، كما لو كانت تقول بين كلماتها "أريني أيا كذبة ستختارين بهذا الشأن !"
تنهدت سوزان بعمق ثم أجابت بنبرة متعبة و وجه مهموم : "لقد تشاجر مع والدته ، إنها إمرأة سريعة الغضب إلى حد ما و هو طفل سليط اللسان أيضا.. "
تجعد جبين سامويل و بدا عليه الاستغراق في التفكير ، أما لونا فالتزمت الصمت لمدة .. و فكر آلويس أنها تبحث عن ثغرة في الحكاية لتبني عليها هجومها التالي و لم تمهلها سوزان الفرصة حتى تأتي به و قالت بصوت مؤثر : "إن كان لديكم أية معلومات بشأنه فنرجوكم أن تخبرونا بها ، نحن نبحث عنه منذ أيام .. والدته في حالة يرثى لها ، إنها لا تأكل و لا تنام إلا قليلا و تقضي كل وقتها هائمة في الطرقات تنادي باسمه .. و إني .. إني أخشى أن تقدم على فعل متهور ما لم نعثر عليه بسرعة !"
كان صوتها آخذا في الارتفاع و هي تتكلم حتى أن ألبيرت خرج من المكتبة قلقا ، و أطلت الجدة و لورا من المطبخ و علامات الاستفهام تلوح على وجهيهما ..
لكن أحدا غير آلويس لم يلحظ التغيير الطفيف الذي طرأ على لهجتها حين نطقت عبارتها الأخيرة ، كان نذيرا ! نذيرا لشخص لا تراه لكنها تعلم بوجوده و أنه يسمعها الآن أيا كان المكان الذي يختبئ فيه.
تقدمت الجدة و وزعت نظراتها المستفسرة بين الثلاثة عند الباب ، ثم توقفت عيناها على ابنها الأكبر و سألت : "ماذا هناك يا سامويل ؟!"
"أنا آسف.."
و استدارت الوجوه كلها لتنظر بدهشة نحو الفتى محور النقاش ، وحدها لونا من تطلعت إليه بعينين مرعوبتين.
دنا من الباب هادئ الخطى و قد سقطت كل التعابير من وجهه ، ثم قال موجها كلامه لسوزان التي لم تفلح في منع ابتسامة الظفر من اعتلاء شفتيها : "أنا آسف لما سببته من قلق .. لنذهب !"
هتفت و الفرح يكاد يسيل من عينيها دموعا : "أوه يا عزيزي أنا حقا.. "
ثم حاولت أن تحضنه ، لكنه دفعها عنه و قال ببرود : "لا أحب أن يلمسني أحد.. "
لم تبد سوزان أي انزعاج من تصرفه ، ظلت مبتسمة و هزت كتفيها كما لو كانت معتادة على تقبل غطرسته.
هتفت لونا دون أن يبرح الخوف ملامحها : "هل صحيح ما تقوله هذه المرأة ؟!"
نظر آلويس إليها ثم أطرق رأسه كيلا تفضحه عيناه و قال : "نعم.. "
كانت حنجرته تؤلمه مع كل حرف ينطقه ، لم يرد أن يقول ذلك .. لكن لا خيار آخر . المنظمة تعلم بوجوده عند أسرة آردوان و في حال أنكر ما تقوله سوزان و رفض تسليم نفسه لهم لن يترددوا لحظة في قتل هذه الأسرة و القضاء على بريق الأمل الوحيد الذي يضيء حياته المظلمة.
سيفعل أي شيء .. كيلا تكرر مأساة آيون و إيفرهارت ، حتى لو تتطلب ذلك أن يضحي بحياته !
انتشله وقع خطواتها من قاع أفكاره .. نظر نحوها و هي تدنو إليه .. كانت تبتسم رغم الدموع التي تتجمع في مقلتيها بكثافة.
"إن كان لديك أم .. فلا ينبغي أن أقلق عليك .. أليس كذلك ؟! ستكون بخير .. صحيح ؟!"
و لم تستطع السيطرة على عواطفها أكثر ، فاندفعت نحوه و ارتمت في أحضانه باكية.
"سـ.. ستكون فـ.. في أمان.. أليس كذلك.. يا أ.. أورانج ؟!"
أحاط ظهرها المرتعش بذراعيه و لم تعرف الكلمات طريقها إلى حلقه .. هذه المرة تخلى عقله عن سلطته و استلم قلبه الذي كان يدك صدره بنبضه العنيف زمام القيادة ، و دون أن يدري كيف .. وجد دموعه تخط طريقها المبلول على خديه و تتساقط كقطرات المطر على وجه لونا لتختلط عبراتهما و تتآلف أتراحهما.
كانت الممرضة و أفراد أسرة آردوان متسمرين في أماكنهم يراقبون الطفلين بتأثر بالغ ، أما سوزان فبدت ابتسامتها غامضة.
و بعد فترة من العناق الباكي لم يعرف أي منهما مقداره أنزلت لونا ذراعيها و قد احمر وجهها و بياض عينيها بشدة ، أخذت تشهق و تدعك جفونها بيديها المهتزتين.
أما آلويس الذي سالت دموعه دون أن تترك خلفها احمرارا واضحا ، فانحنى نحو الصغيرة ثم جذب رأسها برفق و قبل جبينها .. أبعدت يديها عن عينيها لتنظر إليه يبتسم لها بمحبة و امتنان شديدين و يقول :
"شكرا جزيلا لك على كل ما فعلته من أجلي !"
عضت شفتيها و الدموع في عينيها تعاود احتشادها بغزارة أكبر ، و انتصب آلويس واقفا ليجول بناظريه بين الوجوه المتجهة نحوه و قال مبتسما : "أشكركم جميعا على استضافتكم الكريمة لي و عنايتكم بي كل هذه الفترة ! سأظل مدينا لكم طول عمري !"
حك ألبيرت رأسه بإحراج ، و على خلاف عادتها تبسمت لورا بلطف ، و كذلك فعل سامويل ، أما الجدة فدمعت عيناها مثل لونا و اقتربت لتعانقه بحرارة و هي تقول : "اعتن بنفسك يا صغيري و كن بارا بوالدتك فهي أكثر من يستحق إحسانك !"
تدخلت سوزان قائلة : "أ.. هل يمكننا الذهاب الان ؟!"
فهتفت لونا برجاء : "ألا يمكنه البقاء هذه الليلة فقط ؟!"
"أنا آسفة حقا يا عزيزتي لكن والدته تنتظره على أحر من الجمر !"
اتجهت لونا نحو آلويس و سألت بتوسل : "ألا يمكنك أن تخبرنا بعنوانك حتى نأتي لزيارتك ؟!"
شاب ابتسامته قدر كبير من الحزن و الحسرة و هو يجيب : "للأسف لا يمكن ، فنحن سنسافر في أول طائرة إلى روسيا و لا أعرف بالتحديد أين سنقيم هناك !"
طاطأت رأسها بخيبة عظيمة و تمتمت بحرقة : "إذن لا نستطيع أن نلتقي مرة أخرى ؟!"
مسد على شعرها الناعم مواسيا و اعتصر قلبه ألما و هو يتلفظ كلمات كانت قاسية بحق نفسه أكثر ممن سواه : "لا أدري .."
رفعت رأسها محاولة إنعاش روحها بالنظر للجوانب المشرقة .. على حد علمها.
"لكنك ستكون بخير .. أليس كذلك ؟!"
خلل أصابعه بين خصلات شعرها الحمراء بلطف و أجاب و قد عزم بكل جوارحه على جعل الكلمة التي ينطقها حقيقة : "نعم !"
فتبسمت رغم الحسرة التي تحرق جوفها و قالت : "انتظرني قليلا هنا .. لن أتأخر !"
و انطلقت تعدو نحو السلالم وارتقت درجاتها سريعا.
قالت الجدة و هي تمسح دموعها التي بقيت معلقة على حافة جفونها : "لقد اشتريت لك يوم أمس حقيبة صغيرة و ملابس لترتديها عند خروجك.. "
"شكرا لك سيدتي.. "
"تعال معي كي أعطيك إياها.. "
ثم ألقت نظرة من فوق كتفها على سوزان التي اتكأت على الباب بتعب و أوشكت أن تنام و هي بهذه الوضعية ، قالت الجدة معتذرة : "اعذرينا على جعلك تقفين عند الباب كل هذا الوقت يا آنسة ، لقد أنسانا الموقف كل ما سواه ، تفضلي إلى غرفة الجلوس !"
لكن سوزان لوحت بيدها رافضة و ابتسمت بلطف : "لا عليك سأنتظر في الحديقة ، إنها جميلة جدا بالمناسبة !"
ابتسمت الجدة بدورها فخورة لهذا الإطراء ، و ذهبت مع آلويس لتسلمه أشياءه . و بعدما فرغ الأول من تبديل ثيابه علق رباط حقيبته على كتفه و سار إلى الباب ، و قبل خروجه جاءته الممرضة بكيس أدويته و وضعته بعناية في الجيب الجانبي للحقيبة ، ثم رافقته مع الجدة إلى الحديقة حيث وقفت سوزان تجري حديثا ضاحكا مع الأخوين ألبيرت و سامويل.
تلفت آلويس حوله باحثا عن الفرد الناقص ، و تساءلت الجدة مستغربة : "أين ذهبت لونا ؟!" ثم عادت للداخل.
هتفت سوزان بلهفة : "هل ننطلق إذن ؟!"
فقال سامويل موبخا بطريقته المرحة : "لم العجلة ؟! انتظري على الأقل حتى تصل خطيبـ.. " ثم سحب كلمته الأخيرة و عينه تختلس نظرة ماكرة نحو آلويس "..أعني حتى تصل لونا ! قد تقضين بقية حياتك على كرسي متحرك إن اعترضت رغباتها !"
أومأ ألبيرت مؤيدا فضحكت سوزان ملء فمها و قالت : "حسنا !"
أما آلويس فكان ينظر إلى المرأة الشقراء مفكرا في كيفية القضاء عليها قبل انضمام المزيد من رفاقها إليهما.
و بعد دقيقتين خرجت الجدة بصحبة لونا التي كانت تبتسم و تخفي يديها خلف ظهرها.
سارت نحو آلويس و ما إن توقفت أمامه حتى تورد وجهها و تحركت يداها لتكشفا ما تحملانه.
فغر آلويس فاه عندما سقطت عيناه على الباندا أو كما تدعوه لونا بون.
رفعته إليه وقالت بخجل مماثل لذلك الذي ظهر عليها حينما عرضت أن ينام بقرب آلويس : "خـ.. خذه !"
كاد سامويل و شقيقه أن يضحكا لولا أن الجدة لكزت كل منهما في خاصرته و زجرتهما بنظرة حادة من عينيها.
قال آلويس مندهشا : "و لكن .. لكنه ثمين جدا بالنسبة لك !"
"أعـ.. رف ! و لهذا أعطيك إياه ! أريدك أن تحتفظ به كذكرى مني !"
ابتسم آلويس ببهجة كبيرة صادقة لم تعكر جمالها أية علامة تدل على الإحراج أو الخجل ، لم يعد يهتم مهما بدا طفوليا هذا الباندا ، إنه أغلى ممتلكاتها و قد قدمت إليه بلا تردد.
أخذ الدب من يديها ثم عانقها بحرارة و قوة حتى أحس بجراح صدره شبه الملتئمة تحرقه
ثم انحنى ليضع الدب بحرص في الجيب الكبير الحقيبة.
و عندما استقام أحس بيد سامويل الثقيلة تربت على كتفه
"اهتم بنفسك !"
و صافحه ألبيرت مبتسما : "التزم بالتعليمات التي دونتها لك و أبعد نفسك عن المشاكل ، جيد ؟!"
قالت الجدة بعاطفة جياشة : "إن حصل وأتيت لبريطانيا فلا تنس أن تمر لزيارتنا نحن نقيم في مانشستر !"
هزت لونا رأسها بقوة وقد سرتها هذه الدعوة كثيرا : "أجل ! تعال لزيارتنا !"
فأومأ آلويس و قد اتسعت ابتسامته رغم حسرته و ألمه الخافيين عنهم ، و
قالت الممرضة بابتسامة خفيفة : "وداعا !"
و انطلق آلويس برفقة سوزان و هو يلوح و يرسل ابتساماته لهم حتى غاب عن النظر.
******
تنهدت سوزان بارتياح و قالت : "تلك الطفلة تشبه والدها إلى حد كبير . كان دوما حذقا صعب الإقناع و هي تماثله تماما في هذه الصفات !"
قطب آلويس جبينه و قال بغطرسة : "أطبقي فمك ! أنت مزعجة لا أريد سماع صوتك !"
نظرت نحوه مأخوذة ثم ضحكت قائلة : "تتحدث كما لو كنت المسيطر على الموقف ! لا تنس أنك الآن في قبضتنا !"
رمقها بعجرفة و التمع الشر في عينيه و هو يقول : "لا أيتها المرأة التعسة أنت من وقع في قبضتي و أصبح تحت رحمتي الآن !"
تبسمت في سخرية و تمتمت : "و كيف ذلك و أنت أعزل ؟!"
"أنا أعزل في نظر الحمقى أمثالك ، فالسلاح الذي أمتلكه لم و لن تحصلوا على مثله مهما فعلتم !"
"هيه ، هذا مثير للاهتمام !"
فالتفت الآخر أمامه و أضاف : "اتركي كلامك الفارغ الآن و أخبريني .. إلى أين نحن متجهون ؟!"
نظرت هي الأخرى للأمام و أشارت بيدها إلى منطقة خضراء مرتفعة "هناك !"
تباطأت خطواته و اتسعت عيناه من الدهشة .. تلك هي الغابة التي واجه فيها مغتالي المنظمة !
سألت سوزان بمكر و قد راقها التعبير الذي ظهر على وجهه : "ما بك ؟! هل أنت خائف ؟!"
رغم كل ما تعرفه عن قسوته إلا أن تلك الابتسامة الشيطانية المفرطة في الثقة لم تكن في حسبانها.
"قلت خائف ؟! حسنا .. سنرى قريبا من الخائف هنا !"
و فغرت فاها بصدمة عندما تعداها و أسرع الخطى إلى الغابة دون أن تسقط ابتسامته المخيفة عن ملامحه.
راقبته بصمت وقد عقدت الدهشة لسانها .. كيف يمكن لذلك الطفل الحنون ذي الابتسامة الملائكية في منزل آردوان أن يكون هو نفسه هذا الشيطان عديم الرحمة الذي يتقدمها بلا خوف أو تردد إلى مسرح جرائمه حيث أزهق أرواحا عديدة كادت روحه أن تكون آخرها ؟!
راحت تعجل في سيرها حتى لحقت به أخيرا و صارت تمشي بمحاذاته .. و بعد دقيقة من السير السريع دخلا إلى الغابة و شقا طريقهما بين الأشجار إلى نقطة غير معلومة.
توقف آلويس عن السير و قال بلهجة متعالية : "إذن.. أين يختبئ رفاقك الجبناء ؟!"
ضيقت عينيها عليه و هي تبتسم : "هل أنت متشوق إلى هذا الحد للقائهم ؟!" استدارت بكامل جسدها نحوه و أضافت باستهانة : "صحيح أنك نجوت في آخر مرة ، لكن المعجزات لا تحدث دائما كما تعرف !"
رفع رأسه و علت جانب فمه ابتسامة واثقة و هو يرمقها بنظرات لا متناهية في الاحتقار.
"هذا صحيح المعجزات لا تحدث دائما و هذا ما يثبت استحالة نجاتكم . أما أنا فلا أحتاج معجزة لأعيش ، قدري أن أحيا و أستمر في الحياة حتى أمحوكم جميعا من الوجود و أجعلكم عبرة لكل من تسول له نفسه السير على نهجكم !"
أمالت سوزان رأسها و نظرة غامضة تلوح في عينيها .. قالت بجدية أظهرت نبرة صوتها مختلفة كثيرا عن المعتاد :
"هل سمعت ما قاله ؟!"
لحظتها انتبه آلويس لصوت خشخشة صادرة من الشجيرات خلفه فالتفت بسرعة .. شاهد رجلا أسود الملبس ، طويل القامة ، مشدود الجسم يتحرك بروية فوق الأغصان الذابلة و يزيح بيديه ما اعترض طريقه من فروع الشجيرات الصغيرة.
و ما إن تخطى ذلك العائق النباتي و وضع قدميه على المساحة الخالية حيث يقف آلويس و سوزان .. حتى لاحظ الفتى المحاصر أن عينه اليمنى معصوبة !
قائد المغتالين أرماندو !
"أنت ؟!"
قال آلويس بارتياب .. كان وجه ذلك المغتال القاسي هو أول ما مر على ذهن آلويس حين رأى عصابة العين.
كشر الرجل قائلا : "لم تتغير سوى أنك ازددت فظاظة !"
لكن هذا الصوت الهادئ ..
أمعن آلويس النظر في وجه الرجل و لم يستغرق الأمر ثوان حتى هتف مندهشا : "الأستاذ الهارب ؟!"
انفجرت سوزان ضاحكة بينما تجهمت ملامح الرجل في امتعاض.
"لم أكن مخطئا بشأن أخلاقك ! و لعلمك اسمي ليس الأستاذ الهارب .. بل رفاييل !"
التفت آلويس صوب سوزان و قال ببرود : "إذن فأنت في النهاية لا تنتمين إلى المنظمة !"
شبكت المعنية يديها خلف ظهرها و كشرت بطفولية : "صحيح !"
"سحقا لك إذن !"
و عاد لينظر نحو رفاييل قائلا بنبرة استفزازية : "لندخل في الموضوع مباشرة ! ماذا تريد مني أيها الأستاذ الهارب رفاييل ؟!"
قهقهت سوزان و قد بدا عليها الاستمتاع ، أما رافاييل فمسح وجه بيده ببطء و كأنه بذلك يمسح الحنق من محياه.
تنهد بعدها وقال بجدية : "بطلب من رئيسي السابق جاك مارتل .. سأصبح حارسك الشخصي !"
ردد آلويس كلماته بذهول : "جاك مارتل ؟! حارسي الشخصي ؟!"
"جاك مارتل كان رئيس فرع المخابرات في باريس و أيضا صديقا مقربا لإدمون آيون ، و هو من أوكل إلي مهمة التسلل إلى النجوم المضيئة لمراقبتك و الإطمئنان على أحوالك هناك !"
بدا الاهتمام واضحا على آلويس عند ذكر خاله ، و سأل بتركيز : "بقولك "كان" هل تعني أنه لم يعد رئيسا لفرع المخابرات ؟!"
تبسم رفاييل بأسى : "بل لم يعد موجودا أصلا ! لقد اغتاله عملاء المنظمة بعد ثلاثة أشهر فقط من اعتدائهم على أسرة آيون ، و قد شعر مارتل منذ مقتل صديقه أنهم يستهدفونه أيضا و قد يشنون هجومهم الغادر في أية لحظة ، لذلك أمرني بمغادرة النجوم المضيئة و الاختباء لفترة - فقد بدأ القائمون على المدرسة يرتابون في أمري - و قبيل موته بأسبوعين أرسل إلي ، ثم أوصاني بحمايتك مهما كلف الثمن . قال أنك الوحيد الذي في مقدوره الصمود أمام شرور المنظمة و تدمير مخططاتها ، و أظنه كان محقا ، فأنت تبدو أكثر ضراوة من أن تسقط مهزوما أمامهم !"
تجاهل آلويس إطراءه الأخير كأنه لم يسمعه و سأل بجفاء : "و لماذا تأخرت كل هذا الوقت حتى تأتي ؟!"
"لم يكن الأمر سهلا بعد الفوضى العارمة التي أحدثتها بحرقك للمدرسة و هروبك مع أصدقائك ، حتى بالنسبة لعميل استخبارات متمرس مثلي كنت بارعا في التخفي و محو آثارك ، فلم أستطع العثور عليك إلا عن طريق الصدفة ، عندما التقيت بسوزان أثناء زيارتها الأخيرة لباريس . لم أسألها بشأنك ، فلم أتوقع أن تكون لديها أية معلومات مفيدة ، لكنها كعادتها أخذت تثرثر .. " رمقته سوزان بنظرة استياء لكنه أكمل دون الالتفات نحوها : ".. و تتنقل بين أحاديث كثيرة - و أعترف أنني لم أسمع معظمها - حتى وصلت إلى كرم ابن عمها و كيف أنه استضاف في بيته طفلين غريبين عن المدينة ، و قد شد ذلك انتباهي ، فبدأت أطرح عليها الأسئلة تلو الأخرى حتى لم يعد يساورني شك بأنك أحد هذين الطفلين ، لنني لم أستطع التوجه لغرونوبل بتلك السرعة ، فقد كان هناك الكثير من الأمور التي توجب علي الاهتمام بها قبل سفري ، لذلك طلبت من سوزان أن تتولى مهمة مراقبتك ريثما أفرغ من أعمالي .. غير أنك لسوء حظي هربت قبل وصولي إليك لأبدأ عملية البحث من الصفر . كان إيجادك ليكون أسهل بكثير لو كان معي عدد أكبر من الرجال ، لكن بعد موت مارتل و اختراق المنظمة لأجهزة الاستخبارات لم أجد أمامي سوى سبعة رجال مستعدين للمخاطرة بكل شيء في سبيل القضاء على المنظمة !"
قال ذلك ثم استدار و بدأ يسير عائدا من الطريق الذي جاء منه و مشيرا لآلويس و سوزان بإتباعه.
دفع آلويس غصن شجيرة كان يمتد أمامه و تساءل بفضول : "لكن كيف عرفتم بوجودي عند أسرة آردوان ؟!"
أجاب رفاييل و قد عبر سريعا حاجز الشجيرات : "حسنا .. هو ليس شيئا يدعو للفخر كما أعتقد فنحن لم نعلم بوجودك في نيس أصلا حتى أعلمنا الجاسوس بخبر موتك على يد الخنجر المعقوف . كانت مهمة قتلك سرية ، فلم تتلق بقية أقسام المنظمة أي معلومات بشأنها حتى أعلن منفذوا العملية نجاحها ، لكن الجاسوس أبلغنا أيضا أن أعضاء الخنجر الذين تولوا مطاردتك بدوا لسبب ما متوترين و غير واثقين ، و قد أشعل خبر اختفاء جثتك الشكوك حولهم ، فقدمنا أنا و رجالي و سوزان أيضا للبحث عنك هنا في نيس .. كان الأمل ضعيفا لكننا تشبثنا به و لم نيأس من نجاتك !"
سكت للحظات ثم أردف : "لا أعرف حقيقة لم فكرت في الآنسة آيون .. ربما لأنها ابنة السيد إدمون ! حسنا .. راقبنا منزل الطبيب آردوان لعدة أيام و مع كل يوم يزداد يقيني بفكرتي ، فمن المفترض أن الآنسة قادمة إلى نيس في إجازة ، لكنها و بدلا من النزول إلى الشاطئ أو التجول في طرقات المدينة و أسواقها كانت تواظب على زيارة طبيب كبير في السن كان يوما من الأيام جراحا ماهرا و هذا الطبيب لم يكن لديه غير ابنة وحيدة ناضجة . عندها .. أصبحت متأكدا بنسبة تسعين في المئة من نظريتي ، لكن رغم ذلك توجب علي الحصول على العشرة بالمئة المتبقية قبل التحرك ، لذلك أرسلت سوزان أحد معارفنا و الذي كان وحده من يستطيع الدخول إلى منزل آردوان دون شبهة !"
هز آلويس رأسه و لاحت على شفتيه ابتسامة خفيفة غريبة.. "إذن .. فسامويل لم يطرد من منزله كما أوحى لنا !"
فترنحت سوزان من الضحك و قالت : "لا ذلك حقيقي ، لكن سامويل كان يفضل المكوث في باريس و لم ينو زيارة شقيقه تلك الفترة لولا إلحاحي عليه .. قال أنه لن يطيق الاستماع لسخرية عيون الدجاجة كما يحب أن يسميه !"
تبسم رافاييل قليلا ، ثم التفت نحو آلويس و قال بنرة اعتذار : "نحن آسفون لإبعادك عن الآنسة و أسرة آردوان .. كنا .. "
لكن آلويس قال بحكمة : "باسثناء تصرفات سوزان المستفزة لم تكونوا مخطئين ، فبقائي هناك يشكل خطرا كبيرا عليهم و أنا في الواقع كنت أنو الرحيل في أقرب فرصة !"
حلت فترة من الصمت اجتاز الثلاثة خلالها بقعة خالية من الأشجار ، و عاد آلويس ليسأل عندما أحس بطول المسير : "إلى أين نحن ذاهبون ؟!"
و لم يكد رفاييل يجيب حتى اندفع من بين الأشجار أمامهم طفلان صغيران مشهرين في وجه الويس و سوزان بنادق بلاستيكية.
"ارفعوا أيديكم !"
صاح رفاييل موبخا : "روجر ! روبين ! ألم أطلب إليكما انتظاري في السيارة ؟!"
فطأطأ الطفلان رأسيهما في اعتذار و قال روجر : "لكنك تأخرت !"
و أضافت روبين : "فخشينا أن تكون وقعت في قبضة الأعداء !"
أطلق رفاييل تنهيدة و التفت صوب آلويس موضحا "هذان هما ابناي روجر و روبين !"
رفعت روبين سبابتها مشيرة نحو آلويس و سألت أباها : "هو ليس عدوا إذن ؟!"
"لا ، بل سيكون من الآن فصاعدا أخا لكما !" و أضاف ردا على نظرات آلويس المتعجبة : "نعم ، ستعيش معنا كفرد من الأسرة ! سأكون أنا والدك ، روجر و روبين شقيقاك الصغيرين و .. " أردف بغير حماس ناظرا إلى سوزان التي ابتسمت ابتسامة واسعة : "سوزان زوجة أبيك التعيس !"
ففتح آلويس عينيه بصدمة : "هل ستتزوج هذه الـ.. " و نظر باشمئزاز نحو سوزان دون أن يجد في قاموسه وصفا مناسبا لها ، فعبست بطفولية و رمته بنظرة تأنيب.
ضحك رفاييل بتفاجؤ : "لا ، لا ، مازلت بكامل قواي العقلية و الحمد لله ! إنها مجرد تمثيلية لخداع المنظمة لا غير . و الآن .. هيا نغادر هذه الغابة قبل أن يرانا أحد !" ثم نظر إلى الساعة حول معصمه و تنهد بارتياح قبل أن يخلع العصابة عن عينه اليمنى.
سأل آلويس بدهشة : "عينك سليمة إذن !"
أجاب المعني فيما يفرك عينه التي أتعبها شد العصابة عليها : "إنها كذلك .. لكن عيني اليسرى ليست بخير تماما و لهذا أوصاني الطبيب بتدريبها أربع ساعات كل يوم حتى يستعيد عصبها قوته.."
*****
أخذ الجميع مكانهم في السيارة . احتل رفاييل و سوزان المقاعد الأمامية بينما جلس آلويس مع الصغيرين في الخلف.
و لم يرفع شقيقاه الجديدان عيونهما عنه إلا عند الحديث مع والدهما ، كانا ينظران إليه كما لو أن قرون استشعار فضائية قد تخرج من رأسه في أية لحظة.
ألقى آلويس نظرة إلى البحر .. كانت الشمس في طريقها إلى الغروب و لونها الذهبي يزداد احمرارا مع كل شبر تقطعه أثناء هبوطها.
التفت أمامه و خاطب رفاييل قائلا : "هل لديك عمل في الغد ؟!"
"لا.. لا أظن"
"جيد ، لأنني أريد الذهاب لمنطقة قرب جبال الالب !"
سألت سوزان و رفاييل معا : "جبال الالب ؟!"
"أجل ، يجب أن ألتقي أصدقائي بأسرع ما يمكن فقد غبت عنهم فترة طويلة !"
هز رفاييل رأسه موافقا دون أن يزيح عينيه عن عجلة القيادة "حسنا.."
و رمت سوزان قبعة كحلية لآلويس و هي تقول : "ارتد هذه القبعة و خفض مقدمتها حتى تغطي عينيك !"و أضافت موضحة : "سندخل المناطق المزدحمة في المدينة و قد يتعرف عليك أحد جواسيس المنظمة ما لم تكن حذرا !"
نفذ آلويس ما طلبته دون اعتراض رغم اقتناعه الشخصي بعدم جدواه في حال كانت المنظمة تسعى وراءه.
استرخى في مقعده و راقب من نافذة السيارة الصور المتتابعة للناس و الفنادق و واجهات المحال ، و عندما بدأت سرعة السيارة في الإبطاء إلا أن توقفت عند إشارة المرور الحمراء .. لفت ناظريه مجموعة من التحف المنزلية متقنة الصنع معروضة على واجهة متجر صغير.
قال بسرعة قبل أن تضيء الإشارة الخضراء : "سأعود بعد دقيقة !"
ثم نزل من السيارة و رافاييل يصيح وراءه دونما فائدة.
حث خطاه بين السيارات المتأهبة للانطلاق و صعد الرصيف قاصدا متجر التحفيات في ركن الشارع.
"إلى أين تذهب ؟!"
وصله هتاف سوزان البعيد ، لكنه لم يكترث و واصل طريقه حتى بلغ وجهته.
كان المتجر من الداخل مستطيل الشكل ، هادئا ، عطر الرائحة ، و مكتظا بالتحفيات الجميلة .. حسبه آلويس للوهلة الأولى فارغا فلا أحد يقف وراء منضدة البائع ، لكنه لمح بعد لحظة جسما يتحرك بين الرفوف ثم ظهر رجل بدين يحمل بيده فرشاة لتنظيف التحفيات من الغبار.
رحب بآلويس بابتسامة وديعة و قال بعدما وضع الفرشاة جانبا و وقف خلف المنضدة : "بماذا يمكنني أن أخدمك يا بني ؟!"
و في اللحظة التي استدار فيها آلويس ليشير نحو إحدى التحفيات على الواجهة دخلت سوزان المتجر و علامات الاستياء بادية على محياها.
تجاهلها آلويس و قال للبائع : "عفوا سيدي.. هل هذه التحفيات من صنعك ؟!"
غمز الرجل بعينه و أجاب مبتسما : "بعضها كذلك !"
اتكأت سوزان إلى أحد الرفوف عابسة و استأنف آلويس حديثه مع صاحب المتجر مشيرا إلى صندوق موسيقى خلف أذنه : "و هل هذا الصندوق منها ؟!"
التفت الرجل و التقط الصندوق بكلتا يديه و تفحصه بابتسامة حنين : "نعم !"
"إنه رائع ! هل يمكنك أن تعلمني كيفية صنعه ؟!"
رفع الرجل عينيه عن تحفته و قد تهدلت ابتسامته "آه.. في الحقيقة.. "
لكن آلويس لم يمهله فرصة للرفض فقد قال على الفور : "ليس بالمجان طبعا ، سأدفع لك ثمن الوقت الذي تقضيه في تعليمي !"
سكت الرجل لبرهة ثم قال مستغربا : "لكن لماذا تريد تعلم صنعه ؟! تستطيع شراء واحد جاهز و توفر نقودك و وقتك !"
فتشكلت على وجه الفتى ابتسامة دافئة لم تعرف سوزان سرها حتى نطق قائلا : "أريد أن أقدمه هدية لأحدهم ، و الهدية التي تصنعها بيديك لها تأثير أكبر و أعمق صدقا مما سواها ، أليس كذلك ؟!"
"بلى .."
"إذن .. هل أنت موافق ؟!"
تنهد البائع طويلا ثم قال : "حسنا ، تعال غدا في الساعة الخامسة .. سأمنحك ساعتين و نصف من وقتي كل يوم حتى تتعلم !"
"شكرا لك سيدي ! سآتيك في الموعد !"
التفت عائدا إلى سوزان - التي كانت قد شغلت نفسها بالتحديق في ما وراءها من معروضات - ليلاحظ أنهما لم يكونا الوافدين الوحدين إلى المتجر .. كان هناك رجل يرتدي بذلة رسمية قاتمة اللون يقف أمام مجموعة من التماثيل الخزفية مديرا ظهره للآخرين . تابعه آلويس بنظراته الفضولية لكن لم يظهر من الرجل غير شعره البني المصفف الذي كان طويلا بما يكفي تغطية رقبته فقط.
حدق الفتى في ظهر الغريب لفترة مقطبا جبينه ، لكنه في النهاية تحرك و غادر المتجر برفقة سوزان.
و في اللحظة التي خرج فيها آلويس ارتفعت العينان عن تمثال المرأة الرومانية ببطء و آخذتا في ملاحقته حتى صعد السيارة .. عينان ثاقبتان بلون الذهب الخالص يلمع فيهما بريق الدهاء و المكر !
Mygrace
مشاهدة ملفه الشخصي
إرسال رسالة خاصة إلى Mygrace
البحث عن المشاركات التي كتبها Mygrace