عرض مشاركة واحدة
  #273  
قديم 08-20-2016, 12:40 PM
 



الفصل الثاني و الخمسون
*ليس بعد*





ارتميت فوق أحد المقاعد في الممر العريض المطل على غرفة العمليات المغلقة ، و تنهدت بارتياح عميق .. كان إقناع لونا بمغادرة القصر المحترق و معالجة إصابتها أسهل بكثير مما تخيلت ، ذلك أن مسرحيتي الساخرة - أو لأكون دقيقة - آخر مقطع فيها كان له تأثيره المرجو على صديقتي اليائسة . و من العجيب أن الشخص الوحيد الذي أثر ذكره فيها كان ميتا و لم تره منذ اثنتا عشر سنة ! لكن حبها لأبيها - رغم غيابه المادي - كان ما يزال يستولي على الجزء الأكبر من قلبها ، و مع أني كنت موقنة أني لمست بتذكيرها بتضحيته وترا حساسا للغاية ، غير أني لم أتصور أن ترضخ لطلبي بتلك السرعة و السهولة.


كان الابتهاج باديا على الجميع - إذا استثنينا ماريان - بعدما انطلقنا في السماء بعيدا عن السفح - الذي ما لبث أن انهار و انهار القصر معه في الجرف - و كيف لا يكونون كذلك و قد نفذوا المهمة على أتم وجه و أنقذوا أهم شخص لدى قائدهم الذي يحبونه و يجلون قدره ؟!

نظرت أمامي .. حيث وقف رفاييل واضعا هاتفه النقال على أذنه و انتظر بصبر ، و ما إن جاء الرد من الطرف الآخر حتى انبسطت أساريره و تبسم بأسعد ما أمكنه ثم اندفع قائلا بلا مقدمات :
"لقد تمت المهمة سيدي و الآنسة (a) في أمان الآن !" ثم ألقى نظرة خاطفة نحوي و أضاف كي يكون منصفا : "و ذلك كان بفضل الآنسة الشقراء طبعا !"

ابتسمت بتواضع فيما تابع رفاييل كلامه : "لا لم يكن إقناعها سهلا ، فقد عارضت بشدة الذهاب معنا أول الأمر ، لكن الآنسة الشقراء كانت لها طرقها العجيبة في التأثير فيها . نعم .. نعم .. نحن الان في مشفى صغير على أطراف المدينة . آ .. حسنا .. فهمت .. " ثم نظر إلي مجددا و قد ظهر عليه بعض التوتر ، ثم عاد يبتسم فجأة و اتجهت عيناه نحو ماريان التي كانت تستند إلى الجدار عاقدة ذراعيها بوجوم "نعم إنها لا تزال مستاءة من وجود الآنسة (a) .. " رمقته الفتاة بحدة و قد ازداد وجهها عبوسا " حاضر ، سأتأكد من إخبارها بذلك !"

ثم أغلق هو الخط و أعاد هاتفه داخل جيبه دون أن تغادر الابتسامة شفتيه ..
و رفع عينيه إليها و قال : "الكونت يطلب منك أن تكوني أكثر هدوءا و لطفا في تعاملك مع الآنسة .. آيون !"

ضيقت ما بين عينيها و قالت مستنكرة : "الآنسة آيون ؟! لا تقل أن.. "

"نعم الأمر هكذا ، كوبرا ليست في الحقيقة غير الآنسة لونا آيون يا ماريان !"

اتسعت عيناها في اندهاش و عدم تصديق و تمتمت : "ألم تقتل تلك الفتاة على يد الخنجر المعقوف ؟!"

"هذا ما بدا في ظاهر الأمر ، و لكن الحقيقة أنها لم تمت و تسللت إلى المنظمة لتنتقم لموت أسرتها !"

فانتقلت عينا ماريان تلقائيا إلى الباب الموصد حيث توجد لونا خلفه .. و حدقت به مقطبة الجبين و آثار الدهشة ما تزال جلية على ملامحها.
إن معظم العقارب كما يبدو لا علم لهم بحقيقة كوبرا ، فالكونت كان حريصا على حمايتها لدرجة أنه امتنع عن إخبار أوفى أتباعه بسرها.


تقدم رفاييل و اتخذ له مقعدا بجواري ثم التفت إلي قائلا : "شقيق الآنسة في طريقه إلى هنا !"

حملقت فيه مصدومة "ماذا ؟! ما الذي .." ثم أدركت الأمر و هتفت غير مصدقة : "هل اكتشف الحقيقة أيضا ؟!"

"أجل .. و لن يستغرق وصوله إلينا أكثر من دقائق !"

بصورة تلقائية دسست يدي في حقيبتي و أخرجت منها هاتفي الذي ظل حبيسها منذ رحيلي عن كورسيكا لأفاجأ بمكالمتين فائتتين من كلارك.

فغرت فاي و بانت الصدمة مصحوبة بالخوف على وجهي : "يا إلهي ! لقد اتصل بي مرتين وقت كنا على السفينة !"

كتم رفاييل ضحكته و قال : "حسنا.. لا أظنك في موقف تحسدين عليه ، فهو ليس مسرورا كثيرا لإخفائك أمر شقيقته عنه !"

و لا أحسبني كنت بحاجة لهذه الإضافة المطمئنة من قبله ، لأن لدي ما يكفيني و يزيد من المخاوف بهذا الخصوص.

ارتفع حاجباي قليلا بينما انخفضت زاويتا فمي بصورة بدت مضحكة لرفاييل و الذي لم يمنع نفسه هذه المرة من إطلاق ضحكة قصيرة كانت نوعا ما خبيثة.

قلت بشك : "لكنه لن يستطيع قتلي أليس كذلك ؟! فأنتم تحمونني صحيح ؟!"

هز رفاييل كتفيه دون محاولة لإخفاء شعوره بالاستمتاع ، و قال صوت بارد من خلفي : "لم تعد حمايتك من مسؤولياتنا !"

و تقدمت ماريان من مجلسنا و هي ترمقني بنظرة غريبة و شبح ابتسامة صغيرة يتراقص فوق شفتيها.
وضعت يدها على وسطها و مالت إلى الجانب قليلا "لقد انتهت مهمتنا المشتركة !"

قطبت جبيني و قلت : "يا للجحود ! "و زممت شفتي بتوعد "سأشكوكم للونا حين تستيقظ !"

ضحك رفاييل بينما قالت ماريان و هي تبتسم باستخفاف : "حقا ؟! إنني أرتجف خوفا !"

ابتسمت بدوري و حدجتها بنظرة ماكرة لها مغزاها و لم تخطئ هي مقصدي فقد عبست بحدة و الغضب يلوح في عينيها.

اعتدلت في جلستي بلا مبالاة واضحة لتهديدات نظراتها و التفت نحو رفاييل سائلة : "بالمناسبة .. " انتظرت قليلا حتى أحصل على كامل انتباهه ثم أضفت : "ما هو ذلك التحليل ذو النتيجة السلبية ؟! و ما هي علاقته بالقائد الأعلى ؟!"

تنهد رفاييل و تحلت سحنته بجدية مفاجئة .. تردد لبرهة قبل أن يحسم أمره و يجيب : "حسنا .. لقد أعطانا أحد حراسه قبل موته معلومات من المفترض أن تدلنا على مخبأ زعيمه .. لكنها في الواقع لم تكن سوى حيلة خبيثة !"

"هل تعني أن الحارس كذب عليكم ؟!"

"لا أظن ذلك ، فهو لم يبد مخلصا لدرجة أن يختلق كذبة أثناء احتضاره ، كما أن لينيكس ليس سهل الخداع و كان سيعرف إن حاول الكذب عليه . أكاد أجزم أن الحارس نفسه كان مخدوعا و ذلك لتكون روايته للقصة أكثر إقناعا !"

سكت لحظات قصيرة ثم عاد يقول : "القائد الأعلى أو لندعه باسمه سامويل مورفان لا يثق مطلقا بأي إنسان حتى حرسه الخاص ، فقد أبعد نفسه دون إدراك منهم و أخذ شبيه له مهمة التواصل معهم و إمدادهم بتوجيهاته . كان ذلك الشبيه يتخذ هيئة آخر شخص انتحل مورفان شخصيته و قد نجح ببراعة في خداع الحرس ، لكن الكونت لم يصدق و شك في الأمر كثيرا لسبب لم يطلعنا عليه في البداية .. و بعد أن قبضنا على الشبيه أمر بإجراء فحص الـ "dna" له .. و كانت النتيجة سلبية !"

كان عقلي يعمل بسرعة و تركيز و أنا أولي حديث رفاييل كل اهتمام .. قلت ببطء : "كنتم تحتفظون بعينة من القائد الحقيقي إذن ؟!"

ظلت ماريان صامتة بشكل مريب و لم تبد عليها الرغبة في التدخل في النقاش على غير عادتها ، أما رفاييل فأخذ يحدق أمامه ساهما و عندما نطق خرج رده غامضا يزيد التساؤلات أكثر مما يجيب عنها : "نعم .. "

لم يعجبني جوابه صراحة .. أردت أن استفسر أكثر و أكثر غير أن أسئلة بهذا العمق لم تكن داخلة في صلاحياتي المحدودة ، لذلك التزمت الصمت كارهة.


في تلك اللحظات انضمت امرأة أخرى إلينا ، كانت شقراء مرحة تحمل في يدها كيسا ثقيلا . اعتذرت برقة و هي تقترب منا : "آسفة على تأخري .. " ثم أخذت توزع علينا ما حمل كيسها من عصائر و كعك و بسكويت قبل أن تلقي بنفسها إلى جانبي بإنهاك.

ارتشفت ماريان مرتين من عصير التوت ، ثم نظرت إلي ثم نحو رفيقتها و قالت ساخرة : "لو لم أكن أعرف أنك وحيدة والديك يا سوزان لقلت أن هذه" ثم أومأت نحوي "شقيقتك !"

هز رفاييل رأسه بقوة مبديا تأييده لها و التفتت سوزان تجاهي ضاحكة : "حقا ؟!"

ثم تفحصتني بنظراتها سريعا قبل أن تقول بدهشة صادقة : "هذا صحيح ! نحن متشابهتان كثيرا من حيث الشكل !"

قلت قبل أن تفتح ماريان فمها : "لم تكن تقصد الشكل بل الشخصية !"

ثم وجهت للفتاة الباردة نظرة احتجاج ردت عليها بابتسامة غير مكترثة .. و دارت سوزان بعينيها بينهما و قالت بلهجة معاتبة : "ماذا تقصدون ؟!"

أجاب رفاييل : "كلتاكما غريبة الأطوار !"

و المضحك في الأمر أن كلتانا عبست بالطريقة الطفولية ذاتها مما جعل رفاييل و ماريان يغرقان في الضحك.

عقدت ذراعي و حاجبي و جلست بوضعية ساخطة ، في حين لوت سوزان فمها ثم نظرت حولها بحثا عن فرد مفقود و قبل أن يخرج سؤالها جاءها الجواب.

فقد انتبه أربعتنا للشاب الشبح - كما أطلقت عليه - الذي ظهر فجأة و دون سابق إنذار أمام ماريان و مد يده بهدوء داخل كيس سوزان.

صاحت ماريان حانقة : "لقد أفزعتني أيها الأحمق !"

لكنه لم يلق بالا لتوبيخها و أخذ خمس علب عصير و حملها بين ذراعيه .. قال رفاييل بشك : "أنت لم تتركهم بمفردهم أليس كذلك ؟!"

أجاب الشبح بصوته الوقور و هو يستدير عائدا : "لا.. "

راقبته سوزان ينعطف و يختفي في أحد الممرات .. "إذن فقد كلفتم لينيكس بحراسة قادة المنظمة .. "

قال رفاييل بجدية : "نعم .. لا يمكننا تركهم دون مراقبة فلا شيء يضمن لنا عدم هروبهم !"

إذن فاسم الشبح هو لينيكس ! إنه غريب إلى حد ما لكن هذا بالطبع لا يقلل من كفاءته ، فقد شهدت بنفسي كيف كان يتحرك برشاقة بين ألسنة اللهب و يتفادى شررها المتطاير كما لو كان شبحا بلا جسد يثقل حركاته !

واصلت الإبحار في عالمي أفكاري الخاص و أنا ألتهم في نفس الوقت قطعة من الكعك المحلى بينما تتعلق عيناي السارحتان في الجهة التي اختفى فيها الشبح.


"ويندي !"

غصت اللقمة في حلقي عند سماعي هذا الصوت المهدد و أوشكت على الاختناق حتى بادر رفاييل و سوزان بالضرب على ظهري بيديهما اللتين ترتعشان من الضحك.

قالت ماريان بشماتة و هي تنظر للجهة المعاكسة : "جهزي وصيتك فقد حضر قاتلك !"

لم أجرؤ على الاستدارة نحوه و لم أكن بحاجة بذلك فلقد عرفته على الفور من نبرة صوته .. إنه كلارك !



⭐⭐⭐



دفعت إلسا باب الغرفة التاسعة و جالت ببصرها داخلها ، ثم عادت أدراجها للممر خائبة . لم تعد وحدها من تبحث عن مورفان بل انضم إليها عشرة من العقارب من بينهم غلبيرت ، ماكس ، روجر ، و آليكسي . لكن رغم كثرتهم لم تسفر عملية البحث عن نتيجة مرضية ، إذ يبدو أن مورفان قد أخذ كل احتياطاته قبل الكشف عن هويته.

تأففت و قد ضاقت ذرعا من البحث غير المجدي "أين اختفى ذلك اللعين ؟!"

كان الخدم في تلك اللحظة قد انزاحوا عن الطريق و التصقوا بالجدران مظهرين الاستسلام و الخضوع للمقتحمين ، و قد لاحظت إلسا أن أحدهم كان يضع يديه فوق رأسه و يغمض عينيه و جسده بأكمله يرتجف حتى أن شاربه الكثيف كان يهتز بقوة.

توقفت قبالته و عندما أحس الرجل بظلها يحجب الضوء عنه انتفض و أخذ ينتحب : "أرجوك .. أرجوك لـ.. لا تؤذني !"

قالت إلسا بصوت هادئ يبدي سلميتها : "لن أوذيك طالما كنت عاقلا و مطيعا ! و الآن.. " وزعت نظراتها بين الخدم المصفوفين على الحوائط كالدمى الخشبية و قالت : "هل يعرف أي واحد منكم ممرا سريا ، سردابا أو شيء من هذا القبيل في هذا القصر ؟!"

هز عدد منهم رأسه نفيا ، بينما بدا الاستهجان على عدد أكبر ، فهذا قصر عصري و ليس قلعة أثرية من القرون الوسطى حتى تتواجد فيه أشياء غريبة كالسراديب المخفية.

و عادت إلسا تنظر نحو الخادم الخائف و الذي خف ارتعاشه بعد سماعه صوتها الأنثوي المطمئن و زادت جرأته فسأل متلعثما : "لكن .. أعني .. لماذا ؟! السيد لامارك رجل طيب كثير الإحسان . فلماذا .. لماذا تهجمون على قصره ؟!"

أجابت إلسا على عجل : "هذا الرجل ليس السيد لامارك الحقيقي ! بل مجرم خطير انتحل شخصيته مستغلا السمعة الطيبة التي تغلف اسمه !"

ترددت شهقات الصدمة و الهمهمات الدهشة بين الخدم :

"هذا مستحيل !"

"لا أصدق ذلك !"

"كيف يمكن أن يكون مجرما و هو يتصدق بأمواله على الفقراء ؟!"

"و ماذا حل بالسيد لامارك الحقيقي إذن ؟!"

هتفت إلسا بصوت صاعق أجبرهم على التزام الصمت : "لقد مات السيد لامارك قبل ما يزيد على العشر سنوات في إحدى رحلاته لإفريقيا ، و الرجل الذي عشتم معه و خدمتموه بعدها لم يكن إلا قاتله ! و بالطبع توجب عليه أن يظهر الخير و الصلاح لئلا تكتشف حقيقته !"

لم ينطق أي منهم بكلمة ، و لم تعرف إلسا ما إن كانوا يصدقون كلامها أم يواصلون التفكير فيها كمجرمة تسعى لتفسد صورة سيدهم الحسنة في عيونهم كي تدفعهم لمساعدتها في الإمساك به.

كانت على وشك تركهم و استئناف مهمتها بعدما أصابها اليأس منهم .. عندما تردد أحدهم و قال : "أنا .. حسنا .. لقد رأيت السيد في إحدى الليالي يخرج إلى الحديقة .. و يتفقد شيئا ما تحت شجرة الخوخ القريبة من السور .. "

نظرت إلسا نحوه باهتمام كبير حجبت الخوذة رؤيته عن الخادم ذي الشارب الكثيف ، و شرع بعض رفاقه يلومونه و البعض الآخر يرمقونه منصدمين من سرعة انقلابه على سيده و قلة إخلاصه المثيرة للاشمئزاز.

قال الرجل بصوت مبحوح ردا على عتابهم : "إنه ليس السيد لامارك ! ذلك الرجل الذي رأيته تلك الليلة لم يكن سيدنا الطيب ! أنتم لم تروا كيف كانت نظراته مرعبة وقتها . لم أكن أصدق في البداية و حسبتني أتخيل بسبب التعب الذي حل بي طيلة النهار .. لكن الآن و بعد سماعي لكلام هذه الآنسة يبدو الأمر حقيقيا تماما !"

أججت كلماته الشكوك في دواخلهم و تزايدت سطوة الحيرة و التردد على أفكارهم ، و لم توات الجرأة أيا منهم لإبداء أي رأي موافقا كان أم معترضا.

قالت إلسا بحزم : "ستأتي معي لتدلني على ذلك المكان . لكن قبل ذلك علي تفتيشك !"

فرد الرجل ذراعيه في انصياع ، فمررت يديها على جسده و تفحصت جيوبه ثم قالت برضا : "حسنا لننطلق !"


ثم ركضت برفقته و قد جعلته يتقدمها ببضع خطوات و قطعا بسرعة الممرات ، ثم هبطا السلالم مارين بالعقارب الآخرين و الخدم المتجمدين من الخوف .. و عندما بلغوا باب القصر شدته إلسا من كتفه و قالت : "سأسير في الأمام !"

ثم خرجت إلى الفناء تحت شمس العصر التي اقترب رحيلها و لونها الذهبي يتشرب حمرة الغروب رويدا رويدا.
تبعها الخادم بقدر من التردد و الحذر .. و انتظر حتى لوحت لرفاقها على متن الحوامة بما بدا له تنبيها إلى أنه بصحبتها فلا داعي لمهاجمته ، ثم عاد يتقدمها و نفذ معها داخل منطقة خضراء تملؤها صفوف عديدة من الأشجار الكبيرة التي كانت قريبة من بعضها بما يكفي لتتلامس فروعها و تحتك أوراقها كما لو كانت تتصافح.

قاد الخادم إلسا بين الأشجار حتى وصل إلى شجرة الخوخ المطلوبة ، فأشار لها نحو بقعة مربعة خالية كليا من الأعشاب كان التراب فوقها يبدو مبعثرا و غير مستو .. كأنه حفر مرات كثيرة !

أشارت له إلسا بالتراجع ، تقدمت بحذر و انحنت نحو المربع ، ثم ألقت نظرة على الخادم الذي وقف قريبا .. لو كان لغما ما كان ليظل بهذا القرب منها ، كما أن رفاقها سيسمعون صراخها في حال حاول قتلها بأي وسيلة أخرى و يجهزون عليه خلال ثوان.

فحسمت أمرها و مدت يديها لتباشر برفق إزاحة التراب .. و بعد دقائق أخذ سطح معدني بالبزوع شيئا فشيئاً حتى اكتملت صورته.

قالت إلسا بدهشة و هي تحدق بغطاء مربع ثقيل يتوسطه مقبض من المعدن نفسه : "ممر سري !"

و قبل أن تقدم على أي خطوة رفعت يدها إلى أذنها و قالت بسعادة : "إنزو ! لقد عثرت على ممر سري في الحديقة ، لا بد أن مورفان قد استخدمه للهروب من القصر .. حسنا سأكون حذرة لا تقلق !"

ثم أمسكت المقبض الحديدي بكلتا يديها .. و ما إن لامست المعدن حتى اخترق تيار كهربائي جسدها و شل حركتها و صوتها ، ثم رماها على الأرض كدمية انقطعت الخيوط التي تحركها !

كانت غائبة عن الوعي ، فلم تسمع ضحكته الخبيثة أو ترى نظرته المستمتعة التي زادت تعابيره وحشية !

تمتم بصوت بارد مشبع بالشماتة : "شكرا لك أيتها الصغيرة ! لقد ساعدتني فعلا !"

ثم انحنى و أدخل يده في جوربه و التقط قداحة رفيعة فضية اللون .. نظر إليها بشغف ، ثم قلبها و فتح عقبها ليظهر زر صغير أحمر .. تلمس سطحه الأملس بإبهامه ، ثم استدار تجاه القصر ليلقي عليه نظرة أخيرة و الابتسامة التي تعلو وجهه قد بلغت أقصى حدود الشر.


أؤلئك الأطفال يهللون لنصرهم المزعوم و لا يدركون أن هجومهم كان ضمن خطته و هم الآن واقعون في الشرك الكبير الذي أعده لهم !

اتسعت ابتسامته التي تشمئز الإنسانية منها و عيناه الجاحظتان تتنقلان بين الحوامة في السماء ، و الرجال المتخفين بالسواد السائرين على الأرض.

سينتهي كل شيء الآن ! ستزهق كل روح ساقها حظها المشؤوم إلى عرينه ! و ستفتك النيران بكل ما خلفه وراءه من آثار و لن يبقى سوى ما أراد له أن يبقى !

أدار ظهره و انحنى قرب الشجرة ، ثم مد يده بين جذورها الناتئة ليضغط زرا باهت اللون ضئيل الحجم تم تثبيته تحتها ، فأخذ الغطاء المعدني يرتفع من تلقاء نفسه حتى توقف بشكل عمودي . أدخل مورفان جسده بخفة داخل الفتحة المظلمة و أمسك المقبض الداخلي للغطاء ، لكنه لم يكن ليرحل قبل أن يرى بأم عينه رد فعل العقارب على الهجوم المباغت لنيران شروره الشرهة.

ثبت إصبعه فوق الزر و استعدت مشاعره المشوهة لدفقة من السرور غير الآدمي ، لكن منظر ما جعل هذا الشعور المرتقب بعيدا ، و بعثر الثقة و التلذذ اللذين يغمران ابتسامته و نظرات عينيه.

ما الذي يجري ؟! ليس من المفترض أن يحصل هذا ؟! لا يعقل أن يكون هنا ! بل يجب ألا يكون قريبا حتى !
لكن هذا الشخص رغم كل افتراضاته و خلافا لسائر حساباته واقف الآن على أرضه و في مدى قنابله فماذا سيفعل ؟!

هل سيقتله الآن ؟!

حدق من بعيد .. بصورته القديمة التي تنتصب اليوم أمامه ، بالعينين الذهبيتين اللتين لم يضاهيه في روعتهما بشر سواه ، بالشعر الكستنائي اللامع و الذي كان مسرحا بالطريقة التي يفضلها دوما.

ليس الآن ! ليس هذا المكان و لا هذه الطريقة !


تنهد .. و أغلق إبهامه مكرها عقب القداحة ، ثم سحبت يده الغطاء الثقيل و ابتلع ظلام النفق جسده كما تبتلع الحرباء فريستها.


"سيكون لنا لقاء آخر .. يا ابن أبيك !"










رد مع اقتباس