عرض مشاركة واحدة
  #285  
قديم 08-22-2016, 12:22 PM
 



الفصل الرابع و الخمسون
*رسالة الثعبان*





اعتدلت إلسا بصعوبة و هي توزع نظراتها الدهشة بين الكونت الحقيقي و المزيف الذي خلع قناعه و العدسات اللاصقة ، و خلل أصابعه في شعره الأسود باسما.
بينما أرسل الحقيقي بصره يمينا و يسارا متجاهلا نظرات الذهول على وجوه تابعيه المنتشرين في الحديقة و هو يقول : "يبدو أن المحنة مرت على خير .. "

قال سيباستيان مخاطبا إياه : "نعم ، كان ظنك في محله سيدي . مورفان كان متأهبا بالفعل لهجومنا ، فالقصر بكامله تقريبا وجدناه مفخخا بالقنابل !"

سأل آليكسي مقطبا جبينه في استغراب : "لكن لم تنكرت بهيئة الكونت ؟!" سكت ثم هتف فجأة عند مرور خاطر غريب على فكره : "مهلا .. لا يمكن أن يكون السبب.. "

أكد الكونت ظنه بقوله : "بل هو ذاك ! مورفان لن يقدم على تفجير القصر و أنا فيه يا آليكسي !"

تبادل آليكسي و إلسا و سيباستيان - الذي لم يسمح له ضيق الوقت بتلقي الكثير من التفاصيل عن أهداف مهمته - النظرات و قد عقدت الصدمة ألسنتهم ، فتبسم الكونت ابتسامة خالية من المرح و أجاب عن السؤال الذي يدور في أذهانهم و لم يسعهم طرحه :
"لا تسيؤوا الفهم ! ليست الأبوة هي من يردع مورفان عن قتلي ، فهو لم يعتبرني يوما ابنه !"

أطرق المستمعون رؤوسهم و ذكرى الأمس تعود لأذهانهم و تطوق ردود أفعالهم . قبل يوم واحد فقط أفصح لهم الكونت عن هويته الحقيقية و كل ما خالجها من مقاس و آلام تردي القوي الجلد قيعان اليأس . أخبرهم عن الأب الأبعد ما يكون عن الأبوة ، القريب بدمائه الغريب عن قلبه و روحه ، الذي لطخ يديه الاثمتين بدماء الفتاة البريئة التي وهبته حبها و اهتمامها و كاد يودي بلا اهتمام بحياة ابنه الوحيد . قص عليهم كيف أجبره جرم أبيه أن يعيش باسم ليس له في كنف أسرة لا تجمعه بها أية قرابة ، لكنه أحبها و خسرها كما خسر أمه ثم عائلته الحقيقية بعدها.

لم يكن هذا الخبر ليزعزع ثقتهم في قائدهم بل زادهم احتراما و تقديرا و إيمانا به و حقدا و بغضا لمن يفترض أن يكون أباه.


"إنه يريدني أن أعاني و أتجرع مرة أخرى ألم الفقدان و لن يتم له هدفه إن كنت ميتا أليس كذلك ؟!"

قال الكونت ذلك بحياد و هدوء شديد كما لو أنه يتحدث عن شخص آخر لا يمت له بصلة ، فيما تتوقف عيناه عن التجوال و تثبتان بشرود على شرفة واسعة في الطابق الثاني حيث اعتاد لعب الشطرنج مع أبيه المزعوم . كان ساهما ، فلم يلحظ التأثير الذي خلفته كلماته على وجوه أتباعه .. كان مزيجا عنيفا من الأسى و الغضب و الاحتقار.

عاد يقول بصوته الرصين : "إذن .. كيف أفلت مورفان من أيديكم ؟!"


"كان .. أنا !"

اتجهت أنظار الجميع نحو إلسا و التي اضطرت لتكرار كلامها عندما لاحظت أن صوتها الضعيف لم يصل أبعد من مقعدها الذي تجلس فوقه.

قالت بصوت أعلى و الشعور بالخزي يتملكها : "أنا السبب .. في هروبه . كنت حمقاء .. و قد نجح في خداعي بسهولة .." ثم شدت البطانية حولها و الدموع تتلألأ في عينيها.

فتكرم آليكسي و حدثهم عما حصل بالتفصيل مركزا على الخدعة الخبيثة التي لجأ مورفان إليها حتى يفر من القصر . أخذ الكونت ينصت بهدوء لا تكدره أدنى إشارة على الغضب أو الانفعال ، في حين اندفعت الدموع غزيرة من مقلتي الفتاة ، فهب سيباستيان إليها و أحاطها بذراعه من الخلف بعطف و مواساة.


قال آوتنبورغ معقود الحاجبين بعدما فرغ آليكسي من الكلام : "لكن إلى أين يمكن أن يهرب ؟!"

مرت فترة وجيزة من الصمت المشوب بالحيرة قبل أن ينطق الكونت أخيرا بلهجة آمرة مخاطبا إنزو عبر السماعة : "أتسمعني يا إنزو ؟! أرسل رجالنا لتفتيش كل مقرات المنظمة و مخابئها على أطراف المدينة ! و شددوا المراقبة على المطارات و محطات القطار أيضا.. " ثم أضاف وهو يدير وجهه نحو آوتنبورغ : "اتصل بلينيكس و اطلب إليه استجواب القادة الأربعة حول القواعد السرية التي لا نعلم عنها و يمكن أن يلجأ إليها مورفان ! لا شك أنهم جهزوا مثل تلك القواعد لاستخدامها في حالات الطوارئ و حصنوها بسرية كاملة حتى لا يسعنا الوصول إليها !"


هز آوتنبورغ رأسه و على الفور التقط هاتفه و أخذت أصابعه تضغط على لوحة المفاتيح بسرعة كبيرة.
و بينما يقطع الكونت طريقه إلى القصر استوقفه سيباستيان بهتافه : "عفوا سيدي ، لكن مورفان ترك شيئا لك !"

ليس الكونت وحده من استدار نحوه بتلك الدهشة الشديدة بل جميع من وصلتهم كلماته المقتضبة.

أسرع سيباستيان الخطا باتجاه الكونت ، ثم أخرج مظروف الرسالة من جيبه و حين تحدث بانت مسحة واضحة من الكراهية في صوته : "لقد وضع مورفان هذه الرسالة في غرفة مكتبه و التي كانت الوحيدة الخالية من القنابل في القصر كله ، يبدو أنه كان حريصا جدا على وصولها إليك !"

تشكلت تقطيبة حادة فوق عينيه الصفراوين بينما يستقر المظروف في راحة يده و أمعن النظر في اسمه المكتوب على ظهره بخط أنيق متمايل "إلى الكونت"

مورفان يترك له رسالة ؟! لماذا ؟! ما الذي يمكن أن يكون فيها يا ترى ؟!

شق المظروف بعجالة و فض الرسالة و عيون من حوله تتابع حركاته و تعابير وجهه بتركيز و اهتمام شديدين.
على خلاف الظرف كان نص الرسالة موجها لاسم آخر لكن للشخص نفسه.

"عزيزي مورفان الصغير .."

خفق قلب آلويس و فارت الدماء في عروقه عندما حطت عيناه على الاسم الذي عنون به كل الشرور . كان يدرك في قرارة نفسه ألا مفر من الاعتراف بانتمائه غير المشرف لأسرة مورفان ، و أن اسمها سيظل ملاصقا لوجوده مهما حاول نكرانه ، لكن أن يدعوه من أبغضه هذا الاسم به فهذا شيء لا يطاق و لا يغتفر !

أخذ يقرأ بإمعان و كلمات الرسالة تتردد في ذهنه كهسيس الثعبان كما لو كانت حروفها مخطوطة بالسم بدل الحبر.

"أدعوك بهذا الاسم و لا أتوقع أن يشكل ذلك مفاجأة لك ، فما كانت الرسالة لتصل إليك و لا كنت لتلبغ المكان الذي أنت فيه ما لم تكن على معرفة بحقيقة انتمائك و صلة الدم التي تربطك بي . لا أظنك فخورا بهذه الصلة و أنا بدوري لم أردها ، و حاولت بكل السبل قطعها و إنهائها إلى الأبد ، لكن الأقدار لا تسير وفق أهوائنا أليس كذلك ؟ لقد عشت رغم كل الخطط التي دبرتها لقتلك و نجوت من الفخاخ التي نصبتها بسخاء في طريقك ، و لم تتوقف عند ذلك بل بدأت تصيد رجالي واحدا تلو الآخر و ترد لي الضربات بقوة و دهاء لم أتخيل أن تملكهما . أتدري ؟! قال لي جدك في ساعته الأخيرة على فراش الموت "لن تفعل يا مورفان ، حتى لو أردت قتله لن تستطيع !" كنت أضحك ساخرا و متحديا كلما مرت كلماته ببالي ، لكني شيئا فشيئاً أخذت أدرك صوابها .. أنا فعلا و حقيقة لا أقدر على قتلك ! أخطأت بشأنك في البداية ، تسرعت كثيرا في إصدار الحكم عليك و كذلك فعل جدك . قد تحمل دماء الايون و حتى بعض خصالهم ، لكن الغلبة بلا ريب لمورفان ! ولدت مورفان و ستبقى مورفان حتى آخر يوم في حياتك . قد تنكر و تحتج و تلعن ربما ، لكن ما يلفظه لسانك عديم القيمة إن عارضته أفعالك . أخبرني أسمعت أن أحدا من الايون مهما يكن دافعه سمم زملاءه و مدرسيه ثم أحرق جثثهم مع المدرسة بكاملها ؟! أو تلذذ بقتل الناس و إن كانوا مجرمين ؟!"

كانت يدا آلويس و دون وعي منه تقبضان بإرتعاش على أطراف الرسالة ، و قد شخصت عيناه أمام الكلمات الهدامة التي هاجمت كيانه على حين غرة و بثت في نفسه أفظع المخاوف . هل يمكن أن يكون مورفان مصيبا و أن كفة دماء الخونة هي الراجحة لديه ؟! هذا غير صحيح .. لا يمكن أن يكون كلامه حقيقيا .. لو كان جانب الشر هو المسيطر - كما زعم - ما كان ليتخذ من أبيه المجرم عدوا و يقود حرب شعواء ضده ، لكن .. لكن النزاعات لا تقوم بين الخير و الشر فقط ، فالتاريخ يزخر بعدد لا يحصى من الحروب كان كلا الطرفين فيها منقادا لشياطينه و إن كان بأقدار متفاوتة.

صر على أسنانه و قد أصدعه ثقل أفكاره و أعياه تشاؤمها .. أطبق جفنيه ، ثم فرجهما بحسم قاطعا تدفق خواطره السوداء ليتابع قراءة الرسالة المقيتة.


"ربما لا تماثلني في أكثر طباعك ، لكن هذا لا يغير من أوجه التشابه القوية بيننا . كلانا لا يغفر ، لا ينسى ، لا يتنازل عن أهدافه و لا يرضى بالهزيمة . قد أكون أنا الشر في نظرك و أنت المدافع عن الخير ، لكن مهما اختلفت الغايات و المبررات تبقى النتيجة واحدة .. القتل ! هذه هي نقطة التلاقي بيننا ، و في اللحظة التي فطنت لهذه الحقيقة فقدت كل قدرة و رغبة في إنهاء حياتك . أنت لم تعلم و ربما لا تعلم حتى الآن أني كنت على دراية تامة بنجاتك من الخنجر المعقوف في نيس . حاول أرماندو الكذب علي و إقناعي بموتك حتى يفلت من العقاب العسير الذي ينتظره ، لكني لم أنخدع و لو للحظة بتزييفه الأحمق . كنت أعرف أن الطفل الذي قتل ببراعة مبهرة ثلاثة مغتالين و فقأ إحدى عيني قائدهم تاركا الأخرى يشوهها الرعب لا يمكن أن يسقط بتلك البساطة ، و لن تتوقف أدواره على قتل بعض الأتباع ذوي الأهمية الدنيا ، بل ستكبر و تتعاظم لتطال الرؤوس الكبيرة . لذلك .. تظاهرت بتصديق حكاية أرماندو و أعلنت موتك ! قد تستغرب تصرفي ، لكني ما كنت لأسمح بخسران أعظم متعة جربتها . مشاهدتك و أنت تحاربني و تحيك الخطط و المؤامرات ضدي أضفت لحياتي حفنة كبيرة من الإثارة و التسلية . كنت تسير على النهج الذي أحببته و تثبت انتمائك لي يوما بعد آخر .. حتى ظهرت تلك الطفلة الكريهة و أعادتك للوراء أميالا ! كان يجب أن أقتلها حين واتتني الفرصة لذلك ، لكني و يا للأسف أخطأت في حساباتي بشأنها . كنت ستفوقني و تبلغ منازل لم أحلم بالوصول إليها لولا الهراء الذي حشرته تلك المزعجة داخل رأسك . أردت قتلها و هممت حقا بتنفيذ ذلك يوم رحيلك من عندها ، لكن قادة المنظمة الحمقى أجمعوا على رفض هذه الفكرة ، لذلك أضمرتها في نفسي و أجلت تنفيذها بضع سنوات .. حتى أتى الوقت المناسب و كلفت أقرب حراسي باتمامها بمنتهى السرية .. لكني أخطأت مرة أخرى فيما توقعته من طفلة الايون ، فالشراسة و الحنكة اللتان أبدتهما فاقتا كل مقاييسي . فشلت في قتلها ، لكني نجحت كل النجاح في تدميرها .. و كثير من الفضل في ذلك يعود إليك أنت !"


كان آلويس غير مدرك للنظرات القلقة و حتى الخائفة التي يحدجه بها المحيطون به . انغمس بين سطور الرسالة و ابتلعته ظلماتها و حين بلغ العبارة الأخيرة .. انحبست أنفاسه في صدره و شعر بقلبه يدق بعنف و يضرب أضلاعه كما لو كان سيخلع من مكانه .. ماذا يقصده بهذا الكلام ؟! كيف يمكن له أن يتسبب في تدمير لونا ؟! ما الذي .. ما الشيء الأحمق الذي فعله دون انتباه منه و ساعد مورفان في خطته الوضيعة ؟! هل .. يمكن أنه يقصد تخليه عنها ؟! ذلك آلمها دون ريب لكن لا يعقل أن يدمرها ! هناك شيء .. أمر خفي عنه و مورفان يعلم بشأنه لكنه اكتفى بالتلميح و لم يوضح حقيقته.

أخذت الورقة تنزلق رويدا من بين أصابعه المتعرقة حتى أفلتت .. و لمح أثناء ترنحها في الهواء آخر كلماتها.

"إن سار الأمر كما أتوقع سيكون لنا لقاء آخر .. قريبا !"


كانت حالة الجمود التي أصابته مثيرة للقلق أكثر مما لو انهار أرضا أو أجهش بالبكاء . ظل متسمرا في مكانه ، مبحرا في ظلمات عقله ، غير مدرك لمحيطه ، و لا منتبها للاستفسارات التي انهالت من أفواه أتباعه و لبثت معلقة في الهواء بلا إجابة.

لم يكن ما انتشل انتباهه من عالم أفكاره صوتا .. بل كفا صغيرة دافئة قبضت على يده برفق.
رفت جفونه و قد استرجع كامل إدراكه ، و التفت إلى مايا التي كانت ترنو إليه بنظرة قلق تقارب الخوف .. انقبض فؤاده و أحس بالألم يسري في صدره حين وقعت عيناه على وجهها . نفس النظرات ، نفس الملمس الحاني ، و ذات التعبير الذي استبد بملامح لونا عندما استشعرت مخاوفه من حضور سوزان المفاجئ.

"هل أنت بخير سيدي ؟!"

فما كان منه إلا أن تبسم بأسى .. هذا هو الفرق الوحيد .. "سيدي" ، لونا لا يمكن أن تخاطبه بهذا الاحترام تحت أي ظرف.

ربت على رأسها و قال بصوت مبحوح : "أنا بخير .. لا تقلقي يا مايا !"

ثم انحنى ليلتقط الرسالة و عندما اعتدل لاحظ للمرة الأولى الوجوه القلقة التي تتطلع إليه.

كان آوتنبورغ أول من تجرأ و سأل : "هل كل شيء على ما يرام سيدي ؟!"

اغتصب ابتسامة أراد لها أن تكون مطمئنة ، لكنها بدت أوهن من أن تقنعهم "نعم.. لا داعي لهذا القلق !"

لم تقع كلماته موضع تهدئة لهم بل زادت قلقهم استفحالا .. ملأ العبوس وجه إيريك و هو يقول مستنكرا : "لكنك لم تبد أبدا بحالة طبيعية و أنت تقرأ .. رسالته !" قال كلمته الأخيرة باشمئزاز صارخ.

و أيده الآخرون بإيماءة جماعية لم يسع الكونت أمامها إلا أن يتنهد و يلوذ بالصمت.

تردد سيباستيان لبرهة قبل أن يتجرأ أخيرا و يقول : "مـ.. ما بها تلك الرسالة ؟!"

ظل الكونت متحصنا بصمته .. لم ير جدوى من إطلاعهم على مضمون الرسالة فهو يعرف مسبقا كيف سيكون رد فعلهم.

"أريد قراءة الرسالة .. هل يمكنني ؟!"

رفع الكونت رأسه باندهاش شديد و استدارت الوجوه كلها في مزيج من الصدمة و الانبهار بالجرأة المتهورة التي أبداها آليكسي بعفويته و عدم اكتراثه العجيب بالعواقب.

قال الأخير باستنكار ردا على نظراتهم المذهولة : "ماذا ؟! إنه مجرد سؤال !"

قال الكونت بسرعة و قد تخلى عن دهشته : "لا" ثم طوى الرسالة و دسها في جيبه دون أن تفوته آمارات الخيبة والامتعاض على وجه آليكسي "واصلوا البحث عن مورفان و أعلموني بكل جديد !"

ولى لهم ظهره و اتجه نحو القصر تاركا إياهم يحترقون حيرة و غيظا ، و همت مايا باللحاق به غير أن سيباستيان استوقفها قائلا : "دعيه لوحده يا مايا .. أظنه يريد الخلوة بنفسه لبعض الوقت"

طأطأت رأسها و قد أذهبت الخيبة بإشراق وجهها البريء .. و ركل آوتنبورغ حجرا صغيرا بعصبية و هو يقول : "سحقا لذلك الحقير ! ما الذي كتبه في تلك الرسالة الكريهة ؟!"



******


انتأى عن أتباعه داخل إحدى حجرات القصر الخالية ، و ارتمى فوق الاريكة الوثيرة بإرهاق . سحب الهواء إلى رئتيه ، فملأت رائحة نفاذة منفرة أنفه و أرقت نَفَسه . كانت مزيجا خانقا من دخان السجائر و العطور النسائية . إذن فعمته إيلينا أقامت أثناء زيارتها المشؤومة لباريس في هذه الغرفة.

لم يعرف كثيرا عن تلك العمة حتى يعطي حكما بشأنها ، لكنه مما وصله من بعض أخبارها لم يحبها ، و لم تعجبه تصرفاتها و لا الطريقة التي اختارت العيش بها ، و بالطبع لم يفكر لحظة في مقارنتها بأبيه الحنون ، لأنها ستغدو على الفور ملاكا طاهرا . على الأقل لم تقتل زوجها و لا حاولت تعذيب ابنها و إن سببت له العديد من المشاكل بسبب أسلوبها الأعوج في تحديد الأصلح له.

أرجع رأسه للوراء و استند إلى حافة الاريكة الذهبية المزخرفة مغمض العينين .. أحس بالظلام يبتلع ضوء الشمس رويدا رويدا و سواد الليل يزحف إلى الغرفة خلسة ، و عندما فتح عينيه أخيرا لم يجد سوى العتمة . أطلق تنهيدة خاوية ، و فيما يسترخي في جلسته لمحت عيناه وميضا ذهبيا خافتا . كان سطحا معدنيا مستطيل الشكل يعكس الأضواء الباهتة التي تبعثها عواميد الإنارة في الحديقة.

التقطه و أخذ يقلبه بين يديه .. كانت قداحة ! فتح غطاءها و أشعل شعلة .. فظهر النقش أسفلها بوضوح "إ.ف"

و دون تخطيط مسبق امتدت يده إلى جيبه و أخرجت الرسالة و ما لبث أن عرضها للنار التي انقضت عليها بشراهة . راقب الكلمات و هي تحترق و تتفحم و يتناثر فتاتها عند قدميه و كأنه بذلك يأمل في محو نسختها المحفورة في ذهنه ، و عندما التهمت النار نصفها بزغ في أعلاها رمز أسود على شكلِ معين ! حملق الكونت في الرمز و ألسنة النار تتخاطفه حتى محته تماما .. ماذا يعني ذلك ؟! ما الذي يريد أن يوصله إليه مورفان عن طريق هذا الشكل الغريب ؟!


انفتح الباب بغتة و داس الكونت بحذائه ما تبقى من الورقة المشتعلة قبل أن يرفع عينيه نحو القادم . كان آوتنبورغ و قد بدا عليه استغراب كبير من حبس الكونت نفسه داخل هذه الغرفة المظلمة ، لكن سرعان ما عاد وجهه متجهما عندما تذكر سبب مجيئه .. قال متنهدا : "لم نعثر على مورفان في أي مكان سيدي !"

عقد المعني حاجبيه و أطل الغضب من عينيه رغم أن صوته خرج هادئا كما أراد له : "ماذا ؟! هل بحثتم في مقرات المنظمة ؟!"

"لم نترك مكانا نعرفه إلا و قمنا بتفتيشه شبرا شبرا .. لكن لا أثر لمورفان و كأنه تبخر في الهواء !"

تريث الكونت و فكر بصورة محمومة قبل أن يقول : "لقد توقع هجومنا ، لذلك لا شك أنه قد أعد لنفسه مخبأ جيدا يحتمي به ريثما تواتيه الفرصة للهروب خارج المدينة.. " أضاف بعد برهة "ربما يختبئ عند أحد عملائه الخفيين عنا .. أو في منزل في ضواحي المدينة اشتراه سالفا باسم مزيف .. و قد .. "

و انقطع صوته في تلك اللحظة .. كان يحدق إلى حذائه فاغرا فاه و كأنه يرى شيئا رهيبا لا يبصره سواه.

اقترب آوتنبورغ ببطء و على وجه علامات القلق و التوجس "سيدي هل.. "

لكن الكونت هب واقفا بصورة فجائية أجفلت تابعه و صاح : "لقد عرفته ! عرفت أين يختبئ مورفان !"

ثم اندفع كالريح خارج الغرفة مخلفا وراءه آوتنبورغ في حالة من الذهول.











رد مع اقتباس