عرض مشاركة واحدة
  #304  
قديم 08-27-2016, 03:33 PM
 



الفصل الثامن و الخمسون
*صناعة الوحش*





وجد مدينته على الحال التي تركها فيها ، كبيرة ، مزدحمة ، تعج بالبشر من مختلف الأصول و الألوان ، تعلو سماءها الأبراج الشاهقة ، و تتجاور في ضواحيها الأبنية القديمة المتهالكة بالحديثة النظيفة زاهية اللون.
كانت المشاعر التي يحملها لهذا المكان في قلبه لا تتعدى الاشمئزاز و النفور ، و لم يحب مطلقا العودة إليه . إنه يذكره بكل ما يكره .. ماضيه ، و أصله ، و عقدة النقص المتأصلة في ذاته.

على خلاف ما توقع لم ينزلوا في أحد الفنادق الراقية ، بل في شقة عتيقة بشعة تطل من الجنوب على موقع للبناء لا ينقطع ضجيجه طيلة النهار ، و من الشمال على زقاق ضيق ما إن يرخي الليل سدوله حتى يعج بالمشردين و السكارى.

استهجن بشدة هذا البخل الفظيع من رجل فاحش الثراء كفرديناند و عندما استفسر منه عن السبب رد مبتسما :

"لقد اشتريتها من أجلك أنت !"


من أجله ؟! هكذا إذن .. هذا يفسر عدم اكتراثه برثاثة الشقة و رداءة موقعها ، فهي لن تكون مسكنا لرجل بمثل مكانته الرفيعة ، بل لطفل عديم القيمة لا يملك من الدنيا شيئا . كتم غيظه بصعوبة و بجهد مضن قمع رغبته الجامحة في ضربه . إنه لا يكره شيئا في الوجود بقدر أن يهان كبرياؤه.


و بينما يجلس إلى المائدة يقلب غداءه بلا شهية و يحرص على تجنب النظر إلى فرديناند كيلا يعود إليه غضبه بادر بالقول :

"متى سيكون موعد العملية ؟!"

"هذا ما سيحدده الجراح . لقد حجزت لك موعدا في الثالثة مساء من يوم غد !"

"حسنا.."

ثم دفع كرسيه للخلف و ترك مائدة الطعام متجها إلى الشرفة بوجه لا يكاد يحمل أي تعبير.

لاحقه فرديناند بقوله :

"أنت لم تأكل شيئا !"

و رد جاستن ببرود دون لحظة توقف أو التفاتة :

"لست جائعا.."

و حالما وطئت قدماه أرض الشرفة هبت نسمات عذبة تخللت برودتها خصلات شعره الأشقر ، و أنعشت حيوية جسمه و نشاطه الفاتر ، و ظل الهواء العليل يلاطفه كما لو أنه يبغي مواساته و فك العقدة العنيدة بين حاجبيه.

كان جاستن على وشك القبول بهذا الصلح المؤقت لولا أن سبب تكدره و انزعاجه قد عاد ، فعاد مزاجه يعتل مرة أخرى.

وقف فرديناند و يداه متشابكتان خلف ظهره إلى جوار جاستن الذي انزاح جانبا بضع خطوات و أرسل نظراته الساخطة بعيدا عن الآخر إلى البناء الضخم غير المكتمل الذي ينتصب أمامه بثبات.


"هل تعرف من صاحب هذا المشروع ؟!"

رد جاستن ببرود و عدم اكتراث :

"لا.. "

"إنه لرجل أعمال كبير يدعى باتريك مور . لقد دخل مجال التجارة قبل عدة سنوات و أحرز العديد من النجاحات . يملك مصنعا للأنسجة و ثمان مجمعات تجارية في نيويورك وحدها !"

ظل بصر جاستن معلقا بملل على الرافعة الضخمة التي تتحرك يمينا و يسارا ، ترتفع و تهبط ، حاملة أكوام من الرمال أو الاسمنت أو مجموعة من السندانات الحديدية.


"لكن أتدري ؟! إنه ليس المالك الشرعي لهذه الثروة !"

التفت جاستن نحو محدثه ببطء دون أن تخف علامات الضجر و اللامبالاة على وجهه.

"حقا ؟!"

"نعم ! وريثها المستحق ليس مور ... بل أنت !"


كان يتحدث بحماس و ثقة بالغين ، لكن جاستن ما كان ليصدق لحظة واحدة كذبة غير معقولة كهذه لا تنطلي حتى على الأطفال الصغار . رفع حاجبيه متصنعا الدهشة بأسلوب لا يضاهى في سخريته و قال ببرود شديد :

"حقا ؟! هذا مثير .. "


فما كان من الآخر غير أن ضحك و قال :

"من الطبيعي ألا تصدق . انتظرني لحظة.. "

و عاد للداخل في حين التفت جاستن أمامه و تابع بغير استمتاع مراقبة عملية البناء المملة.

و إثر دقائق من الصمت أتاه هتاف فرديناند :

"تعال إلى هنا يا جاستن !"


أطلق المعني زفرة انزعاج و جر ساقيه عائدا إلى غرفة المعيشة الصغيرة .
كان فرديناند مسترخ على الاريكة الرثة يحمل بيده كتابا ما ، و حالما وقعت عيناه على جاستن أشار له بالجلوس قربه.

امتثل الأخير لطلبه على مضض ، و نقر الأول بأصابعه على مغلف الكتاب السميك و هو يقول :

"هذا هو الدليل !"

ثم مد يده بالكتاب لجاستن الذي عقد حاجبيه في مزيج من الشك و الاستياء و تردد بضع لحظات قبل أن يأخذه في الأخير.

قلبه بين يديه بتململ و قلة اهتمام . لم يكن في الواقع كتابا بل دفتر مذكرات نقش على طرفه السفلي اسم "هيلين سكوت"

و عاد فرديناند يقول فجأة :

"ماذا تعرف عن والديك يا جاستن ؟!"


التفت المعني نحو سائله و قد خانته عواطفه و استرجعت نظراته عدائيتها و سحنته غلظتها المعتادة . حدق في وجه رفيقه الهادئ بمزيج عنيف من الغضب و الكره و التمرد و في لحظة مرت سنين حياته السابقة أمام ناظريه.

قبل التحاقه بالنجوم المضيئة كان يعيش في إحدى دور الأيتام في ضواحي نيويورك الفقيرة . وجد نفسه هناك منذ أن فتح عينيه على الدنيا . لم يعرف أبا و لا أما و لا أي قريب ، و لم يملك من الدنيا شيئا سوى الاسم الذي أطلقته عليه مديرة الميتم.
الشيء الوحيد الذي عرفه عن أمه - و كان عن طريق استراق السمع لحديث جرى بين المديرة و المربية - هو أنها تخلت عنه و رمته عند باب الميتم في إحدى ليال ديسمبر المثلجة.

و لم يستدع الأمر الكثير من التفكير ليدرك أنه كان ابنا لا مرغوب فيه وفد إلى الدنيا بطريقة غير شرعية ، فاقتضت الضرورة و مخافة العار التخلص منه بسرية.
لم يكن الوحيد بين أقرانه على هذه الحال ، لكن ذلك لم يشكل له أي عزاء ، على العكس كانت كثرة وجود حالات مشابهة تزيده غضبا و احتقارا تجاه مجتمعه ، و شيئا فشيئاً فاضت الكراهية - و التي هي كل ما يكنه لأمه و أبيه من مشاعر - لتغمر كل من حوله و ما يحيط به.

ذلك الفتى الذي لم يحبه أحد و لم يرغب بوجوده حتى أبواه كبر لا يحب غير نفسه و لا يرى في الكون سواها و لا يشغله شيء بقدر إثبات تميزه و تفوقه عمن دونه من البشر.

و عندما انتقل لمدرسته الجديدة في ستراسبورغ اضطرمت عدوانيته و تعاظمت أنانيته و رغبته المتغطرسة في أن يجعل من نفسه نجما عظيما ساطعا يتوهج وحيدا بلا منازع في سماء المجد حتى أصبح لا يرى في زملائه غير خصوم يجب سحقهم .. خاصة آلويس . ذاك المغرور نقيض جاستن الذي ولد بين أحضان عائلة محبة تفخر به و تحيطه بكل الحنان ، و رغم أنه فقد تلك الأسرة في حادث مفجع إلا أن ذلك - من وجهة نظر جاستن - لا يقلل من وفرة حظه ، فهو على الأقل يعرف عن يقين أن أسرته تحبه و ظلت تحبه إلى آخر لحظة.



زوى ما بين عينيه و رد بحدة زائدة :

"سبق و أجبتك !"

بهدوء لم يتعكر انحنى فرديناند للأمام و شبك أصابعه ببعضها و شبه ابتسامة تعلو شفتيه.

"أنت تظن أنك طفل غير شرعي تخلى عنه والداه .. أليس كذلك ؟!"

لم يصدر جاستن ردا و اكتفى بتصويب محدثه بنظراته اللاسعة.


"إذن فدعني أخبرك أنك مخطئ .. أنت طفل شرعي تماما ! لكنك من جهة أخرى مصيب بشأن تنكر والديك لك !"

انفكت عقدة حاجبيه بعض الشيء جراء دفقة من الذهول الجامح احتلت قسمات وجهه في أقل من لحظة.

"ما الذي.. تتحدث عنه ؟!"

أطلق المعني تنهيدة خفيفة و استرخى على ظهر الاريكة متابعا حديثه بهدوء :

"افتح الدفتر و انظر لثالث صفحة !"

تلكأ جاستن لبرهة و بدت عليه سمات الشك ، لكنه انصاع في الأخير و قلب صفحتين اكتظت سطورهما بكلام كثير لم يسعفه الوقت لتمييزه ، ثم توقف عند للصفحة المطلوبة.
لم يكن في الصفحة الثالثة أي كتابة و إنما صورة يشغلها رجل مهيب الطلعة ، حازم النظرات ، عابس الوجه ، قد ناهز الخمسين من عمره - حسبما استنتج جاستن من تجاعيد وجهه - بيد أن شعره الكثيف المسرح بأناقة و صرامة في آن معا لم يفارق لونه الذهبي الفاقع.

و لم تواته الحاجة لسؤال فرديناند عن هوية صاحب الصورة إذ كان اسمه مكتوبا بخط يدوي جميل تحت الصورة بسطرين :
"آرثر سكوت .. والدي الحبيب !"


"آرثر سكوت ؟!" قال جاستن بلهجة مفعمة بالاستغراب و التفت إلى رفيقه متسائلا : "من يكون هذا ؟! و ما علاقته بي ؟!"


ألقى المعني ابتسامة صغيرة و رفع ساقه فوق الأخرى قبل أن يجيب :

"جدك !"

"جدي ؟!"

تمتم جاستن بلهجة مشبعة بالشك و عاد يتطلع إلى الرجل في الصورة بتركيز أكبر . هناك بعض التشابه بالفعل بينه و بين جاستن .. لون الشعر ، و العينان الزرقاوان داكنتي اللون ثاقبتي النظر ، و الوجه العبوس الصارم .. لكن أيا من تلك الأوصاف لم تكن من القوة و الوضوح بحيث تثبت صلة الدم من عدمها.


و فيما جاستن يحملق في صورة جده المزعوم فرد فرديناند ذراعيه فوق ظهر الأريكة و شرع يتحدث بهدوء و روية :

"آرثر سكوت كان رجلاً جلفا ، صارما ، حاد الطباع و غير محبوب من أحد تقريبا ، لكنه في الآن ذاته داهية لا يقهر في عالم المال . رغم أنه ولد لأسرة فقيرة إلا أن الفقر لم يعكر صفو حياته طويلا ، فقد استغل ما وهب من عبقرية في التجارة و أسس مشروعا خاصا به ، كان محلا صغيرا يدر عليه دخلا ضئيلا في البداية ، لكنه ما لبث أن أخذ يكبر و يتوسع بفضل حنكة سكوت و حسن تدبيره ، ثم ما فتئت المشاريع تتبع الأخرى و الثروة تزداد و الأموال تتكاثر حتى بلغ ما بلغ من غنى و ثراء !"


سكت برهة و أخذ يرقب عن كثب رد فعل جاستن ، لكن الأخير لم يقدم على أي تصرف أو كلام و اكتفى بإمعان النظر في وجه جده المتجهم و إسقاط ما زعم فرديناند له من صفات على محياه ، و قد أدهشه كمال التوافق بينهما.


"كان جدك قاسيا بخيلا على الجميع باستثناء أمك . ابنته الوحيدة هيلين !"

و تحرك بصر جاستن المشدوه ببطء نحو دفتر المذكرات بين يديه ، و توقف عند اسم صاحبتها المنقوش بلون الذهب.

"و لما كانت هي آخر من تبقى من أهله ، فقد أغدق عليها حبه و رعايته و دلاله ، و لم يكن من الغريب أن يوصي لها بكل ثروته عند مماته ، و لم يكن من الغريب أيضا أن يتهافت الطامعون عليها من كل صوب بغية إصابة شيء من أموالها الطائلة ، لكن أيا منهم أثناء حياة جدك لم يستطع بلوغ مراده و عاد أدراجه خائبا ، فقد كان له من الفراسة بحيث يميز دون عناء يذكر الكاذب من الصادق ، و المحتال من النزيه ، و الغادر من الوفي . و كثيرا ما عنف هيلين على سذاجتها ، و سهولة انخداعها ، و سرعة تصديقها لما تسمع ، لكن تحذيراته المتكررة لها لم تكن بالفائدة المرجوة ، فهيلين مجبولة بفطرتها على الطيبة البلهاء و صفاء النية الأخرق . و بعد وفاة والدها بأقل من سنتين تزوجت من أسوأ خاطب تقدم لها و أشد النصابين خبثا و خداعا .. باتريك مور ! والدك !"

بدا الانشداه مطبقا على جاستن .. ضاقت عيناه ، و تقارب حاجباه حتى كادا يلتحمان ، و تبدد صوته في حلقه.

"و لشبه انعدام خبرتها في شؤون التجارة أوكلت إلى زوجها الإشراف على أعمالها و إدارة ثروتها على النحو الذي يراه مناسبا ، و اكتفت هي بالتوقيع على ما يطلب من أوراق و ملفات دون مطالعة فحواها حتى . كانت تعطيه ثقة عمياء صماء ، و كان هذا أغبى ما أقدمت عليه في حياتها ، فهو لم يكن بالحب الذي توهمت ، و لا بالنزاهة التي توقعت ، و لم يتورع عن اغتنام أي فرصة تواتيه لسلب ثروتها و الاستحواذ على ممتلكاتها.
و لم تدرك هيلين المؤامرة التي يحيكها ضدها إلا بعد فوات الأوان . حدث ذلك أول حملها بك ، حين جاء إليها خادم أبيها المخلص - الذي حذرها مرارا من خبث مور و خيانته و حاول ثنيها عن الزواج به دون فائدة - و أبلغها بمخطط مور للاستيلاء على أموالها ، و كما تفعل في كل مرة لم تصدقه ، و عنفته أقسى تعنيف ، فما كان منه إلا أن يطلب منها أن تحاول - على سبيل التجربة فقط - بيع المركز التجاري وسط المدينة و الذي من المفترض أن يكون ملكا لها ، و نتيجة لإلحاحه الشديد وافقت على مضض و اتصلت بمحاميها .. ثم وقعت الصدمة على رأسها كالصاعقة . لم تخسر ذاك المركز فقط بل كل ممتلكاتها . نقلت ملكيتها برضاها و موافقتها الكاملة إلى زوجها و لم يتبق في حوزتها أي شيء !
أسرعت إلى مور و صارحته بما اكتشفت آملة أن يكون مجرد خطأ غير مقصود ، لكن رد فعله البارد و نظرته المتعالية نحوها أحالا كابوسها واقعا لا يقبل الشك . أخذت تبكي ، و تذكره بعهده لها و الحب الذي يجمع بينهما ، و تستفسر عن الأسباب التي دفعته لخيانة ثقتها ، و حين أطالت الصراخ و العويل و ضاق صبره بها أمر الخدم - الذين عينهم بنفسه - بطردها خارج القصر الذي دخل بدوره حيز أملاكه ، و كمحاولة أخيرة ذكرته بك ، و حاولت إثارة عاطفته نحوها عن طريقك أنت .. ابنهما ، لكنه لم يتأثر بمحاولاتها و قال أنه سيتنازل عن حقه الأبوي و يعطيها إياك و أنها يجب أن تكون ممتنة لأجل ذلك .. ثم رماها خارجا .
فجأة وجدت نفسها في العراء .. لا تملك من المال بنسا واحدا و لا تحمل من المتاع سوى الملابس التي تسترها . كانت لتقضي ليلتها في الشارع مع المشردين لولا أن خادمها العجوز استضافها في منزله ، و بما أنه خسر وظيفته ، فقد اضطر للعمل في أحد المطاعم و كذلك أمك ، فهو لم يملك من الدخل ما يمكنه من إعالتها و الإنفاق عليها فترة طويلة.
انقلبت حياتها جحيما لا يطاق ، و تبدلت طباعها كليا ، تحولت الفتاة الباسمة الثرية المدللة لامرأة كئيبة فقيرة ترمق كل من حولها بالحقد ، و لا يكاد يمر يوم دون أن تحاول قتل نفسها .. أو قتلك ! لكن خادمها لم يزل يقف لها بالمرصاد و يحول بينها و بين كل محاولاتها لإيقاع الأذى بنفسها أو بك .. حتى حانت ولادتك . و في اليوم الذي دخلت فيه الدنيا رحلت أمك عنها حزينة مكروبة !"



و أتبع آخر كلماته بالتفاتة نحو جاستن .. كان هذا يحدجه بنظرة شديدة الحدة و لم يتريث قبل أن يصيح غاضبا :

"هل تظنني سأصدق مثل هذا الهراء ؟! أبي محتال قذر و أمي طفلة خرقاء ؟!"

و كاد يرمي الرجل بالمذكرات في منتصف جبهته لولا أن الأخير التقطها بيده الرشيقة في اللحظة المناسبة و أضاف فيما يلقيها على الاريكة بهدوء :

"هذه المذكرات أمامك فتأكد بنفسك ! أظن تملك من الذكاء ما يؤهلك لكشف الكذب حال وجوده ، أليس كذلك ؟!"

"هذا أكيد و لهذا أنا أعرف جيدا أنك برمتك شكلك و اسمك و حتى منزلتك مجرد كذبة سخيفة ! فكيف يمكنني تصديق شخص وجوده بحد ذاته كذبة ؟!"


لم يظهر على فرديناند شيء من الغضب أو الانزعاج و إنما تبسم ابتسامة أقرب للضحكة و قال :

"قد أكون كذبة كما تقول ، لكن كل ما أخبرتك به حقيقي !"


بحركة عنيفة نهض جاستن و تطلع إلى الآخر و كل خلية في جسمه ترتعش من فرط الغضب و الخوف في آن معا :

"لا أصدقك . لم و لن أصدق كلمة واحدة من كلامك التافه . أنا لا أملك أي ثروة ، و لا أنتمي لأي أسرة . ليس لدي أبوان ! لست أكثر من طفل غير شرعي رمي مخافة الفضيحة ! هذه هي الحقيقة !"


قبل دقائق فقط كان هذا الاحتمال هو الأسوأ بالنسبة له و مجرد التفكير به يجعله يثور و يفقد السيطرة على أعصابه ، لكنه الآن يتشبث به كما لو كان حبل نجاته الوحيد و أمل حياته الأخير ، فهو على الرغم من قسوته و بشاعته يبدو رحيما مبررا إذا ما قورن بالحكاية التي رواها فرديناند.

لم يعد يريد عائلة ، لم يعد يهمه الأصل و النسب ، لم تعد تغريه الألقاب البراقة التي تمنحها الثروة و المكانة الاجتماعية الرفيعة . لم يعد يرغب في شيء غير أن يعود لما كان عليه قبل لحظات .. طفل معدم مجهول الانتماء.


أراد أن يصيح بصوت أعلى و يواصل مجادلة فرديناند حتى يغلبه و يدحض إدعاءه الباطل ، لكنه لم يقو على الكلام أكثر ، فقد بح صوته و تورمت حنجرته لشدة ما صرخ.

فوقف يلتقط أنفاسه المتلاحقة و عيناه الزرقاوان تبدوان بتموضعهما أعلى وجهه المحمر أشبه ببحيرتين صغيرتين وسط بحر من الحمم البركانية.

و كان الهدوء و الرزانة الذين حافظ عليهما رفيقه أكثر ما ساعد على إخماد نار الفتى الثائر ، فقد أوحى سكوته عن شيء من السيطرة لهذا الأخير و إن لم يكن هذا الإيحاء حقيقيا.

ألقى نظرة سريعة على ساعته ، ثم عدل ياقة قميصه و تفحص ربطة عنقه بهدوء يثير العجب قبل أن ينتصب واقفا و يقول :

"أنت حر فيما تؤمن به ، سواء صدقتني أم لا هذا الأمر عائد إليك ، و يمكنك أن تبحث و تستكشف عن الحقيقة بنفسك إن كنت تجدني غير أهل للثقة !"

التقط حقيبة عمله و اتجه صوب الباب و هو يضيف : "ستقضي بقية الوقت وحدك ، فجدول أعمالي ممتلء اليوم ، لكني سأعود في الغد لاصطحابك إلى المشفى !"


و بات جاستن وحيدا بين جدران أربعة تردد صدى أفكاره الموجعة و تعيد على مسمع وجدانه سرد حكايته المأساوية بكل تفاصيلها القاسية.

تهالك على الاريكة بعدما عجزت قدماه عن حمل أثقال هواجسه السوداء . شرد بصره في الفراغ ، و امتدت ذراعاه إلى جواره ، فإذا بأصابعه فجأة تلامس غلاف الدفتر المشؤوم ، و إذا به يشد يده إليه فزعا ناقما كما لو أن ألسنة نار لسعتها.


انعقد حاجباه و نظر شزرا إلى المذكرات الملقاة بجانبه و التي لدهشته كانت مفتوحة على إحدى الصور . شغلته لهفة الفضول عن غضبه لفترة ، و التقط الدفتر و تمعن في الصورة التي احتلت صفحة بأكملها تقريبا .. صورة زفاف والديه.

سرت رعشة خلال يديه و هو ينظر إلى وجهيهما الباسمين . لم يكن يشبه أيا منهما ، لا والدته ذات الشعر البندقي الاملس ، و العينين البنيتين ، و تعبير العنزة الخنوع -كما سماه جاستن- السائد على سحنتها ، و لا والده بوجهه الطويل كوجه الحصان ، و لون شعره الشاحب ، و عينيه الخضراوين الصغيرتين.

إن كان ما ادعاه فرديناند عن انتمائه لهذه الأسرة صحيحا ، فإن كل ما ورثه من هيئته و خصال شخصيته جاء من جانب جده آرثر سكوت فقط.


أغلق الصفحة ثم فتح المذكرات على بدايتها .. يجب أن يعرف ، يطلع ، و يجمع كل ما يمكنه من معلومات إن أراد الوصول للحقيقة . سيتفحص و يتحقق من كل شيء قبل أن يقبل الإقرار به.

و أخذ يقرأ ما دونته هيلين - فهو لم يتحقق بعد من رواية فرديناند بشأن كونها أمه - عن أحداث و أشخاص و ظروف مرت بحياتها . عرف عن والدتها المريضة التي توفيت قبل بلوغها سن المراهقة ، و مدعيات الصداقة اللاتي التصقن بها لا لشيء سوى ثروتها ، و عدد الخطاب الذين تقدموا لها و رفضهم والدها بكلمة واحدة ، و كيف التقت أثناء دراستها الجامعية بباتريك مور و خدعت بحبه ، و كم كان هذا الرجل خبيثا بحيث ظل متواريا عن أعين أبيها و لم يتقدم لطلب يدها حتى بلغ الأخير نحبه.
و الأهم من كل ذلك عرف كم كانت هيلين نفسها غرة ، غضة المشاعر ، سريعة التأثر ، تحكم عاطفتها في جميع شؤونها و لا تستشير عقلها إلا أيام الامتحانات.


ظلت حياتها تسير على وتيرة حسنة - حسب وصفها هي - تزوجت من مور و كان حفل زفافهما من أضخم الحفلات التي مرت على نيويورك منذ سنوات . كانت ترى نفسها ذلك الوقت المرأة الأسعد في الكون‘

تبسم جاستن بسخرية مريرة ، و بعد قراءة عشرات من الصفحات المليئة بالثرثرة ، الفارغة من الفائدة .. وصل إلى اليوم الذي علمت فيه بقدومه ، و خفق قلبه رغم عنه و هو يستشعر حجم فرحتها عبر تعرجات خطها و أحرفها الكبيرة . كانت تخطط لإقامة حفل كبير احتفاء بهذه المناسبة ، لكنه حين قلب الصفحة التالية لم يجد شيئا . كذلك التي بعدها .. و بعدها .. و بعدها كلها فارغة . توقفت عن التدوين فجأة و كليا.

استغرب أول الأمر ، لكنه سرعان ما استوعب السبب . لا شك أن هذه هي الفترة التي تكشفت فيها على حقيقة مور.

تنهد و فيما يطبق الدفتر .. لمح بين آخر الصفحات خطوط سوداء .. ففتح المذكرات من نهايتها ، و وجد ثلاث صفحات لا تشبه سابقتها سوى بكثرة ما تداخل بين سطورها من كلام.

كانت تلخيصا لما حصل مع هيلين فترة انقطاعها عن الكتابة . تروي حكايتها الأليمة بقلم باك و خط مضطرب ، و كل حرف من حروفها يفشي وجعا مكتوما كما لو كان مخطوطا بحبر دموعها .


كان قلب جاستن ينقبض مع كل سطر يمر به ، و حالما أصبح محور الحديث يدور حوله .. غدا صدره أجوف فارغا لا قلب يبعث فيه الدفء و لا نبض يبدد وحشته .

"..أما هذا الطفل .. فلست أريده ! إنه ابن ذاك الحقير و أنا لا أحتمل وجود جزء منه في أحشائي . إنه لوثة ، بل سم . و لولا العجوز لامب لكنت تخلصت منه و من نفسي.
خير له أن يموت ! و إلا فليأخذ بثأره !
فليأخذ بثأره من أبيه الخائن و كل الأوغاد من أمثاله !"



كان يحس بكلماتها تصرخ في أذنيه كأنها استبقت فيها شيئا من روحها الحاقدة .. يسمع أنينها ، و يرى قطرات دموعها المتجمدة على رموش عينيها كما لو كانت ماثلة أمامه تخط عباراتها في هذه اللحظة.


"هذا لا يمكن .. " تمتم جاستن و عيناه مسمرتان على وصية هيلين "أن يكون حقيقة !"

و شدت قبضتاه المرتجفتاه على غلافي الدفتر.

"إنها ليست أمي .. و ذلك ليس أبي .. لا يوجد أي دليل يثبت انتمائي إليهما . أجل ! إنه فقط.. "

و تحركت عيناه في تلك اللحظة نحو التاريخ المدون فوق الصفحة الأخيرة .. التاسع عشر من ديسمبر/كانون الأول 1987
قبل ميلاده بيوم واحد !

لا .. هذا ليس دليلا . لكنه يشعر فعلا أن الكلام موجه إليه .. ذلك لأن فرديناند حشر هذه الفكرة في رأسه ، فلينظر إليه ! من يكون هذا الرجل حتى يصدق ما يقوله ؟!
لكنه لا يبدو كاذبا بهذا الشأن و لم يكذب من الأصل ؟! ما الفائدة التي قد يجنيها من تلفيق حكاية طويلة ، دقيقة التفاصيل ، متعددة الشخوص كهذه التي قصها على جاستن ؟!
كون القصة حقيقية لا يعني بالضرورة أن يكون جاستن الطفل المعني بها . لا يوجد في الحكاية أيما مؤشر يضيق دائرة الاختيار عليه دون باقي الأطفال مجهولي النسب.
لا يوجد أي دليل ! و لا حتى طرف خيط يقود إليه !


و عاد يتطلع - بصورة تلقائية - إلى المذكرات بين يديه . عندها جذبت انتباهه كلمة معينة كان تدفق عواطفه و صراع أفكاره قد شغلاه عن الالتفات إليها قبلا.

رفع عينيه و نظر أمامه بحزم .. ها هو الآن يعرف كيف سيتثبت من هذه الحكاية.











رد مع اقتباس