الموضوع
:
إبداع متناثِر ~ 🔥باحثا عن ظلي🔥
عرض مشاركة واحدة
#
305
08-27-2016, 03:36 PM
Mygrace
الفصل التاسع و الخمسون
*شيطان أم ضحية*
كان الوقت ضحى حيث الشمس بقرصها الدائري المتوهج نورا و حرارة تعلو كبد السماء الصافية عندما غادر جاستن شقته وحيدا و هبط إلى الشارع المزدحم للمرة الأولى بوجهه المكشوف الخالي من الضمادات.
لقد مضى أسبوعان على وصوله إلى نيويورك و خلال هذه المدة خضع للجراحة التجميلية الموعودة . كان من المخطط أن يتم إصلاح التشوهات فقط ، لكن بطلب لحوح من جاستن نفسه و موافقة من فرديناند قام الجراح بإجراء بعض التعديلات على ملامحه ، و التي على الرغم من اعتبارها سطحية ضئيلة إلا أنها تجعل من التعرف عليه مهمة غير يسيرة حتى بالنسبة لمن سبق لهم الالتقاء به.
و لأجل هذه النقطة الأخيرة بالذات جاء إصرار جاستن . أراد أن يمحو صورته القديمة ، و يدخل خضم الحياة هنا بوجه جديد و اسم مختلف .. كي يتسنى لهدفه المنشود حديث النشوء أن يتحقق.
مرت فترة طويلة منذ اطلع لأول مرة على مذكرات هيلين ، و رغم أنه لم يفتحها مجددا إلا أنها لم تبرح ذهنه يوما واحدا ، و لم تنفك عبارات المرأة الراحلة تتردد في عقله و تعكر سكون ذهنه صباحاً و مساء ، في النوم و اليقظة على حد سواء.
و كان عليه أن يتحمل أياما من الرقاد المضجر في تلك الغرفة الكئيبة المثيرة للأعصاب قبل أن يأذن له الطبيب أخيرا بمغادرة المشفى و إزالة كامل الضمادات عن وجهه.
لم يكن الشعور الذي انتابه و هو يطالع وجهه الجديد في المرآة حسنا بأي شكل . لم يستطع أن يبتسم ، و لا أن يرغم نفسه على حب هذا التغيير رغم بساطته النسبية . كان يشعر أن ذلك الوجه المنعكس على المرآة لا يعود إليه بل إلى شخص آخر ، و كأنما حلت روحه بجسد ثان لا يمت له بصلة.
لكنه أجبر نفسه على تقبله و القبول به و مع مرور الوقت و تكرار المشاهدة أخذت عيناه تألفان هذا الوجه ، و بدأ التفكير به يتضاءل و ينسحب من ذهنه تدريجيا حتى انقطع بشكل كلي ، و عاد تركيزه ينصب على مواصلة خطته التي تخمرت في رأسه قبل عهد قريب.
أخذ نفسا عميقا و حث خطاه بين أفواج البشر متفاديا قدر الإمكان الاحتكاك بهم أو تبادل النظر مع أي منهم إلى أن بلغ وجهته المتمثلة بمحطة المترو الأقرب إليه.
لم يكن المترو قد وصل بعد ، فقطع تذكرة و انتقى لنفسه مقعدا منفردا في الزاوية و جلس ينتظر.
و في تلك الأثناء أخذ يراجع في عقله ما جهز آنفا من كلام ، و يدقق النظر في ما اختار من أساليب و حجج قد تتيح له - إن سارت الخطة كما يجب - الوصول لمبتغاه.
و ما كاد يفرغ من ذلك حتى لمح أضواء المترو تنير النفق .. فنهض و في اللحظة التي تقدم إلى الرصيف كان الثعبان المعدني الضخم قد انسل برشاقة فوق السكة و توقف أمام الوافدين فاتحا أبوابه.
و لما كان الزحام شديدا و المقاعد مشغولة عن آخرها لم يجد الفتى بدا من قضاء رحلته واقفا متمسكا بإحدى القبضات المتدلية من السقف.
و حينما وصل أخيرا للمحطة المطلوبة و جر قدميه خارج المترو شعر بوخز مزعج في ساقيه ، و كيف لا بعد خمس عشرة دقيقة من الوقوف المتصلب غير المريح وسط ذاك الحشد اللعين.
كان يعرف هذه المنطقة أكثر من غيرها فقد ولد و ترعرع فيها ، و كان ليتجنب قدر استطاعته العودة إليها لو لم تدعه الضرورة لذلك ، فهي لم تكن يوما مكانا محببا إليه ، و ما قضاه من أوقات فيها لا يمكن وصفها بالسعيدة.
أخرج دفتر ملاحظاته و تأكد من العنوان المدون قبل أن يستقل سيارة أجرة و يتجه إلى المتنزه الوحيد في هذا الحي.
لقد سبق له أن زاره مرات و مرات في طفولته ، فقد كانت إدارة الميتم تنظم للأطفال نزهة أسبوعية كل يوم أحد ، و كان ذلك المتنزه غير الفريد محلها الدائم.
دس يديه في جيوبه و أخذ يسير متمهلا عبر الطرقات المعبدة غير عابئ بالمنظر الخلاب الذي يحيطه من الجانبين ، كان العشب نضرا نديا و الأشجار المثقلة بالثمار داكنة الخضرة ، و الأزهار بمختلف أنواعها و ألوانها تتفتح و تنتشر بسخاء فوق بساط الطبيعة المزدهرة.
لم يهمه شيء من ذلك ، كان كل انتباهه و اهتمامه منصبا على الوجوه و الأجساد المتحركة . يجيل طرفه بتركيز بينهم مرددا في ذهنه أوصاف هيلين : (عجوز أصلع ، محدودب الظهر بدرجة يسيرة ، ضعيف البصر لا يفارق نظارته المستديرة)
واصلت قدماه الخطو و عيناه التنقيب بلا كلل أو ملل ، لكن بحثه الدؤوب لم يسفر عن نتيجة .. العجوز لامب غير موجود.
ألقى بجسده المنهك فوق مقعد خشبي و أطلق زفرة ضيق . لقد مضت ثلاث عشرة سنة تقريبا على عادة ذلك الرجل بزيارة هذا المكان و ربما توقفت منذ زمن . مع أن جاستن قد رجح استمراره على ذاك الروتين ، فكبار السن في العادة يميلون إلى المحافظة على انتظام جداولهم اليومية ، فذلك يجعل حياتهم أكثر سهولة و راحة و هدوء.
ثم خطرت بباله فكرة مفاجئة : هل يعقل أن يكون مريضا بحيث لا يستطيع الخروج من منزله ؟! سقيما .. أو حتى ميتا ؟! لن يندهش إن كان الاحتمال الثاني صحيحا فهو..
ثم انقطع تدفق أفكاره عند هذا الحد إثر ضربة تلقاها على رأسه من الخلف . لم تكن ضربة موجعة ، فالكرة - التي قذفت نحوه عن طريق الخطأ - كانت مطاطية خفيفة إلى حد ما ، لكن هذا لا ينفي كونها مزعجة.
التفت نحو الأطفال بغضب و على الرغم من أنهم كانوا يعتذرون إلا أنه التقط الكرة و كاد يلقيها في سلة القمامة لولا أن شخصا خطفها من يده برفق.
"ليس هكذا يا جاستن !"
و هو يسمع اسمه ينطق انحصرت كل توقعاته على فرديناند ، فمن غيره سيتعرف عليه بعد الجراحة التجميلية ؟!
و قد فوجئ حتى الذهول حين أبصر ذلك الوجه العجوز الباسم و النظارة المستديرة اللامعة.
لم يستطع الكلام لبرهة و بقي يتطلع إلى العجوز مشدوها ، في حين تحرك الأخير و سلم الكرة لأصحابها الصغار قبل أن يعود أدراجه مرة أخرى.
حدق الفتى إليه عاقدا حاجبيه .. لقد سار الأمر على غير ما توقع و ذهبت كل خططه و تجهيزاته لهذا اللقاء هباء.
"كيف تعرفني ؟!"
أراح العجوز جسده الممتلئ فوق المقعد و اتسعت ابتسامته الدمثة و هو ينظر نحو جاستن و يقول مصححا :
"تعني كيف تعرفت عليك رغم هذا التحوير في ملامحك ؟!"
ضاقت عينا جاستن في مزيد من الشك و العجب بينما تابع الآخر :
"ذلك لم يكن صعبا في الحقيقة ، فإن طباعك -بخلاف شكلك- لم تتغير !"
"تتحدث كما لو كنت تعرفني جيدا .."
"حسنا أنا لا أدعي ذلك .. كل ما في الأمر أني اعتدت على مراقبتك عندما كنت تأتي إلى هنا في صغرك !"
"تراقبني ؟!"
فرفع العجوز عينيه الرقيقتين المحفوفتين بالتجاعيد و قال بثقة :
"نعم .. كان علي التأكد من أنك على ما يرام !"
لم يعد من مجال للشك .. ما رواه فرديناند كان حقيقة . إنه ابن هيلين سكوت و باتريك مور ، طفل ولد من حب زائف و طمع مقنع بالنزاهة ، و عوقب بالرفض و النكران على خطيئة لم يرتكبها.
على عكس المرة الأولى لم يشعر بأي حزن أو تحسر ، بل ارتخت عضلات وجهه في برود و لامبالاة ، فذلك الجزء في صدره الذي تتدفق منه أوجاعه لم يعد موجودا.
و لم تعد تلك المضغة الحمراء المسماة بالقلب أكثر من مضخة آلية تدفع الدماء إلى شرايينه . لقد اختفى الألم ، و الأسى ، و الخوف و انسلخ الإحساس عن روحه.
استدار بهدوء و جلس إلى جوار المسن قبل أن يقول ببرود :
"لم أتوقع أن تعترف بهذه السرعة !"
و ذلك لأنه حسب الصورة التي رسمها لشخصية لامب مستعينا بمذكرات أمه كان من المتوقع أن ينكر معرفته بجاستن و أصله كيلا يجرح مشاعره برواية الحقيقة المؤلمة و يحرضه على عداء أبيه.
أجاب لامب مبتسما : "لقد رأيتك من بعيد و أنت تتلفت حولك بحثا عن شخص ما ، و لسبب غير واضح -أو ربما كان مجرد حدس- لم يخطر ببالي أن يكون ضالتك أحد سواي . راودني إحساس قوي بأنك تعرفني و تدرك الصلة بيني و بينك و قد تأكدت من ذلك حين رأيت دهشتك لرؤيتي !"
تنهد بعمق و تضاءلت ابتسامته و تشربت شيء من الهم و الأسى.
"لكن كيف علمت بالحقيقة ؟!"
لم يرد جاستن.
"هل كان عن طريق مذكرات السيدة ؟!"
نظر المعني نحوه دون أن ينطق ، فهز العجوز رأسه و قال دون ابتسام :
"هكذا إذن .. لقد لاحظت اختفاءها قبل ثلاث أسابيع تقريبا و لم يخطر ببالي أن تكون سرقت ، فهي ليست ذات قيمة أو أهمية.. " ثم أدار وجهه نحو جاستن و أضاف و القلق يلتمع في عينيه : "لكن أيا يكن الشخص الذي أوصلها إليك ، فهو حتما لا يريد لك خيرا يا بني !"
ظل الفتى متمسكا بصمته دون أن يطال تعابيره أي تغيير ، و لم يرتح العجوز لرد فعله الغامض . كان هذا السكوت المريب من جانبه يثير في نفسه عدم الارتياح و الخوف.
فمد يده و أسقطها بلطف على كتف جاستن و قال بشيء من التوسل :
"اسمعني يا جاستن.. "
لكن المعني أزاح يده بحركة سريعة و انتصب واقفا و هو يقول :
"فلتسمعني أنت يا لامب ! لقد جئت لأطلب منك شيئا واحدا لا غير.. "
أنصت العجوز بقلق و تحلت ملامح جاستن بالقسوة و الصرامة و هو يضيف :
"لا تتحدث لأي أحد عني ، أنكر كل ما تعرفه بشأني ، امح وجودي من ذاكرتك و انسني إلى الأبد !"
"جاستن !"
"لست جاستن ! لا تدعني بهذا الاسم مجددا !"
"لكنه اسـ.. "
"ليس اسمي ! من تكون مديرة الميتم تلك حتى تنتقي لي أي اسم يعجبها ؟! لا حق لها و لا لأي شخص في تقرير شيء يتعلق بي !"
لم ينبس لامب عندها بحرف ، تنهد و أطرق إلى الأرض و قد غشيت وجهه سحابة قاتمة من الغم و التعاسة.
"أنا آسف .. حقا آسف .. "
"على ماذا تعتذر ؟! أنت لا شأن لك بما حدث و يحدث !"
فالتمعت العبرات غزيزة في عينيه الصغيرتين.
"لقد أردت .. تمنيت و سعيت بكل ما استطعت لتعيش حياة هانئة .. لكنني .. "
و حبس صوته كيلا تفيض دموعه المحتشدة على أطراف رموشه.
"أنا لم يقدر لي أن أحيا بسعادة لا في الماض و لا الحاضر و لا حتى المستقبل .."
قال ذلك بهدوء خال من الشعور و أدار ظهره ليرحل ، فوقف لامب و قد خانته دموع كثيرة و قال برجاء :
"سأنفذ ما أمرتني به ، لكن هل يمكنني أن أطلب شيئا في المقابل ؟!"
التفت المعني نحوه متسائلا فأردف :
"أرجوك .. لا تؤذ نفسك !"
فما كان من جاستن غير أن يحدق فيه بدهشة ، ما هذا الطلب العجيب ؟!
"بالطبع لن أفعل !"
"لم تفهمني . إني لا أقصد الأذى الجسدي ، بل المعنوي الذي يترتب على الأفعال السيئة !"
فتلاشى عندها الذهول من وجهه و استدار للأمام مواصلا مسيره فيما يردف ببرود :
"لن أفعل شيئا سيئا .. من وجهة نظري !"
و مع كل خطوة يخطوها في طريق عودته يوطد العزم أكثر على تنفيذ مخططاته التي لو قدر للامب الإطلاع عليها لوقع مغشيا عليه من هول فجاعتها.
****
كان ما وضعه من خطته الكبيرة أثناء فترة نقاهته ليس أكثر من خطوط عريضة ، لذلك و بعد تأكده من الحقيقة تحتم عليه تحديد أدق التفاصيل و تمحيصها و الإتيان بخطط بديلة في حال فشل الأولى.
و قد طلب من فرديناند بعض المواد الأولية اللازمة لصنع أسلحته و التي لا يسع طفلا بمثل سنه الحصول عليها بسهولة ، و كما توقع لم يعترض الرجل و لم يستفسر عن السبب حتى ، و لم يكتف بأن أحضر له ما أراد ، بل أعطاه رقم التاجر الذي سيجلب له المزيد حال طلبه.
ثم عاد إلى فرنسا بعدما وعد جاستن بأن يرسل له مصروفا كل شهر.
تمكن جاستن خلال يومين و نصف من تجهيز معداته و باشر الشروع في المرحلة المنتظرة من خطته .. قتل باتريك مور !
لم يكن ذلك بالعمل سهلا مطلقا حتى على القتلة المحترفين ، فذلك الرجل لا يفترق عن حراسه المدججين بالسلاح في أيما وقت.
إلا أن جاستن استطاع أن يتوصل عن طريق مذكرات هيلين إلى بعض المعلومات الهامة عن مور ، منها أنه رجل منظم ، دقيق المواعيد ، يميل إلى الالتزام بروتين معين في أيام العمل لا يكاد يخرج عنه ، و حتى في العطل تنحصر رحلاته في أماكن محددة.
سجل قائمة بهذه المواقع ، ثم بدأ بتفحصها واحدا واحدا ، و بعد عشرة أيام من الجولات المتعبة قام بشطب أكثر من نصف القائمة ، فيبدو أن مور -كما خشي أن يكون- ليس بذلك الولع بروتينه حتى يثبت عليه ثلاث عشرة سنة.
لكنه في المقابل وجد مواقع لم تخسر - رغم مرور الزمن - أثيريتها عند مور ، من بينها مطعم إيطالي فاخر رائع الاطلالة كان مور شغوفا بارتياده و دعوة شركائه من كبار رجال الأعمال إلى تناول العشاء فيه.
و قد رآه جاستن في ثان زيارة له لهذا المطعم من حيث لم يره هو ! كانت حياة الثراء و الرفاهية قد غيرت شكله فأصبح أكثر بدانة ، و قلبت هندامه فغدا أكثر أناقة و إشراقا.
و لحظة رؤيته له من تلك الطاولة البعيدة واتته رغبة جديدة مفاجئة . إنه يريد الحديث معه ! لا يمكنه أن يشرع في قتل شخص لم يسبق له أن التقاه ، ثم ما الذي يثبت صحة ما ذكرته هيلين في مذكراتها ؟! ربما لم تخبره بحملها و كذبت لتحرض ابنه على الانتقام منه ، و حتى لو كان ما قالته حقيقيا .. لا يستطيع أن يقتل أباه دون أن يحاول التكلم معه على الأقل.
إنه يتناول عشاءه مع مجموعة من أصدقائه الأثرياء و حراسه يقفون عند الباب البعيد .. هذه هي فرصته.
استجمع كل جرأته و قام من مقعده و حث خطاه نحو الطاولة الصاخبة التي أصابها الخرس حالما رآه الجالسون يقترب منهم .
أخذوا يرشقونه بنظراتهم المغرقة في الاحتقار ، لكنه لم يكترث لهم و تابع خطوه حتى توقف أمام والده.
نظر إليه الأخير بمزيج عجيب من الكبر و السخرية و الاستياء ، و قالت المرأة الشقراء بجواره قبل أن ينطق جاستن :
"من يكون هذا ؟!"
لم يلتفت لمدى الاستهزاء في نبرتها ، و لم ينظر نحوها من الأساس بل تحدث بثقة مخاطبا والده :
"أريد التكلم معك .. على انفراد !"
رفعت المرأة حاجبها و ألقت عليه نظرة فاحصة مشبعة بالاستخفاف ، و تهامس الباقون فيما بينهم ، و كتم بعضهم ضحكة ساخرة.
أما والده فرمقه بنظرة باردة طويلة قبل أن يستدير نحو رفاقه و يقول ببرود أشد :
"لا مال عندي أعطيك إياه .. "
"لست في حاجة لصدقاتك !"
هدر جاستن بقوة ، فما كان من الجالسين ألا أن تبادلوا نظرات دهشة مستنكرة.
و التفت باتريك مور بذات الوجه البارد و قال ببطء مركزا على كلماته :
"اسمع أيها الفتى إنني مشغول الآن ، و لا وقت لدي أضعيه معك ، فانصرف قبل أن أستدعي .. "
"لا داعي لاستدعاء أحد ، سأنصرف !"
قال جاستن بهدوء شديد و غادر المطعم.
لم يشعر بالغضب أو الانزعاج ، على العكس كان الرضا يغمره . كان الوحش القابع بأعماقه يبتسم بسرور للفكرة الدامية التي تجول بالحاح في ذهنه و تنزع عن فؤاده أي شعور بالضعف أو الهوان.
لقد أعطى مور فرصة للدفاع عن نفسه و قد أضاعها بمنتهى الحماقة و اللامبالاة .. هو وحده الخاسر.
آخذا في اعتباره المقابلة غير الحميمة بوالده المزعوم ، فقد أجرى تعديلا على خطته ، فبدلا من استهدافه و هو في المطعم سينتقل إلى ملعب الغولف حيث يمضي أولى ساعات النهار من يوم عطلته.
لم يكن عليه الولوج إلى أعماق الملعب ، فقد تسلل ليلة يوم الأحد و زرع القنبلة في موقف السيارات.
ثم تسلق في الصباح تلة عالية و أخذ يراقب السيارات الوافدة إلى الملعب . كان قد سجل رقم سيارة أبيه أثناء زيارته للمطعم ، فلم يصعب عليه تمييزها ، و عندما أبصرها تدخل الموقف المظلل .. ضغط زر التفجير !
****
كم كان مسرورا لأن يرى أخبار جريمته تحتل الصفحات الاولى للصحف المحلية ! مات أربعة من حراس مور و اثنين من أصدقائه و أصيب تسعة آخرون من بينهم مور بجراح كبيرة.
و بالطبع لم يسعد الفتى بذلك ، فضربته رغم قوتها لم تصب هدفها.
و لما كان من الحمق و التهور استهدافه مرة ثانية على التوالي -فذلك سيجعل مور يأخذ حذره و ربما سيكف عن مغادرة قصره - وجب أن يخلق هدفا آخر بغية التضليل على هدفه الحقيقي.
و قد وقع اختياره على المباني الفخمة العائدة ملكيتها إلى أؤلئك الأثرياء البغيضين من أمثال أبيه.
و دك الانفجار الثاني مكتب عقارات شهير ، و الثالث شركة تأمين ، و عند الرابع قرر إضافة شيء من الإثارة و المتعة للعبته ، فأرسل رسائل مشفرة للشرطة تنبؤهم - إن استطاعوا فك رموزها - بالأماكن التي يخطط لاستهدافها في الوقت المحدد ، لكن رجال الشرطة ما كانوا ليقدروا على فهم رسالته قبل موعد التفجير . ليس لأنهم أغبياء ، بل لأن أحجيات جاستن كانت شبه مستحيلة الحل و تحتاج عقلا عبقريا شيطانيا غير طبيعي التفكير لإدراك مضمونها . لم يكن هدفه من تلك الرسائل إعطاء الشرطة فرصة بقدر ما كان لأجل السخرية و الاستهزاء بهم.
و رغم أن رجال الأمن قاموا بتشديد الحراسة أمام المبان و داخلها إلا أن جاستن كان ينجح على الدوام بابتكار خطط مضادة تتيح له النفاذ من تحت أنوفهم و دس قنابله في المكان الذي يريده.
هو لم يكن طفلا عاديا ، و ذكاؤه لم يكن طبيعيا ، و قد ساعدته رغباته الشرير اللامحدودة بأي حواجز أخلاقية ، دينية ، أو إنسانية على تطوير ملكاته و قدراته الفذة و تسخيرها في سبيل أهدافه غير النبيلة.
كان مستمتعا كل المتعة بما يصنع ، و يجد كل الرضا في مشاهدة صنائع "المفجر" - و هو الاسم الذي أطلقته وسائل الإعلام عليه و وجده جاستن رائعا - تتصدر أخبار الصحف و القنوات الفضائية ، المحلية منها و الدولية على حد سواء.
و ظلت أهواؤه الشريرة تستبد به حتى صرفته عن هدفه الأصلي . لقد نسي والده و غابت عن عقله فكرة الانتقام . لم يعد يهتم بهوية الضحية أو ماضيها ، أصبح كل ما يهمه أن يفجر و يفجر و يفجر !
و بقي يلهث خلف ملذاته الوحشية و ينفق في سبيلها كل وقت و جهد و مال حتى كاد يبلغ الهلاك.
كان المرض قد ألم به إثر سيره في ليلة غزيرة المطر بغية شراء عدد من الأسلاك لقنبلته الجديدة ، و لما كان يعيش وحيدا و مصروفه الشهري قد نفذ تماما ، فقد ظل طريح الفراش ليومين دون لقمة طعام واحدة.
و حين وجد نفسه على شفير الموت .. لم يجد خيارا غير الاستسلام .. مؤقتا !
كان يعرف أنهم سيحاسبونه على أنه طفل ، و لن يرسلوه إلى السجن بل إلى مركز إصلاحي سيقضي فيه بضع سنين ، ثم ينال حريته من جديد و يواصل انتقامه.
عند اقتناعه كليا بهذه الفكرة استجمع البقايا الضئيلة من قواه الخائرة و زحف على ركبتيه في اتجاه الهاتف .. و طلب رقم الشرطة.
****
أجرو معه تحقيقا طويلا مستفيضا قبل أن يقرروا إرساله إلى مركز إصلاحي .
كانوا قد جمعوا كل المعلومات عنه . ليس عن جاستن بل الطفل المشوه الذي قدم إلى المشفى لإجراء عملية تجميلية و الذي أعطاه فرديناند لحسن الحظ اسما و هوية مزيفين.
قاموا بسؤاله عن فرديناند أيضا و عن علاقته به و السبب الذي دفعه لإيوائه ، فأجابهم بأنه -أي جاستن- فتى مشرد قضى حياته في الشوارع ، و قد تشاجر مع عصابة من الشباب المروجين للمخدرات ، فقاموا بضربه بالركلات و اللكمات أولا ، و حين لم يرضهم ذلك قاموا بتشويه وجهه بالزجاج المكسر ، و قد وجده فرديناند على تلك الحال ، فأشفق عليه و تعهد برعايته و التكفل بنفقات الجراحة التجميلية لأجله.
لكنه لم يكذب في وصف هيئته و سنه و جوانب شخصيته ، فقد فكر أن قول الكذب مع بعض الحقيقة سيجعله أكثر تقبلا و واقعية مما لو اقتصر على الكذب وحده‘
كما أنه وجد فكرة توريط شريكه .. شيئا مسليا !
لم يغفلوا أيضا عن سؤاله عن مدى معرفته بباتريك مور و السبب الذي دعاه لطلب الحديث إليه منفردا.
و كان رده أن ذلك الرجل البخيل قد نهر رفيق له و طرده بقسوة حين طلب بعض النقود ليشتري رغيف خبزه يسكت به جوعه ، فطلب الاختلاء به كي يقتله لكنه فشل في ذلك ، فعمد إلى استهدافه في ملعب الغولف.
أما جرائمه الأخرى فكان صادقا جزئيا حين قال بأن دافعه لارتكابها لم يكن أكثر من التسلية.
و بعد الانتهاء من التحقيق الذي دام ثلاثة أيام كاملة تم نقله إلى المركز الإصلاحي.
قضى هناك سنوات عدة مليئة بالمحاضرات الخاوية ، و النصائح غير المجدية ، و الابتسامات السمجة ، و كان جاستن بارعا في إقناع الأخصائيين بتحسنه ، و الإيحاء لهم برغبته الصادقة في الصلاح و التكفير عن ذنوبه.
فلم يكن من الغريب أن يطلقوا سراحه و هم على أتم ثقة بأنه سيسلك الطريق القويم و يستأنف حياته كمواطن صالح.
و مع أول شبر يقطعه تحت سماء الحرية عادت رغبته القاهرة في التدمير تستحوذ عليه.
لكنه استقبل في يومه الأول خبرا غير سار جعل نفسه تضطرب و أفكاره تتصدع.
لقد مات أبوه .. مات باتريك مور قبل عودته بأسبوع واحد !
Mygrace
مشاهدة ملفه الشخصي
إرسال رسالة خاصة إلى Mygrace
البحث عن المشاركات التي كتبها Mygrace