عرض مشاركة واحدة
  #316  
قديم 08-31-2016, 02:27 PM
 



الفصل الثاني و الستون
*لنعقد صلحا*




"هل أخبرتها ؟!"

بهذا السؤال المتشكك استقبل وليام ويندي التي عبرت بخطى وئيدة بوابة المقهى ، و اتجهت إلى الطاولة التي يجلس إليها مع جان و سوزان ، و بابتسامة شامخة مغمورة بالثقة رفعت الإنجليزية إبهامها معلنة تمام مهمتها.

"طبعا !"

قالت ذلك و ألقت بنفسها على المقعد المجاور له ، و تنفست الصعداء.

عاد وليام يسأل في شيء من اللهفة :

"و كيف كان رد فعلها إزاء هذا الخبر ؟!"

فزمت ويندي شفتيها ، و التقطت من سلة الخبز فوق الطاولة رغيفا ، و أخذت تقضمه و تتحدث في وقت واحد :

"دهشت تماما و لم تصدق أول الأمر ، ربما حسبتني أكذب في محاولة لرفع معنوياتها أو بث البهجة في نفسها . على أية حال قد اقتنعت حين أكدت ماريان صحة كلامي و أوضحت لها بالتفصيل كيفية موت رئيس المنظمة .." ثم توقفت عن المضغ مضيقة عينيها ، و قد تقوس فمها في عبوس حاد "إنها تثق في ماريان أكثر من صديقتها . يا لها من إهانة ! لقد جرحت مشاعري !"

و عادت تلتهم رغيفها بطريقة أبعد ما تكون عن الحزن أو الضيق.
فاهتز وليام مقهقها ، و بزغت ابتسامة صغيرة على طرف فم جان ، في حين هزت سوزان رأسها قائلة بحكمة غير معهودة :

"الأمر و ما فيه ، أنها تعلم أن ماريان لا توليها ذاك الاهتمام الذي قد يدفعها لتحوير الحقائق بغية إسعادها !"

فقالت ويندي بارتياب :

"حقا ؟! هل تظنين ذلك فعلا ؟!"


عندها تدخل جان ساخرا :

"سواء كانت تثق فيك أم لا لن ينقص ذلك من حجم وجباتك ، إذ يبدو أن معدتك لا تتأثر بمشاعرك الجريحة !"

فتجعد أنف ويندي و تكور فمها في استياء طفولي.

"بالطبع لن تتأثر ، فالمشاعر في قلبي و ليس في بطني !"


رفعت سوزان كوب قهوتها في تأييد و أضافت بجدية :

"إجابة منطقية !" ثم مطت شفتيها و تمتمت في ضيق : "ليت رفاييل يعلم هذا ! إنه يفترض أن الشخص المجروح يضرب عن الطعام و يفقد الشهية ، و إلا فإن انزعاجه لا يعدو أن يكون تمثيلا !"

فبدرت عن ويندي ضحكة قصيرة

"لابد أنك تعانين معه !"

"بكل تأكيد ، فتهريب الطعام إلى حجرتي قطعا ليس سهلا ، و في كثير من الأحيان ما يراني روجر أو روبين ، ثم ينقلان الخبر بشكل عرضي و دون سوء نية إلى أبيهما .. و تبوء خطتي بالفشل !"

قالت كلمتها الأخيرة في تحسر مضحك ، و دفعت ما تبقى من قهوتها داخل جوفها في جرعة واحدة ، و في الأثناء عاد وليام يسأل ويندي :

"و ماذا قالت بعد اقتناعها ؟!"

"لا شيء . لم تنبس ببنت شفة ، ابتسمت فقط و تناولت فطورها بشهية أكبر مما اعتادت"

فأضاء وجه وليام و تزين بابتسامة جميلة يحدوها البشر و الأمل.

"إذن .. فهي في مزاج جيد اليوم ، أليس كذلك ؟!"

دارت عينا ويندي في محجريهما في مراجعة سريعة للقائها الأخير بصديقتها ، بعدها هزت كتفيها و قالت :

"أعتقد ذلك !"

"حسن جدا.. " ثم انتصب واقفا و أضاف : "أظن أن الوقت أصبح ملائما لأزورها .. ألا توافقينني ؟!"

طرح سؤاله بنبرة يمتزج فيها الشك و القلق مع شيء من الخوف ، و ما كان من ويندي غير أن رفعت حاجبيها في دهشة خفيفة :

"طبعا ، إنه الوقت الأنسب ، في الحقيقة كنت على وشك أن أقترح ذلك عليك !"

"رائع ، ما الذي ننتظره إذن ؟! لنذهب إليها !"


"نذهب ؟!" كرر جان كلمة وليام في تعجب و أضاف : "و لماذا لا تدخل إليها بمفردك ؟! لماذا تريد من ويندي أن ترافقك ؟! إنها أختك .. حسب ظني ؟!"

فقال وليام في ارتباك واضح :

"أنت لا تفهم .. "

لكن جان كان يفهم جيدا ، إذ أضاف و على طرف شفتيه تتأرجح ابتسامة ماكرة توشك أن تنقلب ضحكة :

"هل يعقل .. أنك خائف منها ؟!"


عندها اصبغ وجه وليام بحمرة فجائية ، زم شفتيه و حدج جان بنظرة لوم ، لكن الأخير لم يكترث ، و واصل سخريته ضاحكا :

"رجل بطول و عرض و تخشى أن تضربك فتاة ضعيفة بالكاد تتحرك ؟!"


أفلتت من سوزان ضحكة لم تنقطع حتى اختفى صوتها ، أما ويندي فاكتفت بابتسامة صغيرة.
بينما زوى وليام ما بين عينيه ، و بدا عليه الاستياء و الشعور بالاهانة و هو يقول :

"أنت لا تعرف شيئا ، لم تر منها غير جانبها الوديع المهذب ، لم يسبق لك أن أغضبتها أو دخلت في شجار معها ، و لو فعلت فإنك ما كنت لتخرج بأكثر من عين واحدة ، و ساق عرجاء ، و وجه شوهته الخرمشات !"

لم يبد على جان لا التأثر و لا تصديق كلامه ، فلم يكن يستطيع تصور لونا و هي تفقد السيطرة على أعصابها فضلا عن أن تضرب أحدا و بمثل تلك الوحشية التي يصورها وليام ، و ظلت ابتسامته المستفزة تعلو شفتيه ، في الوقت الذي قالت ويندي و هي توشك أن تضحك :

"يبدو أنك قضيت معها وقتا صعبا .."

"أجل .. كانت طفلة شرسة !"

"حسنا .. لا أظن أنها ما زالت بتلك الشراسة التي وصفتها ، و لا أعتقد أنها قد تخرمش وجهك فذلك سيكسر أظافرها ، ربما فقط تصفعك مجرد صفعة تذهب بخمس أسنانك ، لكن لا تقلق يمكنك تركيب غيرها !"

قالت ذلك بجدية عجيبة دونما ابتسام و كأنها مقتنعة تمام الاقتناع بما تقول ، فعبس وليام ، و انخفض حاجباه كما لو كانا مؤشرا لمعنوياته ، و قال في تهكم :

"آه حقا ؟! شكرا على الخبر المطمئن ، إني مرتاح الآن !"

حينذاك أسقطت قناع الجدية عن وجهها و ضحكت قائلة :

"حسنا تلك ليست بمشكلة ، يمكنك أن تجلس تاركا بينكما مسافة لا تسمح بأن تصلك صفعاتها !"

"لكنها قد تقذفني بالزهرية ، أو هاتفها ، أو جهاز التحكم ، أو .. "

فقاطعته ويندي فيما تنهض و تجره من ذراعه :

"لا تقلق بخصوص ذلك ! لقد أبعدت عن متناول يدها كل ما يمكن أن تستخدمه كسلاح ! هيا .. ستكون بأمان كما قلت لك فقد جهزت كل شيء لزيارتك !"


فنفث وليام بفعل كلماتها المطمئنة كل مخاوفه و أسباب قلقه من داخله عبر تنهيدة عميقة عادت على إثرها ثقته و ابتهاجه السابقين.

"آه .. شكرا لك !"


و سار بصحبتها خارج المقهى غير ناظر و لا مكترث لضحكات جان و سوزان خلفه . دلف إلى المصعد مسرع الخطى ، و خرج منه بخطى أسرع و أشد حماسا حين وصل الطابق الثالث حيث توجد غرفة شقيقته . أخذ نفسا عميقا و التفت إلى ويندي في تفاؤل :

"أتمنى حقا أن يسير اللقاء بمثل السهولة و الليونة التي سار بها مع جان !"

فزمت شفتيها و عقدة بسيطة تربط بين حاجبيها و قالت :

"في الحقيقة لست أظن ذلك و لا أنصحك أن تبني موقفك على أمل غير أكيد . تذكر أن جان يختلف عنك في كل النواحي تقريبا . إنه بالنسبة لها غير ملزم بفعل شيء من أجلها ، فهو ليس فردا من أسرتها ، و لا شخصا تكن له مشاعر قوية و تنتظر منه الالتفات إليها ، إضافة إلى أن لديه من المشاكل ما يكفيه و يزيد و لا متسع لديه لمشاكل غيره !"


فهز وليام رأسه في عبوس خفيف

"نعم ، أنت على حق .. "

و بعدما استدارا نحو الرواق الأيمن و تجاوزا بابين بلغا الغرفة المطلوبة . توقف وليام أمام الباب الموصد و التوتر باد عليه ، فتقدمت ويندي قائلة :

"سأدخل قبلك .. "

طرقت الباب بخفة ، و بعدما جاءها صوت ماريان البارد آذنا لها بالدخول دفعت دفة الباب و دلفت دون أن تغلقه ، ثم قالت مبتسمة في وجه صديقتها :

"لديك زائر اليوم !"

لم تتكلم لونا أو بالأحرى لم تعطَ فرصة لذلك ، فسرعان ما استدارت ويندي نحو الباب و هتفت :

"هيا تعال !"


أخذ وليام نفسا عميقا ، ثم رسم على وجهه ابتسامة ودودة ، و كسا تعابير وجهه بما استطاع من ثقة ، و دخل.

كانت ويندي تقف أمام السرير و تحجب عنه وجه شقيقته ، و قد تنحت حالما رأته يتقدم و أفسحت له المجال لرؤيتها . وجدها تجلس برزانة مسندة ظهرها إلى وسادتين ، و قد ربطت شعرها الأحمر الناعم و تركته يتدلى فوق كتفها ، و أضفى اللون الأبيض لرداء المشفى على عينيها الزمرديتين وهجا براقا و على وجهها الجميل رغم شحوبه سحنة ملائكية.


"صباح الـ.. خير !"

قال التحية باضطراب ، و حاول أن يحافظ على ابتسامته أثناء تبادلهما النظر ، لكنها تضاءلت رغم إرادته حين رأى جبينها يتجعد و حاجبيها ينعقدان ، و ذلك قبل أن تثني ذراعيها فوق صدرها و تشيح بوجهها عنه في عدم ترحيب واضح . لم تكن رؤيته سارة لها بأي شكل ، خاصة أنها جاءت دون سابق إذن منها ،
مما جعلها تلتفت و ترمق ويندي التي جلست على طرف فراشها بنظرة لوم ، و ما كان من الأخيرة غير أن تقول ردا على توبيخها الصامت :

"أعطه فرصة ليشرح لك يا لونا ! لا يمكنك أن تستمري في خصامه أكثر مما فعلت ، فهو شقيقك الوحيد !"

فقالت لونا في استياء دون أن توجه نظراتها لأي من المتواجدين في الغرفة :

"كان يجدر بك أن تعلميني قبل ذلك !"

"لم أفعل لأني أعلم أنك عنيدة و ما كنت لتوافقي !"

"و إن يكـ.. "

"جربي فقط أن تستمعي له هذه المرة ، و بعدها قرري ! هذه المرة لا غير !"


حل صمت مشوب بالتوتر إثر قول ويندي . لم تبد لونا راضية تماما بهذا الاقتراح ، لكن حدة اعتراضها خفتت حين أدركت أن الإنصات لقصته لن يضرها أو يكلفها شيئا . فكت عقدة ذراعيها ، ثم شبكت أصابعها و تطلعت إلى الطاولة على يمينها ثم الأخرى على يسارها ، فظهر على وجهها العجب لمّا ألفتهما خاليتين تماما . لقد نقل أحدهم ما كان عليهما إلى الطاولة البعيدة الموازية للاريكة التي تجلس فوقها ماريان ، و لم يكن لديها أدنى شك بشأن من يمكن أن يفعلها.

كادت تفلت من ويندي ضحكة حين لاحظت نظرة الاتهام الموجهة إليها ، فقالت في محاولة لاسترضائها و حثها على القبول :

"هيا امنحيه فرصة و أصغي لما يقول ! و إن لم يعجبك كلامه ، فلن أتردد في التضحية بإحدى فردتي حذائي أو كليهما من أجلك !"

و أتبعت كلامها بابتسامة واسعة كان من المفترض أن تكون بريئة ، لكنها ظهرت أكثر شرا من أخبث ابتسامات وليام . التفتت نحو الأخير الذي عبس و الرعب يظلل وجهه ، و حدجها بنظرة من تعرض للخيانة على يد حليفه الوحيد.


و هي تراقب تعابير كل منهما بزغت على أطراف شفتيها بوادر ابتسامة ، تنهدت ، ثم رفعت عينيها نحو أخيها و قالت :

"حسنا .. فلتتحدث !"


فوجئ المعني أول وهلة من السرعة النسبية التي اقتنعت بها ، و وزع نظراتها المدهوشة بينها و بين ويندي . كانت الأخيرة بلا شك تفهم شقيقته ، و أكثر مما يفعل هو . تسبر أغوارها بسهولة ، و تعرف جيدا كيف تتصرف معها ، و تنتقي كلماتها على هذا الأساس.

بدا السرور على ويندي و هي تترك مكانها و تنتقل إلى جوار ماريان التي انشغلت بتصفح هاتفها المحمول عما يجري في الغرفة ، و لم يكن وليام ليفكر لحظة في أخذ مكانها عند قدمي لونا حيث تأت الركلات بأسرع و أقوى ما يكون.

فسحب كرسيا عديم الظهر و جلس قرب سريرها . زفر الهواء الثقيل من رئتيه ثم ابتدر قائلا :

"لأجل أن أعطيك شرحا وافيا يتحتم علي البدء من أول يوم افترقنا فيه .. اليوم الذي حلت فيه الكارثة .. فهل يضايقك هذا ؟!"

نظر إليها ، فأومأت بالنفي دون أن ترفع عينيها عن يديها المتشابكتين .
عندئذ شرع وليام يروي متجهم الوجه محزون الفؤاد ما جرى بينه و بين كبير الخدم إدوارد ، و كيف أن الأخير أرسله مع الحارس لوسيان بعيدا عن القصر قبيل دقائق من انفجاره مستعينا بحجة زائفة و قصة لفقها على عجل . أنصتت لونا بانتباه كامل و بدت كما لو كانت تستعيد ذكرى ذلك اليوم المشؤوم و تتخيل شقيقها و هو يتسلل من البوابة الخلفية برفقة لوسيان ، ثم يعدو عبر الأرض الخضراء المحيطة بسور القصر من جهتيه الجنوبية و الشرقية حتى يبلغ في الأخير منزل إدوارد الجميل المحاصر بجذوع الأشجار و أغصانها المخضرة.


رقت نظرات ويندي و دمعت عيناها في تأثر شديد عندما أخذ وليام في وصف شعوره حال رؤيته سحابة من الدخان تظلل قصر عائلته . كان قد تجاوز منتصف الطريق حين وقع الانفجار ، فشاهد آثاره المروعة عن قرب و دك صوته المهول طبلة أذنيه في عنف كاد يوقف دقات قلبه . سيطرت عليه الصدمة و حَجَّرت مآقيه فلم يسعه ذرف الدموع . لم يستطع أن يصدق و لا أن يتوصل لكيفية حصول هذه الكارثة أو سببها ، فاندفع عائدا أدراجه و أنفاسه تتلاحق كما لو كانت توشك على الانقطاع ، لكن لوسيان تشبث به بكامل قوته و منعه بصعوبة بالغة من العودة ، فقد أدرك بسرعة بديهته أنها لن تكون بأي حال فكرة صائبة ، و عرف السبب وراء تصرفات إدوارد المريبة . هناك من يريد القضاء على أسرة آيون و يسعى لإبادتهم حتى آخر طفل فيهم ، و كبير الخدم يعرف ذلك ، لكن كل ما كان في استطاعته فعله هو إنقاذ وريث العائلة الصغير.


تنهد بعمق و الغم يلف وجهه ، و سكت برهة قبل أن يستطرد :

"فأخذني لوسيان إلى منزل إدوارد و بالطبع لم يكن هناك من أثر لحفيده ماتيو ، و عثرنا بدلا منه على رسائل تهديد مخبأة في الصندوق الذي كان من المفترض أن نجد الدواء فيه . كانت كثيرة ، عنيفة اللهجة ، وحشية المضمون . لقد خطفوا ماتيو و هددوه بقتله ما لم يرضخ لأوامرهم ، لكن إدوارد المسكين لم يكن ليخون أسرتنا بهذه السهولة ، و ظل يبطئ و يماطل و يختلق الحجج و العراقيل - كما فهمنا من نصوص الرسائل - حتى نفذت كل الأعذار و طغت عليه عواطفه ، فلم يتبق أمامه سوى تنفيذ مطالبهم .. "

سكت بضع لحظات .. فتطلعت إليه لونا مقطبة الجبين و سألت بهدوء :

"و هل تدبر لوسيان لوحده أمر إخفائك ؟!"

"لا.. إنه ذكي بلا شك ، لكنه قليل الخبرة في هذه الأمور ، و لم يكن في وسعه خداع المنظمة و التواري عن أعين عملائها معتمدا على نفسه وحدها ، كان يحتاج عونا من رجل حذق ، قوي ، واسع الحيلة و النفوذ ، و أهل للثقة ، و لم يكن هناك من هو أنسب من العم كريستيان ميلارد ليكون هذا الرجل ، و لم أكن قد علمت بنجاتك حتى التقيته .. "

رفع عينيه الغارقتين في الحزن و الأسى و نظر إليها

"صدقيني لم أرد الابتعاد عنك بأي حال ، أنت شقيقتي الوحيدة و كل ما تبقى من عائلتي و ذكرياتي الجميلة و كنت لأفضل الموت على تركك و الفرار دونك إلى بلاد بعيدة ، لكن لوسيان و العم كريستيان أخبراني أن بقائي لن يكون في صالحي و لا صالحك . المنظمة قد تصفح عن حياتك لأنك فتاة صغيرة ، سهلة الانقياد - حسب ظنهم - و كونك أنثى يجعلك غير قادرة على توريث اسم العائلة لذريتك ، أما أنا فوضعي مختلف كليا ، فوجود وريث ذكر يعني استمرار وجود العائلة و إمكانية تجدد الخطر أو حتى زيادته .."

و استمر يتأمل صفحات وجهها في رجاء ، عندئذ تنهدت و قالت :

"حسنا .. لكن لماذا لم تطلعني على الحقيقة حين عدت هذا العام ؟!"

ارتسمت ابتسامة كئيبة على وجهه و أطرق إلى الأرض و هو يقول :

"لم أكن على دراية باستعادتك الذاكرة ، و لو علمت لسارعت بكل ما وسعني لإخبارك بالحقيقة ، فحاجتي إليك لا تقل أبدا عن حاجتك إلي !"


عاد يتطلع إليها مترقبا جوابها ، لكنها لم تنبس ببنت شفة ، لفت وشاحها حول كتفيها بإحكام ، و استرخت فوق وسائدها مغمضة العينين.

فسأل بنبرة شك :

"هل .. سامحتني ؟!"

ألقت إليه نظرة ساكنة عبر جفونها نصف المفتوحة ثم قالت :

"سأكون سخيفة إن لم أفعل .. الأمر لم يكن بيدك على أية حال.. "


كانت الابتسامة الأخاذة التي أضاءت وجهه ، و بريق السعادة الذي لمع في عينيه الزرقاوين من أجمل ما رأته ويندي طيلة حياتها . بدا مسرورا و مبتهجا بشكل لم تألفه عليه من قبل ، و حالما وسعه النطق سارع بالقول :

"سعيد حقا بذلك !"


تبسمت لونا برزانة و أطبقت جفونها . بدت هي الأخرى في أوج ارتياحها و حبورها ، و لم تكن ويندي في الحقيقة أقل فرحا منها و من وليام . كانت تشعر بالرضا و البهجة يتدفقان داخلها و هي تراقبهما من مكانها ، لكن شيئا واحدا لم يعجبها و لم تجده ملائما للموقف ، فمطت شفتيها و انتصبت واقفة تحيط خصرها بكفيها في وضعية احتجاج و هتفت ناقمة :

"بربكما هل تسميان هذا لقاء أخويا ؟! هذه أول مرة تتحدثان فيها إلى بعضكما منذ اثنا عشر عاما و في النهاية لا شيء سوى "سعيد حقا بذلك"

عوجت فمها و هي تقلد في سخرية مغالية طريقة لفظ وليام ثم أضافت بلهجة مغتاظة : "أنتما تثيران أعصابي بهذه البلادة التي تتحليان بها !"


كان وليام يهتز و يتمايل ضاحكاً و لم يسع لونا غير أن تفك عقدة برودها و تضحك بصمت ، ثم تقول ناظرة نحو شقيقها :

"حسنا.. أظنها محقة . تعال ! هذا اليوم مميز ، لذلك سأعطيك عناقا ملكيا !"

فردت ذراعيها ، فأقبل إليها و هو يقول مقهقها :

"لا تحطمي عظامي من فضلك !"



⭐⭐⭐



مضت الأيام التالية على آلويس بنسق شبه موحد ، فطور ، إزعاج جاستن ، غداء ، زيارة أصدقاء ، إزعاج جاستن ، عشاء ، إزعاج جاستن ، ثم النوم أخيرا على نغمات صراخه.
و لو سأل سائل عن سبب اختياره غرفة مشتركة مع إمكان حصوله على واحدة خاصة به ، سيكون الجواب : لأجل الاستمتاع بإغاظة جاستن.

لم يكن يدخر في ذلك أي جهد ، و في كل يوم يأتي بطريقة جديدة لإثارة المشاكل معه ، و كان آخرها لعبة فأر تصدر صوتا يشبه صرير الفئران الحقيقة . يدسه آلويس تحت سريره ، ثم يحركه عن طريق جهاز تحكم ، و ما إن يشعر جاستن به حتى يصفر وجهه و تضطرب نظراته ، ثم يختبأ تحت غطاءه و هو يرتعش . لكن الحيلة لم تنطل عليه طويلا و حالما اكتشف سرها شاط غضبه ، و حطم الفأر قطعا صغيرة ، و كاد يثب على منافسه متناسيا قدمه الملفوفة بالجبيرة ، لولا أن الطبيب وقف في طريقه ، و سرعان ما قام بفصلهما و نقلهما لأعلى طابق كيلا يزعجا باقي المرضى بعراكهما المستمر.


كان لهذه الحادثة -رغم ما سببته لجاستن من غضب- فضلها الذي لا يقبل النكران ، فقد حررته تقريبا من فوبيا الفئران التي عانى منها مذ كان طفلا في دار الأيتام.


و الآن بعدما ارتاح من استفزاز آلويس و قضى لأول مرة منذ وصوله للمشفى ليلة هادئة . جلس يفكر و يستعيد في عقله ما حصل في الآونة الأخيرة من أحداث و تغييرات لا متوقعة.

و عادت كلمات مورفان ترن في ذهنه كالجرس :

"اقتل تلك الفتاة ! إن أردت تدمير آلويس و حتى وليام آيون كل ما عليك هو قتلها ، هكذا تضرب عصفورين بحجر واحد و تنتقم من الاثنين على أكمل وجه و تستعيد كرامتك . لقد قاما بإيذاء و إهانة أكثر من تحب و هي نفسك ، لذلك ردا لاعتبارك عليك أن تقتل أقرب شخص إلى قلبيهما و هي تلك الفتاة !"


كانت لهجته مقنعة ، و كان جاستن مغتاظا لدرجة أنه لم يهتم بالتدقيق في مضمونها و لا توابعها ، و انقاد وراء رغباته المكبوحة و عواطفه الثائرة دون عميق تفكير.

انطلق بأقصى سرعة إلى كان ، و اتجه حال وصوله إلى المشفى الذي دله عليه مورفان . كان وليام قد غادر لتوه و صب ذلك في مصلحته تماما ، فمهمته باتت أسهل كثيرا.

لقد طلب منه مورفان الدخول لغرفة الفتاة ، و التقاط صورة لها ، ثم الانصراف و أخذ الاستعدادات لقتلها في اللحظة التي يحددها هو ، و لما لم يكن جاستن معتادا على تلقي الأوامر ، فقد أثارت محاولات مورفان لتوجيه خطواته و التحكم في قرارته حنقه و استياءه ، لكنه مع ذلك عزم على تنفيذ تعليماته لإحساسه أنها ستحقق النصر بأكمل صورة.

وقف أمام الغرفة رقم 314 ، و بعد لحظة رتب فيها أفكاره و ما قد يلجأ إليه من حجج طرق الباب مرتين ، ثم دس يديه في جيوبه و أخذ ينتظر.

فتح الباب قليلا و أطل عبر الفتحة الضيقة رأس رجل ، ضيق عينيه و حدج جاستن بنظرة شكاكة و قال بلهجة جافة :

"من تكون ؟! و ما الذي جاء بك إلى هنا ؟!"

أجاب جاستن ببرود لا يخلو من الثقة :

"أنا أعمل مع شقيق هذه الفتاة و أدعى رونالد كارتر !"

"حقا ؟!"

قالها في عدم تصديق واضح و عيناه تضيقان على وجه محدثه أكثر . أضاف :

"و بماذا أخدمك ؟!"

فربطت بين حاجبي جاستن عقدة خفيفة ، و قال بمقدار معقول من الاستياء :

"ينتابني كثير من الفضول حولها بعدما سببته من مشاكل ، فجئت لإلقاء نظرة عليها !"

و أشار بحركة من رأسه إلى ما وراء الباب ، ثم أضاف بلهجة أكثر انزعاجا :

"هل تسمح إذن و تتنح عن الطريق ؟!"

و حدق إلى ملامح الرجل الواقف أمامه .. بدا مألوفا ، و كاد يجزم أنه سبق له الالتقاء به في أحد الأيام ، لكن ذاكرته لم تسعفه وقتها.

بادله الرجل التحديق لكن بحدة ، و تفحصه بنظراته الثاقبة من رأسه إلى أخمص قدميه قبل أن يقول في الأخير :

"فعلا ؟! يا له من سبب وجيه ! اعذرني ، أيا كانت الجهات التي تعمل معها لا يمكنني السماح لك بالدخول !"


فشد جاستن على قبضتيه المتواريتين في جيوبه . لم يتوقع أن تسير المهمة بسهولة ، لكنه أيضا لم يتوقع أن تصل لهذه الصعوبة.
سيحاول إقناعه لمرة أخرى أخيرة ، و إن لم يحالفه النجاح سيرحل على الفور . هو ليس مضطرا للدخول أصلا . يستطيع قتلها بسهولة و دون أن يطأ أرض المشفى حتى.

رفع رأسه بوصة و رمق الآخر بنظرة متعالية محتقرة و قال بعناد :

"و لم لا ؟!"

كان المعني على وشك الرد لولا أن طرفا آخر تدخل و قطع عليه عزمه

"ماذا هناك ؟!"

ألقت الفتاة التي جاءت لتوها هذا السؤال ، و دارت بناظريها بين الرجلين ، و حالما وقع بصرها على جاستن انبسطت أساريرها و هتفت بسرور :

"هذا أنت يا رون ؟!"

مط الشاب شفتيه في اشمئزاز و أشاح بوجهه . لم يحبذ رؤية تلك المزعجة مطلقا.

و عادت ويندي تسأل :

"هل أرسلك كلارك يا ترى ؟!"


أدرك جاستن أن الكذب في هذا الموقف لن يكون تصرفا حكيما خصوصا أنه يجهل كثيرا مما حصل هنا ، فهز منكبيه و قال بصدق :
"لا ، جئت من تلقاء نفسي !" و أضاف ردا على نظرة التساؤل في عينيها : "شعرت برغبة في رؤية تلك التي تسببت في كل هذه الفوضى .."

لم ينظر ناحية ويندي لكنه أحس بنظراتها تخترق جلده ، و عندما التفت نحوها لم يلمح آمارات شك أو ريبة ، و إنما وجدها تنظر في عينيه بطريقة طفولية بريئة ، لكن ذكاءه أشعره أنها تخفي خلف ستار براءتها ما هو أكبر من ذلك.

أضاف في محاولة لقطع هذا الصمت المريب :

"إنها لا تختلف كثيرا عن شقيقها الوغد .. كما يبدو !"

بدا الرجل متعجبا من طريقته الفظة في الحديث عمن يفترض أن يكون رئيسه ، لكن ويندي لم تبد كذلك ، إذ كانت على دراية جيدة بطبيعة جاستن أو رون كما عرفته.

تبسمت بمرح قائلة :

"لست مخطئا في تخمينك !" ثم أشارت له بأن يتبعها و تقدمته قائلة : "تعال لندخل.. "

لكن الرجل اعترض طريقها و قال برفض قاطع :

"غير ممكن ! الكونت أمرنا بحراستها ، و عدم السماح للغرباء بالاقتراب منها !"

فشرحت له في هدوء :

"لكنه ليس غريبا ، إنه صديق وليام و أهل للثقة !"

"لكن.. "

"تذكر يا رفاييل أن سيدك أعطاني ثقته و استأمنني على أغلى ما يملك.. فكيف تشكك في قراراتي ؟!"

عند هذه الكلمات لم يسع رفاييل أن يستمر في الاعتراض .. فتنهد ثم قال :

"حسنا .. لكن سأفتشه أولا !"



و بعد أن تم ذلك ، دلف إلى الغرفة خلف ويندي.

كان انطباعه الأول الذي كونه عن لونا هو أنها مختلفة ، و لا تشبه الصورة التي تخيلها في ذهنه . لم تكن بذلك الشبه الذي توقع أن يجمعها بوليام ، و لم تبد على وجهها علامات الخبث أو الخديعة . ربما يكون مخطئا في هذه النقطة .. لكنه وجدها في حالها تلك أقرب ما تكون لحمامة جريحة.

قالت ويندي فجأة :

"هل تعرف كيف أصيبت ؟!"

لم يكن يساوره أي فضول و لا اكتراث لهذا الأمر ، لكنه وجد أن الحال يقتضي إبداء شيء من الاهتمام ، فقال :

"لا.. "

"لقد أطلق عليها حارس القائد الأعلى للمنظمة رصاصة في ذراعها و أوشك على قتلها لولا تدخل بعض الحلفاء . كان ذلك تصرفا وضيعا و جبانا جدا من قبله ، فهي مريضة بالسرطان كما تعلم و لم تقو على مواجهته أو الدفاع عن نفسها ، لكنه لم يعط لا هو و لا قائده اعتبارا لهذا الأمر . لم يهمهم سوى قتلها بغض النظر عن الطريقة و طبيعة الموقف ، و هذا إن دل على شيء فعلى ضعفهم ، و خوفهم غير الطبيعي منها ، و شكهم في إمكانية الفوز عليها لو جاءت المواجهة عادلة و منصفة لكلا الطرفين . ليس المهم أن تنتصر بل كيف تنتصر . هذا هو الفرق بين القوي الواثق و الضعيف الخائف ، فالأول يطمح لفوز نزيه عادل ، و قد يضحي بهذا الفوز لأجل شرفه و اعتزازه ، أما الثاني فهو دوما على استعداد للتضحية بكل كبريائه و كرامته و حتى إنسانيته في سبيل نصر لا يجلب له في النهاية غير العار !"


قالت ذلك ، ثم التزمت الصمت و لم ترفع عينيها المشحونتين بالقوة و العزم عن وجه صديقتها النائمة . كان جاستن يقف متعجبا و مستغربا حتى الانزعاج .. لم تقول ذلك له ؟!


كان في غاية الضيق و عدم الارتياح ، لذلك أسرع و شغل هاتفه ، ثم تظاهر بإجراء مكالمة مع وليام و في الأثناء التقط صورة للونا .. و غادر الغرفة دون أن يلتفت وراءه.


نزل إلى الشارع مسرع الخطى و شعور كريه يجثم على صدره كصخرة هائلة و يضيق الخناق على قلبه و رئتيه.

لم يصدق ما كان عازما على فعله .. هل أصبح ضعيفا يائسا لهذا الحد ؟! و هل وصل به الغباء ليسمح لذلك الحقير بالتحكم فيه و جره إلى بركة الأوحال التي يسبح فيها ؟!
لم يصدق ذلك ! و لم يستوعب كيف انحدرت به أفكاره لهذا المستوى.
إنها إهانة لكبريائه و عار يلطخ ثقته و اعتزازه ، فيجب أن يدوسها بقدميه ، و يمحوها ، و يحرق بنار شموخه ما مرت عليه من صفحات ذهنه.

أما آلويس فستكون له مع جاستن مواجهة عادلة لا تشوبها شائبة ، و أما ذاك اللعين .. فحسابه لن يكون يسيرا .. أبدا !











رد مع اقتباس