عرض مشاركة واحدة
  #323  
قديم 09-01-2016, 02:09 PM
 



الفصل الخامس و الستون و الأخير





سرت بين المقاعد متلفتة يمينا و يسارا بحثا عن مقعد شاغر حتى وجدت أخيرا واحدا مناسبا . أسرعت و رفعت حقيبتي الصغيرة إلى رف الامتعة ، ثم انسللت إلى مقعدي و تنفست الصعداء.

و ريثما يصعد الركاب شغلت بنفسي بالنظر عبر نافذتي إلى الرصيف المقابل الذي بدأ يخلو سريعا من الناس و يغدو فارغا ، و لم أرفع بصري عنه حتى أحسست بحركة إلى جواري . كانت فتاة في الرابعة عشر من العمر قد جلست في المقعد الملاصق لمقعدي ، مع أني كنت لأفضل الجلوس بمفردي إلا أن رفيقتي في الرحلة لم تكن مزعجة بل لم أشعر بوجودها معي أصلا ، إذ كانت منشغلة طوال الرحلة بتصفح هاتفها و الاستماع إلى الموسيقى.


أغلقت الأبواب ، و بدأ المترو يشق طريقه برشاقة و سرعة فائقة داخل نفق مظلم طويل قبل أن يخرج مرة أخرى للسطح و يتابع مسيره تحت شمس الضحى.

أخذت أراقب المناظر المتلاحقة و التي ما تكاد تظهر حتى تختفي بلمح البصر ، البيوت المتشابهة بأسقفها القرميدية و أسيجتها الخشبية البيضاء ، الأبنية الشاهقة ، المتنزهات الخضراء ، و السماء الزرقاء شبه الصافية المزينة بنتف متفرقة من الغيوم البيضاء الجميلة.

كان من اللطيف مراقبة هذه المشاهد المختلفة الطبيعية منها و البشرية على حد سواء ، لكن المتعة لم تستمر طويلا بسبب التكرار الممل و طول مدة الرحلة.

لذا فتحت حقيبتي الصغيرة و أخرجت دفتر مذكراتي القديم و الذي انقطعت عن الكتابة فيه منذ سنة أو أكثر بقليل لانعدام وجود ما يستحق التدوين في يومياتي . تبسم وجهي في شوق و حنين لعبق الماضي العذب الذي يفوح كلما قلبت صفحة جديدة و استرجعت ذكرى أيامي الممتعة.

كان اختياري للصفحات عشوائيا ، أفتح صفحة ما ، ثم أقرؤها و أحاول تذكر ما حدث قبلها و بعدها . هذا فوضوي نعم ، لكنه أكثر تسلية و شغلا للذهن من القراءة الرتيبة.

انتقيت صفحة في النصف الثاني من الدفتر و فتحتها . كان أول ما كتب فيها :

«نادني وليام !»

اتسعت ابتسامي حتى برزت أنيابي ، و عقدت حاجبي قليلا محاولة تذكر المناسبة التي قال وليام - نعم فقد استجبت لرغبته و توقفت عن مناداته كلارك منذ ذلك اليوم - ذلك فيها.

آه ، أجل .. كان ذلك بعد عودتي من زيارة غير طويلة لقريتي لم تدم ثمانية أيام . في الحقيقة لم أكن أنوي العودة إلى فرنسا بتلك السرعة ، أردت قضاء المزيد من الأوقات الهادئة المسالمة مع عائلتي و أصدقائي ، لكن وليام اتصل بي و رجاني - دون مبرر - إلى مرافقتهم في رحلة علاج لونا في سويسرا . قال أن معنوياتها انخفضت كثيرا بعد رحيلي و أصبحت أقل انفتاحا و مرحا .. أراد أن يستفيض و يسترسل طويلا في شرحه لولا أني وافقت على الفور مبينة له أنه أحمق و أن ما من داع لتوسلاته المبالغ فيها ، فلونا صديقتي و من واجبي الوقوف معها في هذه المحنة حتى تخرج منها سالمة.


استغرقت مدة العلاج تسعة أشهر كانت بالمجمل ثقيلة ، صعبة ، و مؤلمة بشدة على لونا ، بصرف النظر عن استئصال جزء من رئتها كان العلاج الكيميائي كابوسا حقيقيا ، أنهك قواها ، ذهب بشهيتها و زادها نحولا و شحوبا و كأن ما بها من ضعف لا يكف ، لكن الأسوأ من كل ذلك في نظرها كان تساقط شعرها الجميل . لم أكن قد عرفت حتى تلك اللحظة مدى حبها و تعلقها به ، و كان ذلك غباء مني ، فنصف جمال المرأة في شعرها و من غير الممكن ألا تتأثر بفقدانه.


و لم تتوقف تبعات خسران شعرها و نضارة جمالها عندها فقط بل تعدتها إلى الرجل الذي تحبه ، إذ لم تكن لتسمح له برؤيتها و هي في تلك الحال المزرية ، و على الرغم من أنها كانت تغطي رأسها بقبعة أو شعر مستعار عند خروجها إلا أن هذا لم يكن كافيا بالنسبة لها فهو في النهاية مجرد ستر زائف كما اعتادت أن تقول.


بحركة تلقائية رحت أتلمس أطراف شعري القصير . لقد طال بشكل جيد خلال هذا العام ، و لم يتبق غير سنتيمترين حتى يبلغ الطول المحبب عندي . إني على خلاف لونا أفضل الشعر القصير و أجده أكثر راحة و ملائمة لاستدارة وجهي مما سواه.

و أمام عناد لونا و رفضها القاطع لم يجد المسكين غير أن يكتفي بمحادثتها عبر البريد الإلكتروني و المكالمات الهاتفية ، و يرسل لها كل يومين علبة شوكولاتة فاخرة كانت تتقاسمها معي على الدوام . لا تقولوا عني شرهة ! فالحقيقة أني لم أحبذ مشاركتها في هديتها الخاصة أبدا ، لكني وافقت كنوع من التحفيز حين رأيت انعدام شهيتها و ندرة إقبالها على الطعام ، و قد كلفتني دعواتها السخية المتتالية شراء ملابس جديدة بعدما زاد وزني ثلاث كيلوغرامات ، هذا بغض الطرف عن الحمية الجهنمية التي أخضعتني لها أمي حال عودتي للقرية.


اعتاد الكونت - أو لندعه بأول اسم عرفته به آدم - أيضا أن يبعث لها مرتين إسبوعيا صورة لمريض بالسرطان مرفقة بتقرير موجز يحكي كيف تمكن من قهر المرض و مواصلة حياته كأي شخص آخر معافى . كان ذلك أفضل شيء يمكن أن يفعله أحد من أجلها ، لقد أثر فيها عميقا و رفع معنوياتها بطريقة عجزنا جميعا عن مجاراته فيها.

وليام و الأصدقاء كذلك كان يبذلون كل جهودهم لابهاجها ، و صرفها عن التفكير بأوجاعها ، لم نكن نمكث في المنزل إلا قليلا فالجدة لويز و ابنها خفيف الظل سامويل و زوجته الحنونة ريبيكا كانوا يدعوننا لتناول العشاء في منزلهم يوميا ، و كان رانكورت يرسل الرسائل بين حينا و آخر و يتصل ليحدثها عن ديكور فيلتها في باريس الذي يعمل بنفسه على تصميمه ، و لا يكاد يمر أسبوع دون أن يزورنا بيكارت و جان و ليون معا أو كلا على حدا ، و كان وليام يستغل وجود الزائرين و ينظم لنا رحلات إلى أروع المناطق السياحية في سويسرا.


اتسعت ابتسامتي في دفء و الذكريات المشرقة تمر على بالي كشريط من الصور المتلاحقة . كان ذلك رائعا ، بل أكثر من ذلك بكثير ، إنه شيء تعجز الكلمات عن وصفه كما يستحق.


تنهدت و أطبق الدفتر و رحت أنظر عبر النافذة بعينين غائمتين . أفتقد حقا تلك الأيام و أولئك الناس . منذ عودتي لمانشستر إنطفأت شعلة الإثارة من حياتي و بدأت الأوقات تدريجيا تستعيد رتابتها و تكرارها المضجر ، و لم يغير التحاقي بالمباحث الجنائية من هذا الوضع بل على العكس زاده سوءا ، لأني حين اخترت دراسة العلوم الجنائية كنت أتوقع حياة مفعمة بالحماسة و الإثارة و أياما مليئة بالمطاردات و التحقيقات حول مجرمين فائقي الذكاء و المهارة ، لكن كل ما وجدته هي جرائم قذرة مقرفة مكررة لدرجة كادت تقتلني من الاشمئزاز ، و مجرمون مختلون عقليا تفوح رائحة الإجرام من أنفاسهم ، و رؤساء عابسون متجهمون الابتسامة و الفكاهة في نظرهم خيانة عظمى تستحق الشنق.

تقوس فمي في عبوس مرتعب .. يا ويلي ! أين كان عقلي حين اخترت هذه المهنة ؟! ليتني استمتعت لك أمي !

لكني بالطبع لم و لن أخبرها بما آلت إليه حالي ، فإني أفضل مديري الذي يغسل وجهي ببصاقه كلما فتح فمه الكبير ليتحدث على أن تهز أمي رأسها و تقول لائمة : "ألم أخبرك قبلا ؟! هذه هي نهاية من لا يستمع لأبويه !"


غطيت وجهي بكفي و إتكأت بمرفقي على إطار النافذة و أنا أردد بيني و بين نفسي : (لا بأس سيكون كل شيء على ما يرام ! كوني متفائلة فمن يدري ؟! قد تجدين رؤسائك و زملاءك موتى غارقين بدمائهم حين عودتك و تبدئين مغامرة جديدة للبحث عن مجرم مثير ! و قد تصبحين محققة .. المحققة ويندي ماكستر التي يخشاها كل المجرمين بلا استثناء !)

نبض قلبي أملا بعد هذا الخاطر المشرق و كادت البسمة تعود متهللة إلى وجهي ، لكن الواقع المرير عاد يرتسم أمام ناظري مصحوبا بالعبوس و الشؤم و بصاق المدير.


عقدت ذراعي أمام صدري ملتوية الشفتين . أطلقت زفرة طويلة مشبعة بالسخط و القنوط و استرخيت في مقعدي ، و دون أن أدري كيف و متى سقطت في النوم ، و ليتني لم أفعل ! فقد راودني كابوس بقدر ما هو مرعب دموي بقدر ما هو سخيف غبي عديم المنطق ، لم أنجو منه حتى طرق سمعي نداء لحوح ساخر النبرة فأفقت مذعورة ، و صرت أتلفت حولي كالبلهاء :

"المدير ! السيد بصاق هو المجرم ! إنه ليس إنسانا ، بل مصاص دماء مناصر للاتحاد السوفيتي لقد ر.. "

و ما استعدت وعي كاملا حتى رأيت الفتاة بجواري تنهج و يحمر وجهها من الضحك ، لكنها لم تكن الفتاة نفسها التي كانت موجودة قبل نومي . خللت أناملها بين تموجات شعرها الأحمر القصير و أرجعته للوراء برشاقة و جسدها بكامله يترنح مقهقها.

"أنت لم و لن تتغيري .. يا ويندي !"

طرفت مرارا بأغبى صورة ممكنة و حدقت فيها بعينين ملؤهما الذهول : "لونا ؟!"

مسحت بأناملها البيضاء الطويلة الدموع المتعلقة برموشها كقطرات اللآلئ ، تنحنحت محاولة استرجاع جديتها و اعتدلت جالسة.

عدت أسأل و الدهشة تغالبني : "لم أنت هنا ؟!"

كانت قد زارتني مع وليام مرات عديدة في شقتي الصغيرة في المدينة ، لكن لم يسبق لها أن رافقتني في زيارتي للقرية.

انخفضت زاويتا فمها الأحمر في عبوس غير حقيقي و احتل البرود نظراتها و صوتها.

"أليس واضحا ؟! أنا ألبي دعوتك التي لم توجهيها إلي بعد لزيارة قريتك و استضافتي في منزلك بضعة أيام !"

حملت نبرتها قدرا غير خفي من اللوم و التأنيب ، فتملكني الإحراج و قلت مبررة تصرفي :

"آسفة .. ظننت أنك قد لا تحبين العودة لقريتي مرة أخرى بعد .. "

بعد محاولة القتل التي تعرضت لها من قبل أقرب صديقاتها ، لكني فضلت ترك العبارة مبتورة فهي ستفهم قصدي على كل حال.
و كان ظني في محله .. في نصفه على الأقل ، فهي لم تعبس أو تحزن أو يطف على ظاهر وجهها أية علامة تدل على الضيق ، هزت منكبيها و قالت بطريقة طبيعية تماما و هادئة :

"لا ، لقد تجاوزت الأمر منذ زمن ، و لم تعد ذكرى سونيا تؤثر علي بأي شكل !"

كان ذكرها لاسم صديقتها الغادرة بتلك الجرأة و اللامبالاة هو ما جعلني أوقن صحة كلامها ، فتبسمت بسرور و قلت مرحبة على الطريقة الانجليزية الغريبة لأهالي قريتي :

"إذن أهلا بك في سانت ماري !"

كشرتْ ضاحكة فيما أخذت في حبور أتأمل مظهرها و طباعها و ما يمكن أن يصيبهما من تغييرات ، لكني لم أجد أي اختلاف ملحوظ عن آخر خر مرة رأيتها فيها قبل شهرين تقريبا . كان شعرها القصير بتموجاته الأنيقة يلمع تحت ضوء الشمس و يتألق ببريق الذهب ، و لم يكن ذلك بالشيء الغريب فلونه أصبح أفتح بعد العلاج الكيميائي لكنه ظل جميلا ، بل يرى بيكارت و آدم أنه أجمل من السابق.

انحدرت عيناي من وجهها إلى ثوبها الصيفي البسيط ، فلاحظت حينها شيئا فاتني ! تبسمت تلقائيا و قلت متفاجئة :

"آه لقد زاد وزنك لونا !"

و شلت ابتسامتي حين رأيتها تجفل و تدير وجهها المظلل بالرعب نحوي :

"ماذا ؟!"

أخذت تتفحص جسمها بتمعن كأنها لم تره قبل هذه المرة .. حسنا .. لقد قلت شيئا أرعنا ما كان يجدر بي قوله . بالنسبة لبنات جنسي - أو لنقل الطبيعيات منهن - لا شيء أسوأ من أن تشير إلى زيادة وزنهن . في الواقع إنها الطريقة الأسرع و الأسهل و الانجع لجعلهن يكرهنك و يدرجن اسمك تحت قائمة الأعداء الغدارين.


"يا إلهي ! هل أصبحت بدينة ؟!"

تمتمت لونا بقلق حقيقي و هي تمد ذراعها و تتفحصها بنظرة شك غير راضية ، فتنهدت و قلت بنفاذ صبر :

"هل تمزحين ؟! قلت أن وزنك زاد .. ربما كيلو غرامين ، و ليس أنك سمينة . أنت الآن أفضل كثيرا مما كنت عليه قبل عدة أشهر ، كنت نحيلة حتى الهزال !"

نظرت إلي بشك : "هل هذا صحيح ؟!"

"طبعا ، ما كنت لأخفي عليك لو كان العكس و أنت تعرفين هذا !"


فتنفست الصعداء و عادت تسترخي على ظهر مقعدها مقطبة الجبين قليلا.

سألت بعد لحظة دون أن أستطيع منع ابتسامتي الماكرة من التسلل إلى وجهي :

"بالمناسبة كيف حصل ذلك ؟! لا أظن أنه من تدبيرك ، هل هو .. آدم يا ترى ؟!"

مطت شفتيها باستياء طفولي عند ذكر اسمه و هزت رأسها بالإيجاب ، ثم عقدت ذراعيها و قالت شاكية :

"لقد أحضر لي طباخا خاصا و طلب مني أن أتبع النظام الغذائي الذي يحدده و ألتهم كل ما يقدمه لي من طعام .. "

قلت مندهشة : "و هل أطعته بهذه السهولة ؟!"

رمقتني بنظرة تقريع كما لو أني رميتها بإهانة لا تغتفر و قالت :

"لا.. لم أوافق في البداية و بقيت أعترض و أجادل ، لكنه .. هددني .. بشيء.. "

لوت شفتيها بخليط من الامتعاض و الغيظ و الاستياء ، و ضيقت الخناق على صدرها بذراعيها المعقودتين و لم تكمل عبارتها . لم يبد عليها الخجل ، فاستنتجت أن ما هددها به لم يكن يتعلق بتركه لها . ربما كانت تقدم على بعض الأفعال الهجينة في طفولتها ، و كان هو يعلم بها فهدد بفضحها . ممكن و ليس مستبعدا من خبيث مثله.

تورد وجهها بحمرة ظريفة حين أضافت بغيظ أفقده الإحراج قوته :

".. ثم بدأ يسخر مني . قـ.. قال أني لو كنت دجاجة .. " و رمشت بعينيها مرات عدة و وجهها يتلون بحمرة البندورة الطازجة ، كانت غاضبة أيضا ، لكن الخجل كانت له السطوة الأقوى " فحتى الكلاب البرية الجائعة كانت لتعافني بنظرة إشفاق مشمئز .. و ربما كانت لتتصدق بطعامها علي .. بسبب هزالي .. الذي يسد الشهية .."


لم أستطع تمالك نفسي أكثر ، فانفجرت ضاحكة ، ترنحت و سقطت للأمام و اصطدم رأسي بالمقعد الذي أمامي ، لكني واصلت الضحك ، و بدا أني خيبت أمل صديقتي التي توقعت مني المواساة و التربيت على كتفها بتعاطف ، حدجتني بنظرة نارية و قالت :

"هذا .. ليس مضحكا !"

حاولت التوقف كيلا أزيد انفعالها ، لكن رد فعلها المضحك لم يساعدني أبدا ، فكان كل ما استطعته أن أخفض صوت قهقهاتي و أعود لمكاني.

أشاحت بوجهها تقول باستياء :

"أنت لا تختلفين عن وليام الغبي !"

أفلتت مني ضحكة دون قصد و أنا أقول : "و هل ضحك أيضا ؟!"

"نعم و لثلاث أيام متواصلة كلما وقعت عيناه علي يبدأ بالضحك !"

فغطيت فمي كيلا تفر ضحكة أخرى ، ثم قلت محولة دفة الحديث عنها :

"بالمناسبة .. أين وليام ؟!" جلت بناظري بين المقاعد منقبة عن وجهه الباسم "في العادة هو يرافقك !"

"آه إنه مشغول .. هذه الأيام !"

عدت أنظر إليها مستغربة . كانت نبرتها غامضة غير مقنعة و تخفي الكثير ،
لكني لم أستفسر أكثر ، فقد أحسست أنها قد لا تصدق معي أو لا تجيب بقدر ما أريد . كانت لها أسباب أجهلها تدفعها للتصرف بهذه الطريقة الغريبة.

قالت بسرعة بذات الأسلوب الذي لجأتُ إليه قبل لحظات لتغيير الموضوع :

"إذن كيف يسير عملك ؟!"

تجهمت و حلت تعابير التقزز على وجهي : "أفضل عدم الحديث عنه !"

ضحكت ، فسألتها بدوري : "و أنت ؟!"

فزمت شفتيها و هزت رأسها : "إنه جيد !"

"فتحت مكتب محاماة خاصا بك إذن ؟!"

"لا ، ما زلت صغيرة و قليلة الخبرة على فتح واحد خاص بي . أنا أعمل في مكتب متواضع يديره محام حسن الصيت رغم أنه ليس مشهورا !"

"و لماذا لم تختاري مكتبا أفضل و أكثر شهرة ؟! أنت الأولى على دفعتك حسبما أذكر و كانت كل المكاتب لتوافق على التحاقك بها !"

فردت صديقتي و عيناها تلمعان بدهاء :

"أعلم ، لكن العمل معها سيكون مملا ، إضافة إلى أن أحدا لن يلاحظ وجودك أو يهتم لإنجازاتك إن كنت محاطة بالناجحين المشهورين الذي يسرقون الأضواء و يجذبون الانتباه بعيدا عنك !"

هززت رأسي عندها : "أها .. فهمت ، أظنك على حق !"

فقالت مبتسمة بغرور : "أنا دائما على حق !"


في تلك اللحظة صدح صوت أنثوي رقيق يخبر بقرب وصولنا إلى محطة القرية ،
فتأهبت أنا و لونا و باقي الركاب ، و بعد دقيقة أخذنا ننزل حقائبنا و نجرها وراءنا أثناء اجتيازنا الممر الضيق المزدحم . كان الوقت ظهيرة عند خروجنا من المترو . الشمس تتوسط كبد السماء بقرصها الدائري المتوهج الطافح بالحرارة و ترسل أشعتها الذهبية المشرقة في كل اتجاه.


كنا مسرورتين بسيرنا في هذا الجو الجميل رغم حرارته . مشينا عبر الطرقات المتعرجة المحفوفة بالأعشاب النضرة و الأزهار المتفتحة زاهية الألوان ، و في الأثناء أخذت أعرف لونا على معالم القرية ، و أسرد لها تقريرا مفصلا عن كل بيت أو شخص نمر به ، حتى الطيور التي ترفرف فوقنا و القطط الشاردة التي تتسكع في الازقة لم تنجو مني.

كنا قد تجاوزنا أكثر من نصف المسافة إلى منزلي عندما ارتفع فجأة هتاف شخص ما :

"هي انتظري ! ويندي !"

استدرت و كذلك لونا إلى الوراء . كان جوني ينهج و هو يسرع محاولا اللحاق بنا و حقيبته الصغيرة ذات العجلات تكاد تنقلب و تفلت من يده جراء حركاته العجلة.

شقت وجهي ابتسامة عريضة و حين اقترب من مكاننا لوحت له مرحبة :

"مرحبا دكتور جوني !"

اعترض عابسا : "لم أصبح طبيبا بعد .. على الأقل بشكل مستقل !"


و أخذ يبطئ خطاه و يسير على مهل حتى توقف أمامنا . نظر إلي ، ثم تحول بصره سريعا إلى لونا ، فأخذت مهمة التعريف :

"إنها صديقتي الفرنسية التي حدثتكم عنها .. لونا آيون . لونا هذا جوني كلايتون ، صديقي منذ الطفولة !"

في الواقع لم تكن لونا في حاجة إلى تعريفي ، فهي تعرف جوني اسما و شكلا ، أما جوني فلم يعرف عنها سوى ما أخبرته أنا به ، و هو لحد هذه اللحظة لا يعلم أن هذه الفتاة اللطيفة رائعة الجمال هي نفسها ذاك المجهول المرعب الذي خرج من تحت الأرض قبل سنوات و بث في نفسه فزعا لم يسبق أن جربه.

كانت نظرة الإعجاب واضحة قوية في عيني جوني حين بسط يده قائلا :

"سررت بلقائك !"

ردت له لونا الابتسامة و صافحته و هي تقول بلهجة إنجليزية متقنة :

"و أنا كذلك سيد كلايتون !"

ضحكت في سري . بدا مبهورا بابتسامتها ، لكن شيئا ما وخزه على حين غرة و بدد عنه السحر . كان خاتم لونا . خاتم الخطوبة الرائع باهض الثمن الذي يحيط بنصرها مزينا بقطعة براقة مدببة من الماس.

تجهمت ملامح جوني دون شعور منه و أخذ يفرك يده التي صافحت لونا . ضحكتُ خفية .. لا أظن أن اختيار خاطب لونا لهذه الماسة المدببة كان مجرد صدفة ، يا له من خبيث !


******


فوجئت والدتي برؤية لونا ، و لم تكن المفاجأة من النوع السار ، لأني لم أعلمها مسبقا بقدومها كما كان يفترض أن أفعل . رمقتني بنظرة تأنيب غير أن مزاجها تغير حالما انتهيت من تعريفها بصديقتي ، و غشاها الذهول و عدم التصديق .

كانت قد أقامت في فرنسا عدة سنوات قبل زواجها و ذلك أثناء دراستها الجامعية ، لذلك فهي تعرف عن أسرة آيون و تعرف أيضا أنهم ماتوا جميعا في الانفجار و هذه المعلومة هي ما سبب لها الانشداه.

لكنها بدت أقل استنكارا و أقرب للاقتناع حين أخذت لونا بصبر و لطف تشرح لها كيف نجت و لم ظلت مخفية عن كاميرات الصحفيين و أعين الناس الفضولية ، و مع مرور الوقت أصبحت الفكرة تدخل رأس أمي و تتموضع داخل عقلها في ثقة ، فرحبت مجددا بلونا لكن بحرارة أكبر و صدق أعمق.


أقامت لونا معي في غرفتي خلافا لرغبة أمي حيث أرادت أن تقضي فترة إقامتها في غرفة الضيوف المريحة ، لكن لا أحد يمكن أن يجاري صديقتي في عنادها.. حتى أمي.

لم يظهر على والدي الكثير من التفاجؤ لوجود لونا ، بدا مستغربا فقط و قد حياها بإيماءة مهذبة حين عرفته عليها ، و لم يستفسر عن عائلتها كما فعلت أمي . تصرف بلباقة لكنه لم يكن مهتما كثيرا.

خشيت أن تتضايق صديقتي من استقبال عائلتي غير المشجع و تحسب أنها غير مرحب بها ، لكنها ضحكت ملء فمها حين أفصحت عن مخاوفي أمامها و قالت متعجبة :

"بربك ويندي ! أسرتك طبيعية تماما و قد أحببتها حقا !"

"هل أنت جادة ؟!"

قالت و هي تنسل داخل كيس النوم بجوار سريري :

"طبعا !"

أراحني كثيرا كلامها لكني لم أرتح لمكان نومها . لم يعجبني أن تنام صديقتي التي تكاد تبلغ منزلة الملوك بالثراء و نبالة الأصل على أرض غرفتي بينما أستلقي أنا على السرير المريح ، لكن هذا غير مجد فكلما عرضت عليها أن تأخذ مكاني ترفض على الفور قائلة بحماسة لا أفهمها :

"أحب أن أجرب النوم على الأرض .. كنوع من التغيير !"



⭐******⭐


فيما كانت ويندي تستغرق في النوم .. أخذت لونا تسترجع مبتسمة ما حصل قبل ثلاث أيام من مجيئها إلى مانشستر.


كانت جالسة مع أخيها و خاطبها يشربون الشاي في الحديقة البديعة تحت مائدة أنيقة مظللة . بدا وليام عابسا عكر المزاج على غير عادته و لم يلمس شيئا من الكعك بل اكتفى برشفة صغيرة من كوبه.

لم تفت ملاحظة تصرفاته الغريبة على الاثنين الآخرين ، لكنهما تظاهرا بعدم الانتباه . تركت لونا كوبها فوق الصحن و سألت بجدية :

"إذن.. كيف كانت فيكتوريك ؟!"

تجعد جبين وليام و قال مشمئزا :

"لم تعجبني !"

"و لم لا ؟! إنها لطيفة و جميلة حقا !"

لوى المعني شفتيه و دارت عيناه في محجريهما التماسا لفكرة قد لا تكون موجودة . أخفى كوب آلويس ابتسامته الساخرة عن ناظري وليام ، و بدت لونا صارمة و في أتم الجدية.

توقفت عيناه أخيرا عن الدوران و قال :

"إنها مملة و متصنعة !"

فزفرت شقيقته و تشكلت عقدة بين حاجبيها و هي تسأل ببرود :

"حقا ؟! ماذا عن أماندا إذن ؟!"

أجاب وليام بسرعة غير منطقية و بذات التعبير المنزعج :

"متكبرة !"

"و نورما ؟!"

"بدينة منتفخة !"

ففتحت لونا عينيها على مداهما و قالت مستنكرة :

"بدينة ؟! هل تمزح ؟! إنها أنحف مني !"

بدا وليام مضطربا و تلعثم سائلا :

"آه .. نعم أكيد .. لابد أني خلطت بينها و بين واحدة أخرى !"

كان منشغلا بالتفكير و لم يلحظ ضحكة آلويس الصامتة.

أضافت لونا بحنق ترن فيه نغمة اتهام :

"لا توجد من بينهن و لا واحدة سمينة !"

ارتبك وليام أول الأمر ، لكنه فجأة رفع نظره إليها بحزم و قال رادا الهجوم بواحد أقوى :

"أنا من يحكم هنا و ليس أنت يا أنطوانيت !"

تنهدت و عادت تقول بلهجة متململة :

"حسنا .. ستيفاني ؟!"

"ثقيلة الظل !"

"سوزي ؟!"

"لا يروقني لون شعرها.. " و أضاف سريعا حين استشعر ضعف مسوغه و إمكانية دحضه بسهولة "و لا لون عينيها و لا بشرتها و لا طولها !"

طغت الدهشة المصحوبة بالتهكم على شقيقته و هي تواصل أسئلتها :

"و ماذا عن كارين ؟! هل تأكل من منخيرها يا ترى ؟!"

زم وليام شفتيه ، ثم على حين غرة نهض بطريقة عنيفة و هتف ساخطا :

"أنا لا أريد أي واحدة منهن هل تفهمين يا أنطوانيت ؟! و أرجو أن تكفي عن اقتراح الفتيات علي ! لست طفلا و أنت لست أمي ، لذا توقفي عن التدخل في شؤوني ، سأختار بنفسي و بالطريقة التي تعجبني !"

بدت لونا أكثر هدوء و إقبالا على التفاوض السلمي حين وجدته ثائرا ، قالت بتؤدة :

"أنا لا أحاول إرغامك على شيء لا تريده يا ويل ، أنا أفقط أنتقي لك خيرة الفتيات من الطبقة الراقية لتختار أنت من بينهن من تشاء !"

"حقا ؟! و من قال لك أني مهتم بالطبقة الراقية هذه ؟!"

تنهدت لونا و قالت بصبر يكاد ينفذ :

"نحن من هذه الطبقة يا أخي شئت ذلك أم أبيت !"

"أعرف ، لكن هذا لا يعني أن نحصر الاختيارات عليها ، صحيح أن المنتسبين إليها أثرياء شريفو النسب ، لكنهم ليسوا ملائكة و لا معصومين من الخطأ ، إنهم يقترفون الآثام كغيرهم من الناس ، فلا أدري لم هذا التمييز !"

سكتت لونا و تبادلت النظرات مع خطيبها الذي لزم الهدوء و الحياد و لم يشارك في الجدال بكلمة.
أطلق وليام تنهيدة طويلة و ألقى بنفسه فوق كرسيه مرة أخرى . وضع مرفقيه على المائدة و صوب شقيقته بنظرة حادة خائبة الأمل :

"لقد اقترحت علي عشر فتيات غريبات عنك ، لكنك لم تأت مطلقا على ذكر صديقتك التي تحبينها و تولينها كل ثقتك فلماذا ؟! ألأنها من أسرة متواضعة لا تنتمي إلى الطبقة الراقية السخيفة ؟!"

فأدارت وجهها نحوه و ردت بلهجة صارمة :

"أنت لا تفهم يا ويل . أنا أحاول أن أكون موضوعية محايدة و أختار لك بعيدا عن عواطفي أنسب فتاة لتكون زوجتك و سيدة العائلة . أنا أحب ويندي جدا و أعدها أفضل صديقة لي ، لكنها .. " تنهدت بهم "غير ملائمة يا ويل ، إنها لا تصلح لهذه المهمة !"

طفحت المرارة و الغضب من نظرات عينيه المثبتة على ملامحها المغتمة :

"و ما يدريك أنت ؟!"

"إنها صديقتي المقربة ، ثم لماذا تطرح هذه الأسئلة ؟! هل أنت مهتم بها فعلا ؟!"

أطرق رأسه و التقى حاجباه بصورة لا تبعث على الطمأنينة . أشاح بوجهه و تمتم بصوت أجش :

"إنني أتساءل فقط.. " عاد فجأة يلتفت لكن ليس تجاه شقيقته بل نحو ابن عمته الصامت و سأل : "ما رأيك أنت ؟!"

نظر آلويس إليه ، ثم إلى تعابير لونا المتحفزة و قال بهدوء :

"رأيي من رأيها !"

ارتخت عضلات وجه الفتاة في ارتياح على نقيض وليام الذي تجهم و علت وجهه نظرة محتدة :

"هكذا إذن .. تقف معها ضدي !"

رمقه المعني بنظرة باردة من طرف عينه

"أنا أقف مع الصواب ضد الخطأ . الأصل النبيل مهم و لا يجب أن تغفله أثناء اختيارك !"

و لم يتريث وليام في هجومه و قال في سخرية لاذعة :

"حقا ؟! إذن فأسرة مورفان نبيلة الأصل ؟!"

نظر آلويس نحوه دون أن يظهر عليه الغضب ، لجأ للسكون و لم يعلق ، فقالت لونا متنهدة :

"الأمر مختلف معنا يا وليام . أنا لن أحمل اسم الأسرة بعد زواجي كما تعرف !"

"كفي عن اختلاق الأعذار ! أنا لن أهتم بما تقولين بعد الآن لا أنت و لا هو !"

ثم استدار و اندفع مغادرا يثير الرياح حوله ، و ظل يتمتم بعبارات سخط غير مفهومة حتى اختفى داخل المنزل.

التفت لونا ببطء نحو آلويس ، و بادلها هو النظرات ، ثم فجأة و في اللحظة نفسها راحا يضحكان.


قالت لونا ممتنة : "شكرا على المساعدة !"

هز كتفيه مبتسما : "على الرحب .. " ثم ضيق عينيه و حدق إليها بنظرة ذكية "إذن .. أين وصلت في خطتك ؟!"

قهقهت و قالت غير مندهشة : "هل كشفتني ؟! متى ؟!"

"منذ البداية !"

فعبست متصنعة الخيبة "هل كنت مكشوفة لهذا الحد ؟!"

"لا ، لكني أعرفك أكثر من أي شخص آخر حتى أخيك ، لذا لم يصعب علي كشف تمثيلك !"

"آه لقد أرحتني .. خشيت أن يرتاب فيّ !"

"لا أظنه شك في الأمر فالحنق يسيطر عليه ، على كلٍ أخبريني .. ما الذي تفكرين فيه بالضبط ؟!"

بزغت على جانب فمها ابتسامة ماكرة : "أفكر في الخطوة التالية من خطتي !"

قال آلويس بابتسامة مشابهة : "الخطوة التالية من خطتك الدكتاتورية المستبدة لجمع وليام مع ويندي ؟!"

كتمت لونا ضحكتها و قالت مدافعة : "ليست دكتاتورية و لا مستبدة ، لكن كيف عرفت ؟!"

"لأنك كنت تتصرفين بطريقة منافية لطبيعتك . أنت لست متمسكة لهذه الدرجة بالعادات و التقاليد القديمة ، بل إنك في غالب الأوقات متمردة يستهويك حب العصيان . هذا إضافة إلى أن طريقة تعاملك مع وليام كانت لها نتائج عكسية تماما لدرجة أني أيقنت من كونك تعمدت اللجوء إليها . علم النفس العكسي كما يقولون . تستخدمين النهي لتحثي على الفعل . أسلوب خبيث ، لكنه ناجح جدا ، فالإنسان بطبيعته متمرد تسحره الممنوعات !"

فتبسمت مزهوة : "تحليل ذكي . أنت محق ، أنا لا تهمني العادات و التقاليد خاصة إن كانت تعترض سعادتي !"

أرجع ظهره للوراء و قال بنبرة نصف موبخة و نصف مستمتعة :

"ألا ترين نفسك متسلطة بأفعالك هذه ؟!"

"لا لست كذلك ، أنا فقط أمهد لهما الطريق ، لأني أعرف تمام المعرفة أنهما يناسبان بعضهما و يتبادلان الإعجاب !"

"هذا ليس كافيا ، هناك عوامل أخرى يجب أخذها في الحسبان !"

"أعرف و أنا أدرس الأمر جيدا !"

تنهد في يأس و نظر إليها عابسا : "حسنا.. لكن عليك أن تعرفي حدودك و متى تنسحبين . لا تتدخلي في كل شيء و اتركي لهما حرية التفكير و الاختيار !"

مطت شفتيها شاعرة بالاهانة و لزمت السكوت و الانزعاج باد على ملامحها.


التقط آلويس كوبه و ارتشف منه قليلا ، ثم تطلع إلى مخطوبته فجأة بنظرة شك :

"هل محبتك لها .. هي ما دفعك لاختيارها دون باقي الفتيات ؟!"

"هذا جزء من السبب و ليس كله ، فلو لم أجدها ملائمة أو شككت في إمكانية إسعادها أخي ما كنت لأقدم على اختيارها و لا تدخلت في الأمر أصلا !"

تنهدت بعمق .. وضعت خديها بين راحتيها و سرحت نظراتها في البعيد . اعترى آلويس الفضول حين لمح طيف ابتسامة رقيقة يتسلل إلى شفتيها ، و لم تتركه يتحير كثيرا عن السبب إذ قالت :

"حين كنت في سويسرا أتلقى العلاج .. كانت هي إلى جانبي في كل لحظة ، في كل آهة و مع كل وخزة ألم . لم تتركني أشعر بالوحدة أو الاكتئاب يوما ، و لم توفر أي جهد في سبيل بث البهجة و السرور في نفسي ، و عندما .. رحت أبكي في أسى على فقدان شعري .. دخلت هي علي و قد حلقت شعرها تماما ! كانت تضحك بلا أدنى اكتراث لما حل بمظهرها .. فقط لتخفف عني !"


اتسعت عينا آلويس في دهشة و سرعان ما أخذ يضحك :

"صديقتك مجنونة بلا شك !"

لم يبد على لونا أنها سمعته ، غلبت عليها الحماسة و الاندفاع و هي تقول :

"لن يجد أخي فتاة مثلها و لا بنصف نقائها و طيبتها و وفائها . ستكون عائلتنا هي الأسعد إن وافقت أن تكون جزءا منها ، و أنا لن أدخر أي جهد في إقناعها ، لكن بطرق غير مباشرة لا تثير الريبة !"

"لكن.. "

"ليس هناك لكن ! يتزوجان أو أشنقهما !"

ضحك ملء فمه و قال متهكما :

"و بعد كل ذلك تقولين أنك لست مستبدة يا آكلة الورق ؟! اسمعيني أنا لست معارضا لفكرتك ، لكني أطلب منك التريث و التدقيق قبل إصدار أي قرار !"

لوت شفتيها و رمقته بنظرة استياء.

"أعرف ، لست متعجلة و لا متهورة كما تظن ، بل إني أفضل الروية و الهدوء و الدراسة المتعمقة ، و سأذهب بعد يومين لزيارة ويندي في قريتها !"

"تريدين التعرف على عائلتها و البيئة التي ترعرعت فيها ؟!"

"أجل ، سأذهب وحدي لذا لا تخبر وليام ! لن يكون من الحكمة أن يرافقني ، فهذا قد يؤثر على ردود أفعالهم و يشوش علي !"

هز منكبيه في قلة اهتمام و قال : "حسنا .. لكن ما أدراك أنه لن يتوقع ذهابك إليها ؟!"

"لن يفعل ، فهو يعتقد أني ما أزال غير قادرة على دخول قرية سانت ماري بعد حادثة سونيا ، كما أن لدي وسائل أخرى لتضليله !"

ابتسمت و تألقت عيناها ببريق دهاء شيطاني ، لكنها ارتبكت فجأة حين أحست بأنامله تتخلل شعرها ، توترت و احمر خداها . كانت تحسبه يداعبها ، فنظرت نحوه خجلة ، ثم عبست حين وجدته يضحك و يقول :

"أبحث عن القرون !"


⭐******⭐


نزلت في الصباح التالي لمساعدة أمي في إعداد الفطور فلحقت بي لونا ، و أصرت بأسلوبها العنيد غير القابل للتفاوض على مشاركتنا . كانت ما تزال محافظة على براعتها في أعمال المطبخ ، تتحرك بمرونة و رشاقة و تعرف جيدا ما يتوجب فعله .. على عكس البعض.
و بعونها أتممنا العمل في نصف الوقت الذي نستغرقه عادة فرمقتها أمي بنظرة امتنان و تقدير.

رحت أسألها في همس حين أخذنا بتجهيز الأطباق و الفناجين :

"بالمناسبة.. ما أخبار العقارب ؟!"

"آه ، لقد تفرقوا . سافر معظهم إلى بلدان شتى و بقي الآخرون المقربون من آلويس في فرنسا !"

"إذن ما زالوا أصدقاء ؟!"

"نعم ، لم تتغير علاقتهم كثيرا ، لكن حياتهم أصبحت مملة نوعا !"

عبست في غم و أنا أتذكر العمل المضجر الذي ينتظرني في المدينة :

"نفس الشيء عندي !"

"هل تشعرين بالملل في عملك ؟!"

"لأقصى درجة !"

ارتسمت على وجه لونا ابتسامة شريرة واعدة.

"لا تقلقي إذن ، ثمة الكثير من المصائب تختمر داخل رأسي و لن يطول الوقت حتى تجهز و نستمتع بحياة الإثارة مجددا !"

أشرق وجهي بابتسامة أمل واسعة.

"حقا ؟! هذا رائع !" ثم أضفت مستدركة و أنا أصب القهوة في الفناجين : "و هل من جديد عن رون ؟!"

كان آخر ما وصلني عنه من معلومات هو أنه رفض بشكل قاطع تسلم ثروة أبيه . كان يعتبر من الإهانة لكبريائه أن يأخذ أموالا لم يجنها بجهده و عرق جبينه ، أما ما أخذ منها من مال لإكمال دراسته الجامعية ، فكان يعتبره ديناً و أقسم على تسديده حالما يجد وظيفة مناسبة.

إن تفكيره غريب جدا ، لكني ارتحت للغاية حين لم يأتنا أي خبر عن عودته لحياة الإجرام.

هزت كتفيها و قالت دون أن تتوقف يداها السريعتان عن تقطيع الخبز :

"لا.. ما زال يدرس !"

قلت و الفضول يعتريني : "ما الذي يدرسه بالتحديد ؟!"

"الفيزياء النووية !"

فأفلتت مني صيحة رعب تبعتها ضحكة طويلة :

"يا إلهي ! هل يخطط لصنع قنبلة نووية ؟!"

قالت لونا نصف مبتسمة :

"ربما.. كي يفجر قريتك و ينتقم منك شر انتقام !"

و شرعنا نضحك و نقهقه و أمي ترمقنا بنظرة استغراب كلما مرت بنا .. لو عرفت عن أي شيء نضحك لما ترددت في إرسالنا لمصحة عقلية.


بعد الفطور جاءت فلورا و الحماس ظاهر على وجهها . كانت قد تعرفت إلى لونا في زيارتها ما قبل الأخيرة للمدنية ، فلم تندهش كثيرا لرؤيتها و رحبت بها بحرارة ، و بعد ذلك دعتنا لحفل الشواء الذي سيقام في مزرعتها هذه الليلة ثم غادرت على عجل.

لم أستطع منع نفسي من الشعور بالعجب ، فأسرة فلورا غير معتادة على إقامات حفلات الشواء . هذا يبدو غريبا ، لكن لا يهم ما دام هناك طعام لذيذ و صحبة مسلية.


كان الجو مناسبا فعلا لحفلة في الهواء الطلق . السماء صافية و القمر مكتمل و محاط بملايين النجوم الساطعة ، و النسمات عليلة عذبة.
مع ذلك حملت معي كشافا تحسبا لكل شيء ، و سرت مع لونا في الطريق إلى المزرعة ، و بعد فترة من المشي بين الأشجار المظلمة لمحنا الأضواء المنبعثة من منزل فلورا و بعد لحظة علت الضوضاء من المكان نفسه.


كان الفناء أمام المنزل مكتظا بالناس بصخبهم و ضحكاتهم ، و فاحت رائحة اللحم و الفحم و البهارات في الهواء.

و حالما اقتربنا من الجموع فغرت فاي و توسعت عينا لونا في انشداه . كان وليام واقفا بجوار الشواية يلوح لنا و على وجهه ابتسامة خلابة.

تلقائيا رحت أتصفح وجوه الحاضرين . فزادت دهشتي و فرحتي . ضحك بيكارت من تعابير وجوهنا و هو يجلس فوق أحد الكراسي القابلة للطي و قال بلهجة ساخرة :

"مرحبا ! كنا سنلتهم الطعام من دونكما !"

تقدم جان و قال مخاطبا بيكارت :

"لا تقل هذا ! ستصاب الزرافة الشرهة بالجلطة !"

جعدت أنفي و عبست قائلة :

"لم أكن لأصاب بالجلطة .. على أية حال أين طعامي ؟! أنا جائعة !"

أخذوا يضحكون مجددا ، و ناداني وليام مشيرا إلى الطاولة خلفه :

"إنه هنا لا تقلقي ! مستقبلك في أمان !"


مططت شفتي و بينما أهم بالتوجه إلى حيث أشار انتبهت لنظرة لونا المصوبة نحوه . كانت نارية مشتعلة ! من الواضح أنها لم تحبذ مجيء أخيها إلى القرية ، لكن لماذا ؟! إنه لطيف و مرح جدا و لا يسبب أي مشاكل . حاولت أن أفكر ، لكني لم أستطع التوصل لسبب مقنع.


كانت ما تزال واقفة في مكانها عاقدة ذراعيها بصورة تشي بالسخط عندما قلت مترددة :

"لونا.. هل من خطب ؟!"

بدا أنها فوجئت بسماع صوتي ، ارتبكت لحظة ، ثم أشاحت بوجهها و قالت بلهجة غير مقنعة :

"لا شيء.. "

"إذن .. هلا ذهبنا ؟!"

فاستدارت تجاهي و تنهدت :

"حسنا.. "

و تقدمتني إلى الطاولة متجهمة . لم أفهم كيف اعتل مزاجها بهذه السرعة.

و لما مررنا بشقيقها رمته بنظرة حارقة رد عليها بتكشيرة متحدية مغالية في الثقة.

لم تأخذ غير قطعة صغيرة من اللحم ، و لن أذكر كم كانت حصتي أنا درءا للحسد.

سحبتُ كرسيا و جلست إلى الطاولة في حين ظلت لونا واقفة . عرضت أن أحضر لها مقعدا ، لكنها رفضت بهزة مقتضبة من رأسها . كانت لتظل طوال الحفلة متكدرة لولا أن المنقذ أتى قائلا :

"ما الأمر آنسة نكدة ؟!"

أجفلت لونا ، ثم تطلعت إلى خاطبها المبتسم بنظرة غاضبة ، و همست من بين أسنانها عبارات لم أسمعها ، فأمسك ذراعها و سحبها بعيدا عن الطاولة.

"كيف حالك ؟!"

أزحت بصري عن صديقتي و وجهته نحو أخيها و قلت :

"في أحسن حال !"

و حشرت قطعة من اللحم داخل فمي . كان لذيذا حقا و بدا ذلك من تعابير وجهي المسرورة‘

عاد وليام يسأل : "هل أعجبك ؟!"

"نعم إنه رائع !"

فتبسم مبتهجا : "صحة و عافية !"

ابتلعت اللقمة في عجلة و سألت مندهشة : "هل أنت من أعده ؟!"

"نعم !"

"واو لم أكن أعرف أنك طباخ ماهر . شكرا على الطعام !"

رد بابتسامة خجول : "آه .. على الرحب و السعة .. يسرني أنه أعجبك !"


عدت آكل باستمتاع و ناولني أحد الشبان علبة كولا ، فأخذت أشرب و في الوقت نفسه أسترق النظر إلى لونا . أردت أن أعرف إن كان مزاجها قد تحسن أم لا ، لكن يبدو أن خاطبها لم ينجح كثيرا في تهدئتها ، بل ربما زاد الطين بلة بسبب تصرفاته المستفزة . كانت تجادله و الغيظ يستشيط داخلها في حين كان هو يرد ضاحكا مستمتعا.


توقف جدالهما للحظة حين تقدم منهما الشاب موزع المشروبات الباردة . لم تأخذ لونا شيئا ، لكن آدم اختار مشروب برتقال غازيا ، و حالما ابتعد الشاب عادت لونا تعبر عن استيائها ، لكن كلامها قوطع حين فتح مرافقها علبته و انفجر المشروب في وجهه !


تراجعت فزعة و سرعان ما انفجرت ضاحكة على منظره و قد نسيت كل شيء عن انزعاجها . وقف بوجه جامد غسل المشروب الغازي نصفه ، و مسح بكمه القطرات المنزلقة على وجنته و عنقه.

ضحكت أنا ملء فمي و شاركني الحضور ، لكن أيا منا لم يضحك بقدر الشاب مزوع المشروبات ، و الذي لم يكن في الواقع غير رون !







تمــت بحمد الله




يــاه ما زلت لا أصدق أنها انتهت !
الحمد لله الذي يسر لي و وفقني و مد في عمري حتى أنهيتها
أشكركم من أعماق قلبي أصدقائي الغوالي على متابعتكم و صبركم و ردودكم الرائعة
و بالنسبة للقراء الصامتين فهذا هو الفصل الأخير ، لن يكون هناك واحد آخر لذا تفاعلوا هذه المرة فقط و شاركوني آرائكم ، سأكون سعيدة حقا بها (:6


لنبدأ بالاسئلة :

- ما هو رأيكم الكامل بالرواية ؟!

- من هي شخصيتكم المفضلة ؟! اختاروا واحدة فقط :3

- ما هو الحدث الأجمل بالنسبة لكم ؟!

- مقولة نالت إعجابكم ؟!

- أي انتقادات أو ملاحظات ؟!


شكرا لكم مجددا و مجددا سررت و استمتعت بهذه التجربة و تشرفت كثيرا بالتعرف عليكم (:5


أترككم في رعاية الله






رد مع اقتباس