في منتصف تلك الليلة تعاون الغم مع ظلام الليل والأرق وانهالوا عليّ بما يجيدونه من أفعال ، تقلبت كثيرا وفكرت أكثر .. حاولت إماض عيني لأرتاح قليلا لكن دون فائدة .
باغتتني إثر فتحي لعيني في المره الأخيرة شبح بشرواقف أمام الباب يحيط به السواد ، تملكني الخوف للحظة ، لولا أنني جريت لأفتح الأنوار لتظهر استيرا- بثوبها الأسود وتحديقها العجيب- أمامي ، ما إن حاولت المبادرة بسؤالها عما يخالجها ، حتى نطقت :"أعلم من قتل والدينا " ، تذكرت حينها أن الطبيب أخبرني أن استيرا قد تهذي ببعض الأشياء أو تمشي أثناء نومها بسبب التوتر الذي تشعر به ، هذا ما جعل القلق يتلاشى وحاولت معاملتها بلطف وتفهم وانا أقول :" عزيزتي أتريدين معاودة النوم ؟" لكنها شهقت وصاحت :" أقول إنني أعرف من قتل والدينا وأنت ترغب بإعادتي للنوم ؟مالذي يحدث لك ؟ ألا تصدق شيئا مما أقوله " أدركت عندها أنها ليست غائبة عن الوعي ، فأخرجت تنهيدة طويلة موضحا :" إستيرا ، كلانا متعبان ، أفكاري مشوشة وعندي أرق فظيع ، لا أظنني قادرا على فهمك بشكل صحيح خصوصا بعد قولك هذا ، وجدت الشرطة السيارة مقلوبة بسبب إنزلاق عجلاتها بفعل المطر ، إذن لاجريمة .." قاطعتني وهي تشير بأيديها أثناء كلامها :" لا ، لا يا راوند هذا ما يريده القاتل تماما ، لقد وعدني بقتلكم جميعا في آخر ليلة من إختطافي حينما عذبني ، أتذكر ؟ " فتحت فمي لأرد لكنها واصلت وعيناها تتلألآن بالدموع :" أتذكر يا راوند أنني تخلصت من ذكريات كل ما حدث ؟ لكن هذا الكلام بالذات الصادر عن ديفيد ظل يراودني ولم أشأ إخباركم كوني لم أصدقه ، أعلم أن الأمر جنوني لكنها الحقيقة بعينها ، لا تعلم كم ذاك الرجل مخادع ، لا يمكنك الوثوق بالشيطان حتى وإن كان داخل السجن .. ربما لديه أعوان ، وإلا كيف انقلبت سيارتنا الضخمة الجديدة ولم تنقلب باقي السيارات عل ذاك الطريق ؟
حسنا ، هناك بعض المنطق في هذا ، لكن ديف مسجون ولن يقدر اعوانه على جعل سيارة تنقلب .. أسيأتون ليدفعوها مثلا ثم إن الطريق الذي سلكوه مزدحم و يعتمده الكثيرون كل يوم . لا رائحة لجريمة هنا .. لكن عليّ مجاراتها ، فتحت فمي أخذت في القول :" استيرا حسنا أنا أفهمك تماما ، لكننا في ساعة متأخرة وعليك أخذ قسط من الراحة ،" ردت بدهشة :" أنت لا تصدقني " .. يا إلهي ... هل ستعود نوبتها ؟ كررت عبارتها السابقة مرارا بصوت أعلى في كل مرة ، وعندما حاولت مسكها وتهدأتها أخذت بركل الأشياء في الغرفة وهي تملأ الدنيا صراخا بصوت مبحوح من أثر البكاء :"لا أحد يصدقني ، ولا يفهمني أحد حتى من كنت أعده أقرب الناس لي ، الموت أفضل لي ، الموت أفضل ..." جريت لأوقفها .. ستصاب حتما بإنهيار عصبي إن واصلت فعل هذا ، عمدت إلى طمأنتها بأنني أصدقها وبدل أن تهدأ زاد نحيبها بل أخذت بغرز أظافرها في ذراعيها صارخة :" أنا المذنية ، لم أعر لكلام ذاك المجرم انتباها ،؟ ولم آخذ بحذري لماّ رأت الغراب ، ليتني ذهبت معهم لأموت "
لم أعلم ما عليّ فعله بقيت ساكنا وأنا على وضعيتي السابقة أراقبها وحسب حتى خارت قواها وأغمي عليها حملتها لغرفتها ثم عدت وكلامها يرن في أذني ، أيعل أن ما قالته صحيح ؟؟
صفقت الأشجار بأوراقها وتوارت الشمس وراء ستار السحب التي نثرت قطرات من أمطار على المدينة النشيظة ، الكل يكترث بما قد يحصل له في المستقبل ويخطط لأيامه القادمة ، لكن داخل فيلا ' آل دون ' الأمر مختلف ..بل روتيني بشكل قاتل ، فخلال هذا الاسبوع الموالي للجنازة أخذت الامور منحنى آخر ، تحولت من التعيير الوجداني والتصادمات العنيفة إلى ثلج من اللامبالاة كسى العلاقات بين الأخوين ، ظلت استيرا تحبس نفسها طول اليوم تقريبا في غرفتها تستشعر ماكان من وحدتها من قبل ثم إنها وجدت أنّ شيئا من ذامرتها يُسعد برسم مشاعرها وكتابة احاسيسها ، وبهما قضت أوقاتها المتاحة خارج نطاق التفكير ، رسم وكتابة ، مزيج جميل في عالم عادت لتحكمه الألوان التشاؤمية ، أما راوند فلم يستفق من ذهوله وصدمته إلا بعد أن أصبح مالكا للشركة .. وكونه ما زال يدرس جعل رئاستها لنائب والده وصديقه العزيز جورج ، فيما تولى هو التحضير لسنته الجديدة و الإطلاع على حسن سيرورة العمل ، استنزف ذلك بطبيعه الحال كل يومه إلا انه حرص كل الحرص على تناول العشاء مع أخته ومحاولة إخراجها من الدوامة التي سقطت فيها ، إلى هنا كل أمر كان عاديا ، لكن ما حول العادي إلى غير ذلك هو ما حدث في يوم الأحد من الأسبوع الثاني
ـ
استيقظت بإكتئاب كباقي أيامي ، وبعد الفطور سطرت عناوين أحلامي ، لست محبة لحياتي فأحداثها تؤلم كياني ، شحوب مظهرها يقتل كل الأماني ، استطعت نفض الغبار عني وإكمال السير في حياتي التعيسة ، رسمت قليلا ثم نزلت لغرفة الاستقبال ، فاجأني وجود سيدة بملابس رسمية هناك ، تساءلت ألهذا علاقة بأملاك والدي ؟
رحبت بي قبل أن ارحب بها وجعلتني أجلس معها في الأريكة وهي تمسك بيدي ، ابتسمت وقالت :" بعد قليل سيأتي راوند وأكلمكما بأمر هام ، صمتت قليلا ثم أكملت :" انا اتشوق لفعل هذا الأمر ، لكني أخاف مما ستقولانه " عقدت حاجبيّ .. مالذي تريده منا ؟ يبدو الأمر مهما جدا ومع هذا لا أرغب بالحديث حوله كون القلق بدأ ينتابني ، أخرجتني ضحكتها المدوية من تساؤلاتي ،" لم تحدقين بي هكذا ؟ عيناك لا تظهران كل مافي قلبكِ لكن سيمات وجهك تخبرني أنك لست مطمئنة ولا سعيدة بي ؟" قابلتها بنظرة باردة ثم استدرت وصعدت نحو غرفتي وانا أقول :" أتمنى أن تقوموا بواجب الضيافة نحوها ، نادوني من فضلكم عندما يأتي راوند " .. اغلق الباب عندما دخلت الغرفة ، كم تبدو تلك المرأة جيدة ظاهريا ، لا أحد يعلم ما الموضوع الذي تريدنا فيه ، اظنني سأغير رأيي فيها بعد أن تخبرنا ،
ناداني راوند للمثول امام السيدة لدى عودته ، لم يكن هو الآخر مرتاحا تماما معها ، كلانا يعلم انها ليست هنا لتتلو علينا خبرا سارا ، كنت اركز مع حديثها وعيناي تنظران للنافذة ، لست بارعة في التحديق المطول للغرباء حينما يتحدثون ، بدأ راوند تحقيقه بصوت أجش :" من أنتِ يا آنسة ؟ وماذا تريدين منا ؟" كانت تلك العبارة آخر ما اسمعه من راوند قبل ان تتملّك المرأة النصف ساعة التالية في شرحبإسهاب :" هل رأيتهم دفتر عائلتكما ؟ بالتأكيد لم تفعلا ، أراهن على ذلك ، فوالدكما كان يريد تضليلكما عن إحدى الحقائق ، لكن عليكما معرفتها الآن فأنتما واعيان بما يكفي لتقبلها الآن ، أخرجت دفترا عائليا من حقيبتها وسلمته راوند مطابة :" يمكنك تصفحه راوند ستجد أن والدك يملك أختا " اتسعت حدقتا عيني راوند فيما حولت عيني نحوها فابتسمت مجددا وأخوجت أوراقا عدة لتردف بثقة هذه المره :" هذه شهادة ميلادها وهذه وثيقة زواجها وهذه بعض الملفات الأخرى التي تخص حياتها الصحية والدراسية ، عمتكما لا تزال حية ، حسنا ؟ لا تزال حية يمكنكما التأكد من إسمها وتاريخ ميلادها من الاوراق " ، اخذ راوند يتفحص الاوراق الواحد تلو الآخر كأنما هو طالب يحل مسائل معقده في الرياضيات ، وكلما أنهى احداها مررها لي فتزداد دهشتي ، أأصدق أم أكذب ؟ كيف سأصدق هذا ؟ ولماذا سأكذبه وأنا ارى كل هذه الأدلة ؟ لديّ ...عمة ؟؟
وضعت آخر ورقة مررها لي راوند على الطاولة رفقة مثيلاتها وصوبت نظري للسيدة ، تأملتنا قليلا لتنطق بالسؤال الذي اخذ لبنا :" أتريدان معرفة مكانها ؟ " أومأت مع راوند في نفس الوقت ، فأجابتنا : إنها انا .ز
تعطل إدراكي وتلاشت كل الاصوات من رأسي إلا صوت راوند المضطرب وهو يقول :" أنتؤ ؟ كيف ؟ لا أفهم شيئا و..." قاطعته وهي تجيب :" لا عليك . أعلم أنك لا تفهم ، حسنا ، اسمعاني ..." اخذت نفسا عميقا ووضعت قدما فوق الأخرى لتبدأ بسرد قصتها
نهاية البارت