" إذا لم يكن هنا فأين يمكن أن يكون؟! ذلك العجوز الأحمق." تنهدت بانزعاج وهي تريح جسدها على الكرسي الجلدي الخاص بمكتب عمها لافغورد أو بالأصح بمكتب والدها سابقاً والأمل بوجود خيطٍ قصير يصلها لما تريد بات ضرباً من الخيال! "ماذا الآن؟" تمتمت بصوت ناعس وهي تحاول جاهدة الوصول في تفكيرها إلى المكان الذي من الممكن أن يكون به ذلك الملف أو أي شيء شبيه ربما! وبحركة آلية أسندت جبينها على طاولة المكتب وأغمضت عينيها مطالبة بظلمة أشد من الظلمة التي تحيطها في الغرفة لتنعم بتفكير هادئ... لكن! لماذا يحدث هذا دائماً؟ كلما اقتربت من نهاية فعلية لمشكلتها التي أرقتها مدة ليس بالطويلة تعود مرة أخرى لتتشبث بعقلها بشكل أقوى من ذي قبل؟! ألن ترتاح أبداً! أم عليها عيش تلك السويعات التي مضت في كل ثانية من حاضرها؟ أبداً من الواضح أنه لا يمكنها ذلك فإرادة تلك الأفكار في البقاء أقوى من إرادتها في محوها... صدقاً! من الأحمق الذي يمكنه نسيان الوقت الذي كاد يفقد به روحه بمنتهى إرادته؟! لا زالت تتذكر تفاصيل تلك الحادثة صغيرها وكبيرها فشعرها شاهد على ذلك اليوم ولا زالت تتذكر شعورها الخانق وهي بين ذراعي منقذها من الموت - يولاند- كانت تتوقع ظهوره لكن ليس هنا وليس في هذا الوقت... ربما ظهر لها بصيص أمل بظهور جيو لكن! بعد ثلاثة أيام من مكوثها في المشفى عندما كانت تتجهز للعودة برفقة يولاند إلى ألمانيا أدركت أنها كانت حمقاء منذ البداية، رأته صدفة وهي في طريقها بالسيارة إلى المطار... لا زالت تتذكر تفاصيله آن ذاك، تتذكر وقفته وهيئته المعتادة وكذلك غطرسته المألوفة... كان يضع يديه في جيوب بنطاله كأنه يقول أنا لا أبالي.. التقت نظراتهما... وكالعادة لم تستطع قراءة ما تحتويه بداخلها وهي فعلياً لا تعلم ماذا قرأ في عينيها، فعن نفسها لم تكن تعلم كيف كان شعورها ذلك الوقت! بعدما رأت ظلمة عينيه وملامح وجهه غير المبالية ومنذ تلك اللحظة قررت سحق مشاعرها وجميع أحاسيسها.. كان الأول وسيكون الأخير، هذا وعد قطعته على نفسها، ولن تهتم لأحد هو منطقها الجديد... شهقت بخفوت وهي ترفع رأسها بسرعة غريزية وصوبت نظرها ناحية الباب ثم إلى الساعة المعلقة على الجدار... لم تستطع معرفة الوقت جيداً فالإضاءة التي تنير هذه الزاوية من الغرفة لا تصل حيث توجد الساعة لكنها خمنت أن تكون قد تجاوزت الثالثة بعد منتصف الليل... " سحقاً.. من الذي لا يزال مستيقظاً حتى هذا الوقت؟" انتفضت عن الكرسي تستمع لتلك الخطوات التي كانت تقترب رويداً رويداً عاجزة عن فعل أي شيء عدا عن التحديق في الباب في انتظار اقتحام المجهول صاحب الخطوات المريبة! "هل يعقل أن يكون يولاند؟ لا أستبعد هذا حقيقةً." ولما هي متوترة الآن؟ لم تفعل شيئاً خاطئاً، ألقت نظرة على المكتب في هذا الوقت وستعود للنوم حالاً.. يا له من عذر مقنع! ابتسمت ساخرة وهي تتقدم أخيراً نحو الباب وقررت فتحه أخيراً غير مهتمة للشخص الذي يقف خلفه... حركت يدها وأمسكت مقبض الباب وأخذت نفساً عميقاً وفتحته سريعاً وما لبثت حتى فغرت فاهها في استغراب بينما الرجل كبير السن وقف متفاجئاً وهو يعلق يده التي كان يريد فتح الباب بها في الهواء... " يا الهي هذه أنتِ آنستي كروستا! سببتِ سكتة قلبية لي كدت أوقذ السيد لافغورد، ظننت أن هناك سارقاً في القصر." تحدث أشيب الشعر ثم تنهد براحة وهو يضع يده على صدره ناحية قلبه كرد فعل طبيعي في مثل هذا الظرف... " عمي داركو، أنا أعتذر على اخافتك في مثل هذا الوقت، لكن اسمح لي أن أسألكَ لماذا لست في فراشك الآن؟" تمتمت كروس وشبح ابتسامة ظهر على محياها وشعور بالراحة انتابها لأنه لم يكن يولاند أو عمها لافغورد، إنما كان داركو رئيس الخدم والذي بقي بمثابة الأب الحنون لها، اعتادت دائماً مناداته بعمي ولا زالت لكنها لم تنادي عمها الحقيقي بهذا اللقب منذ خمسة عشر عاماً.... علق داركو على كلام كروس وابتسامة دافئة ارتسمت على شفتيه جعلت المزيد من التجاعيد تظهر على ملامحه تدل دلالة واضحة على كبره في السن: " هذا السؤال موجه إليك صغيرتي، هل كنتِ تبحثين عن شيء ما هنا؟" علقت كروس وهي تغلق الباب خلفها بهدوء: " ليس تماماً عمي، لم أستطع النوم فقدمت إلى مكتب والدي." "كما في الماضي." " تماماً، حسناً علي الذهاب لغرفتي وأعتذر مرة أخرى على إفزاعك.. تصبح على خير." استدارت عنه وغادرت بخطوات هادئة جداً وعقلها بقي مشغولاً في أمر ما... مرت خلال الصالة وقصدت السلالم مباشرة ، صعدتها ونظرها كان محدوداً جداً جعلها تغفل عن تلك الأعين التي كانت تراقبها وصاحبها تعلو على وجهه ابتسامة جانبية تكاد تكون غير ظاهرة.... " لم يكن العم داركو صاحب تلك الخطوات." تمتمت محدثة نفسها وهي تغلق باب غرفتها برفق واتجهت مباشرة نحو سريرها وجلست عليه... امتدت يدها لتتناول كأس الماء الموضوع على – الكومودينو- ورشفت منه دفعة واحدة.... " كان هناك شخص آخر أنا متأكدة.. توقف صوت تقدم تلك الخطوات المريبة للحظات وبعدها ظهرت خطوات العم.. إذا لم يخطئ حدسي فهو يولاند، لكن أين اختفى قبل ظهور العم؟" أعادت الكأس إلى مكانه واستلقت تحدق بالسقف وهي تفكر ثم حرفت نظرها لتنظر إلى الساعة فوجدتها تشير للثالثة والنصف.... لم تجد الملف هنا إذاً بقي لها مكتبه في الشركة أو ربما غرفة نومه رغم أن الأمر مستبعد... لا بأس لديها المزيد من الأيام لتبحث لكن ليس الكثير، سيتم إعلان خطبتها من يولاند غداً والزفاف بعد ثلاث أسابيع... " كم هذا مضحك، سأتزوج من قاتل أمي." فكرت ساخرة وهي تقلب نفسها للجهة اليمنى تحدق بصورة والديها المحاطة باطار صدفي فاخر وظهر بريق خافت بداخل عينيها وسرعان ما سال خيط من الدموع على وجنتيها بصمت... تبكي ثم تنام، هذه أصبحت عادتها حديثاً.....
[ am 10:30 :- فرانكفورت- قصر فهرنهايت]
وقفت كاميليا تطالع ابنتها بنظرات مصدومة، فقد تفوهت بشيء غريب جداً يكاد يكون مستحيلاً... فهمت لتوها أن السبب في حالتها البارحة كان هستون ولا مجال للشك لكن السؤال هو لماذا؟!
" إيلين، هل أنت واعية لما تقولينه؟! لم أصر على معرفة السبب الليلة الفائتة لكنني أود السماع الآن.."
علقت ونظراتها تلاحق إيلين في كل حركة تقوم بها..
كانت تقف أمام المرآة تضع آخر لمساتها على وجهها ثم انتقلت لتنتعل حذائها وتكلمت دون أن تنظر إلى والدتها:
" هذا قراري النهائي أمي، لقد مللت هذا الحال."
سألت والدتها وهي تقترب منها:
" أخبريني لما هذا القرار المفاجئ؟"
" ليس مفاجئاً أمي، كنت أفكر به منذ شهرين تقريباً"
التقطت حقيبتها ووضعت الخاتم الألماسي فيها وأعقبت:
" علي الذهاب الآن لا تنتظروني على الغداء سأكون عند تافيا."
وركضت قبل سماع تعليقات والدتها..
" أجل سيدي.. أظن أنها ستصل إليكِ قريباً."
" لقد وصلت بالفعل."
أغلق هاتفه وهو يبتسم بهدوء وعيناه تحدقان بها وهي تنزل من سيارتها..
علم فوراً السبب وراء مجيئها وهو ليس متفاجئاً البتة... هو من بدأ فليتحمل إذن..
تنهد بهدوء وسار إلى داخل غرفته مغلقاً باب الشرفة خلفه في انتظار اقتحامها خلال ثوانٍ....
ولم يطل انتظاره طويلاً.. تقدم حيث تقف بالقرب من الباب وكلاهما لم يتفوها بكلمة... وقف قبالتها وأسر نظراتها بنظراته الهادئة ولم تشعر بيده عندما امتدت لتغلق الباب من خلفها...
" إيلين."
تمتم لتجيب بهمس: " أصمت."
وعادت بذاكرتها إلى أحداث ليلة أمس التي لن تنساها أبداً.....
^~^~^~^~^~^~^
أخرجت حذاءها المستوي من حقيبتها بسرعة وانتعلته بدل الآخر الذي كانت ترتديه ذو الكعب العالي وكلمت نفسها وشعور بالفخر ينتابها:
" كانوا يسخرون مني على هذه الحركة، حمقى أنظروا إلى فائدتها."
وقبل أن تضيعه عن أنظارها ركضت خلفه بأريحية بمساعدة الحذاء دون أن تصدر أي صوت....
ستكتشف الآن ما يخفيه عنها منذ أشهر ولن تعود إلى القصر قبل هذا....
" صدقني هستون إذا كنت ذاهباً إلى ذلك الوغد سوف أضربكما بحذائي الآخر."
همست وهي تعقد حاجبيها ووقفت في زقاق مظلم عندما توقف هستون عن التقدم وبقي واقفاً كأنه ينتظر أحدهم...
كان يلتفت إلى يمينه تارة وإلى يساره تارة أخرى وكل دقيقة ينظر إلى ساعة معصمه...
وقفت لنصف ساعة ولم يحدث شيء حتى بدأت تشعر بالملل وكادت تعود أدراجها خائبة لولا تلك الحركة الغريبة التي استدعت كل حواسها...
نظرت إلى تلك السيارة السوداء وهي تُفتح وينزل منها رجل لم تستطع رؤية وجهه لأنه كان يعطيها ظهره ورأته يتجه حيث يقف هستون ينظر إليه في صمت وملامح جادة... لكن مهلاً..
" ما هذا؟"
ضيقت إيلين عينيها ونظرها منحصر على ذلك الملف الأزرق الذي كان يحمله الرجل الغريب، بات الأمر مزعجاً لها، ما الذي يخفيه هستون عنها؟ الأمر الذي لا تنكره هو شعورها بالسعادة لأنه لم يكن هنا لمقابلة يولاند... شعرت من هذه الناحية بالراحة لكن بالمقابل ظهر لها هذا...
كانت تود بشدة معرفة ملامح الغريب لكنهما كانا يقفان بعيداً عن عمود الإنارة على طرف الطريق المقابل لها....
كان الطريق خالياً في مثل هذا الوقت ولم تلحظ أي حركة أخرى.. ولأنها كانت تريد معرفة ما يجري قررت التقدم أكثر دون أن يلاحظها هستون لكن كلباً أحمقاً حال دون ذلك...
أطلقت إيلين صرخة فزعة وحاولت الهروب من هذا الكلب المزعج ولسوء حظها رآها هستون ومن معه ولم يلبث طويلاً حتى غادر الغريب وبقي الاثنان هناك يحدق كل بالآخر... ومن شدة قهرها صرخت بالكلب من بعيد:
" لو أنك إنساناً لكنت ضربتك أيها المزعج.. سحقاً لك."
" إيلين!"
التفتت إيلين ناحية هستون وعقدت حاجيها أكثر وهي تتقدم منه حتى وقفت أمامه وقبل أن يتكلم...
" لن أبرر وجودي هنا هستون حسناً؟... ستخبرني الآن ما هذا."
تحدثت بحدة وهي تشير إلى يده التي يمسك بها ذلك الملف وكادت تسحبه لكنه أبعد يده بسرعة وما زال متفاجئاً منها...
" أيتها الحمقاء... سحقاً متى ستصبحين مسؤولة؟"
علق هستون بغضب وهو يقتادها من ذراعها معه بقوة حيث أوقف سيارته لكنها لن تسير معه بسهولة... حاولت سحب ذراعها من قبضته لكنها لم تنجح واستمر يقتادها معه حتى توقف بجوار باب السيارة الأمامي..
" أوصلتكِ إلى القصر فلماذا لحقتي بي إيلين؟"
تحدث من بين أسنانه وحاول جاهداً منع نفسه من الغضب لكنها لم تسمح له بذلك....
هذه المرة تمكنت من التحرر من قبضته بعنف ودفعته بكلتا يديها بقوة وهي تصرخ...
" لأنك لا تخبرني بشيء هستون.. أوشكنا على الزواج وأنت لا زلت لا تثق بي.. أخبرني كيف علي أن أتصرف في مثل هذه الحالات؟ لو كنت مكاني ماذا كنت ستفعل؟"
" أخفضي صوتكِ إيلين وانظري أين أنتِ."
لكنها لم تستمع له وضربته بقبضتها على صدره عدة مرات وصرخت:
" أنا أكرهك هستون.. سحقاً لك ولبرودك.. أنا الغبية منذ البداية لأنني تعلقت بك."
وبدأت ترتجف ودموعها وجدت طريقها على وجنتيها وهي تصرخ بانفعال وكان هذا يعني شيئاً واحداً.... يعني أنها تحتاج لشيء يجعلها تستيقظ من هذه الحالة....
وبدون سابق انذار ارتطمت يده بوجنتها مصدرة صوتاً مؤلماً تماماً كما كانت صفعته... كان يعلم تماماً ما هي النتائج لكن ما من خيار آخر....
وساد صمتٌ ثقيل أحاط بهما وكانت تحدق به مصدومة مما فعله منذ لحظات وهو بدوره واقف كالتمثال دون أي تأثير....
شهقت ووجدت يدها طريقها لوجنتها وتلمست مكان صفعته وهي تتمتم بصوت أبح مختنق:
" شكراً جزيلاً هستون، لن أنساها ما حييت."
^~^~^~^~^~^~^~^~^
حركت يدها لتنتشل خاتم خطوبتها من الحقيبة وعيناها لم تبتعد عن وجهه..
" سأصمت إيلين وسأدع شخصاً آخر يتكلم."
علق بهمس ولم تستوعب كيف أصبحت جالسة على الأريكة وأمامها الحاسوب المحمول الخاص به....
لم يكن لها أدنى فكرة عما يجول في فكره لكنها انتظرت وراقبت في صمت بتأثير داخلي منها رغم أنها نبهت نفسها كثيراً أنها ستكون النهاية، واستمعت لكل كلمة يقولها بينما يقوم بعمله على الحاسوب وهو جالس إلى جوارها..
" إذا كنتِ تظنين أنه يمكننا الانفصال فأنا آسف على تخييب أملكِ... ربما أفضل أن تنتهي حياتي قبل أن أترككِ إيلين.."
أدارت رأسها لتنظر إلى وجهه وعلقت:" لم يكن هذا رأيك مساءً هستون.."
" سيبقى هكذا دائماً إيلين.. وعن تلك الصفعة فأنا لن أعتذر، كنتِ تستحقينها."
" هكذا إذن."
تكلمت من بين أسنانها وكادت تنهض لولا يده التي منعتها من ذلك وصرخ بها: " ألست تريدين معرفة ما أخفيه عنكِ؟ ستعرفين الآن إيلين."
علقت بصراخ: " لم أعد أريد، افعل ما يحلو لك لن أكترث."
" هل أتدخل هستون؟"
عقدت حاجبيها في تساؤل وهي تحدق بوجه هستون الذي عدل جلسته ونظره ثابت عليها والانزعاج واضح على وجهه... لم يكن هذا صوته بل صوت شخص ثالث، هدأت نفسها ونفذت طلب هستون الصامت بشكل آلي ونظرت إلى شاشة الحاسوب في صدمة...
" من؟!"
تمتمت بهمس وهي تمرر نظرة خاطفة إلى هستون ثم تعود إلى الشاشة وسألت هذه المرة بصوت طبيعي لا يخلو من الريبة: " من أنت؟"
" ألن تخبرها هستون؟ يكفي أنني عطلت نفسي لأجل مشكلتك التي كان عليك حلها وحدك."
تحدث الطرف الثالث ليجيبه هستون:" أترك الكلام لك ولا تنسى أيضاً أنني أساعدك كذلك."
" هذا ليس كذاك هستون."
" هل سأبقى أستمع إلى ثرثرتكم أم ماذا؟"
تدخلت إيلين وقد تبدل صوتها للجدية هذه المرة في انتظار أن يُعرِّف هذا الرجل الذي ظهر أمامها عبر الشاشة عن نفسه وحتى تفهم لما هستون أجرى معه هذا الاتصال... كان يمكنه أن يتكلم معه عبر الهاتف لما يريد منها رؤيته؟!
" مهلاً.."
صرخت وهي تشير بسبابتها إليه..
عندها أمال رأسه قليلاً وأغمض عينيه وعلت وجهه ابتسامة جانبية...