عرض مشاركة واحدة
  #11  
قديم 02-01-2017, 06:07 PM
 
الفصل الحادي عشر



عرين الأسد




توفيت السيدة مريم بعد مرور ساعات على بدء العملية .. أخذت نانسي تتذكر ما حدث بينما هي تقف أمام نافذة الشقة التي استأجرها لهن محمود .. والتي تقيم فيها مؤقتا برفقة لينا وحنان منذ 4 أسابيع
لقد كانت صدمتها عنيفة عندما أعلن الطبيب النبأ بأسف .. أمسكها محمود بقوة كي لا يختل توازنها وقد شحب وجهه .. ثم شدها إليه هي ولينا لتبكيا على صدره
تنهدت وهي تتأمل المدينة من النافذة .. محمود كان يتصل بها كل يوم ليسأل عنها وعن لينا . ويزورهن باستمرار .. ولم يفتح موضوع الزواج إلا الأسبوع الماضي .. لقد كان حازما وهو يتحدث عن أن الوقت قد حان لتركهن هذه الشقة وانتقالهن إلى منزله في العاصمة .. وأنهما يجب أن يعقدا قرانهما على الفور كي يتم تنفيذ مخططه .. ذلك اليوم حرضها وازع شيطاني على أن تأخذ شقيقتها وتختفي عن الأنظار هربا من قبضته و زواجها المرتقب منه .. ولكن الجزء العقلاني منها حدثها عن سهولة إيجاده لها ..وسألها بصراحة عما ستفعله وحدها في هذا العالم الواسع مع مراهقة صغيرة بحاجة إلى الاهتمام والحماية .. أما عن الجزء المتكبر والفخور فيها .. فقد ذكرها بأنها تدين للدكتور محمود بالكثير .. وأنها لن لن تهرب أبدا من وعد قطعته .. أو دين ترتب عليها ..
وهكذا .. مر عليها صباح اليوم التالي .. وأخذها إلى المحكمة لعقد قرانهما برفقة شاهدين من معارفه .. خمنت بأنهما يعملان لديه من لهجة الاحترام الطاغية على حديثهما معه
أعادها إلى الشقة دون أن يخاطبها بكلمة ... بل هو لم ينظر إليها حتى ترجلت من السيارة فقال لها قبل أن تخرج :- سأعود إلى العاصمة هذا المساء.. وسأعود لأخذكن قريبا إلى بيتكن الجديد
أومأت نانسي برأسها .. وراقبته وهو يبتعد ببساطة وكأنه لم يودع عروسه لتوه بعد نصف ساعة من زواجهما
لقد أصبحت زوجة محمود فاضل .. فركت نانسي ذراعيها وهي تفكر متوترة بأنه بالكاد كلمها خلال الأيام الماضية .. لم تختلف طريقة كلامه معها على الإطلاق بعد زواجهما .. ولكن ما الذي كانت تنتظره ؟
هذا الزواج المشؤوم ليس إلا صفقة بشعة ضمنت فيها الحصول على الأمان لأختها .. كما ضمن هو زوجة يرغبها
لن تنتظر منه عرضا للمشاعر لأن الدكتور محمود ليس من النوع المنافق .. لن يظهر لها مشاعر لا يحس بها مما يريحها .. فهو لن ينتظر منها في المقابل أن تتظاهر بحبه أو بالإعجاب به
طرقت لينا الباب وهي تقول :- نانسي .. لقد اتصل محمود منذ لحظات .. وقد طلب مني إخبارك بأنه علينا توضيب أغراضنا لأننا سنترك هذه الشقة صباح الغد
التفتت نانسي غليها بحدة قائلة :- إلى أين ؟
هزت لينا كتفيها قائلة :- لم يخبرني .. وأنا لم أجد داع لسؤاله .. فأنا أثق به كثيرا
لم يكن هذا حال نانسي التي اتجهت فورا نحو هاتفها .. وحاولت الاتصال بهاتفه دون فائدة .. وكأنه كان متوقعا لمحاولتها التحدث معه والجدال حول كل شيء فأقفل هاتفه تماما
شعرت بالغضب لمعاملته لها وكأنها بدون إرادة أو حقوق .. إن ظن بأن حياتهما معا ستسير على هذا الشكل فهو مخطئ تماما .. سألتها حنان بقلق :- هل أبدأ بحزم الأمتعة ؟
صاحت بحنق :- بالتأكيد .. وهل نجرؤ على مخالفة الأوامر
أخفت حنان ابتسامتها بصعوبة وهي تبدأ عملها .. صباح اليوم التالي .. وفي تمام الساعة التاسعة صباحا .. فتحت حنان الباب على إثر قرع الجرس لتجد شابا نحيلا يرتدي زيا رسميا .. قالت بحدة :- نعم .. هل من خدمة ؟
تنحنح قائلا :- أنا مأمون .. أعمل لدى السيد محمود وقد أرسلني إلى هنا لاصطحابكن إلى العاصمة ..
بدا الشك على وجه حنان وهي ترمقه بنظراتها الفاحصة .. بينما قالت نانسي بتوتر وقد أصبحت خلفها :- ماذا تعني بأنه قد أرسلك ؟ ألن يأتي بنفسه ؟
قال بحرج :- أعتقد بأنك هي السيدة نانسي .. احترامي لك سيدتي .. الدكتور محمود لم يستطع الحضور بنفسه بسبب انشغاله بأمور طارئة .. وقد أمرني بأن أوصلكن إلى منزله في العاصمة .. وسيقابلكن هناك
اقتربت منه وقد أعماها الغيظ عن التفكير :- هل تعلم بأن رئيسك لا يطاق ؟
ابتسم مسرورا وهو يقول :- بل أنا أظنه لطيفا يا سيدتي .. اعذريني للسؤال .. ولكن إن كان حقا لا يطاق فما الذي دفعك للزواج منه ؟
تجهمت وهي تنظر إلى وجهه الباسم ببرود .. قبل أن تقول بجفاف :- أخبرني يا مأمون .. هل تعمل حقا لدى الدكتور محمود ؟
قال بحيرة :- نعم .. أنا سائق لديه منذ سنتين
:- وتعرف بأنني زوجته الآن .. أي أنني من الآن فصاعدا سأكون ربة عملك
:- نعم
صاحت به عندها بحدة :- فلتفكر بكلامك إذن قبل أن تنطق به
استدارت إلى حنان قائلة :- أرشديه إلى الحقائب كي يحملها
ابتعدت أمام نظرات مأمون المذهولة .. بينما قالت حنان لجذل :- ها هي نانسي القديمة تعود من جديد .. اطمئن .. هي ليست بهذا السوء .. إنها حادة الطباع فحسب
طال الطريق لساعات قليلة قبل أن يصلا إلى العاصمة .. لاحظت نانسي التي جلست في المقعد الخلفي إلى جوار لينا .. بينما جلست حنان إلى جوار السائق .. بأن الأخير لم يدخل إلى قلب المدينة .. بل سار في منطقة الضواحي الريفية التي انتشرت فيها المنازل الضخمة .. التي تناثرت متباعدة على أرضها الخضراء .. سألت بتوتر :- إلى أين نحن ذاهبون ؟
قال بهدوء :- لا تقلقي يا سيدتي .. كدنا نصل
توقفت السيارة أخيرا أمام بوابة كبيرة توسطت سورا ضخما يحيط بمساحة كبيرة .. أعطى إشارة إلى الحارس الذي أسرع يفتح البوابة وهو يلقي التحية بحرارة .. مع نظرات فضولية تركزت نحو النافذة الخلفية .. دخل مأمون بالسيارة إلى طريق مرصوف بالأحجار .. وقد ارتصت على جانبيه شجيرات صغيرة مقلمة بعناية .. ذهلت نانسي وهي تتأمل المساحات الواسعة المحيطة بالسيارة .. كان المكان أشبه بالجنة وقد تزاحمت فيها الأشجار التي تعرت أغصانها من الأوراق.. توقفت السيارة أخيرا أمام المنزل الضخم المكون من 3 أدوار .. لا .. لم يكن منزلا .. بل قصرا منيفا .. من الواضح أن صاحبه قد أنفق عليه ببذخ كبير إذ كان الترف ينطق من كل زاوية فيه .. من كل قطعة حجر ثمينة بنيت بها .. ترجلت نانسي من السيارة دون أن تفيق من ذهولها .. لم تدرك أبدا بأن محمود بهذا الثراء .. لقد كان الطلاب يتناقلون الشائعات عنه منذ سنوات .. كانوا يختلقون القصص والحكايا حول ثرائه الكبير .. أو فقره المدقع .. وقد ذكر لها ماهر شيئا عن ثراءه في المستشفى .. ولكنها قطعا لم تتوقعه بهذا الثراء
وهي التي كانت تعامله في الكلية بازدراء ... بل وتغريه بالمال كي يمنحها دعمه .. بينما لا يحتاج هو حتى إلى عمله في الجامعة .. بل ربما يعتبره هواية كحب لينا للرسم مثلا
وجدت عند الباب الرئيسي الكبير سيدة حسناء في أواسط الأربعينات .. كانت تقف في استقبالها أعلى الدرجات القليلة التي فصلت نانسي عن الباب
كانت أنيقة جدا حيث ارتدت طقما أزرقا لائم قوامها المتناسق المناسب لعمرها .. ورفعت شعرها الأشقر المصبوغ فوق رأسها بوقار .. وإلى جوارها برزت فتاة شابة تكبر نانسي بسنوات قليلة .. كانت تملك سحرا خاصا بشعرها الأسود الناعم الطويل .. وبشرتها الوردية المتألقة .. وعينيها العسليتين وملامحها الناعمة .. كانت ترتدي فستانا ورديا جميلا .. وتضع قرطين ماسيين خطف بريقهما الأنظار
رغم جمالها الشديد .. فقد أطلت من عينيها نظرة باردة وهي تنظر إلى نانسي مما أثار داخلها رجفة خوف كبيرة .. هذه الفتاة التي تقابلها للمرة الأولى .. تكرهها
قدمت المرأة الأكبر سنا نفسها بهدوء قائلة :- أهلا وسهلا بك في منزلك الجديد يا نانسي .. أنا هي زوجة عم محمود .. وهو يناديني بالعمة منار .. يمكنك مناداتي بذلك أنت أيضا .. آسفة لأن محمود ليس موجودا لاستقبالك بنفسه .. ولكنه سيعود في وقت قريب
صافحتها نانسي بحذر .. زوجة عمه .. وما الذي تفعله زوجة عم محمود هنا ؟..
أشارت المرأة نحو الفتاة الشابة قائلة :- هذه ابنتي ريم .. أرجو أن تتفقا خلال فترة تواجدك هنا
نانسي كانت على وعي بكل ما يحدث حولها .. بدءا من تلميح السيدة منار بأن وجودها هنا لن يدوم طويلا .. وانتهاءا بعدم مصافحة ريم لها .. أو نطقها بأي كلمة ترحيب .. كان هذا كافيا لتدرك بأن هاتين المرأتين تصنفان ضمن أعدائها
قالت العمة :- تفضلي يا عزيزتي .. هذه الشابة الجميلة هي شقيقتك الصغرى على ما أعتقد .
. دخلت نانسي ورائها بتردد شاعرة بأنها تقتحم عرينا للأسود .. وأن أحدها سينقض عليها بين لحظة وأخرى
قادتهما إلى غرفة كبيرة ذات أثاث أنيق ومريح .. بينما اختفت حنان عن أنظارهما .. شعرت نانسي بالقلق وكأنها مقبلة على معركة .. ولكنها لن تسمح لهاتين المرأتين بأن تضعفا عزيمتها .. جلست على الأريكة الوثيرة واضعة إحدى ساقيها فوق الأخرى بأناقة وهي تسوي ثوبها الأسود البسيط .. تمنت لو ارتدت شيئا أكثر أناقة حتى تزيد ثقتها بنفسها .. قالت العمة وهي تجلس قريبا منها بهدوء :- اعذرينا يا عزيزتي لأننا لم نقم بالاستعدادات اللازمة لاستقبالك .. فقد فاجأنا محمود مساء الأمس بخبر زواجه من نانسي سلمان راشد
كبتت نانسي رجفة غضب عندما فهمت تعمد المرأة لذكر اسمها كاملا لتخبرها بأنها تعرف من تكون .. وابنة من هي .. أكملت السيدة منار قائلة :- في الواقع .. لقد تفاجأنا جميعا بزواج محمود .. إذ لم يتخيل أحد بأنه بعد عزوبيته الطويلة سيتزوج بهذه الطريقة .. بدون احتفال أو فرح .. حتى أنه لم يخبر عمه الذي يعتبره كوالد له .. ولكن ذوقه رفيع ولا ألومه على عجلته .. فأنت جميلة جدا
تكلمت ريم أخيرا ببرود :- لطالما كان لمحمود ذوقا رفيعا فيما يتعلق بالنساء .. بالتأكيد عندما يقرر الزواج أخيرا .. فهو لن يتزوج بامرأة قبيحة
إن كانت الأم حريصة على ألا تخطئ بكلمة .. فمن الواضح بأن ابنتها لم تكن كذلك .. استقبلت نانسي نظرات ا لازدراء المطلة من عينيها بهدوء وقالت مخاطبة السيدة منار :- أشكرك على الإطراء .. ولكن سبب زواجنا بهذه الطريقة هو وفاة والدتي الذي لم يمض عليه أكثر من شهر
قالت العمة بهدوء ك- وبالتأكيد بسبب وفاة أبيك أيضا .. لا أعتقد بأنه قد مر وقت طويل على وفاته ... أليس كذلك يا ريم ؟
قالت ريم ببرودها الذي لم يفارقها :- منذ 3 أشهر تقريبا .. هذا ما ذكرته الصحف
نهضت نانسي قبل أن تنهال على الفتاة المتعجرفة بالضرب وقالت :- إذا أذنتما لي فأنا أرغب بإفراغ حقائبي والراحة قليلا بعد سفري الطويل ..
نهضت السيدة منار قائلة :- ستفرغها لك إحدى الخادمات .. سترشدك نجوى وهي مدبرة المنزل إلى غرفتك .. وستلبي على الفور جميع رغباتك .. ربما بعد أن تأخذي قسطا من الراحة قد تحبين أن آخذك في جولة حول الحديقة وفي أرجاء المنزل
تمتمت نانسي بتهذيب :- شكرا للطفك
اصطحبتها نجوى .. وهي امرأة ممتلئة الجسم إلى الطابق الثاني .. حيث قادتها إلى غرفة فسيحة .. تأملتها نانسي بصمت .. لقد كانت غرفة أحلام أي عروس شابة .. بأثاثها الثمين المصنوع من الخشب الثقيل .. والسجادة الوثيرة التي غطت الأرضية اللامعة .. الستائر الرقيقة التي تهادت أمام النوافذ العريضة التي سمحت للشمس بغمر الغرفة بوفرة .. رأت حنان ترتب أغراضها داخل الخزانة الكبيرة .. فلاحظت الملابس الرجالية المرتبة داخلها .. وزجاجات العطر الغالية الثمن التي توزعت على منضدة الزينة .. وفي صدر الغرفة كان هناك باب مفتوحا ظهر من خلفه حمام مترف .. ارتعش جسدها توترا وهي تفكر بهذه الليلة التي ستشارك فيها زوجها غرفته لأول مرة
قالت نجوى :- هل أوصل الآنسة الصغيرة إلى غرفتها ؟
نظرت لينا إلى نانسي بتردد .. وكأنها تخشى أن تضيع إن افترقت عن أختها .. فأشارت لها نانسي بأن تلحق بالمرأة ..وفور أن أصبحت وحيدة في الغرفة مع حنان .. جلست على طرف السرير الكبير الذي غطاه مفرش أنيق مطرز
استدارت حنان نحوها قائلة :- لقد رتبت جميع أغراضك يا نانسي .. هل أنت بخير ؟
أطلقت السؤال عندما لاحظت شجوب وجه نانسي وتوترها .. أجابت نانسي قائلة :- لا أدري .. أنا خائفة يا حنان .. لم أتوقع بأنني سأنتقل للإقامة في قصر منيف يبدو إلى جانبه منزل والدي الكبير وكأنه عش عصافير .. أو للعيش برفقة أشخاص يكرهونني .. لم يخبرني محمود أبدا بأنه يقيم مع عائلة عمه ..
قالت حنان متفهمة :- لا أظنه قد وجد الوقت المناسب مع كل الأحداث التي طرأت .. أنا أيضا لم أرتح لتلك المرأة وابنتها المغرورة .. من الواضح أنهما ليستا سعيدتين بزواج محمود بك
ثم قالت بخبث :- ولكن ليس عليك التفكير بهما الآن .. بل بهذه الليلة .. وما ينتظرك يا عزيزتي
احمر وجه نانسي وهي تقول :- حنان .. اخرسي واذهبي لتفقد لينا .. أرغب بأن أرتاح قليلا
أطلقت حنان ضحكة عالية وهي تقول :- أمرك يا آنستي
انصرفت حنان تاركة نانسي وحدها .. فتكورت فوق السرير وهي تحاول السيطرة على اضطرابها .. بين ليلة وضحاها .. تغيرت حياتها بشكل كامل .. وأصبحت زوجة لرجل ثري غريب عنها .. لا تعرف عنه أي شيء .. وربما يتوقع منها الليلة أن تكون زوجته فعليا
لا إراديا سالت دمعة ساخنة على خدها .. وأخذت تلوم والدها على ما يحصل معها .. لو لم يفعل ما فعله .. لما أتيحت الفرصة لأي انسان لاستغلال ظروفها كما فعل محمود ويشتريها ..
تذكرت كلمات ماهر في المستشفى.. فانتابها غضب كبير من نفسها .. ومن محمود .. ومن والدها
وأقسمت بأنها لن تسمح لمحمود أبدا بأن يفرح بانتصاره .. ثم وبدون ان تشعر .. راحت في نوم عميق


__________________
مهما زاد عنائي
لا يمكن أن أنساك
حتى إن تنساني
باقية لي ذكراك
لأن الروح داخلي
لا زالتْ تهواك


نبع الأنوار ايناس نسمات عطر