الفصل التاسع عشر
نكبة أخرى
عادت نانسي من الجامعة مع انتصاف اليوم .. لم تكن في مزاج جيد لقضاء الوقت برفقة زملائها المبتهجين .. كانت قلقة على لينا التي ذهبت إلى المدرسة أخيرا هذا الصباح لأول مرة .. ورغبت بشدة في أن تكون موجودة لحظة وصولها .. سألت نجوى فور دخولها المنزل عن لينا فقال :- لقد وصلت منذ دقائق .. إنها في غرفتها
أسرعت نانسي تقفز فوق الدرج وصولا إلى غرفة لينا الصغيرة .. فوجدتها جالسة على الأريكة دون أن تغير زي المدرسة الرسمي الأنيق .. وقد بدا عليها التعب والاكتئاب .. قالت بمرح مصطنع :- لقد نسيت كم تبدين فاتنة في الزي المدرسي .. هيا تكلمي وأخبريني عن نهارك في المدرسة الجديدة
جلست إلى جانبها بينما قالت لينا وهي تجذب رباط شعرها لتحرره قائلة بملل :- لقد كان جيدا .. المدرسة جميلة والمعلمات طيبات كما يبدو .. وقد عقدت صحبة على الفور مع بعض الفتيات
نظرت نانسي إلى وجهها الملول بحيرة .. ثم قالت بقلق :- ما الذي يزعجك إذن ؟ تبدين تعيسة .. هل وجه أحدهم أي كلمة مزعجة نحوك ؟
نظرت لينا إلى أختها بتأنيب ضمير :- لا .. لم يتحدث أحد عن أبي .. بل لم يذكر اسمي أي أحد به .. أنا آسفة لأنني أقلقتك
قالت نانسي :- ما الأمر إذن ؟
ابتسمت لينا بحرج قائلة :- لقد نسيت مدى كرهي لأداء الواجبات المنزلية .. وقد حملتني المعلمة كومة منها بسبب تأخري عن التلميذات
تنهدت نانسي بارتياح وهي تجذب شعر أختها الذهبي بغيظ :- أيتها الكسولة .. تستحقين عقابا على الرعب الذي أشعرتني به
ضحكت الفتاتان في اللحظة التي دخلت فيها نجوى قائلة وهي تبتسم لمرأى الضحكات على وجهي الفتاتين :- لقد وصل الدكتور محمود .. ويطلب منكما موافاته في غرفة الاستقبال
أومأت لها نانسي برأسها ثم نظرت إلى لينا وهي تقول مازحة :- لابد أن بابا الجديد يريد أن يطمئن على نهار صغيرته في المدرسة
ضحكت عندما احمر وجه لينا بخجل .. ثم سارتا معا نحو غرفة الاستقبال فور أن غيرت لينا ملابسها .. عندما دخلتا توقعتا ان تجدا محمود وحيدا .. إلا أن نظرهما تعلق فورا بالرجل الجالس إلى جواره .. الرجل الأربعيني الأشقر الوسيم الذي بدا الحزن واضحا في وجهه وهو يقف فور رؤيته لهما
تجمدتا للحظات طويلة وهما تنقلان بصرهما بين محمود الواقف إلى جواره جامد الملامح .. وبين الرجل الذي نظر إليهما بلهفة .. لينا كانت أول من كسر الجمود .. إذ انهمرت دموعها وهي تصيح بلهفة :- خالي فوزي
ركضت نحوه ورمت نفسها في حجره فورا .. ثم تبعتها نانسي فاحتوى الفتاتان بين ذراعيه وهما تبكيان .. بينما سالت دموع ساخنة من عينيه وهو يقول بألم :- أنا آسف يا صغيرتي .. آسف لأنني لم أكن موجودا خلال مرض أمكما وعند وفاتها .. آسف لأنني لم أقف إلى جواركما في محنتكما
كان اللقاء مفعما بالمشاعر والانفعالات .. وعندما انتهت العاصفة .. جلس الخال على الأريكة وقد جلست الفتاتان حوله وهو يحكي لهما عن رحلته المفاجئة مع زوجته حول أوروبا .. وفقدانه لهاتفه وعجزه عن الاتصال بهن .. حتى أنه لم يعرف بفضيحة والدهما حتى اتصل به محمود قبل أيام وقد تمكن بوسائله الخاصة من العثور عليه .. وأخبره بكل شيء فترك ما وراءه وعاد فورا
سالت دموعه مجددا وهو يقول :- ليتني كنت موجودا .. ليتني تمكنت من وداعها على الأقل
ضم الفتاتين إليه وهو يقول :- من حسن الحظ أن الدكتور محمود كان موجودا لأجلكما .. لا أعرف كيف أشكرك يا دكتور على كل ما فعلته للفتاتين .. ووقوفك إلى جانب مريم قبل وفاتها .. أنا أشكرك من كل قلبي
قال محمود بوجوم :- لا داعي لشكرك يا سيدي .. نانسي هي زوجتي .. وعائلتها عائلتي .. لقد قمت بواجبي ليس أكثر
لم تستطع نانسي النظر إليه وقد طعنتها الكلمة في قلبها .. نعم .. لقد فعل ما فعله باسم الواجب .. حتى زواجه منها كان واجبا فرض عليه
أصر محمود على أن يبقى السيد فوزي في ضيافته خلال وجوده في البلاد رغم اعتراض الأخير .. إلا أنه أذعن في النهاية عندما ألحت عليه الفتاتين
تناولت العائلة العشاء برفقة الضيف وقد بذلت الطاهية جهدا كبيرا في صنع ما لذ وطاب على شرف الضيف .. الذي أثار جوا مرحا على المائدة وهو يحكي مغامراته والأحداث الشيقة التي صادفته هو وزوجته أثناء سفرهما المتواصل
حتى أن ريم النادرة الابتسام كانت تضحك بتقدير للضيف الوسيم والمرح
قادت نانسي خالها إلى غرفته حيث كانت حنان تضع الملاءات الجديدة .. حياها فوزي وقد تذكرها منذ كانت تلهو مع نانسي وهما طفلتان صغيرتان .. وعندما انصرفت التفت إلى نانسي وفتح لها ذراعيه فأسرعت ترمي نفسها بينهما وهي تقول :- مممم ما أروع الرجوع إلى البيت
ضحك وهو يقول :- لا أصدق خروج كلام كهذا من سيدة منزل بهذه الضخامة
قالت بانزعاج :- تعرف جيدا ما قصدته
أبعدها عنه .. ونظر إليها قائلا بقلق :- هل أنت سعيدة يا نانسي ؟
ابتسمت باضطراب قائلة :- ما الذي تظنه ؟ طبعا أنا سعيدة ..
قال :- الدكتور محمود رجل رائع .. إنه قوي الشخصية ومثقف ونبيل .. وهو أيضا رجل أعمال مرموق ومعروف .. أنا متأكد بأنك ستكونين بخير تحت رعايته .. ولكنني أريد أن أسمعها منك .. هل يعاملك بشكل جيد ؟
تمتمت :- بالتأكيد ..
لم ترغب بإثارة قلق خالها بإظهار مخاوفها وشكوكها اتجاه محمود .. أو بالمشاكل التي لا تتوقف بينهما .. ولكنها لم تتوقع أن يقول أبدا :- إذن .. سأكون مطمئنا عندما أعود إلى فرنسا الأسبوع القادم برفقة لينا
شحب وجهها وهي تتراجع إلى الخلف قائلة بارتباك :- ماذا ؟
:- تعرفين بأنني لا أستطيع ترك لينا هنا يا نانسي .. إنها مسؤوليتي الآن .. أنت لديك زوجك وبيتك .. وهي ما تزال طفلة صغيرة بحاجة إلى الرعاية .. أنا وزوجتي سنكون في غاية السعادة لوجودها معنا بعد أن حرمنا الله من الأطفال
قالت بانفعال :- ولكن لينا سعيدة هنا .. إنها تحصل على كل ما تحتاجه وأكثر .. فلماذا تأخذها بعيدا .. أنا أعتني بها كما يجب
نظر إليها بطريقة ذات معنى وهو يقول :- مهما كانت رعايتك لها كبيرة يا نانسي .. فهي لا يمكن أن تعيش تحت رعاية زوج شقيقتها في وجود خالها .. كما أنها ما كانت لتوافق على الذهاب معي لو كانت سعيدة حقا
قالت بصوت مختنق :- هل .. هل تكلمت معها في الموضوع ؟
:- نعم .. عندما كنت تشرفين على إعداد العشاء .. وقد أبدت حماسا كبيرا للفكرة
أمسك بكتفيها ونظر إلى عينيها قائلا :- انظري إلى نفسك يا نانسي .. أنت ما عدت طفلة صغيرة .. لقد أصبحت امرأة .. مسؤولة عن زوج وبيت وأطفال سرعان ما سيأتون إلى الحياة .. أنا الآن مطمئن عليك .. ولكنني لن أرتاح حتى أتأكد بأن لينا أيضا بخير .. وهذا لن يحدث إلا إن كانت تحت رعايتي
فور أن خرجت من غرفة خالها ذهبت نانسي إلى غرفة لينا لتجدها ترسم بشرود وهي جالسة على الأريكة .. أقفلت نانسي الباب ورائها وهي تقول محاولة إجبار نفسها على التزام الهدوء :- ماذا ترسمين ؟
نظرت إليها لينا من فوق دفتر الرسم قائلة :- أحاول رسم أمي .. ولكنني لا أستطيع تجسيد ابتسامتها .. أخشى بأنها لم تبتسم كثيرا في أيامها الأخيرة فنسيت كيف تبدو
جلست نانسي إلى جوارها صامتة للحظات ثم قالت :- لقد تحدث إلي خالنا منذ قليل
اعتدلت لينا قائلة بقلق :- هل حدثك عن سفري معه ؟
اغرورقت عينا نانسي في الدموع وهي تقول :- لماذا يا لينا ؟ .. لماذا تريدين تركي وحدي ؟
أسرعت لينا تقول :- لن أتركك وحدك .. فمحمود معك .. هو سيحميك ويرعاك .. أنت لست بحاجة إلي
قالت نانسي بخشونة :- بل أنا أحتاج إليك .. فقط أخبريني بما يدفعك للرحيل .. لماذا لست سعيدة هنا ؟
نظرت لينا حولها وهي تقول بحزن :- أنا سعيدة بوجودي معك يا نانسي .. ولكنني لا أستطيع منع إحساسي بأنني دخيلة في هذا البيت .. دائما أحس بأنني غريبة في منزل لا يحبني سكانه .. وأنني عالة على محمود مهما كان طيبا وكريما ..
الأمر مختلف معك فأنت زوجته .. وسيدة هذا البيت .. هو دائما سيكون إلى جوارك عند الحاجة .. وأنا لن أشعر بأنني في بيتي حقا إلا إن أقمت مع خالي ..
ابتسمت قائلة :- هل تتخيلين ذهابي إلى هناك .. وزيارتي لمتحف اللوفر .. وتعلمي الرسم في باريس مدينة الفن والجمال .. لقد قال محمود بأنه سيحضرك لزيارتي بين الحين والآخر وأننا لن نشعر أبدا بأننا بعيدتان عن بعضنا
تجمدت نانسي وهي تقول :- هل يعرف محمود بهذا ؟
:- نعم .. لقد أخبرته منذ دقائق .. كنت أخشى أن يغضب .. ولكنه أكد لي بأن هذا البيت سيظل مفتوحا لي دائما إن رغبت بالعودة .. وأنكما ستكونان دائما إلى جانبي عند الحاجة .. أنت محظوظة به يا نانسي .. محمود رجل رائع .. بعد رحيلي ستتمكنين من إصلاح الأمور بينكما .. ولن يشكل وجودي بعد الآن أي ضغط عليك .. وستدركين بأنك تحبين محمود وتعيشين معه لأنك تريدين ذلك .. وليس لأن أختك الصغرى بحاجة إلى مأوى
صمتت نانسي للحظات طويلة قبل أن تقول :- أنت أكثر نضوجا مما ظننت يا لينا
قالت لينا بتهكم وكأنها تؤكد نظرية نانسي :- من يستطيع مقاومة النضوج في ظروف كظروفنا
عانقتها نانسي وهي تقول دامعة :- سأشتاق إليك
تمتمت لينا وهي تبكي :- أنا أيضا سأفتقدك .. وسأفتقد محمود وحنان .. عديني بأنك ستنجبين لي أبناء أخت قريبا
ضحكت نانسي بين دموعها وهي تلكز رأس شقيقتها مداعبة .. إلا أنها وفور خروجها من الغرفة .. تركت العنان لمشاعرها .. وسمحت للدموع بالانهمار فوق وجهها بلا توقف .. اندفعت إلى غرفة المكتب حيث عرفت بأنها ستجد محمود .. واقتحمت المكان قائلة بعنف :- أنت خططت لهذا .. أليس كذلك ؟
وقف محمود تاركا عمله على الحاسوب قائلا بتوتر :- ما الذي تتحدثين عنه ؟
هتفت به :- لقد عرفت بأن خالي سيفكر بأخذ لينا معه .. لهذا بحثت عنه وأحضرته إلى هنا .. تريد أن تحرمني من الفرد الوحيد الذي تبقى من عائلتي .. لماذا .. لماذا تريد أن تكسرني .؟ ما الذي فعلته لك ؟
كانت الهستيريا تتخلل صوتها بينما دار هو حول المكتب متجها نحوها ليمسكها بقوة ويهزها قائلا :- هل جننت يا نانسي .. لماذا قد أرغب بأذيتك ؟ هل تظنين بأن رحيل لينا لا يحزنني أنا أيضا ؟ .. لا تستطيعين منعها من فعل ما تريد .. لو أنني عرفت بأنها ستتخذ قرارا كهذا لما ....
تنهد وهو ينظر إلى وجه نانسي الباكي قائلا :- لقد بحثت عن خالك وأحضرته لك كي تشعري بأنك لست وحيدة يا نانسي .. هناك من يحبك ومستعد للوقوف إلى جوارك ودعمك عند الحاجة .. لقد فعلت هذا لأجلك .. وليس لأحرمك من لينا
أجهشت بالبكاء فسحبها نحوه يضمها بقوة إلى صدره أحست بيديه تربتان على ظهرها وشعرها بحنان وعنما رفعت رأسها ونظرت إليه .. توقف بكائها .. وأجفلت للنيران المشتعلة التي أطلت من عينيه وهو ينظر إلى ملامح وجهها الطفولية .. والدموع التي ملأت عينيها الحزينتين .. أحست برجفة تسري في جسدها وهي تدرك مدى قرب كل منهما من الآخر .. فابتعدت مسرعة وهي تمسح دموعها قائلة :- أنا ذاهبة لأنام
وخرجت مسرعة قبل أن يقول ما يدفعها للبقاء .. وهو ما كانت كل ذرة في جسدها تصرخ متوسلة لها به