عرض مشاركة واحدة
  #26  
قديم 02-05-2017, 11:41 PM
 

الفصل السابع
والعشرون


في انتظارك


داعبت نسمة رقيقة بشرة نانسي فأغمضت عينيها وهي تأخذ نفسا عميقا مشبعا برائحة أوراق الربيع العطرة .. كان الطقس رائعا .. مائلا إلى البرودة .. إلا انه كان مناسبا للغاية لشخص بكآبة نانسي بحاجة إلى ما يرفه عنه قليلا .. فتحت عينيها لتتأمل الحديقة المحيطة بالكلية .. بينما هي تجلس فوق أحد المقاعد الحجرية .. بعد ان أخرجها غثيان مفاجئ من إحدى المحاضرات
لم يستطع شيء تحسين مزاجها منذ ذهبت إلى الطبيب برفقة أم ماهر وتأكدت من حملها .. عمر الجنين 10 أسابيع .. وهذا يعني بان الحمل قد تم في الليلة التي أخذها فيها محمود عنوة لأول مرة .. أكد الطبيب على اهمية الغذاء الصحي والمتكامل نسبة إلى نحولها الملحوظ .. ومنذ ذلك اليوم والكل يعاملها بحرص وكأنها مصنوعة من الزجاج .. السيدة رجاء تطعمها بإفراط . . لمياء ولبنة تمنعانها من بذل أي جهد .. ماهر يأتيها بما تحتاجه من محاضرات .. حتى بدات تحس بالاختناق وبالحاجة إلى الخروج والتخلص من إحساسها بالعجز .. وأصرت على مرافقة ماهر هذا الصباح إلى الجامعة . والآن .. في لحظة صفاء مع نفسها .. عرفت نانسي بأن السبب الرئيسي لإصرارها على الحضور هو أملها في رؤية محمود ولو من بعيد .. حتى مع علمها بأنه لا يكون موجودا في هذا اليوم من الاسبوع .. ولكنها بعد أيام على لقائها به .. بدأ الشوق يضنيها لرؤيته أو حتى سماع صوته وقد توقف عن الاتصال بها واكتفى بالاتصال بماهر يوميا للاطمئنان عليها رغم كراهيته لهذا .. توقفه عن محاولة التحدث إليها جعلت خيبة الأمل والحزن والكآبة تسيطر علبها .. هل صدق حقا بانها ترفض وجود هذا الطفل ؟
ربما في البداية .. معرفتها بحملها كانت صدمة كبيرة لها في حالتها النفسية السيئة .. إحساسها بانه قد سعى إليها وبحث عنها لأجل الطفل .. وليس لأجلها هي .. وأن الحب الكبير الذي ادعى انه يشعر به اتجاهها كان مجرد حيلة يستميلها بها ويخدعها بها .. كي تستسلم وتعود من جديد تحت رحمته
إلا انها بعد أن استمعت إلى خفقات قلب الجنين داخل عيادة الطبيب .. وتفكيرها كل ليلة بالكائن الذي بدأ يتشكل داخلها .. جعل إحساسا دافئا وعاصفا يجتاحها .. سوف تنجب طفلا .. طفلا صغيرا تحبه ويحبها بلا حدود .. طفل صغير يكون لها تماما .. طفل هو جزء من الرجل الذي حصل على حبها واحترامها وكراهيتها في وقت واحد .. فجأة .. لم تعد فكرة الحصول على ما يذكرها بمحمود سيئة
ورغم هذا .. فهي ما تزال قلقة ومتوترة بشان المستقبل .. حتى الآن لم تستطع أن تقرر تماما ما ترغب بفعله . لقد طلبت الطلاق من محمود .. وقد نصحها ماهر باللجوء إلى محامي مختص ليقوم بالإجراءات المناسبة إن رفض محمود منحها الطلاق من تلقاء نفسه .. وحتى الآن هي تتلكأ مؤجلة الأمر المحتوم وكأنها تنتظر .. تنتظر ماذا بالضبط ؟؟؟
تنهدت وهي تحيط نفسها بذراعيها وكأنها تحتضن نفسها وتمنحها الدعم في حالة الضعف التي تحس بها .. فكرت بيأس .. متى سينتهي الألم ؟
نانسي
التفتت إلى ماهر الذي اقترب برفقة ندى كما اعتاد دائما .. جلسا إلى جانبها بينما سألها ماهر :- كيف تشعرين الآن ؟
تمتمت :- أفضل بكثير بعد أن تنشقت بعض الهواء النقي
تأمل وجهها الشاحب وقال بإصرار :- تبدين متعبة .. ما كان عليك الحضور إلى الجامعة اليوم
نظرت نانسي إلى ندى التي تأرجحت نظراتها بين الفضول .. والانزعاج باهتمام ماهر الشديد بنانسي .. فقالت بضيق :- أنت محق .. أظنني سأعود إلى البيت
نهض فور وقوفها وقال :- سأوصلك
اعتذر من ندى التي رغم المودة التي تحملها لنانسي .. بدت غير سعيدة على الإطلاق بهذا الترتيب .. وفور ابتعاد نانسي وماهر سألته نانسي بحدة :- هل تعرف ندى بأنني أقيم في منزلك بشكل مؤقت ؟
قال بغضب :- أي سؤال هذا يا نانسي .. منذ متى أتجول هنا وهناك ناشرا أسرارك ؟
زفرت بقوة وهي تقول بتوتر :- أنا آسفة .. أعصابي مرهقة هذا اليوم .. وأشعر برغبة كبيرة في الشجار مع احدهم وكنت أنت كبش الفداء
نظر إليها متفحصا وهما يعبران معا بوابة الجامعة وهو يقول :- انا لا امانع في ان تفرغي غضبك بي .. ألن تخبريني بما يزعجك ؟ هل كنت تأملين برؤية الدكتور محمود ؟
نظرت إليه بحدة ساخطة من فراسته المعتادة .. وقالت بغيظ :- بالطبع لا .. ولماذا قد ارغب برؤيته ؟ لا تتعب نفسك بإيصالي .. عد غلى ندى .. سآخذ سيارة أجرة وأعود وحدي
أسرعت تقول عندما فتح فمه ليعترض :- إياك ان تحتج .. انا بحاجة إلى السير قليلا على أي حال .. لست في عجلة من أمري
تركها مستسلما لإصرارها وهو يقول :- لا ترهقي نفسك
تركته ملوحة بيدها وقطعت الشارع .. لتتوقف في منتصفه فجاة مذهولة وهي ترى سيارة زرقاء تتجه نحوها بسرعة جنونية بدت غير قادرة على تفاديها . جمدها الرعب .. فلم تشعر إلا بماهر يدفعها بقوة بعيدا عن طريق السيارة التي لم تخفف حتى من سرعتها وهي تبتعد عن الانظار .. سقطت نانسي على الأرض بعنف مع ماهر الذي قفز واقفا وهو يشتم هاتفا بغضب :- الحقير .. ليس لسيارته لوحة ..
لفتت انتباهه آهة انطلقت من فم نانسي فأسرع نحوها ليساعدها على الوقوف ..إلا أنها سرعان ما انثنت وهي تئن وقد شحب وجهها وألم حاد يمزق بطنها .. تغير لون ماهر عندما تذكر حملها وهتف بلوعة :- ما الذي حدث ؟ هل أذتك السقطة ؟
تمتمت مغمضة عينيها :- لا اعرف .. أحس بألم شديد
قال فورا وثد اتخذ قراره :- يجب ان يراك الطبيب حالا
دون ان تعترض هذه المرة .. ساعدها في الوصول إلى سيارته .. ونقلها إلى عيادة الطبيب الذي طمأنهما بعد ان قام بفحص نانسي بينما انتظر ماهر خارجا .. ثم اشتدت نبرته حزما وتحذيرا وهو يشدد على اهمية اعتنائها بنفسها والتزام الراحة خلال الأيام القادمة .. ووصف لها بعض الأدوية لتثبيت الجنين .. ثم خرجت نانسي محمرة الوجه برفقة ماهر بعد ان ألقى الطبيب بتعليمات خاصة ظنا منه بأن ماهر هو زوجها
في البيت .. بدا ماهر كالنمر الحبيس وهو يجوب غرفة الجلوس ويصيح غاضبا :- أنا متأكد مما رأيت .. ذلك السائق اتجه نحوك متعمدا بنية صدمك وقد ازال الأرقام من سيارته كي لا يتم التعرف عليه .. لا يمكننا السكوت عن هذا
تمتمت نانسي من حيث كانت ممددة على الأريكة بإلحاح من السيدة رجاء :- أنت تبالغ يا ماهر .. لماذا قد يرغب أي أحدهم بأذيتي ؟
إلا أنها كانت في الحقيقة تشعر بالقلق والخوف أكثر مما اظهرت .. وهي تتذكر مشهد السيارة الزرقاء القديمة الطراز تندفع نحوها بإصرار وكأنها حقا ترغب بأذيتها .. ولكن لماذا قد يرغب أي كان في إلحاق الأذى بها ؟ السؤال هو .. من قد يرغب في هذا ؟ هل هناك حقا من يكرهها إلى هذا الحد ؟
برزت صورة محمود فجأة امام عينيها فأزاحتها بعنف .. مهما كبرت المشاكل بينهما فإن محمود أبدا لن يسبب لها الأذى .. هل أنت متأكدة .؟
قطع ماهر أفكارها القلقة بهتافه :- أبالغ ! .. لقد كنت هناك يا نانسي .. ورأيت ما رأيته انا بالضبط شخص ما حاول إيذئك عمدا
قالت أم ماهر بقلق :- المهم انها بخير الآن .. لن تتعرض لأي أذى إن لازمت المنزل او حظيت بالمرافقة أينما ذهبت .. صحيح ؟
ارتفع في تلك اللحظة صوت لمياء وهي تقول مترددة :- أليس من حق زوج نانسي ان يعرف بما حدث ؟
اتجهت الانظار نحو الفتاة الصغيرة التي تلقت ركلة خفية من شقيقتها الكبرى لتصمت بينما قال ماهر :- لمياء محقة .. الدكتور محمود يجب أن يعرف
أسرعت نانسي تهتف مذعورة :- لا
نظر ماهر إليها وهو يقول بحزم :- فكري جيدا يا نانسي .. من حق الدكتور محمود أن يعرف بان شخصا ما قد حاول إيذاء زوجته .. الوضع لا يحتمل عنادك الطفولي هذا .. حياتك وحياة طفلك هما على المحك الآن
تناول هاتفها المحمول ودفعه نحوها قائلا بإصرار:- اتصلي به يا نانسي .. أنا لا أطلب منك التنازل والذهاب إليه .. فقط أخبريه بما حدث
تناولت الهاتف بيد مرتجفة .. وطلبت رقم هاتفه باضطراب شديد .. دوى الأزيز المألوف ليعبث بأعصابها .. ولم يطل الأمر حتى سمعت صوته الجهوري يقول بحدة :- نانسي
خفق قلبها بعنف لدى سماعها لصوته .. ووجدت نفسها عاجزة عن قول أي كلمة .. فعاد يكرر بصوت عصف به القلق :- نانسي .. اهذه انت ؟
غلبها الانفعال .. فدفعت الهاتف مذعورة نحو ماهر الذي نظر إليها بعتاب وهو يرفع الهاتف ويتحدث عوضا عنها :- دكتور محمود .. أنا ماهر .. لا .. نانسي بخير .. أنا من ألح عليها بالاتصال بك ولكنها عجزت في اللحظة الأخير عن إخبارك بما حدث
بكلمات مختصرة حكى ماهر ما حدث لمحمود .. فلاحظت تغير ملامحه واحمرار وجهه أمام كلمات محمود العاصفة التي انهالت عليه من الطرف الآخر .. وهو يجيب عن أسئلته .. تمتمت في النهاية :- بالتأكيد .. إنها هنا .. تفضل
لم تستطع نانسي التراجع وقد وجدت الهاتف بين يديها .. رفعته إلى أذنها وهي ترتجف كم الخوف هامسة :- ألو
أتاها صوت محمود القلق يقول :- نانسي .. هل أنت بخير ؟ هل أصابك مكروه ؟
اهتمامه الشديد جعل إحساسا دافئا بالحماية يجتاحها .. وجعل دموعا تتجمع في عينيها وهي تقول باضطراب :- أنا بخير
:- هل أنت متأكدة ؟ ما الذي قاله الطبيب ؟ هل الطفل بخير ؟
قالت بتوتر :- الطفل بخير يا محمود .. ليس عليك أن تقلق
ارتفعت حدة صوته وهو يقول بغضب :- أليس علي حقا أن أقلق يا نانسي ؟ أنا أعرف جيدا بأنك لم ترغبي أبدا بهذا الطفل .. وقد أخبرتني بنفسك عن رفضك له .. وأخمن بأنك ستكونين أكثر من مسرورة إن لم يقدر له أن يولد .. لقد ألحيت عليك مرارا بأن تعودي إلى بيتك كي أتمكن من العناية بكما معا إلا أنك بعنادك المعتاد رفضت وأصريت على تعريض نفسك للخطر .. ليكن بعلمك يا نانسي .. إن أصاب ابني أي مكروه بسبب أي إهمال أو تقصير منك .. فستدفعين الثمن غاليا
أحست نانسي بطعنة ألم قوية جعلتها نعجز عن التنفس للحظات .. محمود لم يكن قلقا عليها .. إنه مهتم فقط بسلامة طفله .. لقد صدق ظنها إذن .. محاولته السابقة لاستعادتها لم تكن إلا وسيلة لاستعادة الطفل الذي يأمل في إنجابه
الصدمة التي تعرضت لها منذ ساعات وحالة الضعف التي تمر بها .. الغضب والالم والمرارة .. كل هذا اجتمع داخلها ليدفع كل ما اختزنته داخلها من مشاعر عاصفة إلى الحافة .. تدفقت دموعها وهي تقف هاتفة بكل ما يعتمر داخلها من ثورة :- أهذا ما يهمك يا محمود ؟ لقد كدت فقد حياتي تحت عجلات سيارة مجهولة وكل ما تفكر به هو الطفل .. فلتعلم إذن بان مكروها لن يصيب ابني .. سأحميه بحياتي إن اضطررت .. وسأحرص على ألا يعرف أبا انانيا باردا وقاسيا وخاليا من المشاعر مثلك .. أب خائن لا يعرف معني الحب والإخلاص .. أب لن يتورع عن خيانة أمه تحت سقف بيتها بلا أي اعتبار للقيم والأخلاق .. أكرهك يا محمود .. أكرهك وأحتقرك ولا أصدق بانني قد أحببتك يوما .. أكرهك واتمنى لو انني لم اعرفك أبدا ....
خنقتها الدموع فسقط الهاتف من يدها وهي تخفي وجهها بيديها وتجهش في بكاء مر جعل السيدة رجاء ترتجف لوعة وقلقا وهي تضمها محاولة تهدئتها .. بينما التقط ماهر الهاتف .. وتحدث إلى محمود قائلا :- انا آسف يا دكتور محمود ... نانسي لن تستطيع التحدث إليك أكثر .. نعم .. حسنا . سأخبرها
أنهى المكالمة .. ونظر إلى نانسي التي عادت تجلس على الأريكة وأمه تطبطب عليها بحنان وهو يقول :- الدكتور محمود قادم إلى هنا .. سيكون موجودا خلال ربع ساعة
محمود سيكون هنا .. سيأتي إليها .. وسيثبت لها بأنها مخطئة في ظنها .. وأنه يحبها هي .. ويهتم لأمرها هي .. سيأتي لأنها في حاجة إليه .. في حاجة إلى وجوده إلى جانبها في هذه الظروف .. وإلى حمايته لها
اختفى فجأة غضبها منه .. ولم تعد ترغب إلى بحضنه يلفها ويمنحها الدفء والحنان .. سيبرر لها كل شيء .. ويفسر لها كل شيء .. وهي ستتفهم .. وتسامح .. فقط إن عاد إليها وأحبها من جديد
مرت ربع ساعة .. ثم نصف ساعة .. ثم ساعات أخرى دون أن يأت محمود .. ورغم هذا .. ظلت نانسي مصرة على أنه سيأتي .. وأن هناك ما أخره وعطله عن الحضور .. لقد قال بأنه سيأتي .. ومحمود لا يكذب
حقا .. ألم يكذب عليك مرارا مدعيا حبه لك ؟ ألم يعدك بحمايتك والعناية بك ثم أهانك وأذلك مرارا وتكرارا ؟
فوق سرير لمياء الصغير .. سهرت نانسي لساعات طوال دون أن تتوقف دموعها عن السيلان .. لقد منعت ماهر من الاتصال به .. وسؤاله عن سبب تأخره .. ورغم هذا .. ما زال جزء منها واثق بأنه سيأتي في النهاية
ومهما تأخر الوقت .. إن لم يكن من أجلها .. فلأجل طفلهما ..
ولكن محمود لم يأت .. وتجاوزت الساعة منتصف الليل .. وعم الهدوء الشقة الصغيرة وقد نام أصحابها .. ولم يعد هناك سوى نانسي المستيقظة .. تضع يدها على بطنها .. وتهمس لطفلها بألم شديد .. والدك سيأتي في النهاية .. لابد أن يأتي
إلا أن النعاس غلبها في النهاية .. ووجدت نانسي نفسها تنام وقد عرفت بأنها كانت مخطئة منذ البداية .. وأن محمود قد أخلف وعده كما أخله عدة مرات من قبل
لقد عرفت هذه المرة بأنها النهاية .. النهاية حقا
__________________
مهما زاد عنائي
لا يمكن أن أنساك
حتى إن تنساني
باقية لي ذكراك
لأن الروح داخلي
لا زالتْ تهواك


نبع الأنوار ايناس نسمات عطر