الذِّكرى السادِسة ~ مُحادثات
ماضيَّ يلتّفُ بي يُعيقني عن المُضِيّ، لكنَ السّرَ القابع في عينيه يَبغي إليَّ سبيلًا..
مأخوذة..مسلوبة الرّجاحة..مُغدقة بالحِيرة! و كان مثلها أو رُبما أشدّ تأثرًا..مشدوه..وجههُ رسم تفاجؤه من اتساع لعينيه البُنيتين و انفراج بسيط لشفتيه حين تأوه و قد فشل تمامًا في ضبط صدمته! تمنى بيأس ألا تكون سمعته لكنّها فعلت و كان ذلك ما حرّكها من مكانها بعدما كانت تقف مُتصلبة عند الباب تشّد قبضتها على حزام حقيبتها الزرقاء المُتدل من على كتفها, و بالأخرى تحمل كيسًا ورقيًا عريضًا تبرز منه نُتُؤ العُلب المُغلّفة, لم تكن يومًا بارعة في اخفاء مشاعرها او ادعاء ان لا شيء حصل هُنا, حاولت لكن لم تستطع و ردود أفعاله تُثبت لها انه هو أيضًا مصدوم من رؤيتها هُنا! حين تراجع للخلف!
هل يتذّكرُها؟ هل تعرّف عليها رغم أنها تبدو مُختلفة تماما عن آخر مرة رآها فيها, آخر و أول مرة, صحّحت فِكرتها.
( مالذي أفعله بحق السّماء!) تساءل و نفسه مُستنكرًا الحركة التي قام بها, قرر الا يقوم بشيء و يكتفي بالثبات مكانه و حسب! تركها تقترب بخُطواتٍ بطيئة تنقر الأرضية الخشبية بحذائها بصوتٍ مُنتظم, تلك الابتسامة حتمًا مُوّجهة للأطفال..نعم هي كذلك فهاهي فتاة تقفز باتجاهها و تضم وسطها مُنادية باسمها. انها نفسها فتاة المقص..
ــ جلبتُ لكم بعض الأشياء التي ستحبونها
هكذا كلّمت الفتاة بعدما حنت ظهرها كي تُواجه وجهها و قد أخذت بذقن البنت بين أصابعها بلُطف.
أجابت البنت بحماس: ــ في المدرسة, سألتحق بها العام المُقبل!
رأى بقية الأطفال يشقون طريقهم باتجاه لوسي و يتركونه في المُؤخرة ثابتًا في مكانه يستند على كفه بوضعية المُستعد للهرب!
قبّلت جُنبهم و عانقتهم حادثتهم و ضحكت معهم, استغرق ذلك نحو الدقيقة حتى دخل رجل بدا لكريس من بعيد أنه شاب من قامته المشدودة و بذلته الرسمية الأنيقة ثم ما لبث أن رأى وجهه البادي عليه الكِبر, لكنّه لم يتغير كثيرًا! شعره لا يزال أسود, باستثناء التجاعيد حول عينيه و بين حاجبيه السوداوين إلا انه ينضخ شبابًا كعادته, لويس السائق الخاص بعائلة روبنسون, تحدّثت اليه لوسي بابتسامة و لم تظهر أي لهجة آمرة في صوتها أو في كلماتها:
ــ عم لويس ضعهم هُنا لو سمحت
استجاب لطلبها و وضع العُلب التي كان يحملها بالقرب من كومة الصّغار و لحقه عامل بالميتم بالدبين المحشوين الكبيرين اللذان حجبا نصف جسده, سأل لويس لوسي:
ــ هل أنتظرُك أم أعود في وقتٍ لاحق؟
لاحظ أنها استغرقت بعض الوقت حتى ترد, احتاجت لتُفكر قليلًا, لتُجازف قليلًا..ثم أجابت:
إنه حتمًا لويس, هو الوحيد الذي اعتاد على مُناداة لوسي بأميرته و يبدو أنه لا يزال على نفس العادة رغم مرور عشر سنوات, ذلك أوصله لفكرة أخرى مُرعبة جدًا..تمثّلت مخاوفه على الواقع حين رفع السائق رأسه باتجاهه, كان يهم بتحية لتوديعه من باب اللباقة و أيضا هو لم يُلاحظه الا مُتأخرًا و لويس لا يُحب أن يبدو كشخص يفتقر لأساسيات التواصل الاجتماعي, لكنه بدل ذلك بقي ينظر اليه بتمعن لفترة وجيزة, تنحنح كريس و اعتدل جالسًا واضعًا كفتيه على رُكبتيه المطويتين و ذكّر نفسه بضرورة عدم الإيتان بأي حركة..حبس أنفاسه و انتظر حتى رفع لويس اصبعيه الى جانب جبينه و ابتسم نصف ابتسامة, ردّها كريس بأن أحنى رأسه له بهدوء.
ماذا يُفترض أن تعني تلك الكحة المُتعمدة؟ تساءلت و هي ترفع عينيها باتجاهه بحذر, الى شكله الذي يبدو مألوفًا بطريقة لا تُصدّق. تلك التقاسيم التي تزحف صعودًا من سرداب ماضيها, وجه شبحٍ باهت يتطابق و هذا الشّاب, سحبتها أفكارُها لدليل..شامة..كان لكريس شامة على رقبته..لكن الدليل مُتوارٍ تحت قميص صوفي أخضر اللون ذي ياقة طويلة تلُفُّ مُحيط رقبته. نظرة عن قرب رُبما..
كان لويس قد رحل فوقفت تاركة الأطفال يتفقدون هداياهم و قد فُرزت بين الأولاد و البنات.
ــ (القليل من المُجازفة لن يضر..انه صديق أخي..ليس غريبًا عنا..انه نوعًا ما..)
لم يترك مجالًا لأفكارها الداخلية أن تجد الكلمة حين قرر أن ينتزع منها دفّة القيادة..ابتسم و قال ببساطة:
ــ غريبٌ أن نلتقي هُنا أليس كذلك؟
و كأن لا معنى لسؤاله..طرحه بطريقة جعلته يبدو بلا قيمة لكنه في الواقع أربكه جدًا, أما هي فقد تلاشت سيطرتها في لحظة و اندفعت نحوها موجة من التوتر, ردت الابتسامة فهي اسهل ما يُمكن أن ينعكس بين اثنين.
أجابت: ــ كُنتُ أُفكّر في نفس الشيء.
(اذن هي تُفكر في الأمر!) صاح عقله بصمت..لكن تعابيره تماسكت رغم بريق الغبطة الذي انسّل من نظراته الداكنة, سحب مقعدًا مُربّع الشكل من بين كل المقاعد المُنخفضة المُنتشرة في الغرفة الواسعة و دفعه باتجاهها داعيًا اياها للجلوس. ابتسمت مرة أخرى, تلك حتمًا موّجهة له! نزعت معطفها الأبيض و وضعته و حقيبتها في حجرها بينما تجلس قُبالته هي على المقعد الصغير و هو لا يزال على الأرضية.
رأى أنه لابد من تحية تعود بالحديث لطبيعته:
ضحكت مُسدلة رأسها ثم رفعته : ــ مرحبًا..قصّة لطيفة!
لم يكن قد انتبه للرباط المطاطي الذي لايزال يُمسك بخُصلة من شعره البُنيّ, أزاله بسرعة مُحرجًا و رتّب شعره:
عبّ رئتيه بالهواء ثم زفره بانشراح: ــ في أحسن أحوالي!
هزّت رأسها غير قادرةً على مُجارات عفويته: ــ مُمتاز!
أدرك أنها ستتوقف عند ذلك و لن تسأله عما يفعله هنا, لكنه أيضًا مُتفاجئ من وجودها هنا و يريد أن يعرف فسألها:
ــ مالذي تفعلينه في مكان كهذا؟
ــ أزور الأطفال انت الذي أستغرب وجودك هنا
و أكدّت على "هنا" فقال مُعترفًا:
ــ اممم..حسنًا..ذلك لأنني بدأت العمل اليوم فقط.. أضاف: ــ هل تزورين المياتم كثيرًا؟
ــ لا, إنه الميتم الوحيد الذي أزوره..
تقهقر صوتها و هي تلوذ بالصمت و كأنها أوشكت على فضح سرٍ ما تحاشت النظر اليه حينها و عندما لم تسمع منه سوى الصمت ألقت بنظراتها باتجاهه فكان رأسه مائلًا قليلًا الى اليمين و يُحدّق بها, يُفكر في الأمر مليًا..فكان لابد لها أن تُحرّك العجلة من جديد لأنه لم يُلاحظ أنه يتمعن فيها بطريقة مُثيرة للارتباك!
قالت مُحاولة ألا تبدو مُشتتة: ــ ما الذي..تعمله بالتحديد..أقصد هنا..هل ترعى الأطفال؟
رمش مُستعيدًا المُحيط من حوله و أجاب: ــ نوعًا ما..
استمر قائلًا مُدركًا أنها لن تسأل و لن تستفسر و لن تُحاول معرفة المزيد, لكنه سيُجبرُها على معرفة كل شيء عنه, عن كريس و ليس عن جايك.
ــ في الحقيقة العم رالف صديق قديم و قد وظّفني عنده فقط لأنني عاطل حاليًا, حسنا لست عاطلًا الآن بما أنني نلتُ الوظيفة, سأعمل في أي شيء لكن أغلب الظن أنني سأعتني بالأطفال, لا أريد لسكريتيرته أن تقتلني!
تابعته و قد سعد لأنها كانت مُستمعة لقصته المُريبة: ــ و لمَ قد تقتلك سكرتيرة العم رالف؟
ــ لأنني كِدتُ آخذ وظيفتها, نظراتها كانت مُرعبة..جدًا!
ضحكت على التعبير الذي ظهر على وجهه و قالت: ــ أستطيع تخيّل ذلك
الأطفال خلفهُما كانوا يُصدرون جلبة خفيفة لكنها ارتفعت في آخر لحظة فوقف مُضطرًا و مثّل بدرامية:
ــ يجب أن أقوم بعملي!..سأعود فورًا
أومأت له بينما يقف مُتجهًا ناحية الصغار يُحاول فض النزاع الذي قام بينهم, بنت و ولد يتشاجران على لعبة البيانو الصغيرة. التفتت بنصف جسدها تنظر اليه بين الاثنين يُحاول ايجاد تسوية, لم تسمع كلامهم فقد كان بعيدًا و الأطفال كانوا صاخبين لكنها رأت الصغيرة الشقراء تهز رأسها مُوافقة و تتخلى عن البيانو للفتى الذي أخذه و قفز بعيدًا. استدارت لوسي عنهم عندما وقف كريس و هو يقود الفتاة معه, قرفص بالقرب من لوسي و الفتاة بينهما و سأل الفتاة:
بقيت لوسي تنظر اليهما باستغراب و الفتاة مُكتفية بالصمت و التحديق بها, أجاب كريس على سؤاله و هو يهمس في أذن الصغيرة:
ــ انها لوسي مُغنية و عازفة في فرقة دارك آنجيلز.
سمعته لوسي لكن لم تُعلق في تلك اللحظة لم يتسنى لها التفكير حتى, غير معقول هذا الشخص! كيف لفظ اسمها, كيف عرّف بها و كأن سنين عتيدة تربطُهُما و كأنها عرفته في حياتها الأولى ثم أتت الموتة الأولى أعقبتها حياة أخرى, تلك مُجرد أسطورة لا أحد يدري أكان هُناك موت قبل هذه الحياة, أكان هُناك موت أول؟..هل يُعقل أن يكون موتها الأول الذي عاد حيًا يُرزق. أضاف:
ــ إنها بارعة جدًا في العزف!..انتظراني هنا سأعود اليكما.
سارع للنهوض و الخروج من المكان و انتظرته الفتاتان بصمت تام الى ان عاد و بيده قيتار ضرب بأصابعه أوتاره الخمسة في حركة واحدة ثم قدّمه للوسي:
التقطته و أخذ مكانه في حجرها بطريقة تلقائية بعدما حمل عنها كريس حقيبتها و معطفها, همس لها بنبرة مُعترفة:
ــ أواجه أول يوم عمل عصيب هُنا و سأكون مُمتنًا لو ساعدتني قليلًا
ألقت نظرة على الفتاة الصغيرة ثم همست هي الأخرى بحيرة:
عيناها الزرقاوان تحركتا على تقاسيم وجهه القريبة, الى عينيه الهادئتين الحالمتين ثم حطّتا على شفتيه و هو يلفظ اسمها. تنفست الهواء الذي تحمّل بعطر خفيف ثم هزّت رأسها إيجابًا فابتعد و هو يحمل معطفها و علّقه على المشجب الفارغ بالقرب من الباب الى جانب حقيبتها و معطفه البني الذي أصابته بعض التجعيدات بعدما داس عليه الأطفال..في طريقه للعودة اليها ساعد صبيًا على تركيب قطعة في رافعته الصغيرة و ساعد أخرى على فكّ الشريط اللاصق عن علبة ثم كان عند لوسي مرة أخرى يجلس على الأرض كالسابق و يضم الصغيرة الشقراء اليه مُجلسًا اياها على فخذه.
المُغنية الشابة كانت تنحني على القيتار عدّلت آخر نوتة و حضنته اليها كأنه قطعة منها و تجسّد كنبضٍ حين لمست أوتاره النُحاسية برؤوس أصابعها..تدفقت النوتات بسلاسة و ترتبت حتى أصبح اللحن واضحًا.
راقبها تنسلخ عن الواقع و تغوص في أعماق عالمها الغني بالموسيقى عندما حجبت عنه عينيها و هي تُغلقُهما و تئن بصوت سلس هادئ ثم غنّت..! أنفاسها انتظمت و صوتها تسلل عذبًا من بين شفتيها و اندمج و نغمات القيتار المُتحررة من بين أناملها
تنساآب قطراته تحكي تلك الحسرة..
توقِظك الرِّيح من ذلك الحُلُم..
و يُعيدك صوت المطر الى وآاقعٍ مُؤلم..
لكن خلف الغُيوم يقبعُ القمر..
فيُسمع غِناء تلك الصغيرة..
صغيرتي الجميلة عندما تُغنّي للقمر..
تبعثرُ البهجةه وَ يراآع الليل..
تَصُد الاحزان و تلون الحياة سروراآ..
بريشةه من طفولة ترسم الأفراح..
صوتُ صغيرة تُغنّي للقمر..
تردّد صدى ضِحكاتها كالأمل ..
يُبدِّد ضباب الدُجى, بنور السعادةه..
و يغمُرها ضياءٌ من لُجَينْ..
تلك هي صغيرتي الجميلة..
عندما تُغنّي للقمر..
همست بآخر كلمة فخرجت نقية, مُلوّنة, مُفعمة بالحياة! و قفلت بالنوتة الختامية ثم رفعت رأسها الى مُستمعيها لتكتشف أن كل الأطفال قد حاموا حولها في دائرة مُغلقة ينظرون اليها بدهشة, حتى كريس!
شعرت بالحرج الشديد و تصاعدت الحرارة الى رأسها جاعلة لونًا ورديًا يُغطي خديها, لاحظ ارتباكها و كيف اكتسحها الخجل فحرّك الجو بأن افتتح التصفيق الذي انتشر سريعًا بين الأطفال و لفظ كلمات مُتفرقة مثل "رائع" "آداء مُبهر" "أليست بارعة!" رد الصغار بصخب و حماس "نعم!"
ثم تزاحموا بالقرب منها يريدون تجربة العزف و لمس القيتار, لم يتسنى للوسي الاعتراض و حاولت تنظيمهم و مُشاركتهم تطلُّعهم في ذلك الحين سألت تلك الفتاة و هي لا تزال في حضن كريس:
ــ هل أستطيع أن أصبح مثلها؟
ابتسم كريس بعذوبة و التماعة تظهر على عينيه مُجيبًا:
صاحت بها الشقراء الروسية و هي تُغلق باب جناحهم الخاص بعدما استلمت عربة الطعام من النادل, سارت بها الى غرفة الجلوس حيث طاولة كبيرة من الخشب البُنيّ يُحيط بها ثمانية كراسٍ و تتوسطُها مزهرية كبيرة من الورود الاصطناعية. انتظرت أن ينظم اليها زميلاها بينما ترفع الأغطية تتفقد الوجبات التي طلبتها لكن لا أحد منهُما ظهر, من عادة جيمي أن يتأخر لكن مارتن يكون دومًا أول من يجلس الى الطاولة
نادته فرد عليها و هو يفتح باب غُرفته و بدا من شكله أنه استيقظ للتو قال وهو يحك مُقدمة رأسه:
ــ يا إلهي لقد غفوتُ دون أن أشعر!
واقع الأمر أنه كان يستمع للموسيقى و يُحاول جاهدًا منع نفسه من الاتصال بلوسي..! و انتهى به التفكير الى الاجهاد و نام مكانه على السرير حيث كان يستلقي يُحدّق بالسقف الأبيض و زخارفه المُبالغة.
ترتيب الأطباق على الطاولة لم يكن يومًا مسؤولية آنا لكنّها مُجبرة كون لوسي ليس موجودة و بدأ تذمر مارتن من طريقة ترتيبها حين اعترض:
ــ قرّبي السلطة لوسي دومًا تضعها بجانبي, الصلصة الحارة لجيمي, هل هذا أرز؟ لا...
انقطع صوته مع صوت المياه التي لفحت وجهه حين ألقت آنا بمُحتوى الكأس باتجاهه و قالت:
تركته يُجفف وجهه بالمنديل مُتجهة الى غرفة زميلها الآخر و فتحت بابه مُطلة برأسها: