الفصل الخامس : حلم بعيد المنال ~
.
.
في ذلك الظلام الدامس، حيث لا يُسمع سوى قطرات المطر التي تضرب زجاج نوافذ تلك السيارة الفاخرة التي توقفت في منتصف الطريق،
بوضعية عشوائية، ينظر سائقها صاحب البذلة الزعفرانية نظرات قلق إلى الأسمر الجالس في الخلف، الذي يلصق هاتفه بأذنه اليسرى،
و قد بدا عليه الغضب، القلق و الاستعجال، محدقا بالفتاة الساكنة المقابلة له تحديقا لا يبشر بالخير،
حرك إبهامه ليضغط على الشاشة و يشغل مكبر الصوت، و إذا بصوت رجولي كله غرور و ثقة يعلو قائلا :
" كان ذلك سريعا تايغر ! أثبت بأنك فعلا تهتم لأمر... "
قاطعه بغضب مرعب صوت تايغر الذي كان يتحدث و هو يصر على أسنانه مهددا :
" خدش واحد يا مالك ! إذا وجدت عليها خدشا واحدا ستصير أنت و ابنتك في عداد الموتى ! "
ضحك صوت جافر مالك بسخرية على الهاتف ثم قال : " أنت غيور جدا يا تايغر، لا ألومك فهي رائعة الجمال ! "
من جديد، لم يتركه تايغر يضيف كلمة أخرى، حيث أمره باستعجال : " ناولها الهاتف، أريد مكالمتها "
" و لا نقاش في هذا ! " أضاف موجها إصبعه السبابة نحو فيزا، كما لو أن والدها هنا ليفهم تهديده.
سمع تنهد انزعاج، و الذي أطلقه مالك بدون شك، ثم بعد لحظات...
استحال ذلك الصوت الخشن الذي سمعه تايغر قبل قليل صوتا أنثويا ناعما، فقالت صاحبته ببساطة : " مرحبا ؟ "
بالكاد فتح تايغر فمه ليجيب، حتى استطردت صاحبة الصوت، رغم أنها كانت تتكلم بهدوء، صوتها ناعم و رقيق،
إلا أنه لم تكن فيه ذرة تردد، بينما تقول : " لا تقلق بشأني، أنا بخير تماما، و اسمع...إذا استفزك هذا الوغد فهي غلطته هو... "
قاطعها مالك الذي صرخ بسخط : " من الـ... ؟ ! "
لكن لا يبدو بأنها تكترث، فقد أكملت و لم تعره أي انتباه، قائلة هذه المرة بترجٍ و توسل :
" تعرف ذلك...أرجوك...لا تعاقب الفتاة على أخطاء والدها... "
كان تايغر واثقا جدا بأنه سمع مالك على وشك التفوه بشيء ما، ثم أغلق فمه فجأة ( من الصدمة على الأرجح )
عندما سمع جملة ياقوت الأخيرة، شامشير الذي شعر قبل قليل بنوع من الارتياح، بدا مصعوقا الآن،
و تايغر الذي لم تختلف حاله كثيرا، قال بعد صمت دام بضع ثوان، بجدية و حزم : " لستِ في موقف يسمح لك بالطلب... "
ثم أضاف بسرعة قبل أن تسنح لها قول كلمة أخرى : " مالك، أظن بأنك تريد تبادل الرهائن... "
فرد صوت جافر مالك الخشن بتغطرس : " ماذا عن فيزا ؟! أريد محادثتها أيضا ! "
أغلق تايغر عينيه للحظات، ثم فتحها من جديد و هو يجيب : " إنها نائمة "
صرخ مالك بمزيج من الغضب و القلق : " ماذا تقصد ؟! "
فرد تايغر و كأنه يشرح لطفل صغير أن واحدا زائد واحد تساوي اثنان : " إنها الساعة الـرا بـ-عـ-ـة فـ-جـ-را...هل أوقظها ؟! "
" لا...لا داعي " كان صوته خافتا جدا و مترددا، لأنه يعلم جيدا أن تايغر ما كان ليتخلص من الرهينة قبل إتمام الصفقة،
و هذا الأخير شعر بالرضى، لكنه أدرك أن الوقت لم يكن مناسبا للاستمتاع بإهانة عدوه، فكرر ما قاله سابقا بانزعاج و استعجال :
" إذن، بشأن تبادل الرهائن... "
قاطعه مالك قائلا : " مكان و وقت التبادل... "
ليقاطعه تايغر من جديد و قد نفذ صبره : " نفس المكان، نفس الوقت، غدا "
ضحك مالك بسخرية و قال : " كما توقعت، تريد مني أن آتي إلى المكان الذي اخترته ؟ في الوقت الذي يناسبك ؟ و حيث يتجمع رجالك ؟! "
لم يصغي تايغر جيدا إلى تلك الجمل، فقد لفت نظرته فجأة شيء ما، لمعان خفيف وسط الظلام...
لكن انتباهه قد تم تشتيته مرة أخرى من طرف مالك الذي ضحك من جديد ليضيف : " أوتظنني غبيا لهذه الدرجة ؟! "
ابتسم تايغر بدوره متناسيا ما رآه و رد بتعال : " هل تود فعلا إجابة على هذا السؤال ؟ "
و استطرد بجديّة قبل أن يقول مالك كلمة أخرى : " إياك و التفكير بأنني قد أخضع لك ! ربما نسيت ذلك و لكن ابنتك الجميلة بحوزتي... "
و من جديد، بالكاد قال مالك و هو يصر على أسنانه بسخط : " أيها الوغـ... ! "، حتى قاطعه تايغر الذي أصبح هادئا بشكل مريب قائلا :
" أنا لن أتراجع عن الشرط، و أنت ليس أمامك وقت للتفكير بالأمر "
أدرك بأنه لم يكن لديه خيار آخر إن أراد استعادة ابنته، فمحاولة إقناع تايغر مضيعة تامة للوقت.
و بعد لحظات من الصمت، قرر أخيرا أن ينطق : " اتفقنا... "
أغلق تايغر الخط من فوره متجنبا سماع أي كلمة من الطرف الآخر، ثم التفت إلى شامشير الذي كان يبتسم بسعادة.
" ماذا بك ؟ " سأله و قد رفع حاجبا.
فرد شامو رافعا يده بفخر : " لقد سيطرت على الوضع تماما يا رجل ! و أنا الذي ظننت أنك قد تتزعزع بسبب ما قام به ذلك الوغد ! "
فقال تايغر بهدوء تام : " مجنون أنت ؟ إذا تزعزعت أنا فالعملية بأكملها سوف تتزعزع... "
أنزل شامو يده بحركة سريعة، انقلبت ملامح وجهه مجددا لتُظهر القلق، و قال بسرعة متذكرا أمرا هاما :
" أنت لم تشترط على مالك أن لا يحضر رجاله... "
هذه المرة رفع تايغر كلا حاجبيه و قد ظهرت في نظراته القاتلة طاقة سلبية، ثم أجاب ببرود :
" أنا و هو...في نفس الموقف..."، أشاح بنظره بعد لحظة و هز رأسه بالنفي و هو يضيف :
" لا تنظر إلي هكذا...لا تظن بأنني أسيطر على الوضع...أبدا "
التفت إلى السائق للحظة ثم وجه بصره بعيدا من جديد، ليقول بصوت خافت يدل على مخاطبته لنفسه أكثر من مخاطبته لشامشير :
" لم أرها أو أتحدث معها لأشهر...و الآن هي هناك بمفردها...مع ذلك الوحش... "
صمت لبرهة، ثم قال بانزعاج رافضا النظر إلى شامو : " قُد، رجاءً... "
استدار ذو الشارب إلى المقود و نفذ أمر تايغر دون اي محاولة للنقاش، بدأت السيارة تتحرك من جديد وسط المطر الغزير الذي لا يتوقف،
في الاتجاه المعاكس الذي سارت به سابقا. حرك تايغر رأسه ببطء ليحدق بـفيزا من جديد، و فجأة...خطر على باله ذلك اللمعان الذي لاحظه سابقا،
اقترب من الفتاة مغمضا عينيه نصف إغماضة و قد قطب حاجبيه في حيرة، مرر يده بطلف على وجنتها التي لا تلامس النافذة ثم ابتعد بسرعة.
" إنها تبكي...؟ " تمتم تايغر بصوت لا يكاد يكون مسموعا، لكن شامو سمعه و سأل : " من ؟ "
رد تايغر و هول ينظر إلى يده الرطبة بذهول : " هذه الفتاة... "
التفت بحركة مفاجئة إلى شاشمير ثم سارع بالسؤال : " أيعقل أنها مستيقظة ؟! يفترض أنها... "
" مخدرة " قاطعه شامو بهدوء، " لا بد أنها تعاني من البكاء أثناء النوم "
رفع تايغر حاجبا و قال : " ما هذا الهراء ؟ "
تنهد شامو ليجيب بصوت أعلى قليلا : " عندما يمر الإنسان بضغوطات كبيرة، و يسترجع ذكريات مؤلمة قبل النوم، هذا ما يحصل "
نظر تايغر إلى فيزا من جديد، و قال في نفسه " هذا منطقي... "، حتى سمع شامو يستطرد : " أتعلم، يدل هذا عادة على ضعف الشخصية... "
فقاطعه تايغر بنبرة واثقة : " لن يقنعني أي كتاب في علم النفس بأن هذه الفتاة ضعيفة الشخصية "
عم الصمت لمدة، ثم التفت من جديد إلى السائق قائلا بحيوية : " ستكون طبيبا نفسيا جيدا، لماذا تضيع حياتك معي ؟ "
فرد شامشير بعصبية : " سألقي بك خارج السيارة... "
اكتفى تايغر بابتسامة خفيفة، أرجع رأسه للوراء و أغلق عينيه ليسترخي قليلا، كانت تدور في رأسه أفكار كثيرة، أكثر مما يجب...
مالك، هل ستكون لديه خطة لاستعادة ابنته و الاحتفاظ بـياقوت في نفس الوقت ؟ أم أنه سيلتزم بالمبادلة خوفا من احتمالية فشل أي مخطط ؟
لو كان الأمر بيده لسلّم الفتاة و أخذ ياقوت بدون مشاكل، لكنه لا يثق بـمالك، و مالك لا يثق به، هذا يصعب الأمور، و عليه الاستعداد لأي طارىء،
المشكلة تكمن في كيفية الاستعداد و هو لا فكرة له عما يدور في رأس ذاك الرجل، مع أنها ليست أول مرة يواجه فيها المجهول...إلا أنه كان متوترا...
فكر بـفيزا، لقد بدت له الفتاة صاحبة شخصية قوية، و من كان ليشك بهذا بعد طريقة حديثها معه، هل معاناتها قاسية لدرجة البكاء أثناء نومها...؟
" هي تظل فتاة في النهاية...حساسة و رقيقة... " بينه و بين نفسه، كان واثقا، يفترض أنها وصلت إلى أقصى حدود تحملها منذ زمن...
انقلب سواد جفنيه المغلقين اخضرارا، كان يرى أمامه حقولا واسعة على مد البصر، تجول فيها عدد من الحيوانات الأليفة،
قطيع أغنام، بضع أبقار، و عربات تجرها الثيران أو الحمير، منظر ريفي مذهل لا يُشعر بأي شيء سوى راحة البال،
بالأخص مع النسيم العليل الذي يداعب وجه ذلك الفتى ابن العشر سنوات، و الأزهار التي يلامسها بيديه بينما يركض في الأرجاء،
كان شعره يصل إلى كتفيه، همه الوحيد في الحياة هو أن يحاول جاهدا إبعاده عن مقص والدته، فقط...
توقف ليتأمل ما حوله، لم يفكر يوما خارج حدود تلك الحقول، راض تماما بحياته البسيطة الخالية من مشاكل العالم المعقدة...
ما كاد يلقي بنفسه بين الأعشاب الخضراء حتى شعر بقميصه يُسحب بهدوء، التفت ليرى تلك اليد الصغيرة التي تمسكه،
و العينان العسليتان البريئتان اللتان تحدقان به، مليئتين بالأمل، ابتسم بحنان لتلك الطفلة و قد فهم ما أرادت منه،
حملها على كتفيه و عاد يركض، ليعلو صوت ضحكاتها العذب، بينما تتراقص خصلات شعرها البنية مع نسمات الريح...
لو أن الزمن توقف هناك...فقط لو أن كل ما حصل مجرد كابوس طويل...سيستيقظ و يجد نفسه ملقى في العشب...أو بين أحضان أمه...
كان ذلك بعيد المنال بشكل عجيب، كمن يواصل الغرق في عمق الظلمات و هو يمد يده إلى شعاع الضوء الذي في السطح، محاولا بلوغه، بلا جدوى... |
__________________ سبحان الله و بحمده، سبحان الله العظيم
التعديل الأخير تم بواسطة ρsүcнσ ; 03-28-2017 الساعة 06:31 PM |