عرض مشاركة واحدة
  #20  
قديم 05-05-2017, 08:20 PM
 
تتساءل بصمت ........ ما ذنبها ؟؟ هل اقترفت ذنبا ؟؟ إنها لا ترى ذلك ولا تستطيع أن تفسر غضبه .
لسعت لفحات الهواء البارد جسدها الرقيق ، وبعثرت خصلات شعرها المجعد ... رفعت أناملها الرقيقة وحاولت لمه ، ثم شدت بردائها ، وقررت أن تأوي إلى فراشها .
كانت مخفضة عينيها ، والظلام يلف المكان ، أوراق الشجر تصدر حفيفا خفيفا ، وصوت طقطقة الخشب المشتعل تضج في رأسها . سارت بخطوات متلاحقة ، تعثرت مرارا وتكرارا ، لكنها لم تتوقف .
لم تكن واعية لتينك العينين الخضراواين تراقبانها وتتبعان خطواتها الواهنة ، كان يقف بجانب المنزل الذي تقطنه ودايزي ، يتوارى في الظلام لئلا تراه .

ما إن رأت البيت حتى أسرعت تجري ، تقطع درجاته الثلاث الصغيرة بسرعة ، ثم تتوقف برهة من الزمن تخرج مفاتيحها . في تلك الأثناء ترك ذلك الرجل مكانه وسار بهدوء حتى لا تسمع صوت خطواته ، وبهدوء شديد صعد الدرجات الثلاث ، ثم سار بروية شديدة ، وعندما أصبح خلفها ، مد يديه القويتين ، لتحيط إحداهما بخصرها ، والثانية لتكمم فمها .

شعرت بأن شخصا ما يراقبها ولكنها لم تعر الأمر أهمية كبرى ، لقد ظنته قطا صغيرا ، أو ربما هو حفيف الأشجار أو لربما هي محض تخيلات ، أو هذا ما كانت تتمناه ، إذ أصابها الفزع حالما وجدت نفسها سجينة ذراعين قويتين، وكرد فعل طبيعي ، بدأت بالرفس ومحاولة الصراخ ، سمعت الرجل يتكلم بهدوء ، فعرفت صوته ،رفعت عينيها إليه بهدوء وحدقت في أعماق الخضار الذي اجتاح عينيه ، ثم رفعت يدها وأزاحت يده عن فمها ، وهمست بصوت مضطرب :
_ ما الأمر ؟؟
توقعت منه برودا ولا مبالاة كالتي أبداها في الأيام الأخيرة ، لكن رد فعله فاجأها ، إذ ابتسم برقة ، وهمس :
_ هناك ما علينا التحدث بشأنه .
طرفت بعينيها ، وسألت بصوت مخنوق :
_ شيء يدعوك لاختطافي .
بدا أنه استمتع بكلمة ( اختطافي ) إذ ابتسم ابتسامة واسعة كشفت عن صف من اللؤلؤ الأبيض يركض في فمه ،
وكانت من الروعة بمكان أن خطفت أنفاس ميديا .
أمال رأسه للجانب قليلا ، وهمس بجد :
_ إنه لمن الأهمية ، بحيث يخولني خطفك والذهاب بك إلى آخر العالم .
_ حقا ؟!
أجابته باندهاش واستغراب ، فأي حديث ذاك الذي يفترض أن تجريه في منتصف الليل مع رجل يتصرف منذ عدة أيام وكأنها عدوته . رفعت عينيها الصافيتين وهمست بقلق :
_ أهناك من أصيب بأذى ؟؟
عاد وابتسم لقلقها ، ثم مد يديه وأحاط كتفيها ، وقال بهمس :
_ بل شيء أهم بكثير .
رفع رأسها ونظر في أعماق عينيها اللتين عكستا ضوء القمر فيهما ، أبصر تشابك يديها فعرف أنها متوترة ،
أنزل يديه وأمسك بيديها وباعد بين أصابعها ، ثم شبك أصابعه بأصابعها ، وهمس بحب :
_ إنه يتعلق بمستقبلنا !!



تثاءبت الشمس بهدوء على أعتاب أبواب مملكة الغيوم العتيدة ، وراجعت نفسها مرارا وتكرارا قبل أت تجرؤ على قرع تلك الأبواب ، فليس من السهل اختراق الحصار الذي فرضته الغيوم على مدينة الضباب ، التي تشمخ أبنيتها لتكون هي الوحيدة القادرة على تحطيم جبروت الغيوم المتزاحمة وسط السماء العالية.
ولكنها وبما تملك من رقة ، استطاعت أن تخلق بضع ثغرات ، فأرسلت بعضا من دفئها ، محمولا على أشعتها الذهبية ، تلك التي تفرقت في الشوارع والطرقات ، وعانقت ساعة بيغ بن ، وقرعت أبواب النيام من الناس ، وزارت قصور الأغنياء ، وبيوت الفقراء فلم تفرق بينهم .
تلك الأشعة الصغيرة كانت شجاعة ، إذ تجرأت ودخلت القصر الملكي من أوسع أبوابه ، ومن نوافذه الزجاجية العالية ، وألقت بدفئها على الكنب المزركش والسجاد الفخم ، والطاولة المزينة بمزهررية من الكريستال ، والورود الحمراء المتفتحة ، وعلى السيدة الجميلة الجالسة إلى الكرسي المنجد .
يبدو كل شيء وكأنه اختير بعناية فائقة ، وصمم ليكون الأروع ، وكذلك السيدة الجالسة بدت جزءا لا يتجزأ من المكان ، جميلة ، أنيقة وشديدة الثقة والاعتداد بنفسها ، وعلى فمها المرسوم بأحمر الشفاه ابتسامة عريضة راضية. كانت ترتدي زيا يبدو وكأنه فصل خصيصا لجسدها ، يمنحها الرشاقة والجمال ، ويكمل مظهرها لتبدو
وكأنها لوحة زيتية مرسومة بعناية فائقة .
تطلعت السيدة إلى أظفارها الملونة باتقان برضا ، ثم أنزلت يدها الرقيقة المزينة بسوار من الفضة ، وجذبت أطراف ثوبها فلملمته ، ثم عادت تحدق في أظفارها بملل ، وهي تهز برأسها لتزيح خصلات شعرها الذهبية عن عينيها الكحيلتين .

صوت أزيز خفيف ، أخبرها أن أحدا ما قد دخل الغرفة للتو ، فتركت أظفارها ، ورسمت على شفتيها ابتسامة ودودة ، ثم وقفت ومدت يدها للقادم ، صافحته بهدوء وسألته عن صحته ، فأجابها باختصار ، ثم أشار لها بيده أن تجلس ، ففعلت .

تطلع فيها بهدوء ، ثم همس بصوت متعب :
_ آنسة لوسيتا ، تعلمين أنني كبرت كثيرا ولم أعد قادرا بعد الآن على حمل أعباء المملكة ، ولهذا أرغب بأن يعود لي حفيدي ، ويستلم كل هذه الأمور ، حتى أنعم أنا بشيخوخة هادئة ، والقليل من راحة البال .

دققت المدعوة لوسيتا في ملامح وجهه ، له شعر غزاه الشيب حتى آخر شعرة فيه ، وعينان جليديتان شديدتا الزرقة ، والكثير من التجاعيد حول عينيه . تنحنحت قليلا ثم همست باحترام فائق :
_ سيدي ، أقدر حقا ما تحاول فعله في سبيل إنجاح حياة ابن ابنك الوحيد ، ولكن ألا ترى أن ما تفعله مبالغ فيه ؟
سألته باستنكار ، فأجال بصره في المكان وهمس ، دون أن ينظر إليها :
_لا ، لا أرى ذلك البتة .
استقرت عيناه على لوحة زيتية لرجل في مقتبل العمر ، يقف وقفة ثابتة ، ويبتسم باتزان . أطلق الرجل آهة من أعماقه ، ثم حول بصره فركزه على لوسيتا ، وقال بجد :
_ كاد أن يموت ، ماذا كنت لأفعل حينها ، أذرف الدموع كما سبق وذرفتها على ولدي الوحيد ؟؟
اهتز صوته ، وبانت المرارة في كلماته ، وارتسم الألم على ملامح وجهه الكهل ، وهو يتابع :
_ ولدي الوحيد ، والذي فرطت به .

أسرعت لوسيتا إلى الرجل العجوز ، جلست بجانبه وهمست بحنان :
_ لم يكن ذلك خطؤك ، لقد كان قدره أن يموت تلك الساعة .
اهتاج العجوز ، وضرب يد المقعد بقبضته ، وصرخ بصوته الجهوري العالي :
_ ولكن ، بإمكاني أن أحاول حماية حفيدي الآن .

أمسكت بيده وهدأت من روعه ، ثم طلبت منه أن يهدأ قليلا ، ومن ثم أسرعت تصب له كأسا من الماء وتسقيه إياه. بدا أنه هدأ قليلا ، إذ ابتسم ولكن بهدوء كبيـر ، مد يده الكبيرة وأمسك بأناملها الرقيقة ، وسألها متوسلا:
_ أيمكنك أن تقنعيه ؟؟
حدقت في عينيه ، فرأت فيهما بريقا خافتا ، شدها بقوة و أجبرها على أن توافق ، أمالت برأسها إلى الجانب قليلا
ثم قالت بصوت مشاكس :
_ شرط ألا تطلب مني أن أتزوجه .
ضحك العجوز مقهقها ، ورد بأنه لن يفعل ، فطلبت منه وعدا ، فوعدها ثم حدثها بابتسامة ودودة :
_ إنه حفيدي ووريثي ووريث عرش بريطانيا ، ولست أرغب بأن أترك هذا العرش لأحد غير أندريس ،
فأعيديه رجاء .
أظهرت الفتاة ملامح حزن مصطنعة ، وهمست بحسد :
_ ليتني ألقى نصف ما يلقاه أندريس من اهتمام .
ربت العجوز على رأسها وقال بهدوء :
_ لقد نلت الكثير من الدلال منذ مولدك ، والآن حان الوقت لتستغني عن بعضه لحفيدي الصغير .
ما إن سمعت كلماته حتى صرخت باحتجاج :
_ صغيــــر !!!! سيدي إنه قريبا سيبلغ الثلاثين من العمر .
لمعت في رأسها فكرة صغيرة شريرة ، فاقتربت من العجوز وهمست له بخبث كبير :
_ لقد عرفت سرك ، سيدي .
ارتبك العجوز وسأل باضطراب :
_ سر ماذا ؟؟
اقتربت منه أكثر وأكملت :
_ السبب الذي يجعلك تقول دائما إن أندريس صغير في السن .
هزت رأسها بشرر ، وبدأت عيناها تلمعان ، ثم اقتربت أكثر من العجوز ما زاد من توتره :
_ تريد أن يظن الجميع أنك لا زلت شابا ، اعترف يا سيدي أنت تريد أن تتزوج من جديد .
ارتاع العجوز لفكرة ارتباطه بامرأة أخرى فنهض مسرعا وأراد الخروج من الغرفة ، لكن لوسيتا ما كانت لتسمح له ، إذ أسرعت وسدت عليه الطريق ، وقالت بمرح :
_لا تقلق يا سيدي ، سأزوجك عروسا صغيرة وجميلة ، وستكون شديدة الأناقة والرقة والدلال .
ضمت يديها ، وأكملت بصوت حالم :
_ وستنجب لك أطفالا كثرا ، حتى يعمروا هذا القصر المهجور .
بدأت تتمايل بخفة وهي تسرد له كيف ستكون حياته :
_ سيركضون في الممرات ، ويغزون الاجتماعات ، ويتلفون أوراقك ، وسيعاقبون زوارك ، ويزعجون السائق العجوز ، ولربما يتلفون سيارتك الثمينة .
تقدمت إليه وعياناها تلمعان :
_ ولكنك مع ذلك ستكون سعيدا .
كان العجوز ريتشارد قد قارب على الموت ، إذ همس بصوت ضائع مشتت :
_أطفال ، وزوجة ، سيارتي ، قصري ......
نفض نفسه بسرعة وتقدم منها شاكرا إياها على محاولاتها في إسعاد حياته ومؤكدا لها على أن سعادته لا تكون إلا في عودة أندريس إلى القصر .
أمطرها بوابل من المجاملات ، عن إعجابه بفستانها وتسريحة شعرها ، فشغلت نفسها بكل هذا الم
رجاء ميديا أريد أن أنام، أرجوك .
_ لا دايزي ، هيا انهضي ، أريد أن أقيم حفلة قبل سفري غدا .
كانت كلمة (حفلة ) بمثابة سحر ألقي على دايزي ، التي قفزت من سريرها بسرعة شديدة ، وألقت بالغطاء على الأرض بفوضوية كبيرة ، ثم أسرعت إلى خزانة ملابسها واختارت ملابسها ، واتجهت إلى الحمام ، وهي تصرخ بحماس :
_ خمس دقائق فقط ميديا ، وسأكون جاهزة .

حدقت ميديا بسرير دايزي بعدم رضا ، صرخت بدايزي :
_ متى تتعلمين الترتيب دايزي ؟؟
أجابت دايزي بصوت عال ، تفوق على صوت الماء المندفع من الصنبور بغزارة :
_ أنا أتركه لك ميديا .
صمتت قليلا ثم عادت تسأل :
_ ميديا ، من سيصحبنا ؟؟
أجابت ميديا بصوت عال :
_ إنه كايل .
صرخت دايزي مهللة بفرح ، وأخذت تصفر وتغني احتفالا ، فكون كايل هو من سيأخذها فهذا يعني أن كل شيء سيكون على حسابه ، مأكلها ومشربها وكذلك ملابسها .
أطفأت دايزي الماء ثم خرجت من حوض الاستحمام ، لفت جسدها بمشفتها ، ثم فتحت الباب وخرجت ، فسألتها ميديا باستنكار :
_ ألم تأخذي ملابسك معك ؟؟
فكرت دايزي يديها بحرج ، واحمرت وجنتاها ، وهي تجيب بحيااء :
_ حسنا لقد اكتشفت أنها ليست مناسبة وحسب .
تنهد ميديا بضجر وحثتها على الإسراع ، فاستجابت دايزي لها بسرعة ، وانطلقت تتعثر في الأرجاء في محاولة منها لإيجاد ملابس مناسبة للخروج .
وقفت ميديا إلى الباب ، حدقت في الغرفة المبعثرة ، وفي الملابس التي تتناثر هنا وهناك ، وأصغت بانصات لصوت دايزي الصارخ المتذمر ، فابتسمت ، وفكرت : كم مر عليها من الوقت منذ عرفت دايزي ؟؟ إنها لا تذكر بالتحديد ولكنها واثقة من أنها شخص يمكن الاعتماد عليه ، لقد كانت لها خير الصديقة دائما ، وهي تعلم أنها ستحترم قرارها الذي اتخذته بشأن مستقبلها ، بل وواثقة أيضا من أنها ستفرح لها وتشجعها .



وبعيدا قليلا ، بل أكثر بقليل ، وبعيدا عن كل الأصوات والهمسات والنقاشات ، جلسا وحيدين ، لا يتكلمان
ينظران إلى الأمام ، يستمتعان بصوت السكون القوي ، لقد تغلب عليهما ففرض نفسه بكل أدب ، ملبيا مطلب قلبين صغيرين ،ملقيا بجو التوتر خلفه ، ومرحبا بالهدوء المصحوب معه .
جلست إلى جانبه ، لا ترى أحدا غيره ولا تسمع سوى صوت تنفسه ، ولا تبصر في هذه الدنيا غير عينيه،
شمسها في شعره الذهبي ، و قمرها في نقاء قلبه . وهو الآخر كانت حياته مرتكزة في ابتسامتها وحيويتها ،
وقلبه معلق ببراءة قلبها وطفولة حركاتها ، إنها تظهر الأمور على أنها بسيطة وسهلة ، وتريه أن العالم جميل .

علمت أنه يحدق فيها فقد شعرت بنظراته كلسعات تلسع جلدها الأسمر ،فتدافعت الدماء بسرعة شديدة ، وغزت خديها الرقيقين ، ولتخفف من التوتر الذي انتابها من جراء هذه النظرات الجريئة سألته :
_ كايل ، لقد قالت دايزي أنك درست الأدب ، ولكنك الآن مهندس صحيح ؟؟
ساءه أن قطعت عليه تأمله ، تنحنح في مكانه غير راض عن الحديث عن عمله ، ولكنه أجاب ليخفف من توترها الملحوظ فقط :
_ لقد درست الأدب بناء على رغبة والدي ، أما الهندسة فهي ما أجيده حقا .
هزت رأسها بهدوء توحي إليه أنها فهمت ، نظر إليها قليلا ثم سأل بمشاكسة :
_ من أين لك هذا الشعر الأحمر ؟؟
حدقت فيه باستغراب ، وسألت بعفوية :
_ ماذا ؟؟
فمد يده وجذب خصلات شعرها الحمراء ، وقال :
_ أسألك ، من أين لك هذا الشعر الأحمر ؟؟
جذبت شعرها من بين أنامله ، وتأوهت بخفوت وهي تصيح باستياء :
_ لقد آلمتني .
هز كتفيه بلا مبالاة ورد :
_ أنت هي التي لا تسمع ، وهذا جزاؤك يا صهباء .
اشتعلت غضبا ، ثم أدارت رأسها بقوة إلى الجهة المعاكسة ، وقالت بفظاظة :
_ أظل أفضل منك أيها القط الأشقر .
رد يغيظها :
_ أنا جميل ولهذا تغارين مني .
استدارت بسرعة ، وصرخت في وجهه باستهجان واستنكار :
_ أنت جميـــل ؟؟
مد لها لسانه وقال في ثقة :
_ أجل ولهذا تجري الفتيات خلفي ، في حين أنه لا يوجد شاب واحد يريدك .
بلغ لديها الغضب أقصى درجاته ، فزمجرت بغضب ثم صاحت وضربته على يده ، واستدارت محاولة النزول من السيارة الضخمة ، ولكن اليد لم تكن تستجيب لها ، إذ إنه كان قد أغلق السيارة ، عادت واستدارت ناحيته وصاحت في وجهه بغضب :
_ افتح الباب وإلا كسرته .
سألها بهدوء وهو ينفذ مطلبها :
_ أتريدين أن يكسر أندريس عنقي ؟؟
أجابت بشر :
_أجل ، بل أتمنى أكثر من ذلك ، أتمنى أن يطعمك للكلاب الجائعة .
سألها مغيظا إياها مجددا :
_ ألا تخافين على وجهي الجميل ؟؟
ردت بحنق :
_ لا بل أخاف على الفتيات الجميلات اللاتي يحببنك .
وهمت بالنزول ، لولا أن يديه التفتا حول خصرها النحيل ، وأعادتاها إلى السيارة كرها . أخذت تصرخ وتصيح به أن يتركها ، وتردد عبارات ، كأنها أخطأت وركبت معه ، وأنها تكرهه ، وغيرها الكثير .


كان أقوى منها بكثير إذ خلرت قواها بينما هو لا يزال بكامل قوته ، صاحت به بلهجة انهزامية :
_ حسنا ، حسنا ، لقد انتصرت اتركني الآن .
أدارها نحوه ، وأمسك وجهها بين يديه القويتين ، ورفعه لتقابل عيناه عينيها الخضراوين ، حدق في أعماق خضرتهما ، وهمس بهيام :
_ لا شاب يقترب منك لأنهم يعلمون أنك لي ، وأنني حبيبك وأنني سأحطم رأس كل واحد فيهم يحاول التقرب منك.

رفعت عينيها ونظرت إليه غير قادرة على الكلام ، حدقت في وجهه بهدوء ، ثم همهمت بكلمات غير مفهومة،
رفعت يدها ومسحت على جبينها بهدوء ، شعرت بأنه لا يزال يحدق بوجهها فاحمرت ، وصرخت بخجل :
_ حسنا ، يكفي هذا !
_ أجل ، بالفعل إنه يكفي !!
أجفل الاثنان لسماعهما هذا الصوت ، فالتفا بسرعة وحدقا بالفتاة الجالسة إلى الكرسي الخلفي للسيارة ، تساءلت صوفيا بهمس :
_ منذ متى وأنت هنا ؟؟
أجابت دايزي بدون مبالاة :
_ منذ وقت كاف .
رفعت جسدها عن المقعد الوثير ، واعتدلت في جلستها ، ثم رفعت قدمها اليمنى فوق اليسرى ، وأخذت تهزها بدلال ، وتتساءل بهدوء :
_ متى ؟؟
حدق كايل فيها متسائلا ، غير قادر على فهم ما ترمي إليه ، قطب حاجبيه ، وتجهم قليلا ، سائلا :
_ متى ماذا ؟؟
أطلقت دايزي زفرة قصيرة ، عبثت بغرتها الذهبية ، ثم شدت أطراف قميصها لتسويه وهي تجيبه بعفوية:
_ زواجكما ..
حدقا فيها بذهول ، وسألا بذعر :
_ ماذا ؟
أجابت بقليل من العصبية :
_ زواجكما ، زفافكما ... أو أيا كان اسمه .
حدقت فيهما بتشكيك ، وسألت :
_ أم أنكما تريدان أن تبقيا هكذا إلى الأبد ؟؟
مد كايل يده ، فأمسك أذنها ، وجذبها بهدوء :
_ لا يجب على الصغار أن يتدخلوا فيما لا يعنيهم ، هل فهمت ؟؟
ثم تركها ، وهي تتأوه ، وتدلك أذنها وتصرخ فيه :
_ أنا أكبر منك ، في حين كنت تذكر .
_ لا يهمني ، أين ذهبت صديقتك تلك ؟؟
شدت على يديها وأجابت مغتاظة :
_ إنها ستأتي بعد قليل .
أطلق تنهيدة ارتياح ، أرخى ظهره إلى المقعد ، وزحف بهدوء إلى الأسفل قليلا ، ثم انتشل النظارات المعلقة في طرف قميصه ، وغطى بها عينيه ، وذهب في سبات ليس بالطويل .



الغرفة الساكنة تسبح في ظلام مخيف ، لا يخترقه سوى ضوء جهاز الحاسوب الموضوع على طاولة خشبية فخمة في وسط الغرفة ، يبدو الأثاث قديما وقيما جدا ، وهناك رائحة غريبة تسيطر على الجو ، رائحة خانقة بعض الشيء ، تبدو خليطا من عطر وسجائر ، أما الصوت الوحيد الذي كان يصدح في الغرفة ، فهو صوت النار تلتهم الأغصان الجافة في الموقد المذهب، الذي اعتلته صورة ضخمة لكهل في أواخر الثلاثينيات من عمره،
يحمل في يده كأسا زجاجية كبيرة ، عبئت بالقليل القليل من شراب أحمر اللون ، يرسم على فمه ابتسامة خبيثة ، يرتدي بدلة رسمية ، ويضع يده الخالية في جيبه ، وقفته توحي بالثقة الشديدة بل بالغرور الشديد .

وعلى الكرسي الوحيد الموجود في الغرفة جلس رجل شديد الهيبة والدهاء ، يشبه الرجل الموجود في الصورة إلى حد كبير ، بل إنه نسخة طبق الأصل ، إلا أنه أكبر قليلا في العمر ، كان يحمل في يده ذات الكأس ، وفيها ذات الكمية القليلة من الشراب الأحمر نفسه . وضع عنق الكأس بين أصبعيه ثم رفعها بهدوء حتى أوصلها شفتيه،
ارتشف الشراب كله على جرعة واحدة ، ثم ترك الكأس لتتهاوى من بين أصابعه ، دارت الكأس حول نفسها
وقبل أن تصل الأرض لمعت لتكشف عن عينين خائفتين تترقبان بفزع ، من ثم تحطمت أشلاء وانتشرت منثوراتها على أرض الغرفة .
تنحنح الرجل الجالس بثقة ، وأرخى يديه على جانبي الكرسي ، وهو يهمس بصوت مخيف ، بعث الارتجاف في نفس الرجل النحيل الواقف أمامه :
_ لماذا عدت ؟؟
تهاوى الرجل النحيل على الأرض واقترب من قدمي سيده بارتجاف يطلب عفوه ويستسمحه ، كان يتكلم بسرعة
ويتعثر كثيرا في كلامه ، ويتمتم بكلمات غير مفهومة . رفع الجالس يده موحيا للرجل النحيل بأن يصمت ففعل على الفور ، ثم عاد الجالس فقال بمكر شديد :
_ لقد عفوت عنك .
ارتجف الرجل النحيل من الفرحة ومن هول الصدمة ، فلم يسبق أن عفا هذا السيد الطاغية عن أحد خيب أمله،
وأسرع يقف ، ويتلو كلمات الشكر والعرفان والجميل على السيد الجالس ، ظل يشكر ويشكر حتى صاح به السيد أن يصمت ، فالتزم الصمت ، تمتم السيد بكلمات بانت وكأنها كلمات رضا ، ثم سأل بضجر :
_ كيف هربت من الشرطة؟؟
تمتم النحيل بهدوء دون أن ينظر لعيني سيده :
_ أنا رجل نينجا يا سيدي ، ولست مجرد قناص .
أخرج السيد سيجارة طويلة من جيب ستره وألحقها بولاعة ، ضغط على الولاعة مرتين فخرج منها لهيب خفيف، وضع السيجارة في فمه ثم قرب الولاعة منها ، وعلى الفور خرج خيط من دخان رفيع منها ، التمعت عيناه بغير رضا وسأل :
_ أنت نينجا ، وهذا يعني أن عليك أن تكون دقيقا ، أليس كذلك ؟؟
هز النحيل رأسه بسرعة ، وقد بدأ التوتر يسيطر على جسده ، وقطرات العرق تنساب على جبينه ، يريد أن يمسحها ولكنه يخاف أن يمسحه هذا الوحش عن قائمة الأحياء ويضيفه لقائمة المفقودين خاصته ، إن فعل ذلك .
ديح ونسيت الباب ، اغتنم هو الفرصة وانسل مسرعا خارجا من الغرفة ، سائلا الله ألا يجمعه مع هذه الفتاة مرة أخرى ، إلا إذا كان في أمر يخصها هي وليس هو .


__________________
]ما أجمل أن تبقى القلوب على العهد و الوعد
حتى و إن ... طالت المسافات
و إن غابوا الأحبه ... فلهم فى الخيال لقاء?? !؟
رد مع اقتباس