آل رومانوف
السماء من فوق كانت رمادية ؛ تهطل الأمطار دون كلل ، البرق والرعد لم يكن إلَّا عامل خوف لهذه الرحلة السيئة !
أنيت أخذت تسير بـ محاذاة ديفون ، حذائها الأسود توغل في الوحل وجسدها الهزيل حاول مصارعة الرياح الريفية ، فالطائرة وجدت نفسها في إحدى القرى الفرنسية المنبوذة ، ولحسن الحظ ؛ قلعة فرنسية قديمة كانت على مقربة منهم
ـ هاك !
مدَّ ديفون يده نحو أنيت ، هي في المقابل حاكت حاجباها بإستغراب ، ديفون حرَّك عيناه بضجر وسحب يدها بالإجبار وأخذ يزيد من سرعة خطاه ليوازي باقي الرَّكاب في السير
ـ إن بقينا على هذا المنوال سنضطر للمبيت في العراء !
لكنتُه البريطانية كانت ثقيلة ، وربما هذه أول مرةٍ تُحادث أنيت شابًا من أوروبا ولكنهم حقًا غريبين ، هذا ما اقتنعت به منذ فتح باب غرفتها لـ ديفون المبتسم .
صوت العاصفة كل ما يسمع ، أنيت بقت متشبثة بيد ديفون وهو حاول مجارات الباقي دون كلل ، تبقى القليل من الوقت لتغرب الشمس من عند الأراضي الفرنسية ويغدو الليل سيد المكان ، ومن أعلى سفح الجبل الأخضر ـ الذي وقفوا عليه ـ تضاريس قلعةٍ رمادية قد شعَّت كما لو أنَّه مصدر النور ، أخذ الرُّبان ومضيفات الطيران بالجري أسفل السفح ليتأكدوا من أن القلعة مأهولة بالبشر وتبعهم بلهف باقي الرُّكاب.
.
.
.
لافتة خضراء قد سقطت بجانب شجيراتٍ متراصة بالكاد تُرى ، أنيت أفلتت قبضتها من يد ديفون ، هو نظر لها بغرابة وتعجب ، في حين أنيت طلبت منه إكمال الطريق ، ديفون امتثل لطلبها وأخذ يسير مع البقية لا خوف عليها الآن بما أن القلعة أمامهم بأمتار ، فقد اتضح بأن هذه القلعة معلمٌ تاريخي ، وكان أصحاب المكان أكثر من سعداء لإستقبالهم لحين طلب المساعدة.
أنيت ركضت صوب تلك اللافتة المكسورة ، بل تمعنت بالقاعدة ، لم يكن كسر وهذا أكيد ؛ فالخشب تساوى كمن قطعه بمنشار ، قرفصت أنيت وبدأت بالغوص في الشجيرات حتى رأت اللافتة بالكامل أمالت رأسها لليمين قليلًا وبدأت بقراءة المكتوب
" آل رومانوف " ، تمتمت تلك الكلمات ، ولكن قبل ذلك الاسم كان هناك كلمةً أخرى قد مسحها أحدٌ ما ، لم تستطع قرائتها أو حتى تركيب معناها فقد محيت بالكامل ، تنهدت أنيت بملل تظن لحاق البقية أفضل من الجلوس أسفل المطر .
.
.
.
وقفت ذات الشعر الأسود في بهو القلعة ، اكتظ المكان بالرُّكاب والجميع يصرخ ويتدافع ، لم تملك أنيت أدنى فكرة لما يحدث لذا انسحبت بالتدريج من تلك القاعة نحو أقرب بابٍ قد تراه ؛ ممهلة لباقي الركاب بعض الوقت ليتمالكوا أعصابهم ، لم ترَ ديفون في تلك الساحة ولم تكن خائفة بشأنه ؛ فهذا هو آخر ملجأ له !
دَخَلت أنيت ممرًا آخر ، كان طويل والظلام اكتساه ليعطي طابع بأَّنه دون نهاية ، كانت تسير بهدوء في المكان يعتريها الفضول لرؤية المزيد من هذه القلعة التاريخية ، فهذا ما حفَّزها في عالم الفن ؛ الرخام قديم باللون الرمادي ، أرضه مزيَّنة بالسجاد الأزرق البارد ، طاولاتُ مطولة بين كل ثلاثة أمتار تجلس عليها فخارٌ عريض وعميق بداخله وورود طبيعية قد قطفت في الآونة الأخيرة ، كان ذلك مشبوهًا بعض الشيء فـ أنيت لم ترَ أي حقل ورود قريب من هذه القلعة ولكنَّها أكملت طريقها ؛ لـ ربما هناك حديقة صغيرة في داخل القلعة تحوي ورود ، الستائر ذهبية وسميكه ساعدت على إبراز النوافذ الطويلة ، قطرات الماء التصقت بالزجاج و تراقص الشجر المتهور دلَّ أن العاصفة مازالت قائمة حد الآن
ـ ماذا تفعلُ آنسةٌ مثلك في هذا المكان البائس؟
فزعت أنيت فهذه طبيعتها ، جبانة لا أكثر ! التفَّت نحو صاحب الصوت ، رجل في منتصف الخمسينات ، يرتدي ملابس قديمة وأثرية ، ملك طابع فرنسي ولكنته أفضحت أنَّه من سكان المنطقة المحلِّية ، يبدو بأنَّه من عمَّال القلعة ، هذا أول ما خطر في بالها
ـ أتجول فقط ...
ـ وهل لفت نظرك شيء ؟
صرَّح بلكنته ، أنيت نظرت لعيناه البنية بعمق ومن ثم لمحت إطارًا خلفه ، رفعت ناظرها لتأخذ نظرة جيدة لهذه الرسمة ، اقتربت ببطئ نحوها منذهلة من هذه التفاصيل ، الدقة ،لألوان ، ملمس الصورة ونوع الإطار استطاعت أن تحلل كل شيء بها في ثوانٍ
ـ هذه منذ الحرب الأولى أليس كذلك؟
ابتسم الرجل الفرنسي المجهول وطأطأ رأسه بإيجاب ، التفت هو الآخر ليرى الصورة معها ، كانت فتاةً فاتنة المنظر ، تحمل أزهارًا وترسم بسمةً على وجهها ذي المعالم البارزة ، حنكها مثالٍ ونحيل ، بشرتها بيضاء وعيناها زمرديه أرجعهما لعينا ديفون الساحرة
ـ إنّها الكونتيسة مارغريت ، كانت تقطن القلعة هربًا من الحكم آن ذاك ... فقد هربت مع عشيقها الإنجليزي وأخذت قلعة الرومانوف مأوى لها !
حرَّكت أنيت ناظرها بسرعة نحو الرجل وفتحت فمها ، شعرت بالقشعريرة تسري في جسدها نافيةً ذلك الشعور على جنب اقتربت أكثر
ـ اسم هذه القلعة رومانوف؟
ـ نعم يا آنسة ...
توقفت أنيت عن الحديث وعادت لتنظر نحو اللوحة الجميلة ، رأى الرجل مدى اهتمامها بهذه القطعة الفنية ومن ثم اقترب صوب اللوحة أكثر
ـ الكونتيسة مارغريت كانت في غاية الجمال ، رجال من جميع أنحاء أوروبا آتو لطلب يديها ولكنَّها رفضتهم من أجل شابٍ إنجليزي فقير ، جلبت العار للعائلة وكانت علاقات اللدولة آن ذاك متوترة ؛ لذا اضطرت للفرار معه لهذه القلعة ، لكن الأمر لم يتحسن عندها ، فقد قُتِلت الكونتيسة بعد رفضها ترك الإنجليزي ، وذلك الجبان اللعين فرَّ هاربًا ولم يرِ وجهه لآخر الدهر بعد موتها !
كان المكان هادء وحتى ضجيج الرُّكاب ما عاد يسمع ، أنيت ألقت نظرة سريعة اتجاه الرجل وابتسمت بغرور
ـ يبدو بأنك تكره الإنجليزين !
ـ أمقط آخر قطرة دمٍ في جسدهم
السخرية لفت معالم وجهها ، كم تاقت لوجود ديفون في هذا الممر لتتطاير تلك الشرارات بينهم
ـ أنيت روز تشرفت !
مدَّت أنيت يدها بإتجاه الرجل الفخور ، وهو بالمقابل مدَّ يده ليصافحها بإبتسامة تواضع
ـ جون رومانوف ... ولي الشرف يا آنسة !
انحنى الرجل قليلًا وقبَّل يدها بكل سلاسة ، أنيت لم تشعر بشيء لا لمسة يده أو قبلته وربطت الأمر بدرجة حرارة جسدها المتجمدة ، ابتسم جون من جديد ولوَّح لها بتواضع قبل الرحيل
ـ أتمنى لك يومًا سعيدًا يا آنسة روز !
ابتسمت أنيت مجددًا وهذه المرة بلطف ومن الخلاء صُفِقَ باب الممر ليبدي جسد ديفون الطويل والقلق يحوم حوله ، أنيت قفزت من الفزع وركضت نحوه قبل أن يباغت بالحديث بلكنته تلك
ـ أين ذهبتي ؟ لقد خرجت للبحث عنك ... كان عليك إخباري بأنك هنا !
أنَّبها كما تفعل الأمهات ، أنيت التفتت بسرعة ناحية الممر وتأكدت من رحيل جون رومانوف ومن ثم سحبت نفسها من الغرفة مع ديفون ، ولكنَّ الأفكار بدأت تواتيها ، رومانوف هل يعقل بأنَّه من أصحاب هذه القلعة؟ تلك الأسئلة تطايرت في رأس أنيت.
ـ لا تبالغ ... ماذا حدث إذًا؟
كتفت أنيت يداها تنظر للقاعة بعد خروجها من الممر، ديفون أطلق تنهيدة مطولة وأشار لسلالم حجرية قد أنارها شمع معلق على جدار القلعة
ـ يوجد غرفٌ شاغرة في القصر وتكفي الجميع ، لذا سنبيت هنا إلى حين التواصل مع المطار أو الشرطة !
ـ يبدو جيدًا ... !