*** الفصل الثالث ***
لم يكن يظن يوماً أنه سيتخذ قراراً كهذا ... فهو لم يثبت في حياته على شيء واحد ... حتى مرارة قهوته أو
حلاوتها متروكة للقدر ... أفكاره دائماً متضاربة مهتزة كورقة شجر خريفية ذابلة تكاد تودع موطنها ... لكنه
تشبث بما يريده هذه المرة بقوة ... و لو كان هذا يعني الوقوف ضد صديقه روبرت ... و الآن يعتمد الأمر على
مدى تقبل صديقه للأمر . بدا كأنهما طفلان كل منهما يشد طرف الحبل ناحيته ان لم يتراجع أحدهما
ينقطع ذلك الحبل ...
وضع هدفاً أمامه بحماية رايان و تغييره ... بطريقة ما يشعر أن الحياة عوضته قليلاً و كأن الماضي قد عاد و تلك
هي فرصته ليتخلص و لو من جزء قليل من ندمه ...
جمع أغراضه و معها شتات نفسه متهيئاً لمغادرة المنزل الذي جمعه مع أصدقائه دون أن يفكر في وداع أحد ، كين
و ايان لم يعودا يهتمان له بالفعل بل و يتصرفان معه بقسوة لكنه يقابلها بجدار من السخرية قد ينهار بأي لحظة
كاشفاً عن شفقته للحال التي وصلوا اليها جميعاً منذ موت سام .. روبرت لم يعد للمنزل بعد فهو يقضي أغلب
الوقت في مكتبه المتواضع في الميتم لعله يتناسى العالم الذي حوله و بكل حال لم يكن نايت
يريد رؤيته بعد التوتر الأخير الذي حصل بينهما ... أما جيمي يثق بأنه لن يصعب عليه ايجاده و سيراه قريباً ...
لذا غادر بصمت .
الحياة تشبه دواخلنا ... و كلاهما كالفصول الأربعة يتغير باستمرار مع مراحل انتقالية ... من ربيع الحياة و أمل
نسماته و سماءه الصافية ، الى مشاعر الصيف الدافئة ، ثم الخريف الكئيب الذي تتساقط فيه تلك المشاعر كأوراق
ذابلة دون أثر خلفها ... لنصل الى آخر مرحلة ... الشتاء البارد حاملاً معه ثلج ديسمبر العاصف ... مرحلة
يتجمد فيها كل شيء رافعاً راية الاستسلام البيضاء غير مبالٍ لشيء ...
في تلك الليلة الخريفية حيث بدأ الشتاء يلف وشاحه معلناً عن قرب وصوله و مهيأً لنفسه بنسمات باردة تتسلل
بخفة الى رئتي ذلك الشخص الذي بدا جزءاً لا يتجزء عن الليل نفسه موحياً بظلامه لكل من يراه متناسباً به مع
اسمه ( نايت ) ( الليل ) ... شعره الأسود الذي بعثرته تلك النسمات و عيناه باللون الداكن ذاته ... و لولا ضوء
القمر المكتمل تلك الليلة لما استطاع أحد تمييزه ...
وصل الى وجهته ... كعادته لا يحب طرق الأبواب ... أخرج سلكاً حديدياً صغيراً من جيبه ... و خلال دقائق سمع
صوت انفتاح القفل و هو يفكر بغرابة تصرف صاحب المنزل الذي يعلم أنه مستهدف و مع ذلك لم يتعب نفسه
بإضافة أقفال اضافية تمنحه مزيداً من الأمن ... بل كان يجب أن يغير مكان سكنه من الأساس ! ...
دخل ليرى رايان مستلقياً على الأريكة بإهمال مغطياً عينيه بذراعه ... انحنى قليلاً و اقترب منه يعبث بشعره
الأزرق الداكن ... فانتبه الآخر و أنزل ذراعه لتبدو عيناه الرماديتان ذات اليأس الواضح مع نبرة احتوت اليأس
ذاته و الهدوء ( نايت ... )
شبح ابتسامة حنونة ارتسمت على نايت ( نعم ... لقد عدت كما أخبرتك سابقاً )
( لم أظن أنك ستفعل )
قطب نايت جبينه بانزعاج و غضب مصطنع ( مهلاً أنا أفي بوعودي يا هذا ! )
ابتسم الآخر قليلاً و هو ينهض ( يا هذا ؟! ... يبدو أنك نسيته ... لا بأس ، انه رايان ... أو بقاياه )
ضيق نايت عيناه و هو يتفحص رايان بنظراته ... هز رأسه كنتيجة عن تفكيره ( بقاياه تقول ؟! ... و مع ذلك لا
أظن أن أمامي الكثير من العمل لتغيير شخصيتك هذه ! ، يبدو أنك لم تحظى بعد بشرف كونك مجنوناً أحياناً ، لكن
لا تقلق بضعة أيام تكفيني لتغييرك ! )
جره من ثيابه نحو سطح المنزل ( ستختنق و تموت ان بقيت هكذا ! ... الجو رائع في الخارج لنجلس قليلاً في
الأعلى ... )
تحدث رايان بتوتر و صوت منخفض ( لكنه بارد ... )
ضحك الآخر بخفة و هو يرجع رأسه للخلف كعادته حين يضحك باستمتاع ( مهلاً لقد أردت أن تنتحر سابقاً و الآن
تخاف البرد ! ) صمت قليلاً ثم أكمل بنبرة حادة و جادة ( و ان يكن ؟! انه مجرد برد ! لا يمكنك العيش ان
بقيت خائفاً هكذا من كل شيء ... لا تعش بداخل سجنك الخاص ! ... فالحياة ستجبرك على التغير دائماً ... تعلم
أنك ان بقيت ضعيفاً و يائساً سيقتلك ظلك كما حاول سابقاً ! )
جلس كلاهما على سطح المنزل بهدوء و صمت يحدقان بالقمر المكتمل بينما غاص كل منهما بداخل أفكاره ... رايان
يفكر بمدى حماقته لثقته بحبيبته التي سلبته كل شيء ، حياته التي تحطمت و انهارت تماماً ... هو كان وحيداً من
الأساس لا يملك سواها ... و الآن حطمت قلبه و رمته كأنه لا شيء ... ،
بينما نايت كلما ابتلعته الوحدة كما الآن لا رنين في ذكرياته سوى إسم صديقه " سام " ، يتذكر ذلك اليوم حين
أهداه صندوق الموسيقى الصغير الذي تنبعث منه مقطوعته المفضلة الكلاسيكية و تحفة بيتهوفن هادئة القسمات
" ايليز " ، تلك التي كان سام يعرف جيداً مدى هيام صديقه نايت بها ، و لطالما أخبره أنه أحبها ربما لأنه
يشبهها فهي تمزج بين هدوء في بداياتها ثم لحن متصاعد قليلاً يرمي ما تحلى به من غموض ، و هذا
كان رأي نايت بها أيضاً فلطالما لمح فيها شيئاً من التناقض الممتزج بطريقة لم يلمحه فيها سواه .
ذكرياته السعيدة مع سام كعادتها لا بد لها أن تستكمل نفسها بسرد مشهدٍ لا ينساه ... و كأنه جالس أمام شاشة
عرض تكرر المشهد ذاته دائماً ... موت سام أمام عينيه ... عدم قدرته على فعل شيء و جهلهم جميعاً و حتى
الآن بالشيء الذي أضعف سام وقتها معطياً فرصة الى ظله ليقتله ! ...
بدأ الأمر قبل سنتين ... حين اكتشفوا أن طفلة من الميتم بالكاد أتمت ربيعها السادس مصابة بمرض خطير سيقتلها
ان لم تخضع للعلاج المرتفع الثمن ... هم بالكاد استطاعوا الحفاظ على استقرار الميتم
ليس و كأنهم امتلكوا ما يكفي لذلك العلاج ... حينها بدؤوا جميعاً بالبحث عن أعمال و وظائف اضافية ... مما كان سيرهقهم تماماً و حتى مع ذلك لا يمكن ضمان توفيرهم المبلغ اللازم ...
اختار روبرت طريقاً آخر يعلم جيداً أنه سيحصل منه ما يريد ... أدخل نفسه مع بعض العصابات و أخذ مهمة رآها
مثالية له ... اغتيال أحد رجال الأعمال الفاسدين ... فهو لطالما عُرف بفعله أي شيء ليصل الى هدفه لذا لم يهتم
حقاً لكونه سيقتل ان كانت ضحيته تستحق ذلك ... لم تكن حياة شخص باع انسانيته تعني له شيئاً خصوصاً مقابل
حياة طفلة يتيمة بريئة ...
و هكذا ... كانت لديه مهلة لاسبوع بعدها ينفذ مهمته و يتلقى ما يحتاجه ثم يسدل الستار و ينسى ما فعله ... أو
هذا ما ظنه ، فصديقه سام خالفه كثيراً حين علم بالأمر ... لا يريد أن يرى صديقه يتحول لقاتل أمام عينيه و مهما
كان السبب فهو يعلم أن شخصاً مثل روبرت ببروده و قسوته التي قد تسيطر عليه أحياناً سينجرف وراء ذلك ...
ان فعلها مرة سيكررها مجدداً و مجدداً الى أن يفقد نفسه و يفقدوه هم ... تشاجر معه كثيراً و لم يكن من الآخر الا
أن يجبر نفسه على الاقتناع ...
ذهب سام مع نايت الى مهمة عمل في مدينة أخرى بناء على طلب روبرت ... فهو أراد ابعاده بعد أن استشعر قلقه
و أرسل معه نايت لئلا يكون وحيداً ... كان من المفترض أن تستمر رحلتهما لاسبوع ... اسبوع يفكر فيه روبرت
و يقرر بعيداً عن وجود صديقه الذي يوقفه ...
شعر سام بالارتياح حقاً كونه أبعد صديقه عن فعل شيء سيء ... كان متفائلاً بقدرته على جمع مبلغ العلاج ...
تفائلاً قد لا يكون في محله و هذا ما كان يعلمه الجميع ... بعد ثلاثة أيام صار يعاني من كوابيس سيئة جداً ...
ساءت صحته بسببها فبدأ يتغيب مجبراً عن العمل و امتد الأمر لسوء حالته النفسية أكثر بسبب مرضه و عجزه عن
توفير المال ... لكنه كان كتوماً لا يحب اثارة قلق من حوله ... لذا لم ينتبه نايت للأمر ...
و لو أنه انتبه ربما لاستطاع التخفيف عنه و منع ما حصل ...
بعد انتهاء نايت من عمله عاد مسرعاً الى شقتهما الصغيرة ... فهو قد ترك سام المريض هناك ... عاد ليصدمه
المنظر الذي أمامه ... قيده خوفه كسلسلة التفت حوله بقوة تمنعه عن الحركة ... تراجع للخلف و تجمد في مكانه
و هو يرتجف كطفل وحيد يصغي برعب لصوت الرعد ...
لم يجرؤ على الاقتراب من سام الذي يحاول كتم صرخاته و ألمه بعد أن التف ظله الدامي حوله مستنزفاً حياته ...
دقائق فقط ثم انتهى الأمر فانهار سام ... عندها فقط استطاع نايت الاقتراب ليتلقى صديقه قبل أن يسقط على الأرض ...
و حتى هذه اللحظة ... هو لا يستطيع نسيان برودة الموت التي شعر بها حين كان جسد صديقه بين يديه ... لم
تكن برودة مادية بقدر كونها معنوية ... و هذا أشد قسوة ... هكذا رحل صديقهم المحبوب سام دون معرفة سبب
منطقي لذلك حتى الآن ... دون معرفة سر كوابيسه و انهياره الذي أفسح المجال لتجسيد شر ظله .
ساءت حال الجميع بسبب ذلك ... انهارت علاقة نايت مع كين و ايان فهما حملاه جزءاً من المسؤولية ... لو أنه
انتبه أكثر لاستطاع منع انهيار سام ، تهدأته و انقاذه ... لكن نايت لم يدافع عن نفسه حتى ... اكتفى بإكمال
الحاجز الذي بدؤوا ببنائه ... هم كانوا يلومونه و هو يستفزهم بسخريته ، دون أن يعلموا أنها ليست سوى قناع
متصدع قد ينهار بأي لحظة ، روبرت لم يقل شيئاً و لا أحد يعرف حتى الآن أفكاره الباردة الغامضة ... أما الوحيد
الذي كان يدعمه حقاً هو جيمي الذي استطاع رؤية الألم خلف كل ما يدعيه ... جيمي الذي كان يسمح دموع
صديقه قبل أن يبكي ... يمد له يده لينهض قبل أن يسقط و يبتسم له قبل أن يكتأب ...
موت سام قلب حياتهم و عالمهم تماماً ... و مع ذلك ما كان أحد ليتخلى عن الطفلة المريضة ، ... لم يعد هناك
من يوقف روبرت أو يمنعه لذا اتخذ من مرض الفتاة و حاجتها للعلاج عذراً منطقياً لتفريغ غضبه المكتوم ... و في
ليلة داكنة قام بمهمته بسرعة دون أن يفكر بالأمر مرتين ...
انساب شعره الأسود على عينيه الذهبية الملتمعة و هو يقبض على منجله الأسود مع ملامح باردة لشخص لا يبالي
لشيء ... أدار سلاحه بخفة معلناً عن تدفق السائل القرمزي من جسد ضحيته ... و انتهى الأمر تماماً ...
لم يكن الأمر بالسهولة التي يتخيلها فهو لم يستطع نسيان الأمر لمدة ... الأمر كما قاله سام تماماً ... أصابه
الخوف من نفسه كونه قد يتحول لقاتل حقيقي لذا صار يرفض القتل لكنه لم يمانع بقبول بعض مهمات العصابات
الصغيرة ذات الأجر المرتفع خلال وقت قصير ... الى أن تسلم طلب قتل رايان من قبل الفتاة التي كانت حبيبته ...
لسبب ما غامض و لأهداف خاصة وافق عليه و أرسل نايت ...
التعديل الأخير تم بواسطة Rin067 ; 06-04-2017 الساعة 11:30 AM
سبب آخر: التنسيق
|