رواية من تأليف IRuMI الغالي
مجاهل القلب الثائر
وقف " رودلف" في شرفته كالعادة، تطلع إلى الأفق وقال مخاطباً مساعده " بيل" بلهجة آمرة:
- بيل، هيا تعال معي، سنخرج!
أجاب بيل بقلق:
- لكن سيدي!! لقد خرجنا بالأمس بما فيه الكفاية .. وخرجنا أول الأمس و..
التفت رودلف ونظر إلى بيل وقد ظهر الضجر على وجهه ثم قال مقاطعا كلامه:
- سنخرج اليوم أيضا .. لأنني لم أكمل رسم لوحتي ..
- لكن سيدي ..
- هذا أمر .. هيا بنا ..
على جوادين أصيلين خرج الأمير الشاب " رودلف " ، يتبعه "بيل" الرجل العجوز القوي، الذي أشرف على تربيته وتعليمه كل ما يلزم ليصبح أميرا نبيلاً ..
كان الأمير رودلف شاباً وسيماً وقوياً، لديه شعر بني وبشرة بيضاء وعينان زرقاوان جميلتان وأنف مستقيم،، لم يفتقر إلى شيء من مقومات الجاذبية، يجيد عمل معظم الأشياء، كما أنه فارس مخضرم وقناص محترف،، لكنه كان انطوائيا وهادئا،لكن المشكلة كانت فيه، فلم تلفت نظره فتاة، وقد تخطى عمره الخامسة والعشرين وهو مشغول بالصيد وتعلم فنون الرسم الذي يعشقه ... وكان ذلك كل ما يشغل تفكير والده الملك إدوارد حاكم مملكة "روكستراندس" العظيمة .. أن يعثر على الفتاة النبيلة المناسبة ..
حمل الأمير رودلف أدواته الفنية ووضع لوحته عند ذلك البئر القديم في إحدى الحقول المهجورة،، كانت هناك أشجارا جافـّة ورمال، وذلك البئر القديم يقف وحيدا وسط ذلك مع دلو صدئ، فكر "بيل" بيأس وهو ينظر إلى المكان الذي يزوره للمرة الثالثة ولا يجد فيه أي فن أو إبداع،، فهو في نظره أسوأ المناظر على الإطلاق والبقاء في ذلك المكان الموحش .. كان سيئا بالنسبة له ..
وكان ذلك على العكس من رودلف الذي كان يستمع بوقته، غير مبال ببرودة الجو والريح التي تحمل الغبار في طيـّاتها العاصفة .. كان مندمجاً جدا وشغوفاً بما يفعله ..
قال بيل باستسلام:
- سيدي، سأتمشى قليلا حتى ذلك التل ..
لم يرد رودلف وكان يركز على دمج اللون الرمادي بطريقة واقعية فأعاد بيل كلامه بشكل مختلف:
- سيدي،، سأتمشى قليلا هنا أو هناك .. هل تسمعني ...
لم يبد على رودلف أنه سمع شيئا ولكنه قال بعد ثوان:
- حسناً ..
ابتعد بيل عن سيده الأمير، وبقي رودلف يرسم حتى بدأت الشمس بالنزول، فبدأ رودلف بتجميع ألوانه وفرش التلوين المختلفة الأحجام ثم نظر للوحته وقال :
- سنأتي غدا يا بيل،، لم أرسم الأشجار الجـافـّة جيدا، لكنني وضعت خطوطها الأساسية ..
لم يسمع رودلف رد "بيل" بالموافقة أو عدمه ونظر خلفه فلم يجد أثرا لـ بيل على الرغم من خلو المكان من البشر والأشجار ..
كانت المساحة شاسعة أمامه ليرى بيل حتى لو ابتعد،، وقال رودلف بضجر:
- لم أعد أفهم ذلك! لم تأخر هكذا؟؟
بقي رودلف منتظرا لبعض الوقت ولكنه بدأ يتوجه نحو التل بنفاذ صبر وصعد التل الرملي بقليل من الجهد حتى وصل إلى قمته،، وكان المنظر من خلفه بديعا،، فهو مرتفع ويطل على إحدى قرى البلاد الجميلة، علم رودلف أنها قرية " فيرديور" الخضراء الجميلة التي تقع خارج العاصمة بعدة أميال ..
ظل رودلف مفتوناً بهذا المنظر ونسي أمر بيل تماماً، ولكنه تذكر ذلك بعد مرور دقائق فبدأ يلتفت حوله مجددا وتساءل في نفسه :
" هل يكون بيل قد نزل إلى القرية ... وتركني هنا؟؟"
كانت مشكلة رودلف أنه لا يعرف طريق العودة إلى القصر فهو قليل الخروج بمفرده، وعندما يخرج بصحبة بيل أو بعض الفرسان، فإنهم من يتولون أمر المكان عادة، وهم من يحفظون الطريق .. ويحفظون أماكن
العربات أيضا .. ولكن ...
أن يضل الأمير الطريق في مملكته مشكلة، وعيب خطير!! ألقى رودلف نظرة على الجياد المربوطة بأحكام وقد بدأ يشعر بالقلق ..
بدأ الظلام يرخي سدوله وفكر رودلف في بعض المغامرات فخلع بزته الكحلية الخارجية المطرزة وسار بالقميص الداخلي والسروال الكحلي وحذاءه الأسود ذو الرقبة ..
نزل رودلف التل تاركاً خلفه أدواته ولوحاته .. وبزته الكحلية، عندما وصل لم يكن الظلام دامسا،، كان هناك بعض النور وسار رودلف بهدوء في سوق القرية المزدحم وهو ينظر بانبهار والسعادة ظاهرة في عينيه على الرغم من صمته ،، كان الكثير من الناس يتهامسون وينظرون إليه واعترض فجأة طريقه شاب قروي وهو يمسك بقوسه وسهمه وقال بقلة تهذيب:
- هيه!! إلى أين أيتها الحلوة المهندمة؟؟
كان رودلف ساذجا جدا ولم يفهم ماذا يقول ونظر خلفه يتطلع إلى تلك الفتاة الحلوة التي يقصدها الشاب فضرب الشاب كتفه بالقوس وقال مجددا:
- أنا أقصدك أيها المهندم! ماذا تريد منا؟ هيا اخرج من قريتنا قبل أن أوسعك ضربا ..
لم يقل رودلف شيئا وتخطى الشاب بهدوء متابعا طريقه، ولكن الشاب ركض ودفعه بقوة فسقطا أرضا واتسخت ثياب رودلف ووجهه بالوحل ... قبل أن يحاول رودلف الجلوس قام الشاب بوضعه على ظهره ولكمه على وجهه بيده المتسخة بالوحل، ظل رودلف مذهولا من تلك التصرفات فظل مكانه ليتبعه الشاب بلكمة أخرى ..
كان الناس قد تجمعوا ينظرون من بعيد وقام رجل كبير السن بسحب الشاب من ملابسه بعنف وألقى به بعيدا ثم توجه نحوه وقام بركله في بطنه وهو يصرخ غاضبا:
- كم مرة علي أن أخبرك أن تبقى في البيت!!ولكن هذا ليس خطأك أنه خطأ والدتك!!
ثم سحب القوس من يده وقال بغلظة :
- هيا عد إلى المنزل ..
ركض الشاب وهو يبكي ويردد:
- لن أفعل!! لن أفعل .. لن أفعل ...
راقب رودلف ذلك وهو يحاول التقط أنفاسه من هول المفاجأة،، واقتربت فتاة قروية ترتدي ثياباً بسيطة وجميلة وناولت رودلف منديلا قماشياً أبيض اللون وهي تقول:
- نتأسف لك على ذلك .. أعذره فهو مريض ..
أمسك رودلف بالمنديل فتلوث بالوحل، وساعده الرجال على الوقوف وهو يقول:
- لا بأس، من الجيد أنني لم أضربه!!
انفض الرجال من حوله فجاء الرجل الذي ضرب الشاب وقال معتذرا:
- نأسف يا بني على ذلك الحادث، إنه ولدي وهو مختل عقليا، لكنه مسكين، تعال إلى منزلنا ونظف نفسك،، هيا ..
كان رودلف سيعتذر حتما عن الذهاب إلى منزلهم ولكن الفتاة القروية قالت:
- أنت لن ترفض دعوة أبي .. صحيح؟