ثم مدت رأسها للأمام و قالت لي : لا مهرب لكِ مني .. أنا التي أتيت بكِ إلى هذه الغابة .. و لذا فأنت ملكي .. أفعل بك ما أشاء .. و ليس لكِ حق الاعتراض .. حتى لو حكمت عليكِ بالموت لا تملكين الاعتراض أو الهرب من حكمي ..
صرخت في فزع متوسلة إليها : أرجوك لا تؤذيني .. إنني لم أوذ إنساناً أبداًَ .. و لا يحمل قلبي مكروهاً لأحد .. فلماذا ترمينني بكراهيتك .. و قلبي لم يعرف غير الحب لكل الناس ؟؟ قال لي بصوت كالفحيح : كثيرون يُعاقبون دون أي ذنب .. و أنت محكوم عليك بعقاب أبدي .. و أنا سجانك الذي يتولى عقابك ..
و قهقهت الحية مرة أخرى فصرخت في جزع و رعب ..
صرخت أطلب من ينقذني فلم يسترجع صدى صرختي غير نعيق البوم و حفيف أجنحة الغرابان .. و تكسر الورق اليابس المحتضر تحت قدمي ..
أغمضت عيني رعباً و قلبي كاد يتوقف عن اللهاث .. لم يكن لي أمل أو مهرب .. محكوم علي بالسجن الأبدي في تلك الغابة القاسية .. ثم الموت كأبشع ما تكون النهاية .. ليس هناك من يمد لي يد المساعدة .. ولا هناك قلب يخفق من أجلي .. و يحزن بسببي ..
أجهشت ببكاء شديد و أنا أخفي عيني بيدي ..
فجأة التقطت أذناي صوت حفيف أجنحة .. كأنها أجنحة ملائكة لها أجراس موسيقية تحمل السكينة و المرة إلى القلوب الثكلى بالأحزان ..
فتحت عيني مندهشة .. فرأيت الحية تتوارى فزعاً .. و نور يضوي في الأفق البعيد مثل هالة نهار .. يكاد يحيل ظلمة الغابة إلى بهجة نور .. لمحت جواداً طائراً له جناحا ملاك .. و هو يسبح فوق رؤوس الأشجار .. و فوق الجواد كان هناك فاس متسربل بالنور .. غارق في الضياء مثل الشمس ..
لم أستطع أن أحدق فيه طويلاً بسبب هالة الضوء المشعة حوله .. آلمتني عيناي الواهنتان .. لم أستطع أن أميز ملامحه .. و لكنني أحببت هذه الملامح دون أن أراها .. كدت أصرخ في ذلك الفارس ذي الهالة أن يسرع لإنقاذي .. و لكن الصرخات لم تخرج من صدري .. و بدا على الفارس كأنه يعرف معاناتي ..
حلق الفارس بحصانه ذي الأجنحة الملائكية قليلاً في الفضاء .. لم يعد للحية أي أثر في المكان .. و كفت البوم عن النعيق و الغربان عن الصراخ .. و ساد الغابة سكون عميق .. رائق .. صاف ..
و اندفع الفارس بجواده المجنح إلى السماء البعيدة .. اختفى و اختفى في قلب السماء حتى لم يعد له أثر غير نقطة ضوء كنجمة مغروزة في قلب الظلام .. كمنارة بعيدة ترشد الحائرين و تطمئن اليائسين ..
هتفت أناديه في جزع و أمل : لا تتركني يا سيدي .. لا تتركني وحدي أيها الفارس ..
و ارتعشت يداي و قدماي بحركة عصبية كأنهما تصرخان معي ..
و استيقظت فزعة .. كنت احلم .. و قد تبلل وجهي بدموع غزيرة .. و يداي و قدماي لا تزالان ترتعشان .. و أنفاسي مضطربة مرتجفة ..
و بدأت أنفاسي تهدأ قليلاً .. لم يكن من عادتي أن أحلم مثل تلك الأحلام العجيبة .. و كنت أنسى ما حلمت به حالما أستيقظ من نومي ..
و لكن حلم الأمس كان لا يزال عالقاً في ذهني كأنه حياة أخرى عشتها بالفعل و تفاصيل حوادثه تدور أمام عيني ..
و تساءلت ذاهلة ما معنى ذلك الحلم .. و من يكون ذلك الفارس النوراني فوق جواده المجنح .. و لمذا أحسست بالطمأنينة لأول مرة في حياتي بوجوده بقربي ؟؟ ..
كل الفتيات كن يحلمن بفارس أحلامهن .. و لم تكن لي مثل تلك الأحلام أبداً .. كأنني أدرك أن حياتي لن يكون لها فارس أبداً ..
فلماذا حلمت تلك الليلة .. و أي سكينة و مسرة حملها إلى قلبي المعذب المجروح ؟؟ و ماذا كان يعني ذلك الحلم ؟؟
ياترى ماهو تفسير ذلك الحلم ؟؟ !! .. و هل سيكون لبطلتنا { سعاد } فارس أحلام ؟؟ و اذا كان ذلك صحيحاً و كان لها فارس أحلام .. فياترى من هو ؟؟ و متى سيظهر ؟؟ و هل هو في حياتها و هي لا تعرف ؟؟
الجزء الرابع :
أحلام سندريلا
قضيت نهاري في أعمال المنزل .. و خرجت { غادة } مع خطيبها و أمي .. سافروا إلى { الإسماعيلية } لقضاء يوم جميل في { شاليه } يمتلكه { ممدوح } هناك .. و تركوني وحدي في المنزل ..
و عندما سأل { ممدوح } عني .. قالت له أمي بأنني لا أحب الخروج .. و أنني سأبقى لأعمال المنزل من طبخ و غسل و نظافة ..
كانت هناك علب و أكياس و هدايا عديدة في حجرة أمي .. و كان ضعفها في حجرة { غادة } أختي .. فساتين و أحذية و حقائب جميلة .. و علب مكياج أنيقة ..
أعجبني فستان أبيض بلون الفل .. كان على شكل وردة كبيرة .. رأيته معلقاً في دولاب أختي .. لم أستطع منع نفسي من لمسه و تأمله .. وضعته فوق جسدي و أنا أنظر إلى المرآة ..
أغمضت عيني و أنا أرتديه .. كنت أخشى من أن أفعلها و لو من وراء ظهر أختي .. لا أحب أن آخذ أشياء الآخرين .. حتى لو أخذوا أشيائي ..
و كان الفستان رائعاً .. كأنما صنعته يد ساحر .. لطالما تمنيت أن أرتدي مثله و لو لحظه واحدة في عمري كله .. كان في حياتي أمنيات كثيرة أدرك استحالة تحقيقها ..
و لا أدري لماذا في تلك اللحظة قصة { سندريلا } .. الفتاة الفقيرة المسكينة التي جاءتها ساحرة طيبة القلب فمنحتها فستاناً جميلاً لتذهب به إلى حفل الأمير .. فأحبها الأمير و بحث عنها حتى وجدها فتزوجها .. دون أن يهتم بفقرها أو تواضع حياتها ..
و لكن .. كان ذلك فيما مضى .. و لم يعد في زماننا ساحرات طيبات .. و كنت أدرك أنني سأعيش و أموت دون أن تمتد يد نحوي .. أو يخفق قلب بجوار قلبي ..
كانت { سندريلا } رائعة الحسن .. و تزوجها الأمير بسبب حسنها الطاغي ..
و كان أمامي فستان { سندريلا } الأبيض ..
و لم تكن { سندريلا } هذه المرة غير { غادة } .. أختي .. و كان الأمير هو { ممدوح } خطيبها .. الذي أنتقاها من آلاف الفتيات و أحبها و قد فتنه جمالها ..
كنت أعرف أنني لا يمكن أن أكون { سندريلا } أبداً .. و لا في أحلامي ..
كان مكاني هنا .. في هذا المكان .. أقوك بأعمال الخادمات .. أما { سندريلا } فقد كان أميرها يفتح لها أبواب القصور المسحورة .. و يغترف لها كنوز الدنيا ما تشاء .. و يحقق لها الأمنيات حتى ما لم تكن تتمناه ..
لم يكن من حقي حتى لمس فستان { سندريلا } .. فأعدته مكانه .. و تركت دموعي تسقط في صمت ..
و لم يكن هناك من يمكن أن يشعر بي .. أو يمسح دموعي .. كنت دائماً وحيدة في هذه الدنيا ..
و في المساء المتأخر عادت أمي و أختي .. أوصلهما { ممدوح } بسيارته ثم انطلق عائداً إلى بيته .. جهزت لأمي و أختي العشاء .. و لكنهما قالتا إنهما تناولتاه في مطعم راقٍ بالإسماعليه مع { ممدوح } قبل عودتهم ..
في الصباح التالي ذهبت إلى عملي .. و استقبلني زملائي يسألون عن أخبار الخطبة و العريس ذي الحظ السعيد .. حملت لهم معي علبة { شيكولاتة } رحت أوزعها عليهم ..
و قال أحدهم و هو يملأ كفيه منها : عقبالك ..
و قال آخر بلهجة لا تخلو من السخرية : إن شاء الله ..
و أتى ثالث بجريدة الصباح .. كانت تحمل صورة العروسين في باب المجتمع .. و انهالت تعليقات الجميع تطري جمالهما و حسنهما ..
مضى الوقت و انصرف الجميع لأعمالهم .. و انشغلت بعملي و أرقامي .. بين الحين و الآخر أتوقف مندهشة عندما يطوف بذهني ذلك الحلم فأتساءل : ترى من يكون ذلك الفارس ذو الهالة النورانية .. هل سيكون زوجي و حبيبي المنتظر .. ذلك الإنسان الذي سيختارني من كل نساء العالم .. و يرى في شيئاً آخر جميلاً غير نظارتي الطبية السميكة و أنفي الكبير و شعري الخشن ..
و أي رجل يرضى بفتاة كهذه عاطلة عن الجمال .. و هناك آلاف الحسناوات في كل مكان ؟؟!! ..
أقبلت { سعدية } زميلتي .. و هي حامل في شهرها الرابع برغم أنها أم لستة أولاد .. و قالت لي و هي تتوجع : لا أستطيع أن أمسك قلماً اليوم .. و هناك عمل عاجل يجب انجازه و إلا جازاني المدير بالخصم ..
قلت لها : لا تشغلي نفسك بشيء .. سأقوم بكل عملك ..
هتفت بطرف لسانها : شكراً لك .. أنت صاحبة قلب طيب ..
و أسرعت تكدس ملفاتها فوق مكتبي .. ثم انشغلت بثرثرة مع زملية لها .. عن متاعب الأولاد و مشاكلهم ..
و جاء { مرسي } الزميل المسئول عن استخراج البطاقات الضريبية الجديدة لأصحابها .. و قال لي : لدي مشوار مهم يجب علي انجازه .. و لكنني لا أستطيع ترك عملي في استخراج البطاقات الجديدة لأصحابها و إلا ذهبوا إلى المدير و اشتكوني ..
قلت له بتسامح : سأحل محلك و أستخرج بطاقات جديدة لمن يريد فلا تقلق ..
هتف شاكراً : أنت بنت حلال ..
قلت له : لا تتأخر حتى تلحق بكشف الانصراف فتوقع فيه .. و إلا تعرضت للمشاكل مع المدير ..
لم يهتم بالرد علي و اندفع خارجاً من الحجرة .. ثم عاد و هو يحمل أوراقاً و ملفات كدسها على مكتبي .. و خلفه طابور من المواطنين ممن يرغبون في استخراج بطاقات ضريبة جديدة .. كان علي إنجازها لهم .. وسط ضوضاء شديدة لا أحتملها ..
انهمكت في عملي دون شكوى .. و سمعت { سعدية } و هي تهمس إلى زميلتها و تكتم ضحكة : إنها لا تقول { لا } لأحد أبداً مثل حمارة شغل .. و الجميع يستغل سذاجتها .. و لماذا نتعب أنفسنا ما دام هناك أغبياء يقومون لنا بأعمالنا دون شكوى ؟؟!! ..
هل كانت تتحدث عني .. بالطبع لم يمكنني أن أسألها .. و لكن إذا كانت تقصدني فقد أخطأت .. إنني أساعد الجميع بدافع من حبي لهم .. و من يحب إنساناً لا يتأخر عن مساعدته .. و ليس ذلك غباءً مني لأنني حمارة شغل .. فالعمل الكثير يكاد يقتلني .. و لكنني تعودت العطاء .. و لم أتعود أن أحرج إنساناً أو أرفض له طلباً .. ما دمت أستطيع القيام به ..
أنهيت كل عملي و عمل زملائي .. أحسست أن يدي قد تورمت من كثرة العمل .. و بقي ربع ساعة على الانصراف فجلست مكاني مرهقة متعبة .. و قد خلت الحجرة إلا مني بعد أن أنصرف أغلب الزملاء و الزميلات متحايلين للتوقيع في دفتر الانصراف قبل الميعاد ..
و أقبل مخلوق إلى داخل الحجرة .. على الفور أحسست بانقباض بداخلي .. لا أستريح لهذا الانسان ولا أستسيغ حديثه أو مجرد رؤيته .. و لكنه يفرض نفسه علي بطريقة لزجة .. و لا ادري كيف أتخلص منه ..
و لكنني كتمت مشاعري بداخلي فلا أحب أن يغضب مني إنسان .. و رسمت على وجهي ابتسامة ودوداً ..
كان في الأربعين من عمره .. قصير القامة بطريقة مضحكة .. و يعاني من عرج واضح في قدمه .. و كان له رأس كبير لا يتناسب مع بقية جسده الضئيل .. و يطل الخبث من عينيه الكبيرتين كعيني ثور غبي .. و شاربه الذي كان يتباهى به و يعتني به أشد العناية .. كأنما هو التأكيد الوحيد لرجولته ..
تلفت مخلوف حوله ثم رمقني بنظرة ماكرة و قال : الحمد لله .. انتظرت حتى ينصرف الجميع لنستطيع أن نجلس و نتحدث في حرية دون مضايقة من أحد ..
قلت مندهشة : هل هناك حديث خاص بيننا ؟؟ !! ..
رمقني باستنكار لحظه .. ثم طرفت عيناه الكبيرتان و عبثت أصابعه بطرف شاربه و قال مراوغاً : لا تنسي أننا زميلان .. و انا أودك أنت بصفه خاصة و ..
و صمت منتظراً أن أشجعه فلم أستطع منع تجهمي من الظهور فوق ملامحي .. فأنا لا أطيق تلميحاته .. ليس بسبب شكله أو هيئته .. فهو إنسان مهما كانت هيئته .. و لكنني لا أطيقه بسبب لزوجته و خبثه و أسلوبه الملتوي ..
قال بعد لحظة : تصوري أن المدير خصم مني ثلاثة أيام بسبب تأخيري .. هل يظننا خدماً عنده يفعل بنا ما يشاء ؟؟ !! ..
قلت له : للعمل أصوله و لمواعيده احترامها .. و من يخطيء يستحق العقاب ..
قال بضيق : إنني أعمل بعد الظهر في وظيفة أخرى و أعود متعباً في منتصف الليل إلى بيتي .. و لهذا أستيقظ متأخراً و آتي إلى هنا بعد الموعد ..
و بلهجة خبيثة أكمل : أنت تعرفين أن من يريد أن يفتح بيتاً و يتزوج لابد له من عمل إضافي هذه الأيام .. فأقل شقة خلوها يصل إلى عشرة آلاف جنيه ..
و بلهجة ذات مغزى أضاف : و لا بد أن تكون الشقة مناسبة للعروس التي تسكنها .. أنت مثلاً هل تقبلين أن تسكني في شقة صغيرة تطل على حارة ضيقة و تطفح المجاري في الطريق المؤدي لها ؟؟ ..
كنت أشعر أنه يرمي شباكه علي مثل عنكبوت سام .. و أحسست بخيوطه تكاد تخنق أنفاسي .. فلم أستطع أن أرد عليه ..
و لكنه لم ينتظر إجابتي و سألني بغتة : كم يبلغ مرتبك الآن ؟؟ !! ..
قلت بضيق : سألتني هذا السؤال مرتين من قبل فأجبتك ..
قال و هو يهز رأسه كأنه يجري حسبة ما في عقله : لا بأس .. بشيء من الحكمة نستطيع أن نتدبر أمورنا ..
قلت بضيق أشد و أنا لا أحتمل مجرد رؤيته أمامي : ماذا تقصد ؟؟ !! ..
قال بمكر و تصنع خجل : لا داعي لإحراجي .. أنا إنسان خجول في مثل هذه المسائل !! ..
و اهتز شاربه كأنما يأكد ذلك الخجل .. و زاد انقباض قلبي حتى شعرت أن أنفاسي ستتوقف .. و دوى قرع طبول في رأسي ..
قلت و أنا أكاد أبكي : أرجوك .. إنني متعبة و الصداع يكاد يشق رأسي و لا أحتمل أي حديث ..
هتف و هو يهب واقفاً : سلامتك .. لن أطيل عليك .. لي عندك طلب واحد ..
و مد رأسه إلى الكبير للأمام و قال بوجه يحمل ابتسامة صفارء ميتة : أريد منك عشرة جنيهات سلفاً لأول الشهر ..
و قبل أن أنطق قاطعني قائلاً : لا تقلقي .. سأسددهم لك مع ما استدنته منك من قبل .. إنني لا أطلب هذا الطلب بصفتي زميلاً فقط .. إنني أطلبه بصفة أخرى ..
غمز لي بعينيه و هو يضيف بلهجة خبيثة : أنت تفهمين ما أقصد ..
و لا أدري لماذا ذكرتني ملامحه تلك اللحظه بملامح الغربان التي كانت تنعق في الغابة التي رأيتها في أحلامي ..
ارتعدت أمام نظراته .. و أسرعت أفتح حقيبتي و ألقيت بالعشرة جنيهات أمامه .. فاختطفها بأصابعه القصيرة النحيلة مثل مخالب صقر .. و هتف قائلاً : سوف أسددها لك قريباً .. أو نتحاسب عليها عندما نتفق على بقية الأشياء .. فلن يكون بيننا حساب وقتها ..
و أسرع يغادر المكان .. فأحسست كأن روحي ردت إلى صدري ..
ها قد انتهى الجزء الرابع و بقي من روايتنا ذات التسعة أجزاء خمسة أجزاء نرى فيها ماذا سيحصل لبطلتنا سعاد ؟؟ هل ستتزوج من زميلها في العمل الذي تمقته و تكرهه كرهاً شديداً ؟؟ أم ستظل وحيدة ؟؟
الجزء الخامس :
التمثال الجميل ..
صار وجود { ممدوح } في بيتنا الصغير شيئاً مألوفاً .. كانت أختي { غادة } تحاول أن تنزعه انتزاعاً من بيتنا .. كأنها تخجل من مسكننا المتواضع .. و دائماً تطلب منه أن يذهبا إلى أماكن أخرى لقضاء الوقت و النزهة .. و كان هو يقول لها دائماً : إنني أحن إلى بيتكم الصغير الدافئ .. إنه يشبه بيتنا الصغير القديم ..
و كانت ترد عليه غاضبة : يبدو إنك تحب الفقر ..
ثم تجبه على أن يصطحبها في نزهة بعيدة .. إلى أماكن لا يذهب إليها إلى الأغنياء ..
و ذات يوم كان { ممدوح } في بيتنا فقال لأمي : الخادمة التي كانت تعمل عندي تزوجت و تركت العمل .. هل يمكنك أن تساعديني في البحث عن أخرى تحل مكانها ؟؟
ففكرت أمي لحظة ثم أشارت نحوي و قالت : يمكن { لسعاد } أن تذهب كل أسبوع إليك مرتين لتقوم بأعمال النظافة و غيرها ..
فشحب وجه { ممدوح } و هتف على الفور في غضب : ماذا ؟؟ !! .. هذا مستحيل ..
و يومها بكيت كما لم أبكِ من قبل .. كنت خادمة في نظر أمي .. و لا أزال حتى الآن أذكر نظرات { ممدوح } الغاضبة المستنكرة .. و نظرة السخرية و الاحتقار التي ارتسمت في عيني { غادة } و هي تقول لخطيبها : بصراحة .. لن تجد من هي أفضل من { سعاد } في شئون النظافة و الغسل .. فمواهبها الحقيقة تظهر في هذه الأشياء فقط !!
صدقوني .. برغم ذلك أيضاً لم أكرهها ..
و صار منزلنا مكدساً بالهدايا .. المئات من حقائب الهدايا .. لم يكن لي فيها واحدة .. و لم يفكر { ممدوح } في أن يحضر لي هدية صغيرة .. و يبدو أني كنت شيئاً مهملاً منسياً بالنسبة له أيضاً .. كما كنت بالنسبة لأمي و أختي .. أو لعلهما كانتا تمنعانه من إحضار أي هدية لي .. و لم أكن أريد منه شيئاً .. يكفي أن أرى سعادة أختي و أمي في وجوده معهما ..
و صار قلبي يتوهج بالسعادة كلما سمعت طرقات { ممدوح } المميزة فوق باب شقتنا .. كنت أحب دائماً أن أراه .. أن أسمعه يتحدث إلى { غادة } و ينطق بكلمات الحب إليها .. و هي تستمع إليه و فوق ملامحها الفاتنة ابتسامة رضا ..
كنت أراه إنساناً نبيلاً ندر وجوده في هذا العالم القاسي .. إنساناً مستعداً للعطاء بلا حدود و بلا مقابل .. كان حبه لأختي صافياً سامياً .. و كان مستعداً لأن يفعل أي شئ لإرضائها .. و لو على حساب نفسه ..
لم أسمع { غادة } أختي تنطق أمامه بكلمة { أحبك } .. و لكنه لم يكن يشكو أبداً ..
و عندما كانت حجرتي الضيقة الصغيرة تضمني إليها و تُغلق بابها علي .. كنت أرفع عيني إلى السماء و أهتف من أعماق قلبي : يارب .. امنحني الإنسان الذي يهبني مثل هذا الحب .. الإنسان الذي يحيطني بكل تلك المشاعر الدافئة و الحنان .. يارب امنحني انساناً أحتل في قلبه و لو ركناً ضئيلاً .. فأكون مستعدة لأن أمنحه قلبي و مشاعري .. أمنحه حياتي كلها .. ماضيها و حاضرها و مستقبلها .. فتكون حروف اسمه هي نور عيني و كلماته نبض قلبي ..
يارب .. هبني لحظة سعادة تعوضني أيام شقائي و تعاستي .. هبني إنساناً يعاملني بإنسانيتي .. يعوضني عن فقداني لأبي .. و يعزيني عن حرماني من حنان أمي و أختي .. يارب .. ضع في طريقي ذلك الانسان الذي لا ينظر إلى ملامحي الخاجية .. بل يبحث بداخل قلبي و مشاعري .. لا أريده غنياً و لا وسيماً .. يكفي أن يكون له قلب يتسع لوجودي بداخله ..
و كنت أبكي كثيراً و الأيام تمضي و تجري .. و أفق حياتي يبدو مظلماً ليس فيه بصيص نور أو أمل .. و { مخلوف } ينعق في أذني مثل الغربان السوداء .. فيزيد آلامي و شقائي ..
كنت أدرك أن هذا الانسان الذي ابحث عنه لا وجود له في هذا العالم القاسي .. و أنني ربما أنفق عمري كله في انتظاره .. بلا فائدة .. و برغم ذلك كنت أتحمل صابرة .. و لا أشكو ..
و بدأت تظهر في الأفق بعض المشاكل الصغيرة بين { ممدوح } و { غادة } .. أحياناً يكون هناك موعد بين { ممدوح } و أختي ليصطحبها للخروج .. و عندما يأتي لا يجدها .. و يظل في انتظارها ساعة أو اثنتين .. و عندما تعود تتعلل له ضاحكة بأنها تأخرت عند الكوافير .. أو أنها كانت لدى بعض صاحباتها و سرقها الوقت .. و كنت ألمح الضيق و الألم في عينيه .. و كان ذلك يحزنني لأنني أراه إنساناً طيباً صريحاً لا يستحق تلك المعاملة .. و ذات مرة سألت { غادة } : لماذا تتعمدين ترك خطيبك ينتظرك وقتاً طويلاً ثم تعودين بحجج تافهة ؟؟ !! .. كأنك تتعمدين إيلامه ..
فأجابتني : هذه أمور لا تفهم فيها إلا النساء .. فالرجل يحب دائماً أن تتدلل عليه فتاته ..
قلت بدهشة : و لكنه خطيبك .. و هو صريح و واضح معك .. فلماذا لا تفعلين نفس الشئ معه ؟؟ !! ..
هتفت غاضبة : مالك أنت و هذه الأشياء .. إنني أعرف مصلحتي و لا أنتظر نصائح منك .. و عندما يأتيك خطيب مارسي نصائحك على نفسك معه ..
و ساخرة أضافت و هي تتأملني : هذا إن جاء خطيب !! ..
و برغم سهام كلامها .. و الجراح التي كانت تتعمد أم تضيفها إلى مشاعري .. إلا أنني لم أكرهها أبداً .. فهي أختي .. و أنا أحبها مثل نفسي ..
و بدأت أتنبه إلى أن تعمد { غادة } التأخير أو الدلال على { ممدوح } خطيبها .. ليس لأنها تمارس معه نوعاً من أنواع الإثارة و الدلال .. لا .. بل كان ذلك لأن هذه طبيعة تكوينها و طبعها الذي نشأ معها .. و هو عدم الاهتمام بأحد آخر غير نفسها .. كنت أنانيتها هي التي تفرض عليها ذلك الأسلوب في التعامل .. و أن عينيها لا تبصران في صفحتها غير نفسها .. و كنت أرى { ممدوح } يتحملها في صبر دون شكوى .. فقد كانت عيناه تفصحان عن حبه الكبير لها .. و استعداده للتسامح معها باستمرار .. كما عرفت أن { ممدوح } يتيم الأب و الأم .. توفي والداه في حادث سيارة و هو صغير .. و لذلك لم يكن لمشاعره أي اتجاه غير تلك الانسانة التي احبها و اختارها شريكة لحياته .. و لكن { غادة } كانت تستغل حبه أسوأ استغلال .. في فرض مزيد من الدلال عليه .. و اظهار عدم مبالاتها به في كثير من الاحيان .. و طلب الكثير من الهدايا الغالية .. و التي لم تكن لها حاجة بها غير ان تطلب .. و أن ترى من يحبها ينفذ طلباتها .. و مامن مرة تقابل الاثنان في شقتنا .. الا و سمعت { غادة } تسأل { ممدوح } : كم كسبت اليوم ؟؟ !! ..
و كانت تصيبه الدهشة من سؤالها .. لمحت ذلك في عينيه أكثر من مرة و أنا اقدم المشروبات المثلجة له .. كان أحياناً يتهرب من الاجابة على سؤالها ..و احياناً يجيبها اجابات مقتضبة .. و ذات مرة أقبل سعيداً .. فسالته { غادة } عن سر سعادته فأجابها : اليوم عقدت صفقة سأكسب فيها مائة ألف جنيه ..
فلمعت عينا أختي و قالت له : إذن فستكافئني بهدية مناسبة .. ما رأيك في أسوار من الألماس .. لا أريدها غالية .. يكفي أن يكون ثمنها خمسين ألف جنيه ..
و مالت عليه في دلال و شعرها الاشقر الحريري يداعب وجهه .. و اضافت قائلة : و بهذا نكون قد اقتسمنا ارباحك .. نصفها لك .. و نصفها لي ..
و ابتسمت ابتسامتها الساحرة .. و ظهر شيء من التردد في عيني { ممدوح } .. و لكني رأيت وجهه يشرق بابتسامة حب بعد لحظة و هو يتامل عينيها الزرقاوين الساحرتين ثم قال لها : سآتي لك بكل ما تريدين .. إنني أحبك و مستعد لأن أفعل أي شيء يسعدك مهما كان ثمنه ..
و ذات نهار آخر كان هناك موعد لخروج { غادة } و { ممدوح } .. و جاء هو ليجدها نائمة على فراشها و أخبرته أنها مريضة و لا تستطيع مغادرة فراشها أو الخروج معه .. و اندهشت انا لانني كنت اعرف انها ليست مريضة ابداً .. و كانت منذ قليل في تمام حيويتها و نشاطها ..
و ظهر الحزن الشديد على وجه { ممدوح } و هو يقول لها : هل آتي لكِ بطبيب ؟؟ !! ..
فأجابته { غادة } و هي تدعي الألم : لا .. سوف يخف ألمي اذا ارتحت و نمت .. أنا آسفة يا { ممدوح } لن استطيع الخروج معك اليوم كما اتفقنا ..
فقال لها { ممدوح } : لا عليك .. كنت أنوي مفاجأتك اليوم عند خروجنا بشراء السيارة { الأسبور } التي اعجبتك من قبل ..
قفزت { غادة } من فراشها في سعادة هاتفة : لماذا لم تخبرني لذلك من قبل .. سأخرج معك فوراً لشراء السيارة ..
فسألها بدهشة : لكن .. ألست متعبة ؟؟ !! ..
فأجابته و وجهها الفاتن ينبض بالسعادة : لا .. لقد ضاع تعبي و إرهاقي ..
و لمحت الدهشة في عيني { ممدوح } .. و هو يبدو حائراً من تصرفات { غادة } ..
مسكين { ممدوح } .. إنه لا يدري فلسفة { التمثال الجميل } .. و لا تعليمات أمي ل { غادة } فالطيبون تفوتهم أشياء كثيرة لا ينتبهون إليها بسبب صفاء قلوبهم ..
و ذات مساء دق جرس شقتنا الصغيرة .. كان الوقت متأخراً .. و تجاوزت الساعة الحادية عشرة مساءً .. و أصابني قلق كأن جرس الباب نذير شؤم ..
أسرعت أفتح الباب فوجدت { ممدوح } أمامي مشوش الوجه غير منهدم كعادته و وجهه شاحب .. و هتف يسألني بصوت متحشرج : أين { غادة } ؟؟ !! ..
أجبته بقلق شديد : إنها نائمة في حجرتها ..
و بقلق لا مزيد عليه سألته : ماذا هناك .. هل حدث شيء يسيء لك ؟؟ !! ..
و تجمعت الدموع في عيني لمنظره المتألم .. و تمالكت نفسي حتى لا أجهش بالبكاء أمامه .. من قبل حتى أن أعرف مالذي يضايقه أو يؤلمه ..
و ظهرت { غادة } من الخلف في رداء نوم فاخر .. في تلك اللحظة تنبهت إلى جلباب نومي الرخيص فأصابني الخجل و أسرعت أتوارى في حجرتي .. و كان بابها مفتوحاً .. فشاهدت { غادة } تقترب من { ممدوح } و تسأله في صوت يحمل رنة تساؤل و غضب : مالذي أتى بك في هذه الساعة ؟؟ !! ..
أجابها في صوت مقتول بالألم .. كارثة يا { غادة } .. خسرت أكثر من مليون جنيه ..
أصابها ذهول و هي تردد خلفه : خسرت مليون جنيه .. ياللمصيبة ؟؟ !! ..
أجابها و هو ينهار على أقرب مقعد بالصالة : قمت بشحن بضاعة للتصدير إلى الخارج .. و لكثرة مشاغلي و أعمالي نسيت التأمين عليها .. و غرقت السفينه المحملة بالبضاعة فضاع علي ثمنها ..
صرخت فيه { غادة } بتوحش : أيها الأحمق .. هل كنت في غير وعيك فنسيت التأمين على تلك البضاعة ؟؟ !! ..
تأملها بوجه زاد شحوبه و هو يقول لها : لقد جئت إليك لتخففي عني و ليس لتلوميني ..
عادت تصرخ فيه : تخسر مليون جنيه و تريدني أخفف عنك .. ألا تعرف أن نقودك صارت هي نقودي أيضاً منذ لحظة خطبتنا .. هل تظن أننا نستطيع أن نعيش في سعادة إذا خسرت كل نقودك ؟؟ !! ..
تأملها { ممدوح } بوجه ممتقع .. و اقتربت هي منه كنمرة متوحشة و هي تسأله : و هل ستؤثر هذه الخسارة على عملك .. أخبرني .. هل ستضطر إلى بيع الفيلا أو الشركة .. أو أي شيء آخر لتغطية هذه الخسارة ؟؟ !! ..
أجابها في مرارة و هو يهرب منها كأنه يبحث عن مرفأ أمين ليرسو عليه و قال لها : لا تخافي فلن أبيع شيئاً .. فإن لدي الكثير في البنوك و لن تأثر في تلك الخسارة .. و لكن كأي تاجر لا يكسب مثل هذا المبلغ بسهولة .. لكي لا يتأثر عندما يخسره ..
تنهدت { غادة } في راحة و التقطت انفاسها .. و ارتسمت ابتسامة باردة على وجهها لأول مرة .. فقد حملت كلمات { ممدوح } بعض الاطمئنان إليها ..
قال { ممدوح } في مرارة : كنت أنتظر أن يكون خوفك علي .. لا على المليون جنيه الضائعة ..
قالت له دون أن تداري لومها : و هل مثل هذا المبلغ شيء هين حتى لا أخاف عليه ؟؟ !! ..
و زادت ابتسامتها و هي تقول : سوف تعوض هذه الخسارة .. أنا واثقة من ذلك .. و ستزيد ملايينا فنتمتع بها ..
و أكملت مؤكدة : أنت تعلم أن الانسان لايمكنه أن يحقق السعادة بلا مال كثير ..
هز رأسه في صمت .. و اتجه ليغادر المكان دون أن تستوقفه { غادة } .. و أغلقت باب حجرتي بعدها ..
أحسست بألم يشل قلبي .. كان ألماً بسبب { ممدوح } .. لأول مرة أراه بمثل تلك المشاعر الحزينة .. لأول مرة أراه مجروحاً متألماً .. و في حاجة إلى من يمد إليه يد المساعدة و الحنان ..
كان في حاجة إلى كلمة عطف و تهوين .. بحاجة إلى قلب يواسيه و يخفف عنه .. و لكن { التمثال الجميل } لم يكن لديه أي مشاعر يمنحها له ..
و وجدت دموعي تسقط حزناً عليه رغم ارادتي .. فلم يكن { ممدوح } يستحق كل ذلك الجفاء و القسوة من { غادة } ..
و نمت و قد بللت الدموع وسادتي ..
مسكين انت يا ممدوح فقد تلقيت من المراة التي تحب قسوة لا تستحقها
الجزء السادس :
الحلم .. و سقوط الفارس
رأيت نفسي في الغابة ذاته ..
الدروب من حولي معتمة تتنفس الظلام و لبخوف و الرهبة .. و الأشجار الكثيفة تسد الطريق أمام أي محاولة للهرب .. و أوراق الأشجار الميتة اليابسة تحت أقدامي ترسل أنيناً متكسراً محتضراً ..
الغربان لا تزال تحلق بأعلى رؤوس الأشجار .. و البوم لا يزال ينعق في كهوفه و لكنني برغم ذلك لم أشعر بأي خوف هذه المرة ..
لم ترهبني الظلمة و لم يخنقني الخوف .. و لم يحمل لي نعيق الغربان نذير شؤم .. لا أدري من أين كنت أستقي تلك السكينة و الاطمئنان ..
رحت أتجول بين الأشجار .. بدت و كأنها تفسح الطريق رغماً عنها .. و نعق البوم في وجهي .. لكنه لم يجرؤ على الاقتراب مني ..
أطلت الحية المرقطة برأسها و راحت ترمقني في حذر .. و لكني لم أشعر بخوف عند ظهورها هذه المرة .. و صحت فيها : أيتها الحية الماكرة .. هيا ابتعدي عن طريقي و إلا نالك ما يسوئك .. أنا لا أخافك أيتها الماكرة التي لا قلب لها ..
أسرعت الحية تزحف مبتعدة .. بالرغم من أنني لم أكن أستطيع إيذائها ..
و لا شك أنها كانت تدرك ذلك .. و لكن .. كان من الواضح أنها خائفة من شيء ما .. شيء آخر كانت لا تستطيع مواجهته هو الذي يدفعها بعيداً عني .. و كنت أنا مطمئنة بطريقة لا أستطيع تفسيرها ..
و رأيت نفسي اتطلع الى رؤوس الاشجار كانني ابحث عن شيء ما .. عن ذلك الشيء الذ يسكب الطمأنينة في قلبي .. و ساد الغابة سكون عميق في تلك اللحظة .. و سمعت الأجنحة الملائكية .. فنبض قلبي بالسعادة و أشرقت شمس الفرحة في صدري ..
تملق بصري بالحصان المجنح السابح في الفضاء .. و انشقت رؤوس الاشجار لتكشف عن صفحة السماء المظلمة .. لا يخترق عتمتها غير هالة الضوء النوراني للفارس فوق جواده المجنح ..
قفزت من السعادة لرؤيته ..
عرفت لماذا خشيتني الحية و ابتعد عن طريقي البوم و الغربان ..
لوحت لذلك الفارس النبيل .. بدا و كأنه انتبه إلى اشارتي .. خيل إلي أن عينيه تألقتا بوميض نور ..
لم أميز ملامحه تماماً لبعد المسافة .. و لهالة النور حوله .. و لكنني كنت أستطيع أن أميزة بوضوح هذه المرة عن المرة السابقة .. و اعتادت عيناي على النور القوي الذي يشمله .. و لم أكن في حاجة إلى إخفائها .. و ناديته : أيها الفارس النبيل .. فلتهبط لتنتشلني من هذه الغابة القاسية ..
لم أدر إن كان الفارس النوراني قد سمعني أم لا .. فقد رأيته يحلق بأعلى مرة أو مرتين فوق جواده المجنح .. و يدور في السماء ..
صحت فيه أطلب نفس الأمنية .. و لكنه تجاوزني و انطلق بعيداً ..
انقبض قلبي و عاودني شعور الخوف .. صرخت صرخة يائسة دون أن يسمعني أو يلتفت إلي ..
و لمحت الحية المرقطة توشك أن تطل برأسها .. و نعيق البوم و قد تعالى مرة أخرى ..
ما أن اختفى الفارس النوراني .. حتى عادت إلى الغابة ظلمتها و رهبتها ..
و فجأة شهدت وحشاً مفترساً ينقض من السماء نحو الفارس النوراني .. وحش لا مثيل له في بشاعته .. و اندفع الوحش المخيف يهاجم الحصان و فارسه .. و كاد قلبي يتوقف عن الخفقان من الرعب و الخوف ..
و صرخت في فارسي أطلب منه أن يصمد و يتجلد .. و حاول الفارس المقاومة و لكن الوحش دفعه بقرنيه .. فشاهدت الفارس النوراني و هو يتهاوى من فوق جواده المجنح .. ثم يسقط من أعلى متهاوياً نحو الأرض ..
صرخت في رعب و هلع .. و رددت الغابة الملعونة صرخاتي .. و قد تعالت حولي أصوات البوم و الغربان تكاد تصم الآذان .. و كأنها تطلق صرخات فرح قبيحة لشدة سعادتها ..
استيقظت من نومي فزعة ..
كان قلبي يدق بعنف شديد .. و عرق غزير يكسو جبهتي و رأسي .. و عيناي مليئتان بالدموع .. و صدري يعلو و ينخفض بلهاث شديد ..
تذكرت الحلم فأحسست كأن كابوساً يجثم على صدري .. و مشهد الفارس النبيل يسقط من فوق حصانه الطيار و يهوي إلى الأرض ..
كدت أصرخ مرة أخرى و لكنني تماسكت .. حاولت أن أقنع نفسي بأنه مجرد حلم .. و لكن الاطئنان لم يتسرب إلى نفسي و زاد فزعي و رعبي ..
كنت أشعر كأن ذلك الفارس النبيل إنسان أعرفه و أخاف عليه .. لم أدر أي تفسير لحلمي المزعج .. و لكنني كنت مرتعبة و فزعة و أوقن أن شيئاً فظيعاً سيحدث ..
رحت أبكي و أبتهل إلى الله .. و أنا لا أعرف لمن أدعو بالرحمة ..
و قضيت بقية الليل ساهرة حتى الصباح و روحي مقتولة .. و ثمة إحساس يكاد يشل أنفاسي بحدوث كارثة .. لا يؤخر إعلانها غير مجئ نذير الشؤم ..
في الصباح دق الباب بعنف .. و دق قلبي بعنف أشد ..
أحسست كأن تلك الدقات نذير الكارثة ..
و أسرعت أمي تفتح الباب قلقة .. فاندفعت خلفها في فزع ..
شاهدت { صلاح } سكرتير { ممدوح } خطيب أختي و هو يندفع داخلاً .. و في صوت مفزوع صاح بنا : { ممدوح } أصيب إصابات بليغة في حادث سيارة و هو في المستشفى الآن .. و يريد رؤية الآنسة { غادة } حالاً ..
تذكرت الفارس النبيل الذي هوى من فوق حصانه المجنح ..