أقلامٌ خشبية متعددة الألوان تناثرت حولَ ركبتيها التي تلامس الأرضية .
ابتسامة شقتْ شفتيها الوردتين الصغيرة وهي تحركُ أصابعها بالقلم بكل سعادة وسرور ..فبدت وكأنما تلونُ الحياة بيديها وترسمُ فرحتها ..
منذُ أول خيط للفجر .. وهي تحاول بأكثر من طريقة لتجعله يستيقظ من تلقاء تفسه فتارة تطبعُ قبلة على جبينه وتارة تطببُ على مكان الجرح الذي أصابه وأقلقَ قلبها الصغير فكانَ الأخير غارقاً في النومِ تماماً ولم يشعر بكل ما تفعله .. فجسدهُ المنهك رفضَ ما أملاه عقله اللاوعي في رغبته بالنهوض باكراً .
فانتهى الأمر بأن أحضرت ألوانها الخشبية وأخذت ترسمُ بحرية .
قلبٌ أحمر .. زهور وردية بالإضافة إلى شمسِ بلونِ أصفر .. سيارة صغيرة ..كل ذلك رسمته على ورقة بيضاء بشكل طفولي للغاية بعد أن تركت كتيبَ التلوين .
خرجَ أخاها التوأم بشعره الأشقر المبعثر فقد استيقظ لتوه .. وضعَ كلتا يديه يفركُ بها عينيه وأخذً ينظرُ باحثاً عن أخته التي لم تكن في الغرفة ونهضت قبله .
سمعَ حركة خفيفة فقاد قدميه إلى حيثُ رأى طيفَ لين .. رآها تنظرُ للأرضية وهي تبحثُ عن شيء لم يتضح له فأثر النعاسِ لم يبتعد بعد عنه.. اقتربَ منها حتى وصل لها وهمس بصوته الناعس .
ـ ماذا تفعلين أختي ! .
فزعت ما إن سمعت ذلك الصوتْ.. تركت بحثها عن اللون الذي كانت تريده واندفعت نحو أخيها وهي تضعُ كلتا يديها حول فمه تمنعه من الكلام .
بعينيه الناعسة التي لم تدرك ما يحصل .. أخذ ينظرُ لها بفضول واستغراب وبدلاً من أن تجيبه على سؤاله ..قامت بدفعه بخفه ليصبحَ أمامَ الأريكة ويجدَ رولند النائم .
أبعدت يديها عن فمه واقتربت تهمسُ في أذنيه بصوتٍ خافت .
ـ أتذكر ما أخبرتنا به أختنا ميدوري ألا نجعلَه يستيقظ عندما يكونُ نائماً هنا .
أومأ برأسه موافقاً وقد فهم تماماً .. ولكنه لم يمنعه من معاودة النظر إلى النائم بفرحة بالغة طردت بقايا النوم من جفنيه .. فقد مرّ وقت لم يره فيه..
أخذت عيناه تحدقانِ بتفاصيل وجهه وسرعان ما لاحظ اللصقة الطبية التي أخذت حيزاً في وجه رولند المرهق .. اقترب منه بغير شعور وقد بدى عليه الألم وهو يرفعُ يده الصغيرة نحو موضع الألم .
- هل يؤلمه !؟ .
اكتسى وجهها حزنٌ طفيف واقتربت من أخيها مرة أخرى تهمس .
ـ إنني أصلي بأن يختفي جرحه بينما أقوم بالرسم والتلوين .
اتسعت ابتسامته وظنّ بأنّ ذلك سيكونُ مفيداُ همسَ بصوتِ منخفض هو الآخر .
ـ سأقوم بغسلِ وجهي وأتي لأصلي معك .
ابتسمت بسعادة بالغة وأومأت برأسها موافقة ..
جاء لير مسرعاً ما إن مسح وجهه بقطراتِ الماء ..
وقفا أماما رولند وتمنيّا كثيراً وهما يغمضا أعينهما بأن يشفى ذلك الجرح وأن يذهب الألم عنه ويزول ..
بدءا باللعب سوياً ..فالوقتُ مبكرٌ جداُ ولم تشرقِ الشمس بعد ولكنهما استيقظا نظراً لأنهما نالا قسطاً كافياً من النوم بالأمس .
كانا كطفلين لم تمليّ عليهم الحياة أمراً قد يهدُّ أو يكسرِ جناحهما الصغير .. جلّ ما يريدونه ويرغبون به هو اللعب .. وظل شخصٌ يجدون الأمانَ بقربه .
بعدَ مضي الوقتِ اخترقت أشعة الشمس الصباحية زجاج النافذة ووصلت تدريجياً لعينيه ِ فكانَ ذلك بمثابة خيطِ جعله يستيقظُ قبل أن يغرق في نومِ عميق .
رمشت عينيه ما إن استقبلت ذلك الضوء .. فكان ذلك بمثابة صدمة بالنسبة له .
استقامَ سريعاً جالساً بفزع .. وضعَ كلتا يديه على وجهه يغطي به.
فقد كان من المفترضِ أن ينهضَ في وقتِ مبكر .
ما إن أراد النهوض ليذهب في سبيل أعماله التي ألزم نفسه بها حتى سمعَ صوت ضحكات التوأمين..
رآهما جالسين على الأرض وقد بدت عليهما السعادة ..
أخذ يهدأ من تأنيبِ نفسه قليلاً .. بل لقلبه الذي ينبضُ بعنف نظراً لتأخره ..
.. فلو غادر الآن لحزنِ الطفلين الذي أمامَ عينيه .. لذا بما أنّ الوقت قد مضى فلا سبيلَ لإرجاعِ ذلك ..
وضع يده ليخفف من حدة نبضه .. يريدُ تهدئة نفسه قليلاً وطمأنتِ قلبه بأن لديه الوقت لإنجازِ ذلك .
رفعَ بصره تجاههما وما إن أراد مناداتهما حيثُ لم يكونا قِباله حتى لاحظَ شيئاً ما ! وهو أنهما متشابهين تماماً في خلفيتهماِ حيثُ شعرهما الأشقر القصير ! .
ـ اثنانِ من لير ! .
هكذا نطق بصوتِ مسموع وهو يظنُ أنه لا زالَ في غمرة النعاس ..
وصلَ إليهما صوته .. تركا ما بينَ أيديهما وأسرعا للمجيء نحوه وهما يفتحانِ ذراعهما باتجاهه .. وكأنما كانا ينتظرانِ هذه اللحظة منذُ وقتِ ...
ففي حقيقة الأمر كلاهما أرادا أن يقوما بمحاولة إيقاظه بطريقة غير مباشرة ولكنهما لم يتعمقا حتى لا يكونا سببَ ذلك فنصيحة ميدوري قد استمعاَ إليها جيداً .
قاما باحتضانه بكل شوق فانتشلاه من فكرة أنه لا زال يحلم .
شقت شفتيه ابتسامة صباحية منعشة فكيفَ لا يكون سعيداً وهو يستقبلُ ألطف طفلين قد قابلهما يوما .
ـ صباح الخير لير .
هكذا نطق رولند وهو يضعَ يده على شعره الأشقر ..
انتقل للآخر الذي يشبه تماماً وظنّ أنّ منهما نسختين .. لاحظ الغرة التي كانت مختلفة تماماً رفعها بيده ونظرَ إلى عينيها الخضراء اللامعة.. وسارعَ بالقولِ بهمسَ سعيد ما إن تعرف عليها .
ـ لين الصغيرة أصبحت أكثر جمالاُ .
توردت وجنتي لين كثيراً وهي تسمعُ هذا الإطراء الذي فجّر السرور في قلبها .. فقد لاحظ الاختلاف الذي طرأ عليها .. فكم من الوقت مضى وهي تتمنى بلهفة شديدة أن تقابله حتى يتسنى أن تريه كيف هي بقصة شعرها الجديدة .
لكن تلك الفرحة لم تدم طويلاً فقد مدّ كلاهما يديه نحو إصابته التي بالقربِ من عينه وقد غزى القلق أعينهما اللامعة ..حركة لا يقوما بها سوى التوأمين في وقت واحد ..
علم أن هذا سيحصل .. سيسببُ القلق لمن هم هنا ! لذا هو أراد من كل قلبه أن يستيقظ باكراً حتى لا يرى هذه النظرة عليهم أيضاً ..
وضعَ يده على موضعِ الجرح حيث اللصقة الطبيبة وابتسم بلطف قائلاً لهما يريدُ إزاحة القلق الذي اتخذ حيزاً في قلبيهما.
ـ لقد سقطت أرضاً .. لا يؤلم كثيراً وضعت اللصقة الطبية حتى لا يتلوث الجرح الصغير .
رفعت لين رأسها وقد اقتنعت بما قاله .. نظرت إليه بعينيها وبنبرة خجولة نطقت بحماسة .
ـ لقد صلينا أنا ولير كثيراً وطلبنا أن يشفى جرحك سريعاً .
شعورٌ دافئ انتباه ما إن سمعَ جملتها .. احتضنهما بسعادة بالغة وبكلِ شوق.. لقد افتقدهما كثيراً هذه الفترة ..
يعلم تماماً أنه ربما لن تأتي فرصة مثل هذه للبقاء معهما .. لذا تشبثَ بمصدر سعادته التي أدخلها لحياته ..
هو من أخذهما بكاملِ إرادته .. هو من قرر رعايتهما !
أخذهما معه قبل أن يحبسا في دارِ الأيتامِ الذي كان سيكونُ مقرهما ومنزلهما .. لم يسأل عن ماضيهما ولا عما حصل لهما !!
بل ولماذا كانا بقربِ باب الميتم في تلك الليلة الباردة ! كل ما سأله هو عن اسميهما ..
وبهذا دخلا لقلبه وتلى ذلك بأن دخلا لحياته وشاركاه أيامه حتى أصبحا جزءاً مهما لا يستطيع التخلي عنهما أبداً .
استشعر كل ذلك وهو لا زال يطوقهما بذراعه وكأنما بذلك يعوضُ عن تلك الأيام التي لم يستطع فيها رؤيتهما وهذا ما نجح به فعلاً فها هما ينظرانِ إليه بأعينهما الجميلة .
ابتسم عندما استطاعَ تبرير ما حصل له ..
والآن هو يريدُ الخروج سريعاً حتى لا يُؤسَرَ ويصبحَ في مجرى تحقيق كامل لما حدث من قبل ميدوري التي لم تستيقظ بعد .
ولكنه أمام عقبة صغيرة وهما التوأمين الذي يتشبثانِ به وبالتأكيد لا يريدانِ منه الخروج .
لذا فكرة استقرت في عقله وقرر تنفيذها حتى يستطيعِ الذهاب دون حزنِ اللذين بين يديه وبقربه .
- أيها الصغيرين.. لديّ عمل مهم ويجبُ علي الخروج من هنا .
فهما مقصده وأسرعا تلقائياً بإمساكِ يديِ رولند وأعينهما تلمعُ بحزنِ وكأنهما يقيدانه من الحركة ,
فَهما كل حرفَ قاله !! ومضمونَ ما يريده وهو الابتعاد عنهما
لذا نطقا سويةٍ بنبرةِ تحملُ بداخلها ألماً وأملاً باستجابة طلبهما .
ـ لن تذهب الآن .
لا يريدان منه الرحيل .. يريدان البقاء واللعب والحديث معه .. مضت فترة منذُ أن قضى معظم وقته معهما ..
خشيا أن يذهب بطلهما ككل مرة ولا يجدانهِ أبداً ... أن يقضي فترة قصيرة معهما ولا تكرر .
خشيّ قلبهما أن يغادرهما يوماً ما رولند ولا يشاهدانه مرة ثانية ! .. بل ولن يعود إليهم ! .
استشعرَ قلبه النابضْ مشاعرهما تلك .. فقبضة أيدهما الصغيرة على يديه التي تحاولُ منعه من أي حركة كانت تترجمُ له كل ما يشعران به ..
أخذَ نفساً عميقاً .. هو ليسَ لديه الكثير من الوقت ! لديه أعمالٌ كثيرة كان من المفترضِ أن ينجزَ إحداها الآن كما أنه يتوجب عليه الذهاب قبل استيقاظ ميدوري .
أمسك أيديهما الصغيرة بدل أن كانا هما من يفعلا ذلك .. قربهما من بعض حتى أصبحا أمامَ عينيه .. يريد من كل قلبه أن يتفهما سببَ عدمِ بقاءه لا يريد لقلبيهما أن يشعرا للحظة بأنه أصبح يغيب عنهما وأنه لا يريد رؤيتهما .
- هل أنا في قلبيكما !؟ .
رمشت أعينها لسؤاله الغريب الذي فاجأهما ونطق به .
تلمّسَ براءتهما التي تمثلت بأن قاما بإلايماء فقط وأتبع قائلاً :
- إن غبتُ كثيراً هل يعني هذا أنني قد نسيتُ أمركما أو أنني أكرهكما !؟ .
انتكست أعينهما اللامعة ما إن أصابَ ما يريده تماماً .. وبدى كطفلين يشعرانِ حقاً ببعضِ مما قاله .
ابتسمَ رولند لصدقِ أعينهما وصمتهما بدلَ الكذب عليه .. بادر بالقولِ حتى يبيّن لهما ويبعد ذلك الشعور من قلبيهما .
ـ أنا أحبكما كثيراً وأريد البقاء معكما ولكن أخوكما الكبير منشغلٌ هذه الأيام ولديه أعمال كثيرة ! ..
رفعَ رأسيهما حتى ينظرانِ إليه بأعينهما التي تتهربانِ مما يقوله فطبيعة الأطفال أنهم أنانيون فيما يحبونه خاصة إذا كانَ شخصاً قريباً منهم ..
هما متعلقين به كثيراً .. وهذا ما زاده ألماً !! .. فحقيقة الأمر أنه لا يستطيعُ البقاء بجوارهما مثل الماضي ! حيثُ عندما كانَ يعملُ في قصر السيد ليبريت ! ..
لقد كانت معجزة بأن سمح السيد الراحل ليبريت في تلك الفترة أن يأخذَ التوأمين للعيشِ معه في مكانِ عمله .. كان لطيفاً وكبيراً في السن .. لم يكن لديه أي أحفاد أو أولاد لذا آنسَ وحدته وجود التوأمين وشعرَ بتجددِ الحياة برؤيتهما كل يوم وكأنما كانا أطفاله .. حتى أنّه وفرّ لهما غرفة خاصة مريحة وبأثاثِ يشابه ميول الأطفال .. ولكن ما أسرعَ الأيام ! فقد أصبح ذلك القصر تحتَ قبضة أسرة أخرى ..حيثُ سيده الحالي والجديد والذي رفضَهما قطعاً !! لا بل وأكثر من ذلك بأن هدده بأذيتهما وفصلهما عن بعض .
ـ رأيتما بأعينكما الشخص الشرير في ذلك القصر الكبير ..أريد تغيير رأيه حتى آتي بكما إليه معي .. لذا ستكونُ تلك مهمة صعبة ... لن أستطيع الخروج أو المجيء إليكما خلالَ تلك المهمة .. لذا امهلاني الكثير من الوقت .. حسناً !! .
حتى وإن كان الأمر يتطلبُ الكذب فسيفعلُ ذلك مقابل ألا يجعلَ تلك المشاعر تجتاحُ قلبيهما ..
ظهرَ أثرُ ذلك سريعاُ وبدت سعادتهما كثيراً أومأ برأسيهما موافقين لقد كان الأمر مفرحاً بالنسبة لهما بما أنهما في الأخير سيبقيانِ معه .. لكنّه تفاجأ بسؤال لين الصغيرة التي بادرت بالقول .
ـ وأختي ميدوري !؟ .
وكأنما بذلك أدرك رولند بأن حبل الكذب قصير ! فما إن تقول كذبة حتى تتابع كذباتِ أخرى ..
أغمض عينيه ليخفي ألم الكذبة التي ظهرت في عينيه وأسرعَ قائلاً .
ـ... سأعمل كثيراً حتى نشتري قصراً كبيراً ونعيشُ فيه سوية مع ميدوري وإيفان أليسَ هذا أفضل !! .
رسخت تلك في أذهانهما ولم يعلما يقيناً أن ما قاله ليست سوى كذبة كبيرة لن تتحقق إلا إن حصلت معجزة ما .
ألامه قلبه كثيراً ما إن رأى الفرحة الشديدة في أعينهما وسرورهما .. كل ذلك ليبرر لهما فقط سببِ غيابه .. فجعلَ الكذبة تبدوا أكبر فأكبر .
وضعَ إصبع يديه السبابة في فمه وقالَ لهما بحذر .
- لا تخبرا أحداً ليكن هذا سرٌ بيننا .
أجل فماذا ستكون ردة فعلِ ميدوري وإيفان ما إن يخبراهما بما قاله للتو !!! يكفي أنهم جميعاً الآن يكافحون من أجل مواصلة العيش من خلالِ العمل ، فميدوري لم تحصل على حياتها هذه باللعبِ واللهو ! بل كافحت وسهرت وتعبت في عدةِ أعمال حتى كسبت هذه الشقة بإيجارها السنوي .. ولا ينكرُ أنّه قامَ بمساعدتها بالمال فعينيه لم تتحملا جسدها الذي يكدّ من أجل حلمها !
حلمُ الاستقرار وحلم إكمال دراستها الجامعية التي كانت تسهرُ الليالي لتدخر المال من أجل هذينِ الحلمين أمّا إيفان الذي عاد بعد غياب فها هو الآن يشقُ طريقه في بداية جديدة لصفحه حياته ..
أما هوَ !..... فلا زالَ كما كان .. لا مُبتغى يريدُ الوصول إليه ولا حلم يبذلُ نفسه فيه.. تلتصقُ فيه كلمة الخادم التي لم تفارقه وكأنما هي لعنة تلاحقه بل بالأحرى عقابٌ يستحقه .
استفاقَ من انغماسه في التفكير ما إن أحس بكلتا يديه التي تهتزان بفعل التوأمين وكأنما ما قاله قد نال إعجابهما فبالإضافة لكونها سرية فقد أضافت نكهة مميزة وسحرية للتوأمين وكأنه سرٌ سعيدٌ خطير ! .
طردَ الحديث الذي كادَ أن ينتشله من واقعه رغم صحته .. اقترب منهما وهمسَ بحذر في أذنيهما ليستعينِ بهما بينما ظنّا أنها مهمة للتوصلِ إلى الغاية الكبرى التي أخبرهم بها .
ـ أول مهمة للنجاح هي بأن تراقبا ميدوري .. أريد الاستحمام بسرعة وتبديل ملابسي قبل استيقاظها .. لا يجبُ أن تعلم أني لا أزال هنا .
وبهذا كسبَ نقطه لصالحه !! لإقناعهما .. وعدمِ حزنهما بل بالأحرى قد بثَ إليهم دفعه من الحماس جعلاهما ينطقانِ بصوتِ عالِ سوية وهما يرفعانِ أيدهما .
ـ حســنـ..
لم يكملا كلامها فقد وضعَ كلتا يديه فوقَ أفواههم وقد اكتسى القلق وجهه مع ابتسامة مرتبكة مضحكة .. فلا يريدُ أن تستيقظ على صوتهما .
غمرتهما ابتسامة سعيدة وهما يشعرانِ بالحماس الشديد وهكذا بدأوا في مهمتهم ..
جعل لير الغرفة التي تنامُ فيه ميدوري كمركز للمراقبة وهو يقف بمنتصفها بينما كانت لين بقربِ الباب .. فقد اتفقا على ذلك .. ما إن يشيرُ إليها توأمها فستعرفُ تماماً أنها استيقظت وبذلك تحاولُ كسبَ الوقت لمهمة خروجِ رولند الذي ذهب بالفعل ليستحم .
كانت المهمة تسير بسلالة فها هو رولند قد خرج بسلام دونَ أن يتلقى رداً باستيقاظها وهذا ما أراحه ..
تساقطت قطراتُ الماء من شعيراتِ رأسه شديدة السواد فسارعِ بوضع منشفته الصغيرة ليجففها بسرعة .. فبدا مظهره منعشاً بملابسه ذات الألوان الصباحية .. حيثُ بنطاله البني وبزته ذاتِ اللون السماوي ..
أشارَ بإصبعه بسعادة بالغة نحو التوأمين .. فخرج لير من الغرفة بحذر وقد تمت المهمة .
ـ سوفَ أذهب الآن .
هكذا نطقَ رولند وهو يريد تودعيهما .. ولكن يده الصغيرة استوقفته .. ظنّ أنه فشل في إقناعهما وبأنه حزين على مغادرته ولكن ما أبداه كان مختلفاً .. كان ينظرُ بقلق ناحية المطبخ وهو يتشبثُ بيده .
ـ انتظر لين .. إنها تقومُ بإعداد الفطور لك .
غشيّ وجهه التفاجئ وانطلق سريعاً إلى حيثُ لين الصغيرة فلا يريدها أن تؤذي نفسها .. ما إن أطل بعينيه نحو المطبخ الصغير حتى رأها على الأرض تقومُ بحشو شريحة خبز بطريقة فوضوية ..
الثلاجة مفتوحه على مصراعيها وفمها ملطخ بالمربى الذي لم تتمالك نفسها من تذوقه .
نطقَ باسمها وهو يتجه نحوها ... ما إن سمعت صوته حتى وضعت ملعقة الطعام الذي كانت تطلي به شريحه الخبز في فمها وأخذت تنظر إليه بنظرةِ بريئة وبالغة في السعادة .
قامَ برفعها عن الأرض وجعلها تقفُ أمامه وما إن أراد مخاطبتها حتى أبعدت ما في فمها وأسرعت بالقول .
ـ لقد صنعتُ لك شريحتي خبز .. واحدة بمربى الفراولة وأخرى بمربى البرتقال .
لم يرد رولند أن يقومَ بمعاتبها لأنه خائف أن تؤذي نفسها وبالوقت نفسه لا يريد أن يفسد من فرحتها البالغة تلك .
- أخي لا تستطيع الذهاب بدون تناولِ الإفطار ! .
هكذا نطق لير وهو يرفعُ شريحة الخبز ويضعها أمام عينِي رولند ..
قبلِ بإفطارها الفوضوي الذي أعدته بيدها الصغيرة .
غادرَ بعد أن ودعهما بكل امتنان ولم ينسى أن يطلب منهما إيقاظ ميدوري التي تأخرت قليلاً في النوم ..
شعرَ بسعادة جميلة .. صباح مختلف تماماً عن كل الصباحات التي كان فيها يسرعُ للخارج ..
شعورٌ بالألفة والمحبة والانتماء وهو يرى التوأمين يحيطانِ به ..
تمنى أن يكون كل يوم كهذا الصباح .. يستيقظ ليجدهما أمامه يتبادل الحديث معهما في الصباح الباكر .. يتناول إفطاره مع ميدوري وإيفان الذي دائما لا يفوتُ المجيء صباحاً ..
ولكن لم يعلم أنّه بذلك قد تأخر كثيرا ولم يقمْ باستغلال الأيام الفائتة بعيشِ بداية يومِ كهذه .. لم يكنْ آسفاً ولا نادماً فذلك الطفل الذي رآه يرغبُ تماماً بأن يعيشَ حياة دافئة بعيدةً عن أثرِ الديون ! ..
ولكنه ومنذ اليوم لم يعلمْ أنّه كان آخر لقاء طويل يجمعه مع التوأمين ..
وضع شريحة الخبز في فمه وأخذ قضمه منها .. كان سعيداً بل ومحظوظاُ بأن يتناولَ إفطارا مختلفاً عن كل مرة .
ما إن مشت قدماه في الشارعِ مغادراً البناء الذي تعيشُ فيه ميدوري حتى وجده يأتي مسرعاً بنشاط وابتسامة منعشة تزينُ وجهه .
تلاقتْ أعينهما .. فأبطأ إيفانِ في سيره ..وأبعد تلك الابتسامة من شفتيه ما إن راه واتجه نحوه .
ألقى التحية على الشاب الذي دائماً ما يستقبله بابتسامة لطيفة لم تختلف تماماً عن كل مرة يقابله بها .. لم يدعَ المجال لرولند ليتحدث بل قالَ بنبرة حزينة ومحبطة .
ـ لن تتناولَ الإفطار معانا هذه المرة أيضاً .
ابتلعَ رولند اللقمة التي كان يمضغها واستمتع بمذاقها .
ـ لا تقلق لقد أعد التوأمين لي هذه .
شعرَ ببعض التوتر فهو لا يريد البدأ من جديد وتبرير سببَ قيامه بذلك .. يعلمُ أنّه بذلك سيحزنُ صديقه الذي يقفُ أمامه والذي كان واضحاً في عينيه التي تحدق به بالأحرى بموضعِ إصابته .
لن يكون الكذب نافعاً معه !! ولن يكون الصدق ذو شيء جيد ! أيخبره بأن سيده الذي هو في إجازة عمل قد وكلّ له وظيفة أخرى ! .
هو لم يستسغ فكرة العمل هناك فكيفَ إذا يبرر له ! . و إن أراد التغطية على ذلك فكيف سيفسرُ له موضوعَ قيامه بعدة بوظائف أخرى .
لمحَ إيفان لمعة التوتر تلك .. يعلمُ أن رولند يحملُ الكثير في قلبه .. أشياء عدة يخفيها بداخله ولم يبحْ بها .. لكنه لا يزال يستمر بتلك الابتسامة التي لم تفارقه شفتيه ..
لا يريد الضغط عليه .. لن يجبره على البوح .. يكفي ماهو فيه ..
يكفيه أنه في هذه الفترة يعمل مع شابِ صعبِ المراس وذو مزاج سيء ! كخادم له .. وكم يكره أعماقِ هذه الكلمة من أعماقِ قلبه .
أزال كل الإحباط الذي تلبسه قبل قليل وقد رسم على شفتيه ابتسامة مرحة
ـ لا ترهق نفسك كثيراً .
وضعَ رولند يده على كتفه وقد تلمس هذه العبارة التي قالها والتي تسمح له بالمضي قدما إلى المكان الذي يريده ..
لم يسأله عن شيء بينما عيونه تفضحُ ما يرغب به حقا .. ولم يملك سوى أن يقول بكل صدق.
ـ أشكرك حقاً .
حركَ قدميه إلى حيثُ وجهته .. فاعتصر إيفان يديه كاد أن يصرخ في وجهه كعادته إنه غاضب ...غاضب بالفعل !! فكيفَ يقومُ بالذهاب تاركاً وجبة الإفطار التي تجمعهم ! مغرقاُ نفسه في كتلة من الأعمال التي يرهقُ به نفسه ..
لكنه هدأ نفسه قليلاً وهو يغمضُ عينيه ليطفأ هذه المشاعر الحارقة التي تنتابه فلو فجرّها لعادت شخصيته القديمة التي جاهد على تغيرها ولكن لم يمنعه بأن يصرخ قائلاً له حتى يخفف مما يشعرُ به .
ـ كن حريصاً على ألا تؤذي نفسك .
وصلتْ إليه جملته .. فتبسمّ قلبُ رولند كثيراً .. رفعَ ذراعه عالياً ولم يلتفت نحوه وكأنما يخبره بأن قد سمعَ ماقاله وفهمه .
رأى إيفان يده الممتدة تلك .. فشعر بحزنٍ يغمره ..أغمض عينيه بشدّة وهو يتمنى أن يكون رولند دائماً بخير وألا يصيبه أيّ أذى ..
.
.
استيقظت ميدوري بفوضى عارمة تماماً وأخذت بشكل مضحك تؤنب لين ولير اللذينَ ايقظاها في وقت متأخر .. وكأنما تتهرب من مشكلة عادتها في تأخرها عن الاستيقاظ ..
أسرعت بالخروج من الغرفة فتقابلت مع ايفان الذي دخل لتوه .. ابتسمت بسعادة بالغة لوجوده وكأنما بحضوره سيقدم خدمة انقاذٍ لها لها .
- اسفه ايفان.. هل يمكنك تحضير بعض طعام الافطار للتوأمين لقد استغرقت في النوم .
سارعت بالجري بعد جملتها وهي تقوم بإخراج حقيبتها وتلملم كتبها الدراسية وأخيراً تأخذ ملابسها لتستحم ..
إستاء بطريقة مضحكة على استغراقها في النوم ..
خرج التوأمين وهما يكتمانِ ضحكاتهما كالعادة .. فهذه ليست المرة الأولى التي يشاهدان فيها على هذه الحالة .. رفع ايفان اصبعه نحو فمه حتى كاد يلامسه وتحدث لهما بعينٍ ماكرة .
- أعرف لماذا لم توقظاها مبكراً .
فمن كان غيره السبب ! كان رولند الذي أراد وبلا شك التهرب من ميدوري .. فهي لن تصمت مثله عندما ترى اصابته
تقدم التوأمين أمامه وقاما بنفس حركته تماماً رفعا اصبعيهما بالقرب من فمهما ونطقا .
- لا تقم بإخبارها .
لم يحتمل كتمان ضحكة وهو يراهما بذلك الشكل .. فكرَ بالأمر مليا ونطق بجدية مصطنعة وهو ينظر إليهما وكأنما لن يقوم بذلك حتى يلبيانِ مايرده .
- سأفعل ذلك إن قمتما بمساعدتي في تحضير بعض الفطور اللذيذ فيبدوا انني من سأقوم باصطحابكما الى رياض الأطفال.
نطقا بحماسة موافقين والنشاط يدبُّ في جسديها فكيفَ لا وهما استيقظا باكراً قبل الجميع .
تبعا إيفان الذي بدى لهما كالقائد نحو المطبخ .. تلقيا تعليماته في مساعده في إعداد الفطور لحين تقوم ميدوري المتأخرة بالمجيء .
هو عليه تولي أمر طهي الطعام وهم عليهم إعداد المائدة واخراج ما يريده من الثلاجة .
لقد اعتاد ايفان على الطبخ بما أنه كان يعيشُ وحيداً لفترة من الزمن .. فترة أرادها أن تكون نقطة تحول في شخصيته وتصرفاته .. فتغير بالفعل .
ولكن تبقى شخصيته الحقيقة موجودة فلن يستطيع محيها تماماً فهي تعود إليه من حين لآخر خاصة ان غضب أو تعلق الأمر بشيء لا يحبه او كان سبب عودته هو رولند الذي لا زال مرتبطاً بحلقة من الماضي .
خلال وقت قصير استطاع اعداد وجبة افطارٍ لذيذة .. استمتع فيها التوأمين بمساعدته فكان لهما نصيبٌ من ثناء ميدوري التي جائت تنضم إليهم بعد أن جهزت نفسها بشكل سريع ..
لم تمدح ايفان بل جعلت الثناء كله على التوأمين وكأنما هما فعلاً من قاما بإعداده مما أثار غيرته .. حاول الدفاع عن نفسه واثبات أنه كان القائد في إعداد كل هذا فتعالت ضحكات ميدوري والتوأمين فقد غمزت لهما بعدم الحديث والدفاع عنه .
___
وفي السماء حان موعد هبوط الطائرة بعد رحلة عمل دامت لأيام كادت أن تطول ليومين آخرين لكنّ السيد هايدن لم يستطع البقاء يريد العودة لتفقد ابنه العزيز الذي كسرت قدمه ..
كانَ ميلان يخبره بأنه سيكون بخير فهو يعرف ألفريدو تماماً .. لكنه لم يستطع إبعاد لمحة القلق التي سيطرت على وجه عمه .. لذا قام بالضغط على نفسه حتى ينجز بقية العمل في وقت قصير فبدى أثر ذلك عليه فقد سيطر النوم عليه وها هو نائم بعمق حتى بعد هبوط الطائرة ! .
شعرَ هايدن بالقلق عليه هو الآخر يعلم بأنه أُرْهِقَ بالعمل .. وبقي ساهراً طوال الليل .. لم تكتمل حتى ساعة منذُ أن أغمض جفنيه .. ولو كان الأمر بيده لتركه نائماً حتى ينالَ قسطاً من الراحة .
هزه بخفة وهو يهتفُ باسمه ليوقظه .
ـ بنيّ .. افتح عينيك لقد وصلنا .
شعرَ بتلك الحركة التي أخرجه من النوم العميق الذي كان فيه .. رمشت عيناه المتعبة والتي اتضح فيها أنه لم ينل بعد قسطاً كافياً .
حركَ يده نحو حزامِ الأمان وفتحه .. مدد كلتا ذراعيه ليستعيد نشاطه والتفت نحو عمه بابتسامة .
ـ أعتذر لقد نمتِ بدون شعور .
استقام العم هايدن واقفاً وعيناه يتضح فيها تأنيبُ النفس .. مدّ يده نحو ليساعده بالوقوف قائلا بنبرة رؤوفه .
- اذهب للقصر ونل قسطا كافيا من الراحة والنوم... سأرسل طلباً في عودة جميع الخدم إليه.
ابتسامة صافية ظهرت على شفتي ميلان .. ابتسامة لا يظهرها إلا للمقربين إليه وتكادُ تنعدم في قصره .. تلمسَ جملة عمه التي لم تكف عن القلق ..تارة على ابنه وتارة عليه .
ـ أنا بخير .. سأذهب معك أولاً لتفقد ذلك الأحمق .. وأيضاً أنا من سأقدمِ طلباً في ذلك لا تقلق نفسك .
اطمئن قلبه ما إن رأى ابتسامته التي تشرح الصدر وأكملا السير للنزول من الطائرة ..
ما إن حطت أقدامهما وسارا بين جَمْعِ الناس حتى قَدِمَ ثلاثة أشخاص يعملون في منزل السيد هايدن اصطحبوا حقائبهما الصغيرة وقاموا بمرافقتهما
ركبا سيارة سوداء فاخرة تعودُ لملكية السيد هايدن وما إن جلسا حتى نطق للسائق وصبره يكاد ينفذ يريد تفقد ورؤية فلذة كبده .
ـ إلى المشفى .
انطلقت السيارة مسرعة كما طلب ..
السيد هيلين لم يكف لسانه عن الصلاة بأن يكونَ ابنه بخير ..
وميلان مغمضٌ عينيه .. فهو مطمئن تماماً ويعلم أنه سيقابل ألفريدو وهو بصحة جيدة ربما حتى أنه قد خرج ولم يستمع لكلامِ والده .
أبعد ما حصل مع ألفريدو من عقله ..
ثوانٍ حتى ارتسمت على شفتيه ابتسامة غريبة ! .. فهوَ لن يقدّمَ أمراً بإعادة الخدم قبل أن يرى ذلك الذي تركه في عهده جايد ..
فلن يفسد أبداً تلك المتعة .
[ نهاية الفصل السابع عشر ]